منوعات

عن رفض الفيلسوف يورغن هابرماس لجائزة الشيخ زايد -مقالات مختارة-

الفيلسوف يورغن هابرماس يرفض جائزة الشيخ زايد

بينما احتفل كثر بأسماء الذين نالوا جائزة الشيخ زايد، باعتبار أنها تؤمن مبلغاً مادياً يعين الكتّاب على التفرغ للكتابة و”البحبوحة”، جاء الخبر من ألمانيا، إذ أعلن الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني البارز يورغن هابرماس، تراجعه عن قرار تسلم جائزة الشيخ زايد للكتاب، بسبب “النظام السياسي القائم هناك” في أبو ظبي بحسب ما نقلت وكالة “أسوشيتد برس”. وقال الفلسفي المخضرم البالغ من العمر 91 عاما في بيان سلمه ناشره إلى موقع Spiegel Online، الأحد: “سبق أن أعربت عن استعدادي لتسلم جائزة الشيخ زايد للكتاب هذا العام، وهذا كان قرارا خاطئا سأصلحه”. وأوضح هابرماس أنه لم يكتشف في البداية عن “الصلة الوثيقة بين المؤسسة التي توزع هذه الجوائز في أبوظبي والنظام السياسي القائم هناك”، وذلك بعدما أعلن موقع جائزة الشيخ زايد للكتاب اختيار هابرماس كـ”شخصية العام الثقافية”، تقديرا لـ”مسيرته الفكرية الحافلة التي تمتد لأكثر من نصف قرن”.

ونقلت بعض المصادر أن هابرماس أعاد النظر في قبول جائزة الشيخ زايد، وذلك بعد أن نشرت مجلة دير شبيغل الألمانية انتقاداً لقبوله الجائزة. وهو ثاني أجنبي شهير يرفض الجوائز من انظمة عربية، بعدما رفض الكاتب الإسباني خوان غويتيسولو جائزة معمر القذافي قبل سنوات.

وسيثير رفض هابرماس الجائزة الإماراتية الكثير من الجدل والنقاش، خصوصاً بين الكتاب العرب أنفسهم، الذين بات جزء منهم يعيش هوس التقديم على الجوائز الدسمة مادياً… وهناك العشرات من الكتاب العرب تلقوا جوائز من الامارات ولا زالوا يكتبون ضد “ثقافة البترو دولار”.

وليست المرة الأولى التي تتلقى جائزة الشيخ زايد صدمة سلبية، فسبق أن مُنحت إلى كاتب تبين أن كتابه مقرصن بشكل فاضح من كتاب لأحد اعضاء لجنتها… وهي في موسمها الأخير تعرضت لانتقادات بسبب الاخطاء في بيانها الصحافي، حول أسماء بعض المترجمين… في المقابل أثنى كثر على منحها للكاتبة المصرية ايمان مرسال، ودار “الجديد” اللبنانية التي اغتيل مؤسسها لقمان سليم قبل أشهر.

وكانت مجلة دير شبيغل قد نشرت مقالا انتقدت فيه قبول هابرماس صاحب “نظرية الفعل التواصلي” والذي تعدت مؤلفاته الخمسين كتابا- جائزة الشيخ زايد للكتاب، وقالت المجلة الألمانية إن قبول واحد من أهم الفلاسفة الألمان لجائزة دولة تشتهر بالقمع وتنعدم فيها الحياة الديمقراطية لهو مؤشر يثير الإحباط. وقالت المجلة الألمانية مخاطبة هابرماس (ترجمت جريدة “القدس العربي” مضمون مقالها): ماذا ستكون ردود الفعل إذا قبل ممثل بارز للحياة الفكرية الألمانية جائزة تحت رعاية آية الله خامنئي أو الرئيس بوتين؟ وأضافت المجلة: الزوار الغربيون عادة بالكاد يلاحظون ذلك في الإمارات، هم يتعجبون من التفوق المعماري، ويعجبون بالثقافة الرائعة، ويلتقون بمحاورين متعلمين تعليماً عالياً، بيد أن هذه مجرد دعاية وأن الكلمات الجميلة التي تقال لا تتبعها أفعال في ما يخص التسامح والديمقراطية وسيادة القانون.

وأوضحت المجلة “بهذا يتطرق هابرماس إلى السؤال الحاسم الذي طرحته “جائزة الشيخ زايد للكتاب”: من يخدم من؟ هل يمكن أن يتحول هابرماس إلى أداة دعاية إماراتية، يتم تدريبها على إخفاء وحشية نظام الحكم وراء ستار دخان من المفردات السامية والتألق الثقافي؟”.

وبعد قراءة هابرماس للمقال، كتب لدير شبيغل معلنا رفضه قبول الجائزة ومعرباً عن سوء تقديره في ما يخص البعد السياسي الذي أرادته الإمارات، وقال “لقد كان قراري خاطئا، وأنا أصححه الآن”، ونشرت المجلة الألمانية مقالا جديدا عبر موقعها الإلكتروني أشادت بقرار الفيلسوف الألماني معتبرة أنه تغليب للعقل وللمنطق.

ويعتبر هابرماس من أهم الفلاسفة المعاصرين على مستوى العالم، وقدم مساهمات نوعية وعميقة في حقل الفلسفة، على نحو أثرى العديد من التخصصات، كدراسات التواصل والثقافة، والنظرية الأخلاقية، واللغويات، والنظرية الأدبية، والعلوم السياسية، والدراسات الدينية، واللاهوت، وعلم الاجتماع.

ويعد هابرماس رائد الخطاب النقدي الفلسفي والسياسي، وقد وصفته دائرة ستانفورد الفلسفية بأنه واحد من أكثر الفلاسفة تأثيراً في العالم.

المدن

————————-

رفض هابرماس جائزة الشيخ زايد.. ماذا يقول الكتّاب العرب؟

هنا عيّنة من التعليقات الثقافية التي رافقت رفض الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس “جائزة الشيخ زايد للكتاب” بعد قبوله المبدئي ثم تراجعه اثر انتقاد وجّه إليه في مقال نشر في “دير شبيغل” الألمانية. وتعكس الآراء المنشورة جانباً من الجدل و”التخبط” حول الرفض وأسبابه. وثمة آراء كثيرة تحفّظنا على نشرها، لعنصريتها اتجاه العرب والإماراتيين.

منى أنيس

بمناسبة رفض هابرماس لجائزة الشيخ زايد: المثقفون المصريون، وربما العرب، عندهم لخبطة شديدة في موضوع الجوائز، وبالذات الجوائز التي يمنحها النظام باسم الدولة. فهم يتقدمون لهذه الجوائز ويصفقون لمن يأخذها، لكنهم أيضاً يحترمون اولئك الذين يرفضونها، وقد يصفقون لموقفهم المعادي.

لن انسى ما حييت حفلة توزيع جوائز مؤتمر القاهرة للرواية العام 2004، عندما رفض صنع الله ابراهيم الجائزة، واعلن ان جائزة يمنحها النظام المصري لا تشرفه. لقد وقع هذا الاعلان وقع الصاعقة على الحضور في الصالة وعلى لجنة التحكيم الواقفة على المسرح، وبالطبع على امين المجلس، واستغرق الامر بضع ثوان قبل ان تضج الصالة بتصفيق يصم الآذان. ولعله من اعجب المناظر المرتبكة لتلك الليلة، تصفيق عضو لجنة التحكيم المثقف الكبير محمود امين العالم، وهو واقف على المنصة، لصنع الله ابراهيم بعدما انتهى من خطابه الذي دان فيه الدولة المانحة للجائزة ولجنة التحكيم ضمنياً. ليلتها، انفجر مثقف آخر من اعضاء لجنة التحكيم، الصديق العزيز فيصل دراج، في وجهي عندما لمس حماسي الشديد لما قام به صنع الله، صائحاً “هذا عمل غير اخلاقي”. فصحت انا الأخرى: لماذا اذن صفقنا لكبار المثقفين الغربيين الذين رفضوا الجوائز العالمية؟ كانت لحظة مربكة حقاً، لكن ما فعله صنع الله، حرك شيئا عميقاً داخلي كما حرك الشيء نفسه داخل عمي الكبير محمود العالم، وربما داخل فيصل دراج الذي اتخذ موقفاً مضاداً، ربما لإحساسه بالاهانة الشخصية بعدما انقسمت لجنة التحكيم بين صنع الله ومرشح آخر اعتقد أن دراج كان متحمساً له.

عبداللطيف الوراري

القرار الذي اتّخذه يورغن هابرماس في رفض جائزة الشيخ زايد، بعدما قبل تسلّمها، يتناقض و”العقل التواصلي” الذي عُرف به؛ فقد وقع تحت ضغط الإعلام الموجّه.

فواز حداد

المفكر والفيلسوف وعالم الاجتماع يورغن هابرماس، رفض تسلم جائزة الشيخ زايد للكتاب.

هذا التصرف يجعلنا نؤمن بأن هناك مثقفين كبار، يمنحون للثقافة معناها الحقيقي.

حسونة المصباحي

كان الراحل الكبير الشيخ زايد رجل تقدم وسلام نقل بلاده من البداوة الى التمدن، وجعل منها منارة مشعة بعدما كانت صحراء قاحلة تتوزع فيها خيام البدو الرحل. والانجازات الكبيرة التي حققها في جميع المجالات شاهدة على ذلك. منها مثلاً المستشفى الحديث الذي أقامه في لندن، والذي عولج فيه مجاناً أدباء وشعراء وصحافيون عرب. وعندما استحدثت جائزة باسمه بعد وفاته، استبشر جل المبدعين والباحثين العرب. إلاّ أن اللجان المشرفة عليها سممتها بالمجاملات والصداقات والمصالح، بحيث سرعان ما فقدت مصداقيتها، فندر عدد الفائزين بها عن جدارة، في حين تكاثر عدد المُنْتهبين لها مقابل أعمال هزيلة سواء كانت في مجال الابداع الشعري أو الروائي أو في مجال البحوث والترجمة. وقد انسحب هذا الوضع على جائزة “بوكر” (العربية) التي تحمل اسما عالمياً إلاّ أن جل الروايات الفائزة بها بلا أي قيمة على جميع المستويات. والدليل على ذلك أن دور النشر الأوروبية ترفض اصدارها، رغم أن ترجمتها مدفوعة الثمن، لأنها لا ترتقي الى المستوى المطلوب. وبذلك أصبحت جائزة البوكر تسوق لروايات عربية ضعيفة ومثيرة للسخرية والاستهزاء… واللجان المشرفة على هذه الجائزة هي السبب، إذ كيف تمنح الجائزة مثلاً لصاحب أو لصاحبة رواية يتيمة؟ وكيف تمنح لهواة كتابة الرواية من أساتذة الجامعة الذين يعتقدون أن شهاداتهم تخولهم أن يكونوا فرسان الكلمة، وفرسان النقد، وفرسان الفكر؟ كفى عبثاً أيها السادة…

أرجو أن يكون رفض الفيلسوف الكبير يورغن هابرماس، درساً لباعثي مثل هذه الجوائز الرفيعة حتى يعيدوا ترتيب المقاييس، خدمة للثقافة العربية، وليس لخدمة اغراض ومصالح المافيات الثقافية التي استقوت بالمال المهدور لتشيع الانتهازية والفساد الأخلاقي والرداءة الابداعية والفكرية.

وسام سعادة

بشكل عام، أحب هابرماس. لو قبل جائزة الشيخ زايد أو لو رفضها سيّان بالنسبة لي من جهة أني سأحافظ على الانتفاع الفكري نفسه منه، والأشياء التي أدين له بها وقت قراءته، وعلى عناصر التباين نفسها مع طروحه في “الخطاب الفلسفي للحداثة” وعناوينه الأخرى. كل ما هنالك، أني أجد رفض هابرماس لهذه الجائزة منسجماً تماماً مع كونه هابرماس.

رجاء بن سلامة

يورغن هابرماس يرفض تسلّم جائزة الشيخ زايد

قبل هابرماس الجائزة الإماراتيّة، ثمّ رفضها، بسبب انتهاكات حقوق الإنسان: غياب الحقوق السياسيّة والمدنيّة في البلاد، ومنظومة الكفالة التي تجعل العمالة الآسيويّة في وضع مهين، وأخيراً، المشاركة في التّحالف الذي يؤدّي إلى استهداف المدنيّين في اليمن.

قيمة الجائزة حوالى 262 ألف يورو. لكنّ القِيَم أهمّ من قيمة الجائزة. وحقوق الإنسان هي القيميّة الكونيّة التي تجمعنا والتي يحرص عليها الفيلسوف الألمانيّ.

عالمنا يتغيّر سريعاً. من لم يفهم هذا، يعش بين الحفر.

حسام أبو حامد

تراجع يورغن هابرماس عن سقطته الغريبة حين وافق على قبول الجائزة الإماراتية، وحسناً فعل. لكن من يستحق الإشادة به هنا هي “دير شبيغل”، التي برهنت دور الصحافة النقدي والفاعل الذي ينبغي أن يكون، والتي لم تجامل أهم الرموز الثقافية الألمانية والعالمية حين تساءلت ما إن كان هابرماس يريد ان يكون مجرد دعاية للنظام الإماراتي.

منعم الفيتوري

– لي أسئلة حول نفاق هابرماس:

أولاً، ماذا لو مُنح يورغن هابرماس هذه الجائزة من مؤسسة أميركية أو فرنسية ومعروفة سياسات هذه الدول في المنطقة؟ مجرد نفاق هابرماس لا أكثر ولا أقل، ولماذا رفضها بعدما عرف أنّه سينالها؟! ناهيك عن موقفه العام 2004 من فلسطين، ووصفه للفلسطينيين بأنهم مجرّد إرهابيين، في حين ظلّ صامتًا على ما يفعله النّظام الإسرائيلي بحق الفلسطينيين! ناهيك أيضًا عن المجازر التي ارتكبها حلف الشّر “الناتو” في ليبيا العام 2011!

ثانياً، المتثيقفون العرب. لمَ تفرحون بهذه الرّفض والاستنكار؟ بالطبع فهو نكاية بالإمارات وبولي عهد أبوظبي. ولمْ تستنكروا ما فعله برنارد ليفي، المفكّر الفرنسي في المنطقة، العام 2011، خصوصًا في ليبيا؟ ألم يكن المنظّر السّياسي والفكري للربيع العربي في الأوساط السّياسيّة والأكاديميّة بأوروبا؟ لمَ لاذَ هؤلاء المتثيقفون بالصّمت وقتها، بل طبّلوا وهلّلوا له وللربيع العربي في المنطقة؟ ما لكم كيف تحكمون؟ وصدق ديكارت حين قال بأنّ كل فعلٍ سيءٍ دائمًا ما يقترفه أحد الفلاسفة.

غسان حمدان

الجماعة اللي فرحانين من فعلة هابرماس هم نفسهم يهنئون هابرماس إذا كان أخذ الجائزة وهم نفسهم اللي يهنئون الكتاب والمفكرين العرب عندما يفوزون بهذه الجوائز…

سعيد ناشيد

لا خطأ في أن يرفض هابرماس جائزة الشيخ زايد، فكثير من الفلاسفة رفضوا الجوائز، لكن الخطأ كل الخطأ أن يرفضها بعدما قبلها، وأن مبرراته لا تجيب بدقة عن السؤال: ما الذي لم يكن يعرفه هابرماس قبل أن يقبل الجائزة ثم عرفه قبل أن يرفضها؟ ما الذي لم يكن يعرفه؟

نجيب بلحيمر

يورغن هابرماس تراجع عن قبول جائزة الشيخ زايد للكتاب التي منحتها له الإمارات.

اتخذ قراره بعدما قرأ مقالاً في مجلة دير شبيغل يلومه على قبول الجائزة، وقد حمل مقال دير شبيغل سؤالاً مفزعاً: “هل يمكن أن يتحول هابرماس إلى أداة دعاية إماراتية، يتم تدريبها على إخفاء وحشية نظام الحكم وراء ستار دخان من المفردات السامية والتألق الثقافي؟”.

العالم يقر بإساءة التقدير ويعترف، والإعلام الحقيقي يقوم بدوره في مساءلة الجميع، مسؤولين سياسيين ومثقفين يحملون صورة أمة ويحرسون قيمها.

هابرماس يقرأ بإمعان مقالَ صحافيٍّ لا نعرف اسمه، ويتقبل نقده برحابة صدر، ويتراجع عن قراره بما يشبه الاعتذار عن الخطأ.. درس بليغ لأهل العلم والإعلام عشية اليوم العالمي لحرية التعبير.

في بلاد أخرى سيطرح السؤال عن قيمة الجائزة.. 225 ألف يورو فقط.

سليمان عبدالله

دير شبيغل تحدثت في نشرتها البريدية صباح اليوم عن تحجج بعض الشخصيات العامة من مثيري الجدل بقراراتهم وتصرفاتهم بـ”ثقافة الإلغاء” لإظهار أنفسهم كضحايا للاستفادة من ذلك في مسيرتهم .. ممتدحة الفيلسوف يورغن هابرماس الذي قرر رفض جائرة “الشيخ زايد للكتاب” عن فئة “شخصية العام الثقافية”، الممنوحة له من الإمارات، والتي تتضمن قرابة ربع مليون يورو ملقبة إياه بـ”فائز اليوم” الذي لم يلجأ بعد انتقاده للتحجج بثقافة الإلغاء لإظهار نفسه كضحية وتبرير قبوله الجائزة في البداية بل صحح موقفه ببساطة..

وتعني ثقافة الإلغاء، التي انتشرت في الولايات المتحدة وأثارت الجدل كثيراً منذ العام الماضي في ألمانيا، الدعوة لمقاطعة الجميع، بمن فيهم المؤسسات، لشخصية عامة كفنان/ة أو عالم/ة… احتجاجاً على موقف سيء منه أو اتهامه بجرائم.

وأشارت “شبيغل” إلى رؤية رئيس المخابرات الداخلية السابق في ألمانيا ماسن (الذي تبين أنه قريب جدا في مواقفه من حزب البديل لألمانيا اليميني المتطرف) وداعميه في الانزعاج العام حول انتخابه كمرشح للبوندستاغ عن حزب المستشارة ميركل في ولاية تورنغن. نوع من ثقافة الإلغاء التي يُزعم بأنها تسيطر على البلاد بأكملها وتؤدي إلى منع قول أمور معينة. وتقول “شبيغل” ساخرة أن ثقافة الإلغاء هذه تخرس الأصوات إلى حد. في حالة ماسن .. أدت إلى انتخابه بالفعل كمرشح للبرلمان. أي أنه لو كان هذا الإلغاء سارياً بالفعل، لكان منعه من الترشح.

ضربت أيضاً مثلاً آخر لتؤكد عدم صحة هذه المزاعم، الممثل يان- يوزف ليفرس، الذي قيل إن ثقافة إلغاء تمارس ضده بعدما شارك في حركة “لتغلقوا كل شيء ” التي سوق من خلالها اتهامات مؤامراتية. وأشارت إلى أنه بات ضيفاً على أغلفة الكثير من المجلات التي أجرت مقابلات معه، ومثل حتى في حلقة أمس من مسلسل “تات أورت” الشهير. فأين هو الإلغاء هنا؟

وعادت بالحديث إلى الفيلسوف هابرماس الذي تعرض لانتقاد من “دير شبيغل” نفسها في مقالة بعنوان “هابرماس والبروباغندا الإماراتية” التي أشارت فيها إلى أن منح الجائزة سيشكل نجاحاً دعائياً للإمارات التي يسري فيها حكم استبدادي.. فردّ الفيلسوف بإعلانه تراجعه عن قبول الجائزة، وكانت المجلة قد وصفت قراره السابق بالقبول بالخاطئ، مشيراً إلى عدم استعلامه كفاية في البداية عن العلاقة بين المؤسسة المانحة للجائزة والنظام السياسي القائم هناك. واعتبرت شبيغل عدم قيامه بالتحجج بثقافة الإلغاء، لافتاً للنظر، وتصحيحه لموقفه يستحق التهنئة..

وبينت أن الفيلسوف أوضح أن من قدم له المشورة في البداية ودفعه لقبول الجائزة، هو يورغن بوس، وهو مدير معرض فرانكفورت للكتاب.. ورأت شبيغل أن سبب ذلك قد يعود إلى كون بوس نفسه عضواً في اللجنة العلمية لجائزة الشيخ زايد للكتاب.

———————-

فيلسوف أوروبا هابرماس يتراجع عن قبول جائزة الشيخ زايد/ عمران عبد الله

ربما كان الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس المفكر الأبرز في أوروبا منذ ستينيات القرن الماضي، إذ وضعته دراسات الفلسفة وعلم الاجتماع والتاريخ في مكانة استثنائية، وأدّت مقالاته ومقابلاته الصحفية إلى توجيه المناقشات العامة في موضوعات سياسية مثل حرب العراق، وذكرى الهولوكوست، والتكامل الاقتصادي والسياسي لأوروبا.

بذلك وصفت مجلة “فورين بوليسي” (Foreign Policy) الأميركية، قبل أسابيع قليلة، الفيلسوف التسعيني (ولد 1929) الذي يعدّ من أهم منظّري مدرسة فرانكفورت النقدية وصاحب نظرية “الفعل التواصلي”، في تقرير بعنوان “لماذا اختفى هابرماس؟”.

حي بن يقظان وروبنسون كروزو.. جدل حول التأثير الإسلامي على أدب عصر التنوير الغربي

ولكن هابرماس لم يختف، فقد عاد إلى الأضواء بقوة متصدّرا مواقع ووكالات الأخبار العالمية بعد رفضه، أمس الأحد، قبول جائزة الشيخ زايد للكتاب التي تقدمها دولة الإمارات؛ معتبرًا أن قبولها كان قرارا خطأ إذ لم يفكر جيدا في المغزى السياسي الخاص باختياره تلك الجائزة، حسب مجلة شبيغل الألمانية التي نشرت انتقادا لقبوله الجائزة في مقال أشار إلى غياب سياسات التسامح والديمقراطية في الإمارات محذرّا من تحول الفيلسوف الألماني إلى وسيلة دعاية لإخفاء وحشية نظام حكم قمعي، حسب مقال المجلة الألمانية.

وكتب الفيلسوف الألماني إلى المجلة بعد قراءة المقال الذي انتقده أنه يصحح قراره السابق، وأضاف “لم أقدّر بطريقة كافية العلاقة الوثيقة بين المؤسسة التي تمنح الجائزة والنظام السياسي القائم هناك”.

من جانبها أشادت المجلة الألمانية بتراجع الفيلسوف عن الجائزة الكبيرة (750 ألف درهم إماراتي) (أكثر من 204 آلاف دولار) منوّهة بمكانته الكبيرة في البلاد. وكتب محرر شبيغل ديتمار بيبر أنه “بتصحيح نفسه، يظل الفيلسوف مخلصًا للتنوير التواصلي وأهم قيمه” مبديا إعجابه برشاقة عقلية الفيلسوف التسعيني التي دفعته إلى قول لا.

وفي بيانه اقتبس هابرماس من مقالة شبيغل حرفيًا “عادة، عندما تصطدم العقلانية بالقوة تفوز القوة (السلطة). ولكن على المدى البعيد أنا أؤمن بالقوة التنويرية للكلمة النقدية، إذا ظهرت فقط في المجال السياسي العام، وكتبي التي ترجمت إلى اللغة العربية تكفي”.

ردود الفعل

وتوالت ردود الفعل على موقف الفيلسوف الألماني، من ناشطين ومثقفين، فكتب الحقوقي المصري جمال عيد مقارنا بين رفض هابرماس الجائزة ومواقف مثقفين آخرين مثل الروائي المصري صنع الله إبراهيم والإسباني خوان غويتيسولو اللذين رفضا جوائز عربية شبيهة.

    العالم مازال به أناس يفضلون المبادئ عن الاموال

    — Gamal Eid (@gamaleid) May 2, 2021

ولفت المترجم والأكاديمي عبد السلام حيدر النظر إلى خطأ في إعلان جائزة الشيخ زايد لمؤلفات هابرماس إذ نسبت إحدى ترجماته خطأ إلى غير المترجم الحقيقي لها.

وأشار الأكاديمي اللبناني وسام سعادة إلى أن هابرماس كان متّسقا مع فكرة أساسية هي أن تكون الجائزة غير صادرة عن نظام سياسي بعينه.

    رفض هابرماس الجائزة المقدرة بـ 225 ألف يورو، لأن “مبادئ الديمقراطية التي يتبناها تتناقض مع النظام السياسي في الإمارات، وضح أن السلطة تنتصر على العقل مؤقتًا لكن على المدى الطويل لابد أن تنير الكلمة الدرب، تُرجمت كتبي للعربية وهذا يكفي”. 👏🏽 https://t.co/NySUo9BCkF

    — Alaa آلاء (@alaa_q) May 2, 2021

فيلسوف القارة الأوروبية

وبزغ مشروع هابرماس الفلسفي من صدمات ألمانيا بعد الحرب العالمية، إذ نجا بأعجوبة من التجنيد العسكري في زمن الحرب، وكان يبلغ من العمر 15 عاما وقت الانهيار النازي؛ ليستمع لاحقا إلى البث الإذاعي لمحاكمات نورمبرغ لقادة النازية.

ومصممًا على الكشف عن المسار “الذي ذهب فيه التاريخ الألماني في طريق خطأ”، وفي محاولة لاستكشاف ما إذا كانت الثقافة الألمانية تمتلك موارد لإعادة بناء البلاد، تخلى هابرماس عن فكرة دراسة الطب لمتابعة دروس الفلسفة، ورفض أفكار الوجودية السائدة واليأس الثقافي، وبدلًا من ذلك أصبح واحدا من أبرز منظّري مدرسة فرانكفورت الفلسفية مع ماكس هوركهايمر وثيودور أدورنو اللذين شارك في بناء معهدهم للبحوث الاجتماعية الذي تحول إلى ملاذ للمناقشة النقدية وسط الثقافة الأكاديمية المتراجعة بعد الحرب في ألمانيا الغربية.

وولد هابرماس في مجتمع الطبقة الوسطى البروتستانتية في ألمانيا الغربية، ليصبح أبرز فلاسفة أوروبا المعاصرين بتاريخ مهني امتد ما يقرب من 7 عقود، وضع خلاله نظامًا فلسفيًا يربط بين نظرية المعرفة واللغويات وعلم الاجتماع والسياسة والدين والقانون.

وتتطلب الديمقراطية، حسب هابرماس، مجالًا سياسيًا نشطًا ومؤسسات سياسية قادرة على الاستجابة ودمج الطاقة التي تنشأ عن النقاش والاحتجاج والمواجهة والسياسة.

وحذر الفيلسوف الألماني -الذي يوصف بأنه وريث تركة مدرسة فرانكفورت التي ابتكرت مفاهيم فلسفية مثل الهيمنة التقنية والعقل الأداتي- من تزايد خطر “الشعبوية” الوطنية واليمين المتطرف إذ رأى أن السلطات السياسية تعامت عنه بذريعة معاداة الشيوعية المهيمنة.

الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني يورغن هابرماس (أقصى يمين الخلفية) مع رموز مدرسة فرانكفورت الفلسفية ماكس فيبر وهوركهايمر وأدورنو (ويكي كومنز)

وبينما تستوعب أوروبا (وبوجه خاص ألمانيا) موجات جديدة من المهاجرين المسلمين، سعى هابرماس إلى مكافحة خطابات كراهية الأجانب مشددا على أهمية الديمقراطية للتعامل مع الخلافات الدينية.

وفي مقابلة حديثة مع صحيفة “لوموند” (Le Monde) الفرنسية، حلل الفيلسوف الألماني الشهير النتائج والآثار الأخلاقية والسياسية لأزمة الصحة العالمية الحالية، وحثّ الاتحاد الأوروبي على مساعدة الدول الأعضاء الأكثر تأثرا، وقال “علينا أن نكافح من أجل إلغاء النيوليبرالية”.

وفي وقت تزداد فيه الأزمات، يقترح هابرماس أن الإنسانية تمتلك بالفعل الموارد اللازمة التي يمكن إحداث التوازن بها بتوجيهها نحو المصلحة العامة، ومستفيدًا من تراث مدرسة فرانكفورت الفلسفية ونقد ما بعد الحداثة، يرى أن التاريخ هو “قصة تعلّم الإنسانية” وسجل للمشكلات التي تم حلها والتحديات التي يصار إلى التغلب عليها.

دعا هابرماس إلى هوية أوروبية جماعية تستند إلى ما يسميه “الوطنية الدستورية” التي تحلّ محل الطبقة والدين والأمة في القارة العجوز، وعارض الفاشية والقومية وصعود اليمين، داعيا إلى استناد الديمقراطيات الليبرالية في الغرب إلى “احترام كرامة الإنسان“.

وطوّر الفيلسوف الألماني مفهوم “الوطنية الدستورية” أواخر الثمانينيات، معارضًا بناء ألمانيا بعد الحرب على قاعدة قومية وإنما يلزم بناؤها على التقاليد الديمقراطية الليبرالية الأوروبية الأوسع التي ينبغي أن يجد فيها المواطنون هويتهم في “وطنية دستورية” مفتوحة لجميع البشر بدلا من التمركز حول التاريخ القومي، حسب مراجعة فورين بوليسي

وجادل هابرماس بأن الأوروبيين يجب أن يروا أنفسهم موحدين بإرث الثورة الفرنسية وقيم حقوق الإنسان، وعارض حرب العراق منتقدًا إدارة بوش “لانتهاكها القانون الدولي“، وذمّ مواقف بعض دول أوروبا الشرقية التي أيدت التدخل الأميركي في العراق، ووجد بوادر أمل في ما أسماه “قوة المشاعر” التي ألهمت ملايين الأوروبيين للاحتجاج على غزو العراق.

الدور العام للمفكر

ظهرت نصوص هابرماس الفلسفية بأكثر من 40 لغة، وميز هابرماس نفسه بأنه مدافع قوي عن الدور العام للمفكر، وأثارت حواراته مع فلاسفة بارزين مثل الأميركي جون رولز والفرنسي ميشيل فوكو جدلًا في ميدان العلوم الإنسانية، وشكلت تعليقاته السياسية خلافات في موضوعات مثل الذاكرة التاريخية والوحدة الأوروبية وحتى الهندسة الوراثية.

وفي عمله الجديد الذي قدمه بالتزامن مع بلوغه 90 عامًا بعنوان “هذا أيضًا تاريخ الفلسفة” حاول الفيلسوف الإجابة عن سؤال يشغله دائمًا عن وظيفة الفلسفة في عالم اليوم.

وسعى هابرماس بدراسة تاريخ أكثر من 3 آلاف سنة من تاريخ الفلسفة، في مشروعه الأخير الصادر في مجلدين من قرابة 1700 صفحة، إلى إعادة صياغة شاملة للتاريخ البشري، معتبرًا أن تجزئة الحياة الحديثة استنفدت قدرة الفلسفة على الأسئلة الجريئة، ويدرس الفيلسوف الألماني تقدم الإنسانية عبر تحليل “العقل العام” وتطور تاريخه، فضلا عن محاولة الإجابة عن سؤال: كيف فصلت الفلسفة نفسها عن الدين وأصبحت علمانية؟

وفي كتابه ظلّ هابرماس واضحا إزاء الدور التأسيسي للمسيحية الغربية في الفلسفة الحديثة، وتتبّع صعود العقلانية معتبرا أن “العلمنة لا تزال غير مكتملة” إذ لا يوجد بديل لأخلاقيات العدالة والحب الدينية، حسب تعبيره.

المصدر : الجزيرة + وكالات + دير شبيغل

———————————–

هابرماس وشرف الثقافة/ الياس خوري

في أيلول-سبتمبر 2009 أعلن الروائي الإسباني خوان غويتيسولو رفضه لجائزة معمر القذافي الأدبية.

كان هذا موقفاً بديهياً يتخذه كاتب عاشق للثقافة العربية، اختار الإقامة في مراكش، وأعاد قراءة الجذور العربية- الإندلسية لثقافة بلاده، وكان مدافعاً عن حقوق الإنسان.

قال الكاتب الإسباني في بيان رفضه للجائزة «إن هذا الموقف ينسجم مع قناعاتي ومواقفي المناصرة لقضايا العدل، وهي خطوة في اتجاه البحث الدائم عن التماهي مع مواقفي المناهضة دوماً للأنظمة الاستبدادية».

وفي تشرين الأول-أكتوبر 2003 رفض الروائي المصري صنع الله إبراهيم جائزة ملتقى القاهرة للإبداع الروائي العربي، في مهرجان كبير نظمه المجلس الأعلى للثقافة، وشكل هذا الرفض صرخة في وجه الاستبداد والتطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي. عندما بدأ صنع الله إبراهيم إلقاء كلمة الرفض رأينا الوجوم على وجوه المسؤولين المصريين، بينما ارتسم ما يشبه الرعب على وجوه أعضاء لجنة التحكيم. قال إبراهيم في كلمته: «في هذه اللحظة التي نجتمع فيها هنا، تجتاح القوات الإسرائيلية ما تبقى من الأراضي الفلسطينية، وتقتل النساء الحوامل والأطفال، وتشرد الآلاف، وتنفذ بدقة منهجية واضحة إبادة الشعب الفلسطيني وتهجيره من أرضه، لكن العواصم العربية تستقبل زعماء إسرائيل بالأحضان، وعلى بعد خطوات من هنا يقيم السفير الإسرائيلي في طمأنينة، وعلى بعد خطوات أخرى يحتل السفير الأمريكي حياً بأكمله بينما ينتشر جنوده في كل ركن من أركان الوطن الذي كان عربياً.

هبط صنع الله إبراهيم عن المسرح وسط تصفيق حاد، وحمله الحاضرون على الأكتاف، وقد رد رئيس المجلس الأعلى للثقافة جابر عصفور، على صرخة صنع الله إبراهيم في وجه الاستبداد بكلمة قال فيها: «صنع الله إبراهيم لم يرفض جائزة من الحكومة بل من الأمة العربية»!

لم يجد منظمو جائزة القذافي، بعدما رفضها غويتيسولو، مخرجاً من فضيحة جائزتهم وكان على رأسهم يومها إبراهيم الكوني، سوى في اللجوء إلى إنقاذ ماء وجه جائزة العقيد، فمنحوها لجابر عصفور الذي ذهب إلى طرابلس ليتسلمها وسط وفد ثقافي نُظم على عجل.

بعد هذين الحدثين اللذين هزا تركيبة الجوائز العربية، تعلمت الأنظمة درساً بليغاً، وهي أن تطلب من الكاتب أو الكاتبة موافقة مسبقة قبل منح الجائزة. هكذا صار الرفض مستحيلاً، إذ عليك أن توقع على قبولك الجائزة قبل أن تمنح لك، ما يعني أن الاعتراض على استبداد الأنظمة عبر رفض جوائزها لم يعد ممكناً.

وهذا ما حصل مع الفيلسوف الألماني التسعيني يورغن هابرماس، الذي وافق على تسلم جائزة الشيخ زايد مسبقاً، ثم نبهته «دير شبيغل» إلى خطئه، وكتبت: «بهذا يتطرق هابرماس إلى السؤال الحاسم الذي طرحته جائزة الشيخ زايد للكتاب: من يخدم من؟ هل يمكن أن يتحول هابرماس إلى أداة دعاية إماراتية، يتم تدريبها على إخفاء وحشية نظام الحكم وراء ستار دخان من المفردات السامية والتألق الثقافي»؟

وجاء رد هابرماس سريعاً، فأعلن رفضه للجائزة وقال: «لقد كان قراري خاطئاً، وأنا أصححه الآن، لم أفهم بشكل كافٍ العلاقة الوثيقة للغاية بين المؤسسة التي تمنح هذه الجوائز في أبو ظبي والنظام السياسي القائم».

مرّت جائزة القذافي وسط صمت عربي مريب، وتم التستر على الفضيحة بمنحها لكاتب عربي، أما جائزة الرواية في مصر فقد حاولوا إنقاذها بمنحها في العام الذي تلا رفضها إلى الطيب الصالح الذي قبلها. جائزة القذافي انهارت قبل انهيار النظام، وجائزة القاهرة فقدت بريقها.

غير أن نمطاً جديداً من الجوائز شق طريقه، وهي الجوائز الأدبية بتمويل إماراتي، وهي جوائز نجحت في اكتساب صدقيتها نتيجة جدية لجان تحكيمها، ولعل الجائزة التي احتلت مكانتها، رغم بعض الشوائب، هي الجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر».

ورغم التطورات السياسية بعد «اتفاق أبراهام» والزحف التطبيعي- التتبعي، فإن الجوائز الإماراتية لم تتأثر. صدر بيان يتيم يعلن أن شرط استمرار جائزة «البوكر» هو التخلي عن التمويل الإماراتي، لكنه بقي بلا صدى. وكانت المفاجأة أن الأمور بقيت على حالها، المئات رشحوا رواياتهم للبوكر والعشرات رشحوا كتبهم لجوائز الشيخ زايد!

وكان السؤال المؤرق هو هل فقدت الثقافة العربية شرفها وتخلت عن القيم الأخلاقية التي تدعو إلى استقلالية المثقف، وتفترض أن دوره هو الوقوف في وجه الظلم والاستبداد؟

صحيح أن المشهد الثقافي تم تهميشه وسط عربدة زمن التابعين الذين يريدون تطبيع الاستبداد، وصحيح أيضاً أن الحواضر الثقافية في المشرق العربي تعيش في عتمة الاستبداد والتفكك والانهيار، لكن لا شيء يبرر هذا الانحطاط الأخلاقي.

كنا ننتظر من الكتاب مقاطعة هذه الجوائز المغمسة بالاستبداد، وإدانة هذه الحفلة التطبيعية التنكرية المشينة. لكن للأسف، فإن المتدافعين على نيل جوائز السلطان، لم يردعهم أي اعتبار أخلاقي.

عندما رفض غويتيسولو وصنع الله إبراهيم الجائزتين، شعرنا أن الثقافة العربية انتفضت دفاعاً عن كرامتها.

واليوم عندما أعاد هابرماس النظر في قبول جائزة الشيخ زايد ورفضها، قام بالدفاع عن شرفه في مواجهة الخدعة الرائجة بأن الثقافة والحداثة صارتا ملكاً للمستبدين والمطبعين مع دولة التمييز العنصري التي تحتل أرض فلسطين.

هل يوقظ هذا الموقف الأخلاقي المثقفين العرب من سباتهم ومن خطر تحولهم إلى مثقفي بلاط، ومتواطئين مع الاستبداد والتتبيع التطبيعي مع إسرائيل؟

هل ننتظر غداً موقفاً من مثقفة/ مثقف عربي يعلن تراجعه عن قبول الجائزة؟ أو ينسحب من جائزة «البوكر» قبل إعلانها؟

لا أعرف الجواب على سؤالي، لكنني أعرف أن الجواب يجب أن يكون بسيطاً ومباشراً. السكوت لم يعد ممكناً، ومواجهة الانحطاط لا تحتاج إلى شجاعة استثنائية، بل إلى اقتناع بأن الثقافة هي الباقية، وأن الكلمة التي كانت في البدء هي الأقوى، وأن المثقف لا يكون مثقفاً إلا إذا كان حراً ومتحرراً وقادراً على الوقوف في وجه الظلم والديكتاتورية والاحتلال.

شكراً لهابرماس الذي امتلك شجاعة الرجوع عن الخطأ، والذي أكد من جديد إيمانه «بقوة الكلمات النقدية».

———————–

دير شبيغل تعلّم هابرماس/ معن البياري

ليس تزيّدا القولُ إن الصحافة انتصرت على الفيلسوف. أو بأقلّ حدّة، إنها قوّمت اعوجاجا عن العقل لحظتُه في الفيلسوف، بعد أن انتقدته ولم تستسلم لمهابته. وجدت لديها كل السلطة لتقرّعه (؟) عندما أبعد العقلَ في مسلكٍ له معلن، وهو الذي أمضى أكثر من نصف قرن في النهوض بقيمة العقل. .. الفيلسوف هو الألماني يورغن هابرماس (91 عاما)، والصحافة هي مجلة دير شبيغل الألمانية. ما أن بلغها نبأ قبوله، السبت الماضي، جائزة الشيخ زايد للكتاب للشخصية الثقافية للعام 2021 (نحو 250 ألف دولار)، حتى نشرت مقالةً، فيها إن “قبول واحدٍ من أهم الفلاسفة الألمان جائزة دولةٍ تشتهر بالقمع وتنعدم فيها الحياة الديمقراطية مؤشّرٌ يبعث على الإحباط”. وسألت: “هل يمكن أن يتحوّل هابرماس إلى أداة دعايةٍ إماراتية، يتم توظيفها لإخفاء وحشية نظام الحكم وراء ستار دخانٍ من المفردات السامية والتألق الثقافي؟”. وانتهت المقالة إلى أنه “عادةً، عندما يلتقي العقل والقوة تفوز القوة”. وبدت هذه العبارة أشبه باتهامٍ ثقيلٍ لأحد أبرز المنظّرين الأحياء في العالم، ساجَلت كتبه (نحو خمسين) في قضايا العقل والنقد والتواصل والاجتماع والمصالح والمعرفة والعدالة والديمقراطية والحقيقة والأخلاق. و… . وبحسب عارفين أدرى من صاحب هذا التعليق، عُدّ هابرماس الفيلسوف الوحيد الذي فرض نفسَه على المشهد السياسي والثقافي في بلاده. وبحسب الوزير الأسبق، يوشكا فيشر، هو “فيلسوف الجمهورية الألمانية الجديدة”. ولكن الاستثنائية الضافية في هذا كله لشخص الفيلسوف الشهير لم تمنع “دير شبيغل” من إشهار سؤالها ذاك، ولا من مفاجأته بجدل في العقل والقوة.

وعندما يسارع صاحبنا (هل هو صاحبنا فعلا؟)، هابرماس، إلى إرسال رسالةٍ إلى “دير شبيغل”، معقبا على ما فاجأتْه به، فذلك ما قد يعود إلى أن المجلة العتيدة لم تُرد أن تُعلمه بما لم يكن يعلم، وإنما أن يتعلّم منها ما يحسُن أن يتعلّمه، أو أرادت أن تعلّم عليه (باللغة الشعبية). وقد دلّت لغة الرسالة على أن صاحب “المعرفة والمصلحة” على استعدادٍ ليعرف ما لم يكن يعرفه، وأن يصحّح خطأ وقع فيه، وأيضا أن يجادل بشأن تنازع العقل والقوة، عندما عقّب في بيانه “نعم، على المدى القصير. ولكن على المدى الطويل أنا أؤمن بالقوة العقلانية للكلمة النقدية، شرط أن تظهر بحريةٍ في المجال السياسي العام .. كتبي التي تُرجمت على نحو طيب إلى العربية كافية لذلك”. (أشهر كتبه وأكثرها أهمية “نظرية العقل التواصلي ..”، بجزئيه، صدر في 2020، بترجمة فتحي المسكيني عن الألمانية، عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات). يكتب هذا بعد أن يُبلغ الجمهور (والإمارات؟) إنه يصحّح خطأ قبوله جائزة الشيخ زايد، ويرفضها. ويُخطرنا بأنه لم يكن يعرف بشكلٍ كافٍ العلاقة الوثيقة بين المؤسسة التي تمنح الجائزة والنظام السياسي في أبوظبي. .. وهنا يصحّ القول إن عزلة الفيلسوف (أو شيخوخته؟) أو عدم درايته الكافية بحقائق قائمة في العالم، لا تيسّران له اتخاذ الموقف الأصوب، والذي يقترن بصفته أهم فيلسوف في ألمانيا منذ عقود، وإنها الصحافة هي التي تُرشده إلى هذا الموقف، وليست معرفته بالعقلانيات، الوظيفية والاجتماعية، التي كتب عنها كثيرا. وهذا ما صنعته “دير شبيغل”، فلولاها لكرّمت السلطة في أبوظبي بعد أيام الفيلسوف الذي هنأه ولي العهد القوي، محمد بن زايد، وشقيقه هزّاع، وسمّياه فيلسوفا، كما فعل القائمون على الجائزة، وقد نقلوا عمن نقلوا إنه الفيلسوف الأكثر تأثيرا، ثم نزعوا صفته هذه عنه، فصار “السيد يورغن هابرماس” (!)، لمّا تأسفوا لتراجعه عن قراره المسبق قبول الجائزة، مع احترام قراره.

إنها الصحافة، إذن، عندما تُحرز سلطتها، وتملك قوتها، في مقدورها أن يقرأ فيها فيلسوفٌ باهظ المكانة، اسمه هابرماس، ما عليه أن يقرأ، ثم يتجاوب بتواضعٍ فائض، لأنه تعلّم من محاججتها له، وعرف منها غير الذي سمعه من مدير معرض فرانكفورت للكتاب، عن جائزة الشيخ زايد، فاستدرك أمرَه، لمّا وقف على ما بين مبادئة والنظام في الإمارات من تناقض، ثم يستحقّ من “دير شبيغل”، تاليا، إشادَتها بقراره رفض الجائزة، والذي غلّب فيه “العقل”، كما كتبت عن أكثر الفلاسفة الأحياء في العالم انشغالا بالعقل.

الحكاية، كلها، هنا، في سلطة صحافةٍ في مجتمعٍ حرٍّ في نظامٍ سياسيٍّ واجتماعيٍّ ديمقراطيٍّ حقيقي، تعرف واجبها الأخلاقي. إنها في غياب صحافةٍ كهذه في بلادنا العربية الزاهرة، تؤشّر لفيلسوف العقل إلى موطن العقل فيهتدي إليه. وكيف لها أن تكون بين ظهرانينا، ونُظُمنا السياسية على ما نعرف؟

———————–

هابرماس ورفض جائزة الشيخ زايد: عندما تحوّل الاحتفال إلى مأتم/ محمد عبد الرحيم

«قلّما نجد شخصيات بارزة في الحقل الفلسفي والثقافي والفكري مثل يورغن هابرماس، فهو يتمتع بمسيرة حافلة بالإنجازات والأعمال المتميّزة، التي جعلته الصوت الأكثر حضوراً وتأثيراً في الحياة الثقافية الألمانية، على مدى أكثر من 50 عاماً، وما لقب شخصية العام الثقافية إلا تأكيد على تميّز مسيرته ونتاجه الفلسفي المهم، الذي أثر في الثقافة العالمية، ومنها الثقافة العربية». (علي بن تميم، أمين عام الجائزة)

«لقد أعلنت استعدادي لقبول جائزة الشيخ زايد للكتاب لهذا العام. كان هذا قراراً خاطئاً، وأنا أصححه… لم يكن واضحاً لديّ بشكل كافٍ الصلة الوثيقة للغاية بين المؤسسة التي تمنح هذه الجائزة في أبوظبي، بالنظام السياسي هناك». (هابرماس)

«تعرب جائزة الشيخ زايد للكتاب عن أسفها لتراجع السيد يورغن هابرماس عن قبوله المسبق للجائزة، لكنها تحترم قراره». (عن موقع الجائزة)

توإلى الإعلان تباعاً الأيام الماضية عن اسماء الفائزين بجائزة الشيخ زايد للكتاب لهذا العام في فروعها المختلفة، فاشتعلت الصحافة ومواقع التواصل بالتهليل والتهاني لهذا الفائز أو ذاك، ليأتي موقف عالم الاجتماع والفيلسوف الألماني يورغن هابرماس ـ مواليد عام 1929 ـ برفضه للجائزة كشخصية العام الثقافية، ليضع الفائزين في موقف لا يحسدون عليه. هذا بداية، ثم أدى قرار الرجل إلى عقد مقارنة سريعة بين موقفه وموقف (المثقفين) العرب، سواء الذين فازوا أو الذين يحلمون بالفوز، فالقليل من المهتمين بالشأن الثقافي ثمّنوا موقف الرجل، مقابل الكثير من المحسوبين على الثقافة العربية، وهم بالطبع أشهر أبواقها، وهُم إما التزموا الصمت، رغم أنهم يصمّون آذاننا ليل نهار عن القيم والمبادئ والانتصار للحريات، أو شككوا في رفض الجائزة.

فقط موقف

اتخذ هابرماس موقفه التصحيحي هذا نتيجة انتقاد صحيفة «دير شبيغل» الذي جاء في مقال بعنوان «هابرماس والبروباغندا الإماراتية» حيث أشار إلى أن منح الجائزة سيشكل نجاحاً دعائياً للإمارات، التي يسري فيها حكم استبدادي. فردّ الرجل بإعلانه تراجعه عن قبول الجائزة، هذا القرار الذي اعتبرته الصحيفة قراراً يستحق التهنئة، بعدما ذكرت أن هابرماس أوضح أن مَن قدّم له المشورة في البداية ودفعه لقبول الجائزة، هو يورغن بوس، وهو مدير معرض فرانكفورت للكتاب، وهو نفسه أحد أعضاء اللجنة العلمية لجائزة الشيخ زايد للكتاب.

كرامة المثقف

نستعرض بداية آراء بعض المثقفين من خلال صفحاتهم على فيسبوك، والمؤيدة لموقف هابرماس.

□ الباحثة والأكاديمية التونسية رجاء بن سلامة:

قبل يورغن هابرماس الجائزة الإماراتية، ثم رفضها، بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، غياب الحقوق السياسية والمدنية في البلاد، ومنظومة الكفالة التي تجعل العمالة الآسيوية في وضع مهين، وأخيراً المشاركة في التحالف الذي يؤدي إلى استهداف المدنيين في اليمن. قيمة الجائزة حوالي 262 ألف يورو. لكن القيم أهمّ من قيمة الجائزة. وحقوق الإنسان هي القيميّة الكونيّة التي تجمعنا، والتي يحرص عليها الفيلسوف الألماني. عالمنا يتغيّر سريعا، من لم يفهم هذا، يعش بين الحفر.

□ الكاتب والأكاديمي الفلسطيني خالد الحروب:

هذا الرفض المبدئي من قِبل الفيلسوف الألماني الكبير هابرماس لجائزة الشيخ زايد نضعه برسم التأمل، أمام كُتّاب عرب كثيرون يلهثون وراء هذه الجوائز التي تحولت إلى تحسين صورة التطبيع والمطبعين.

□ الكاتب المصري شادي لويس:

قبل أيام منحت الإمارات جائزة الشيخ زايد للفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، ومن شويّة أعلن هو عن رفضه لقبولها، والسبب علاقة الجائزة بمنظومة الحكم السياسية هناك. كل الاحترام لرجل يعرف قيمة نفسه وقيمة الكتابة وأخلاقياتها، ودور المثقف وكرامته، ومعنى أن يكون للفرد ضمير وموقف عام.

□ المُترجم المصري سمير جريس:

رفض هابرماس لجائزة الشيخ زايد بعد أن قبلها، تبرز قدرة هابرماس على قبول النقد، والاعتراف بالخطأ. جاء رفض هابرماس بعد أن نشر موقع «دير شبيغل» صباح أمس مقالة تنتقد قبوله جائزة من نظام سياسي يمثل عكس ما يدعو إليه هابرماس. قرأ الفيلسوف المقالة، واقتنع بالنقد، وأرسل على الفور اعتذاراً عبر ناشره إلى إدارة الجائزة، واعترف أن قبوله للجائزة كان من البداية خطأ.

□ الكاتب السوري فواز حداد:

المفكر والفيلسوف وعالم الاجتماع يورغن هابرماس رفض تسلم جائزة الشيخ زايد للكتاب. هذا التصرف يجعلنا نؤمن بأن هناك مثقفين كبارا، يمنحون للثقافة معناها الحقيقي.

□ الكاتب والباحث المصري نبيل عبد الفتاح:

هابرماس أهم فيلسوف ألماني معاصر يرفض جائزة الشيخ زايد لهذا العام. درس كبير للساعين واللاهثين وراء الجوائز الأدبية السخية، سعياً وراء المال وفقدان الجوائز لمعناها وقيمتها الرمزية.

ضد التطبيع

وحتى لا نظلم ونعمم موقف المثقف العربي بالتحالف والتواطؤ مع هذه الأنظمة، نجد العديد من الأصوات رفضت موقف الإمارات من التطبيع مع إسرائيل، عبر المطالبة بوقف تمويل أبوظبي لجوائز تختص بالأدباء والروائيين والشعراء العرب، أو الانسحاب من جوائز أخرى إماراتية، فطالب بعض الكتاب الفائزين بالبوكر العربية، بوقف التمويل الإماراتي لها، قائلين: «ندعو مجلس الأمناء الحالي إلى تحمل مسؤوليته الثقافية التاريخية في حماية الجائزة، عبر إنهاء التمويل الإماراتي، وذلك حفاظاً على مصداقية الجائزة واستقلاليتها». وعلى رأسهم من فلسطين، إبراهيم نصر الله، الفائز بالجائزة عام 2018، ربعي المدهون، الفائز بالجائزة عام 2016، والراحل مريد البرغوثي، رئيس لجنة التحكيم لعام 2015، ومحمد بنيس من المغرب، إلياس خوري من لبنان، فواز حداد من سوريا، وهدى النعيمي من قطر.

من ناحية أخرى، أعلن الأكاديمي والناقد المغربي يحيى بن الوليد، والروائيان والمترجمان أحمد الويزي وأبو يوسف طه، والروائية الزهرة رميح، والشاعر محمد بنيس، انسحابهم من جائزة «الشيخ زايد للكتاب». كذلك أعلنت مؤسسة «بيت الشعر في المغرب» ـ مؤسسة مستقلة ـ إدانتها واستنكارها التطبيع الإماراتي مع إسرائيل. إلا أن رد اتحاد كُتاب وأدباء الإمارات، جاء معتبراً أن «ما صدر من أصوات نشاز ومعارضة لمعاهدة السلام، ما هي إلا أصوات لا تمثل الواقع».

في صحة المثقف العربي

-فكرة رفض الجوائز الأدبية قلما تصدر عن مثقف عربي، لكنها ولله الحمد تحدث، ربما أشهرها موقف الروائي المصري صنع الله إبراهيم، عندما رفض جائزة القاهرة للإبداع الروائي، في ما يُشبه (الشو) الإعلامي قائلاً: «أعلن اعتذاري عن عدم قبولها، لأنها صادرة عن حكومة لا تملك، في نظري، مصداقية منحها».

أما المصري بهاء طاهر فرفض جائزة (مبارك) في الآداب عام 2011، قبل تنحي (المخلوع) قائلاً إنه قبلها في 2009 «باعتبارها في المقام الأول جائزة الدولة المصرية، والآن وقد أهدر نظام مبارك دماء المصريين الطاهرة، فإنني أرد هذه الجائزة بكل راحة ضمير» ، كذلك رفض المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري جائزة من صدام حسين، وأخرى من معمر القذافي، مشيراً إلى أن الأولى لم تكن تشمل اختصاصه (الفلسفة) أما الثانية فرفضها لأنه لا يستحقها. وبمناسبة القذافي، نذكر موقف الرفض الشهير للكاتب الإسباني خوان غويتيسولو، الذي رفض جائزة القذافي العالمية للآداب في دورتها الأولى، قائلاً: «إن رفضي للجائزة التي يمولها نظام مثل نظام القذافي، هي بمثابة خطوة في اتجاه البحث الدائم عن التماشي مع مواقفي المناهضة للأنظمة الاستبدادية». هذه الجائزة التي كان يترأس لجنتها الروائي إبراهيم الكوني، الذي لم يجد إلا جابر عصفور ليمنحها له. وما كان من الأخير إلا أن رد له الجائزة بمثلها، و منحه جائزة الرواية المصرية.

ونختتم بحالة أخرى من حالات الرفض، التي قام بها الصحافي والكاتب الإيطالي كورادو أوجاس، الذي ذهب إلى السفارة الفرنسية وأعاد وسام الشرف الفرنسي، الحاصل عليه عام 2007، بسبب منح الوسام نفسه للرئيس المصري، قائلاً: «في رأيي، لم يكن ينبغي للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن يمنح وسام جوقة الشرف رئيس دولة أصبح شريكاً لمجرمين. أقول هذا ليس إحياء لذكرى جوليو ريغيني فحسب، إنما أيضاً لفرنسا، للأهمية التي ما زال يمثلها هذا الوسام». كان ذلك في نهاية العام الفائت.

القدس العربي

——————————-

هابرماس .. من يفعلها غيره؟/ ياسر أبو هلالة

ليس مطلوبا من المثقفين العرب، أكاديميين وكتابا وإعلاميين وفنانين، الاستشهاد دفاعا عن القيم العليا، حرية وحقوق إنسان و..، ولا أن يفنوا زهرة شبابهم في الزنازين، ولا أن يقضوا بقية أعمارهم في المنافي مطاردين، ذلك ودونه غير مطلوب. ما فعله الفيلسوف الألماني، يورغن هابرماس، من رفض جائزة الشيخ زايد للكتاب هو المطلوب، لا أكثر، فأن ترفض جائزة مالية من نظام يتصدّر الثورة المضادّة التي عاثت دماء ودمارا في العالم العربي، هذا أضعف الإيمان. وحسنا فعل هذا الفيلسوف، والمأمول أن يكون لخطوته ما بعدها لإعادة تلك الرشى المقدّمة باسم جوائز. .. مفهومٌ أن تشكّل الإمارات مغناطيسا للباحثين عن المال السريع، وهي قصة نجاح اقتصادي مشهود على مستوى عالمي. لكن ما علاقة ذلك بالفكر والثقافة والفلسفة والشعر والكتابة والصحافة ..؟

بدأت الحكاية في دبي قبل أبوظبي. اعتمد نموذجها على التجارة الحرّة والانفتاح بلا حدود، اقتصادية ولاأخلاقية، فالإمارة شكلت متنفّسا اقتصاديا واجتماعيا للمنطقة والعالم، خصوصا بعد تراجع هونغ كونغ وحصار إيران وانهيار المنظومة الاشتراكية، صارت دبي ملاذا ماليا لغسل المليارات وتجارة البشر، ذلك وغيره تطلب غسلا من خلال القوة الناعمة.

لم يبق صحافي ولا كاتب عربي لم يشارك في جائزة الصحافة العربية التي يقدّمها نادي دبي للصحافة، مترشّحا أم فائزا أم مدعوا أم عضو لجنة تحكيم. تكاثرت الجوائز والمنتديات في الإمارات، بعد دخول أبوظبي على الخط، فهي ليست كدبي، لا تحتاج تجارة ولا انفتاحا ولا أبراجا .. لديها فائض مالي يغنيها عن ذلك، وهي تعتمد القوة الخشنة، لا الناعمة، وتجلّى ذلك في انقلاباتها وتدخلاتها العسكرية الفجّة في اليمن وليبيا وسورية والسودان وغيرها.

تأسّت أبوظبي بتجربة دبي في غسل الجوائز والمنتديات والمؤتمرات، ولكنها بعد اندفاعها في مسار التطبيع واجهت تململا من المثقفين العرب، وتجلى ذلك في عزوف عن الترشح للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، الجائزة كشفت بؤسا لا يعرفه العالم، عندما اختير رسام الكاريكاتير السوري، علي فرزات، عضو لجنة تحكيم في “البوكر”، ثم منع من دخول الإمارات لحضور حفل توزيع الجائزة.

بإمكان الإمارات أن تحتفل بشاعر المليون، وستجد من يقرضون الشعر النبطي مديحا لشيوخها وكرمهم، بإمكانها أن تحتفي بحثالات الصهاينة والإسلاموفوبيا تحت عنواني نشر السلام والتسامح ومقاومة الإرهاب، بإمكانها أن تقيم مسابقاتٍ لأجمل الراقصات، يمكنها أن تقيم مسابقةً لشيوخ التيار السلفي المدخلي تحت عنوان “جائزة الشهيد محمود الورفلي” وكذلك تيار التصوف، وتيار تفسير الأحلام باسم يوسف .. وغير ذلك من تياراتٍ وشخصياتٍ تسبّح بحمدها وتدور في فلكها.

لم تبلغ الإمارات هذا المستوى من النرجسية والغرور، لولا رخص من يسمون عربيا مثقفين عربيا، فثلّة من هؤلاء، وخصوصا من اليسار المتعفن الذي يعرّف اليسار بمعاداة الإسلاميين، نذرت نفسها لتجنيد أنصار للإمارات، وربما رشّحوا كارل ماركس نفسه شخصية العام في الجائزة.

ليست الإمارات وحدها من تغسل سياستها بالجوائز السخية، وليست البلد العربي الوحيد الذي لديه معتقلو رأي، المطلوب موقف أخلاقي ممن يعتبرون أنفسهم مثقفين برفض تلك الرشاوى المغلفة بجوائز ومنتديات ومؤتمرات، وهذا سيقطع أرزاق متعهدي تلك الاحتفالات، لكنه سيعيد الاعتبار للمثقف، باعتباره عدو الاستبداد، لا خادمه.

درس ألمانيا لم يبدأ بفيلسوف حر، بدأ بصحافة حرة، فمجلة دير شبيغل نشرت مقالا يستهجن قبول هابرماس الجائزة من بلدٍ لا يحترم حقوق الإنسان، وهو ما نبّهه إلى الخطأ الذي وقع فيه، فتراجع، وكانت فضيحةً دولية لغسل الجوائز . وما كان ذلك ليكون لو فازت “دير شبيغل” من قبل بجائزة نادي دبي للصحافة لأفضل تحقيق استقصائي!

العربي الجديد

————————-

الجوائز وُجدتْ لكَيْ تُرْفَض: هابرماس مثالاً/ خليل النعيمي

نقائص الوجود العربي لا يمكن ترميمها، ولا تجميلها بشراء فضائل الآخرين. فلنكف عن رشوة الإبداع الكوني، وحَرْف مساره المضيء، محاولين أن نسطو عليه، بقدرة ثرواتنا المادية الغبية، من أجل لَجْمه وتبذيله، كما فعلنا مع مخزوننا المعرفي عربياً منذ عقود.

البعد الفكري النيّر والطليعي، كما يتجلّى في تراث يورغن هابرماس، صاحب «الفضاء العام»، و«النظرية والممارسة»، وغيرهما من الآثار النقدية الكبرى لكل ما هو سلطوي ومتخلّف وسكوني، هو الذي يميّز قوة الفكر النقدي وسطوته. وهو ما يعني أن الوجود لا يستقيم بلا نقد حرّ، يفضح العيوب الكامنة في بنيته. وهذا الفكر الإنساني العارم لا ثَمن له، ولا هو يُشتَرى، ولو «بجائزة أميرية» مغرية. لأن حجافل الكتّاب العرب الذين يسيل لعابهم أمام «صَفْطات» الدولارات الشهية، ليس مثالاً يحتذى، ولا هُم، مع الأسف، معياراً في مثل هذه الحال.

نحن ندرك أن تنازل المفكرين والمبدعين على اختلاف ميولهم ومناهجهم أمام الإغراءات المادية هو في العمق كارثة معرفية خطيرة، لأنه يمثل الضياع الكامل للرشد الإنساني، وللوعي السليم. وهو بالتالي تخريب لضمير العالَم، الذي لا يمكن التعبير عنه إلاّ بالفكر الحر والمتنوّر، والمقاوِم لكل الإغراءات الملتبسة. وعندما يُقوِّم مفكّر كبير مثل هابرماس خطأه بقبول الجائزة الأوّلي، ويعتذر عنه في ما بعد، فذلك دليل على أننا نستطيع دوماً أن نغدو أكبر من تهافتنا، ومن أخطائنا، إذا أردنا ألآّ نبتذل تاريخنا الفكري. وإذا كنا، بالخصوص، نملك الوعي النابه الذي يساعدنا على أن نصحح العثرة التي افتعلناها بإرادتنا. وهذا التصحيح النقدي، إذا صح القول، هو أهمّ ما فعله المفكر هابرماس بخصوص هذه الجائزة. لأن الاستمرار في القبول بما ينافي ضمائرنا، هو الإعلان الصريح عن سقوطنا المدوّي في «الشينات»، كما يقول أبي.

الاستراتيجية الدولارية، كما يفعل الأمير، تجعل من الأبحاث القيّمة، aومن الأدب الرفيع، سلعة. وهو ما يضع المنظومات الفكرية المتنوّرة موضع شك كاسح. وما يعني، بالتالي، أن مَنْ يمنح الجوائز لا يدرك خطورة ما يفعله. فجوائز الأدب المستحدثة في كثير من البلدان العربية، وبالخصوص في منطقة الخليج، بعد أن خَلْخلَت الثقاقة العربية الراهنة، إن لم تكن قد خَرّبَتْها، وساهمت في إنشاء «جيش الذباب الأدبي» الهائم بالجوائز والعناوين، ها هي ذي الآن تتمدد إلى العالم لتنشئ لها بُؤراً جديدة خارج الحدود، ومَنْ يدري إلى أين ستصل ذات يوم. بالطبع لسنا ضد الجوائز العالمية، ولكننا نتساءل على أي أساس تم منح هابرماس الجائزة؟ ليس لأنه لا يستحقّها، ولكن لأن وصولها إليه يبدو ملتبساً، ويثير الكثير من الأسئلة المريبة عن دور المال في«ابتياع الألباب»! أم هو صكّ غفران من نوع جديد، يحتاجه مَنّ هو بحاجة إليه؟

لماذا لا يدرك الأمير أن الأفكار العظمى، منذ أن تُقَيَّم بالدولارات، تكف عن أن تكون «قصة عظيمة»، تدور حول مصير الإنسانية، لأنها تغدو مجرّد سلعة. وأول علامات السقوط المعرفي هو، محاولة شراء الإبداعات الفكرية التي لم تنجز هنا، وليس لنا علاقة حميمة بها، حتى لو كانت رائعة في ذاتها. لكأننا في العالم العربي المعطوب حالياً، صرنا أيضاً بحاجة إلى ابتياع نظريات جاهزة، حتى لو لم نستعملها، كما نحن بحاجة إلى سيارات فارهة، وإلى أسلحة متطوّرة، وإلى أفخر المأكولات والمشروبات، لنَتَبَهْوَر بها. هذه الأفكار وغيرها، بالخصوص، برسم المبدعين العرب، الذين لا همّ لهم، أو هكذا غدوا اليوم بتأثير«المدّ الجوائزيّ الخليجيّ الكاسح»، لا يطمحون إلاّ إلى بيع منتجاتهم الإبداعية البائرة، ولو بأرخص الأثمان. والأمور، دائماً، نسبية.

وفي النهاية، يجب إلاّ نخجل من الاعتراف بأن الفكر ليس سلعة.. وأن التاريخ ليس سلطة.. وأننا لن نذهب بعيداً على طريق الوجود من دون عقل حر ومتنوّر ومثابر.. وأن الرأس الفارغ لا يمكن ملؤه بالذهب.. وأن الإبداع العظيم لا يُشْتَرى.. وأن الثروة ليست إدراكاً، ولا معرفة.. وأن سيّد الإبداع هو الخيال، وليس المال. عدم إدراك هذا كله هو قصور في المعرفة التاريخية، وهو ما يدفعنا إلى ارتكاب حماقات خطيرة، وبدلاً من أن نتقدم، نصير نتراجع إلى الخلف بشكل مؤسف، محاولين أن نوقف هذا التقهقهر بشراء «أفكار العالَم». وهو ما يبدو مستهْجناً، عدا عن كونه لا مجدياً، وغير ممكن، أصلاً.

روائي سوري

القدس العربي

—————————

هابرماس وثقافة التسطيح والتصحيح/ نادية هناوي

تفاعل المثقفون العرب مع خبر رفض يورغن هابرماس جائزة الشيخ زايد تفاعلاً إيجابياً، دلل على أنّ هناك وعياً بما يجري وراء التمظهر المغالي بدعم الثقافة والمثقفين، وما يرافقه من اختلاقات ومضاربات. وقد تفاوتت صور هذا التفاعل الإيجابي وتنوعت حدته، كما تباينت طرائقه عند الكتّاب العرب، فمنهم من ذهب إلى التاريخ، مذكرا بوقائع مماثلة لكتاب رفضوا بشجاعة مغريات جوائز مشابهة.

ومنهم من اتخذ طريق النصح وضرورة أخذ الدرس والعظة، اعتبارا بما في الحاضر من صور نهتدي بها لمستقبل أفضل. ومنهم من وجد فرصة للحديث عن مسيرة هذا الفيلسوف وإنجازاته، معرِّفاً بمشروعه الفرانكفورتي النقدي، ونظريته في الفعل التواصلي، معرِّجاً على موقفه المؤيد لإسرائيل، والداعم للتطبيع ضاربا بذلك عصفورين بحجر واحد.

ومنهم من كان شامتا ومتشفيا مطالبا المثقفين العرب جميعا بشرف الموقف ونقاء الضمير، وكأنه لا مثقفون عرب كانوا مبدئيين، رفضوا الترشح لتلك الجائزة، ومنهم من ذهب إلى التذكير بسلطة الصحافة، ضارباً المثل بمجلة «دير شبيغل» الألمانية التي دلّت الفيلسوف هابرماس على طريق الحق حين كتبت تقول: «قبول واحد من أهم الفلاسفة الألمان جائزة دولة تشتهر بالقمع، وتنعدم فيها الحياة الديمقراطية، مؤشر يبعث على الإحباط.. هل يمكن أن يتحول هابرماس إلى أداة دعاية إماراتية يتم توظيفها لإخفاء وحشية نظام الحكم، وراء ستار دخان من المفردات السامية والتأنق الثقافي» وانتهت بجملة تعبر عن خيبة أمل متوارية (عندما يلتقي العقل والقوة، تفوز القوة).

وكثيرون هم المثقفون العرب وكثيرات هن المثقفات العربيات من ذوي الوعي الأصيل، والإدراك الصميم بالطبيعة المسرحية والدعائية لهذه المسابقات ولا أقول الجوائز، لأن الجائزة تمنح للمبدعين مباشرة، ولا تُرشح لها الكتب بمعنى أن الأديب لا يبادر بشكل شخصي، ويرسل نتاجه إلى الجائزة أو ينوب عنه الناشر بذلك.. إلى جانب أن الجوائز عندنا غير مستقلة وأغلبها بلا تقاليد، سواء تلك التي تحمل اسم حاكم عربي أو تلك التي تمثل سياسة المؤسسة أو البلد الذي يمنحها. وقد لا تتوافق هذه السياسة مع ما يؤمن به المثقف، وما يسعى إليه من أهداف وما يحمله من مبادئ.

وما زال بعض الأدباء والمفكرين العرب يرفضون مبدأ الدخول في سباق مع آخرين مرشحين يختلفون كل الاختلاف عنهم في مواهبهم وقدراتهم، وقد لا يعرفون من الكتابة الأدبية التزاما بقضايا، بل إن منهم من رشح نفسه ولم يمارس كتابة هذا اللون من الإبداع قبل ذلك أصلاً، أي ليس له نتاج إلا هذا الواحد يتيم الدهر، الذي يشارك به، والذي كتبه ربما طمعا بقيمة الجائزة الدسمة، التي غالبا ما تكون وراء اندفاع بعض حديثي العهد بالكتابة الأدبية من طلاب جامعات أو كسبة أو موظفين للمشاركة بحثا عن الحظ..

ولأن بعض الأدباء والمفكرين العرب كانوا يعلنون قبولهم بالجوائز مبدئياً، ثم يرفضونها حينما تمنح لهم فعلياً، لذا لجأ أصحاب تلك الجوائز إلى استحصال إقرارات ممن يشكون بنواياه سلفا، ويترتب على هذا الإقرار دفع الغرامة عند رفض الجائزة. وقد بدأت المؤسسة الثقافية زمن صدام حسين بابتداع هذا الإجراء في تسعينيات القرن الماضي.

وما كان لنجيب محفوظ أن ينال جائزة نوبل العالمية المعروفة بتقاليدها إلا لأنها هي التي اختارته، بناء على ما قدّمه للأدب الإنساني من روائع قصصية وروائية، بينما نال غيره من المبدعين العرب جوائز هي ليست عينية، بل معنوية في شكل ألقاب منحتها لهم أوساطهم الثقافية، تكريما لإنجازاتهم، وما أضافوه من عطاءات، فكان لقب عميد الأدب العربي مخصوصا بطه حسين، ولقب شاعر العرب الأكبر تكريما للجواهري، ولقب عميد المسرح العربي ليوسف وهبي، ولقب شيخ عميد المسرح العربي والافريقي للفنان يوسف العاني وغير ذلك. وما زلنا في الحقيقة بحاجة إلى تعميق هذه الثقافة التي تجعل معيار الفوز والامتياز هو التكريم من لدن الوسط الثقافي العام نفسه، وليس من جهة محددة، أو تشكيل مؤسس له ما له وعليه ما عليه. وعند ذاك فقط يتحقق التميز باستقلال وإجماع ليس فيه ترشحات مسبقة، وتدخلات خاصة وعلاقات مريبة.

وهنا يأتي السؤال المهم: من الذي له الحق في أن يصف هذا المرشح بأنه الروائي الأبرز، وذاك بأنه الشاعر الأبرع، وهذا بالمثقف الأفضل، وتلك بالكاتبة الأروع؟

بالطبع هذا التفضيل هو نتاج تقييم لجنة التحكيم المؤلفة من أعضاء، وبعض هؤلاء الأعضاء ليسوا عربا وقد ينطقون بالعربية الفصيحة، لكنهم يجهلون دارجها المتنوع، وغير عارفين بأن في ثقافتنا بعدا إبداعيا غير منظور وغير مدون هو موروثها الشعبي، وهو غني وزاخر بشكل قد يوازي ما هو مدون ورسمي. ولا نقول إن بعض أعضاء لجنة الجائزة من العرب يعوزهم التقدير السليم ولا يملكون الباع الكافي ولا التخصص الدقيق للتحكيم، لكننا نقول إن ذلك كله لن ينفع إذا كان الضغط حاصلا عليهم لعوامل موضوعية وغير موضوعية، ليجبروا على أثرها بتغيير نتائج تحكيمهم تبعا لطبيعة الظرف وتقلبات الحال.

إن المثقفين العرب واعون ومتيقظون لهذا المنزلق الخطير، فلا ينجرف إليه منهم إلا من أغواه المال، ولم تحصنه مبدئياته من المغريات ليقع في مصائد الترغيب ومكائد التغرير، التي بها يراد إفراغ الثقافة من فواعلها وإظهارها بمظهر راكد. وليس المثقف العربي بالكسول ولا البليد لينتظر من الإعلام خبرا يصحح على إثره مساراته، متراجعا عن خط لم يكن يعلم خطورته إلا بعد أن تراجع الفيلسوف المخضرم، وأعلن ندمه على قبول أن يكون شخصية هذا العام، التي هي واحدة من مجموعة مجالات تمنح جائزة الشيخ زايد فيها عطاياها، علما أن الأعطية المخصصة لشخصية العام، وعادة ما تكون هذه الشخصية أجنبية، هو أضعاف ما يمنح للفائز العربي في حقول الأدب والنقد والتشكيل والترجمة وغيرها. إن الأنتلجينسيا العربية ليست بهذه البلادة، كي تنطلي عليها ألاعيب السياسة وحبالها المتشابكة، بل هي مدركة وراصدة لما يجري على ساحتنا العربية من بهرجيات ومظاهر لا تضيف للثقافة العربية خيراً، ولا تدفع عنها ضراً كونها لا تميز بين حابل ونابل لن يجتمعا أبدا. ولعل أهم ما كشفه رفض الفيلسوف الألماني هابرماس هو أن في ثقافتنا العربية مظهريات هي منها براء، وليس للأنتلجيسنيا العربية يد فيها.

وخير مثال نبرهن به على واحدة من تلك المظهريات التي لها نفعها للجائزة، لكنها ليست ذات أهمية للثقافة والمثقفين العرب، البحث عن أسماء لامعة عالميا، تحقق للجائزة صيتا من جانب، لكنها من جانب ثان تفرغ الثقافة العربية من أي ثراء، فتظهرها بمظهر المفتقر إلى الإنجاز الفكري.

وعلى الرغم من كل القيل والقال، يظل رفض الفيلسوف يورغن هابرماس لتلك الأعطية الباذخة، بمثابة درس قاس ليس للمثقفين بل للأبواق والرؤوس التي ينبغي عليها أن تتعظ منه، وتتعلم خطورة ثقافة الرعاية والدعم حين تكون حقيقتها مظهرية وليست صميمية وغايتها توطيد حالة الخواء الفكري والثقافي في بلادنا العربية، وإشاعة روح الافتعال والتبهرج على حساب الصدق والأصالة. وبالشكل الذي إن استمر في التراجع، فإنه سيقوض أساسات ما بناه الأسلاف قبلنا عبر العصور. وليست ثقافتنا الحقيقية بهذا المظهر الفقير والكاذب، مما تحاول هذه الجوائز عكس صورته للغرب، بل ثقافتنا غنية بأسماء مثقفين ومفكرين وباحثين، رفدوا وما زالوا يرفدون العقل العربي بمشاريع جريئة ومبتكرة، وبإمكانياتهم الذاتية أحيانا، موليين وجههم شطر الأصالة والحقيقة لا شطر الدجل وماكنته الخبيثة. ولأن لهؤلاء باعهم في مد الثقافة بالجديد الفاعل والجاد الأصيل، استحقوا الفوز والإشادة اعترافا واحتفاء، لكن أنّى يكون لمثل هذا الطيف من المثقفين الأصلاء جوائز أو حتى اهتمام.. وما تريده الجوائز هو إسقاط خوائها على ثقافتنا العربية المستقلة والشريفة، من خلال تمييز من يركض لاهثا وراء الأعطيات والهبات ومن وضاعته تجعله يبيع الإبداع في أي مزاد غير أصيل الثقافة، تلهفا للشهرة وعجالة في بلوغ الحظوة.

وبالطبع هذا أمر لم يعد بالجديد ولا الخافي، لكنه للأسف آخذ في التوسع والازدياد، وليس أمامنا سوى الانتباه الذي به نحول دون تنفيذ أجندات الالتفاف التي تبغي تفريغ الثقافة العربية من أي بوادر أو إنجازات أو مشاريع فكرية فاعلة.

أكاديمية عراقية

القدس العربي

——————————–

نظرية الفعل التواصلي”: في متاهة ورشة هابرماس/ شوقي بن حسن

راج اسم المفكّر الألماني يورغن هابرماس (1929) في الآونة الأخيرة، عربياً، بسبب رفضه تسلّم “جائزة زايد” كشخصية ثقافية لعام 2021. كان حضوراً مكثّفاً لعَلَم من أعلام الفكر في زمننا ضمن النقاشات العربية. لكن، هل يحقّ لنا اعتماد مفردة “حضور” إذا كانت ثقافتنا تتلقى مفكّراً أو كاتباً عبر هكذا ضجّة من دون أن تحضر أفكاره بشكل واسع، على الأقل في فضاء النقاش النخبوي؟

تفرض هذه الملاحظة نفسها حين نذكر أن كتاب هابرماس الأهم (بإقرار منه) والأضخم، “نظرية الفعل التواصلي”، قد مرّ صدور نسخته العربية مؤخراً دون كثير اهتمام. صدر العمل منتصف 2020 عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” في مجلّدين؛ الأول بعنوان “عقلانية الفعل والعقلانية الاجتماعية” والثاني بعنوان “في نقد العقل الوظيفي”، وقد نقله إلى اللسان العربي أستاذ الفلسفة في الجامعة التونسية فتحي المسكيني.

يشير تفاوت الاهتمام بهابرماس في المناسبتين إلى إحدى إشكاليات الثقافة العربية راهناً، حيث تنزل الأسماء الفكرية من سماء النظريات إلى الأرض العربية ليس من خلال أفكارها وكتاباتها بل ضمن أحداث ومواقف متفرّقة تصنع حالة تلقٍّ مزيّفة.

ولعلّ قارئ “نظرية الفعل التواصلي”، بالذات، في نسخته العربية، سيتفطّن سريعاً إلى ما بقي خارج الثقافة العربية لأكثر من أربعين عاماً، حيث صدر هذا الكتاب في 1981. فالعمل عبارة عن موسوعة للمعرفة الاجتماعية لا يكتفي فيها هابرماس بجمع المادّة النظرية بل يفحصها ويقدّم مقولات تأليفية حولها، فكأنه كان يهدف إلى بناء فضاء عمومي متخيّل للنظريات الاجتماعية يتناقش فيه مع ماكس فيبر وإيميل دوركهايم وجورج هربرت ميد وتالكوت بارسونز وكارل ماركس وأعضاء مدرسة فرانكفورت وهابرماس نفسه.

من زاوية نظر أخرى، يمكن اعتبار الكتاب مُرّكَباً طريفاً من الثيمات والحقول المضمونية، فحين نكون داخل “الورشة الفلسفية” التي يشتغل فيها هابرماس، والعبارة له، فنحن نعبر فضاءات معارفَ متنوّعة يلمسها الكتاب من خلال إشكالياته الخاصّة ببناء تصوّر للحياة الاجتماعية قوامها علاقات التعاقد التواصلي بين الأفراد، فنتقاطع في الأثناء مع تاريخ الفكر وقضايا العلم والدين والقانون والحداثة، ونشعر أن وضع هذه العناصر في إناء واحد يخلق محاكاة للتفاعلات الفوقية التي تحكم الحركة الاجتماعية.

مدخلٌ آخر ممكنٌ لعمل هابرماس الضخم هذا (قرابة 1300 صفحة في النسخة العربية)، هو الهيكل المفاهيمي الذي يقترحه المفكّر الألماني في سبيل بلوغ الأهداف التي يطرحها على نفسه. يساعدنا ثبت المصطلحات نهاية الكتاب على تمثّل هذا الهيكل المفاهيمي، ولا بدّ هنا من أن نشير إلى ما أقرّ به المترجم من كون “لغة هابرماس الفلسفية والسوسيولوجية ضمن كتاب ‘نظرية الفعل التوصلي’ تحتوي على نوع لافت من التجديد في بنية العبارة المفكّرة، إذ ما عاد الأمر يقتصر على خلق مفاهيم مفردة في ألفاظ معزولة تختلط باللغة العادية بل بات يقوم على بناء مدوّنة تفكير أو صياغات اصطلاحية خاصّة ربما تكون مفرداتها معروفة لكنّ تركيبها في إطار شبكة من المقاصد النظرية أو النقدية هو نمطٌ بحثيّ مستقلّ بذاته”.

هذا التجديد الاصطلاحي، وعلى الرغم من حرص هابرماس على عدم المبالغة فيه، لعلّه سبب آخر من أسباب انقطاع الثقافة العربية عن معظم المنتج الفكري الجديد، ليس لصاحب “المعرفة والمصلحة” فحسب، بل على نطاق أوسع عالمياً. فأيّ أفق بحثي يمكنه تلقّي أفكار عمل إشكالي مثل “نظرية الفعل الاجتماعي” قبل تأصيل معارف مثل علم الاجتماع واللسانيات، وقبل استقبال مفاهيم مثل عالم الحياة وألسنة المقدّس والاعتراف البيذاتي بأريحية؟ وقبل ذلك، كيف نهيّئ لاستقبال أعمال فكرية كبرى مثل “نظرية الفعل التواصلي” من دون إضاءات موسّعة لعدّة نقاط مثل الحاجة إلى تأليفه وكيف كان استقباله الأوّل في لغته الأمّ، ثم في لغات مجاورة؟

بالنظر في هذه السياقات التي يجدر بنا الانتباه إليها، سيعيد كتاب “نظرية الفعل التواصلي” ترتيب بعض الأوراق، ومنها كيف نُموقع هابرماس في خارطة الفكر. ففي متداول نقاشات الثقافة العربية، لا يزال المفكّر الألماني محسوباً على “جماعة فرانكفورت”، والمعلومة صائبة إذا ما رجعنا إلى سيرته المهنية لنجد ذلك التقاطع مع “معهد الدراسات الاجتماعية”. ولكنّ هابرماس كان منذ السبعينيات ينزع نحو مغادرة “فرانكفورت”، وإنّ كتاب “نظرية الفعل التواصلي” يمثّل نقطة التباين النهائي التي تجعل القارئ يكفّ عن ربط هابرماس بشكل عضوي بالمدرسة.

يقيم المفكّر الألماني كلّ بحث في المجتمع على فحص الممارسات التواصلية، بل ويجعل منها منتجةً للاجتماعيّ، وهو ضرب من الاجتهاد من أجل مفارقة مسلّمات “النظرية النقدية” كما تصوّرها أدورنو وهوركهايمر. يشتغل هابرماس هنا ضمن براديغم معرفي لم تتحرّك في أفقه “مدرسة فرانكفورت”، فيعتمد براديغم اللغة مقابل براديغم الوعي، حيث يرى أنّ ما لا يمكن إسقاطه من كلّ تمثّل للمجتمع هو البعد التواصلي، وهذا الأخير يقوم دائماً على عقلانية تنتجها مصالحُ بشكل عفويّ ودائم، بل إنّ مفهوم العقلانية ذاته يقيمه على التواصل، فيعرّفها بوصفها “استعداداً خاصّاً بذوات قادرة على الكلام والفعل”.

وفي المحصّلة، يوجد دائماً عنصر تواصليّ لا يمكن تقويضه وينبغي للمعرفة أن تدافع عنه لبناء بقية المنظومة الاجتماعية نظرياً، وهو عنصرٌ مفلتٌ من المعرفة الاجتماعية التي تمأسست قبل قرابة قرن من تأليف كتاب “نظرية الفعل التواصلي”. يقول هابرماس في هذا الصدد: “نحتاج إلى نظرية في الفعل التواصلي إذ ما أردنا أن نستأنف على نحو مناسب إشكاليّة العقلنة الاجتماعية، تلك التي تمّ استبعادها بشكل واسع من دائرة النقاش السوسيولوجي المختصّ منذ ماكس فيبر”.

من أجل هذا الهدف، يربط هابرماس النظريات السوسيولوجية بالمنعطف اللغوي، وهو أمرٌ شاقّ يمكن تشبيهه بربط مسار كوكبين، نظراً لتضخّم مدوّنة العلوم الاجتماعية من جهة، وضرورة الاعتماد على مقولات معارف متباينة من الفلسفة إلى اللسانيات من أخرى، وإن كان من المعروف أن هابرماس محبٌّ للاشتغال النظري العابر للتخصّصات حتى قيل عنه بأنه “عامل على الحدود”، بعبارة لأوتفريد هوفه يُقرّها المترجم في مقدمة النسخة العربية.

ينتج هذا التنوّع والتشعّب صعوبة في الإمساك بمقولات الكتاب، وقد كان هابرماس يحسب حساباً لمثل هذه الإشكالية التي تعترض المؤلّفات التي لا تستقر على أرضية محروثة. ولقد أصدر في 1984 كتيّباً بعنوان “دراسات تمهيدية وملاحق تكميلية حول نظرية الفعل التواصلي”، كما حاول أن يعين القارئ حين يصطحبه في رحلته في فحص النظريات ببُنية مخصوصة لعمله، حيث ينقسم الكتاب إلى مجموعة من المداخل، وفصول مطوّلة يستعرض فيها الفكر الاجتماعي وينقده، كما وضع فواصل تأمّلية، عددها ثلاثة، تتيح للقارئ أن يفصل بين العرض النقدي والمقولات الخاصة بهابرماس.

كان طموح صاحب “العلم والتقنية كأيديولوجيا” امتلاك كلّ تاريخ التنظير الاجتماعي من أجل تهيئة الأرضية لكلّ تنظير مُقبل. لعلّه درْس هابرماس الذي ينبغي لثقافتنا أن تأخذه، فلا مناص من الإحاطة بأفق معرفي واسع لمجابهة الواقع، ولا بديل عن التنظير للاقتدار على السيطرة على الواقع. يقول: “من واجب نظرية الفعل التواصلي أن تمكّننا من بناءٍ مفهوميّ لسياق الحياة الاجتماعية يكون مناسباً لمفارقات الحداثة”، ولعلّنا – كثقافات خارج المركز الغربي – أَوْلى بمثل هذه الرؤية ما دمنا من ضحايا الحداثة.

يقيم هابرماس مجمل تنظيراته على مفهوم الفعل التواصلي، ومن خلاله يطوّر شبكة مفاهيم في اتجاهات ثلاثة؛ ضمن مبحث العقلانية، وبتقديم تصورات حول المجتمع من منظورات جديدة، ويقترح كذلك طروحات جديدة حول الحداثة باعتبارها منتجة للتحوّلات الاجتماعية باستمرار. وضمن هذا الأفق الأخير يمكن أن نرصد الأهمّيّة العملية لمشروع هابرماس، حيث يضع افتتاحيات نظرية للتفكير في قضايا إشكالية تطرحها العقود الأخيرة مثل اهتزاز النموذج الديمقراطي أو صعود الراديكالية.

وإذا ما وضعنا كتاب “نظرية الفعل التواصلي” على السلّم الكبير للفلسفة سنجد بأن هابرماس قد قدّم  أهمّ محاولة لترميم مفهوم العقل الذي اشتغل على صياغته في القرن الثامن عشر إيمانويل كانط ثم تصدّع تحت ضربات المطرقة النتشوية.

وككلّ أعمال هابرماس، جرى انتقاد كتاب “نظرية الفعل التواصلي” بسبب انغلاقه في الأحادية التقليدية للفكر الغربي، فهو لا يناقش في مغامرته إلا مفكّري الغرب، ولا يتصدّى بشكل معلن إلا لقضايا أوروبا، وهو مصابٌ بـ”العمى الجندري” بعبارة نانسي فريزر.

لكنّ كلّ ذلك لا ينفي فوائد نقل أعمال صاحب “القول الفلسفي للحداثة” كخطوة أولى لاستنطاقها وإخصاب الفكر العربي بمقولات جامعة وحسّ نقديّ جريء، ولو لم يتحقّق ذلك، حسْبُنا تدريب العربية على خوض مغامرات تقودها إلى مجاهل معرفية شاسعة وتجبرها على الاحتكاك بصخور التعقيد النظري. ولكي تتحقّق الفائدة، يُرجى عدم التشويش على مواكب نقل أعمال المفكّرين الكبار بحشرهم في سجالات صغيرة.

العربي الجديد

——————————

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button