في الخارج يُطفئ الضاحكون الشمس/ نيكولاس بينيا بوسادا
الضبّاط
يأتي الضبّاط
عشرةً، عشرين.
يأتي الضباط
بضوضاء موتوسيكلاتهم،
بخوذاتِهم الخضراء،
بابتساماتِهم المسنونة.
يأتي الضبّاط
يضربون النساء
يجرّونهن من شعورهن في الشوارع
يغتصبونهن في أقسام البوليس،
وراء المساجد والكنائس،
في ظلمة الحدائق.
يأتي الضبّاط
يسرقون الأطفال
يُصادرون حَلْواهم
ينزعون أذرع لعبهم
يحرقون حقائب طعامهم
يأتي الضبّاط
بعصيانهم، بقضبانهم المنتصبة،
بمسدساتهم الإلكترونية، وأسنانهم المتسخة
ورائحةِ عفنٍ تحت آباطهم
يأتي الضبّاط
يكسرون الأرْجُلَ والأُنوفَ والأَذْرُع
يُقيمون محارقَ بكتبِ
الشعراءِ المتمردين
يمرّون فوق الأجساد
يخلعون عيونَ الطلّاب.
يضحك الضبّاط،
في بؤسهم يضحك الضبّاط،
في قطيع كالكلاب يضحكون
يضحكون بأسلحتهم النارية
الضبّاط يضحكون في الأقسام
يضحكون وهم يطلبون رشاوى
يضحكون في الأحياء التي نشأوا فيها
والتي يشتمون فيها الآن أصحابهم
يسطون على بيوت حبيباتهم الأوائل
يسرقون محلّات أصهارهم.
ليس للضبّاط أصدقاء
لا يقرأ الضبّاط
لا يعرف الضبّاط ما هو الحبّ
يتملّك الغضبُ الضباطَ
من أنفسهم
ومن الشعراء
ومن المحامين
ومن المتزلّجين
ومن مغنّي الراب
ومن الأطبّاء.
الضبّاط غاضبون لأنهم ضبّاط
لذلك يذهبون إلى الجنوب ويُلقون بالأحجار
يكسرون نوافذ سيارات أجدادهم
يُلقون بالغازات المسيلة للدموع على مدارس أبنائهم
يكره الضبّاط حقوق الإنسان
يكره الحياةَ الضبّاطُ
يكرهون أنفسهم
يضربون الشحّاذين حين يسيرون في المدينة
حين يدخّنون تحت الجسور
حين يجتمعون على النواصي لمشاركة الطعام.
يتحسس الضبّاط الأثداء
يستمنون في الأماكن العامة
وهم يفكّرون بالفتيات الثائرات
اللاتي حبسوهن لتوّهم
الضبّاط وحيدون
يبكون مختبئين
حين لا يراهم أحد يبكون
حين يذهبون إلى الحمّام يبكون
حين يشاهدون الأخبار ومسلسل المساء يبكي الضبّاط
يبكون لأنّ لا أحد يحبّهم
يبكون لأنّ أياديهم ترتعش
يبكون لأنّ والديهم
لم يعودوا يدعونهم إلى الطعام
يبكون لأنه لم يعد أحدٌ
يريد أن يلعب معهم الكرة.
يبكي الضباطُ في صمت
لأن الناسَ لم يعودوا يدعونهم إلى حفلات الشواء
يبكون في العيد
يبكون لأنّ لا أحد يسألهم كيف حالهم
يبكون لأن لا أحد يُعانقهم
يبكون لأن لا أحد يقبّلهم.
الضبّاط
عشراتٌ، عشرينات، مئات
يشعرون بالوحدة
لذلك دائماً يسير الضبّاط معاً
لا يعتذرون
يختبئ الربُّ حين يُصلّي الضبّاط
يأتي الضبّاط
عشرين، ثلاثين، مئةً
فترحل كلّ الطيور
وتهرب كلّ الفئران
ويختبئ كلّ اللصوص.
لا أحد يحب ضابطاً
في كلّ ضابط
هناك شخصٌ لم يعد إلى البيت
في كلّ ضابط
هناك شخص نسيَ اسمه
في كلّ ضابطٍ
هناك طفل لن يرى الشمس مرة أخرى.
■ ■ ■
في الخارج يقتلون الناس
في الخارج يَقتلون ناساً
في الخارج يَقتلون ناساً
مثلَنا يا ماريّا
لهُمْ نفسُ هذا القلب
الذي ينتفخُ بالمطر
يحملون عيونَنَا السوداءَ التي ورثناها عن الطين
وكذلك يأكلون الخبز في الصباح.
على بعد عشر نواصٍ امرأةٌ
توقّفت عن التنفّس
والآن تُقبّل الأرض بصمت
كأنها يدُ ابنِها.
ما قلتِه يوماً يبدو صحيحاً:
هذا البلد محكومٌ عليه بالعنف
لا يعلم الواحد ما يفعل حين يقوم
أين يضع بشرته
تحت أيّ شجرة يجلس ليغنّي
في أي ساعة يصمتُ ويطلبُ العفو
لا يعرف الواحد أن يغسل يديه
وأن يجهّز الملابس، ويخرج للعمل،
ويظلّ صامتاً، ويكتب قصيدة ــ
لا يفيد هذا في شيء
قال لي ذاك اليوم صديقٌ:
لماذا تكتب قصيدةً؟
ماذا تفعل قصيدةٌ في بلد جائع؟
ماذا تفعل الأبيات أمام جيش أعمى؟
ماذا يمكن لقصيدة أن تفعل حين يكون الجسد
حيواناً يهرب نازفاً؟
أن نحبّ بعضنا يا ماريّا، ربّما حبُّنا لبعضنا
يفيد بشيءٍ في هذه الأوقات.
هناك أشخاص فقدوا كل شيء
هناك نساء ليس لهنّ أذرع
وينمنَ على العشب
وينتظرن طوفاناً من الثلج.
هناك أطفال تيتّموا
ويبحثون في القمامة عن أسمائهم
هناك عجائز يسألون طعاماً
على حدود الليل المسنونة
هناك نورٌ يبكي عند الظهر
وينسكب على رؤوسنا.
يقول بعض الناس
إننا لم نعد نخاف
لكنني خائفٌ يا ماريّا
ألّا تعودي يوماً
لأن ضباط الشرطةِ أخذوكِ
وأنتِ تسيرين في المدينة،
خائفٌ من يومٍ كسائر الأيام
ألّا يعود لجسدكِ قيمة
وأن يمزّقوكِ، ويكسروكِ، وينسوكِ
في أيّ أرضٍ خلاءٍ
في أيّ صوت لطائر منقرض.
خائفٌ من يومٍ تتحوّل الحياة لتكون في الخلفيّة
ولا يملك الموتى
مكاناً تحت الأحجار
مكاناً ليرتاحوا
ناصيةً بأزهار بيضاء.
لدي يدان تشنقانني في الصباح
لديّ ركبتان تنكسران بالريح
لديّ أصابعُ تبحث بيأسٍ
عن شيءٍ لتُمسك بنفسها
أنا أشعر بالخوف، يا ماريّا
وأتمسّكُ بجسدكِ
كأنه تعويذة قديمة
أتمسّك بجسدكِ
لأمشي في هذه الشوارع
أتمسّكُ بجسدكِ
لأنجو من الساعات الطوال
لحالة القهوة هذه التي لا تنتهي.
يقولون إن الأمل هو آخرُ ما يُخسَر
وأنا لا أعلم إن كان هذا صحيحاً، يا ماريّا
أحياناً أبكي في الباص
أحياناً يصعب عليَّ الابتسامُ لأبويّ
أحياناً تضيع منّي الكلمات
تلتفّ، تستحيل دخاناً.
ماريّا، هناك بلدٌ يتفتّح في يديّ
هناك جرحٌ في راحة أقدامي
يكبر يوماً بعد يوم
هناك خريطةٌ من النار في ظهري
وأنا أستحيل رماداً.
أنْ نُحب بعضنا، ربّما أن نحبّ بعضنا
لنواجه أولئك الرجال
الذين يسيرون ليلاً في الأحياء
تاركين خطابات موتٍ على الأبواب
أن نحبّ بعضنا لنستطيع الإبقاء على أنفسنا
ولكي لا تستحيل عظامُنا
حجارةً يابسةً وخرساء
أنْ نُحبّ بعضنا، يا ماريّا، أن نحبّ بعضنا
كطريقة وحيدة لنبدِّدَ
ذلك الحزن الأسود الذي يخبط بجناحاته
كألف فراشة ليلٍ في الصدر.
في الخارج يقتلون ناساً مثلنا
في الخارج الجسدُ ساحةُ قتال
في الخارج الحياةُ مُعجزةٌ مظلمة
في الخارج يُطفئ الضاحكون الشمس.
أن نُحب بعضنا، يا ماريّا، ربّما أن نُحبّ بعضنا
لنستطيع أن نمشي معاً يوماً
حيث تتوقف الأرض عن كونها هذه الهاوية التي لا نورَ فيها؛
الهاوية التي ينتهي فيها كلُّ أصحابنا
قبل الأوان.
بطاقة
Nicolás Peña Posada شاعرٌ كولومبي من مواليد 1991. له أربع مجموعات شعرية، من بينها: “أمي الوحيدة التي تقرأ قصائدي” و”لا تبكي الجدّة أبداً وهي تُقطّع البصل”. يعمل أستاذاً للغة في المؤسسة الجامعية “كونراد فلورينس” في بوغوتا، حيث حصل على إجازة في الآداب من “جامعة الأنديز”، وماجستير من “الجامعة المركزية”. يشارك في الحراك الثوري مع شعراء كولومبيين شباب من جيله عبر تنظيم حفلات وقراءات شعرية.
* ترجمة: أحمد محسن غنيم
العربي الجديد