مراجعات الكتب

في انكشاف العلاقات السرّية بين الوكالة اليهودية وقيادات سورية/ عمر كوش

يتركز الجهد البحثي الذي يقدمه الأكاديمي الفلسطيني، محمود محارب، في كتابه “العلاقات السرية بين الوكالة اليهودية وقيادات سورية في أثناء الثورة الفلسطينية الكبرى” (جسور للترجمة والنشر، 2021) على كشف ما جرى في اللقاءات والاتصالات والاجتماعات السرّية التي أقامتها الوكالة اليهودية، عبر دائرتها السياسية وذراعها الاستخباراتية “القسم العربي”، مع شخصياتٍ سياسيةٍ وإعلاميةٍ سورية، خلال العقود الثلاثة التي سبقت حرب 1948 وإعلان قيام إسرائيل، وخصوصا في أثناء الثورة الفلسطينية الكبرى (1936 ـ 1939).

وتتعلق مشكلة البحث بمسألة مهمة وحساسة جداً، وتثير سجالات واختلافات في التناول والتفسير، خصوصا أن متربّصين قد يعمدون إلى التعميم المبتذل، لكن ذلك لا يلغي ضرورة طرح أسئلة كثيرة بشأن أسباب الاختراق الذي أحدثته الوكالة اليهودية وحجمه في المجالين، السياسي والإعلامي، في تلك الفترة، والأمر متروكٌ للباحثين والمؤرّخين للبناء على ما يقدّمه الكتاب من أجل القيام بمزيد من البحث والتمحيص في مختلف الروايات والوثائق، بغية تبيان الوقائع واستخلاص الدروس والعبر.

شهدت تلك الفترة “اتصالات واجتماعات ومفاوضات سرّية كثيرة، بين قيادة الوكالة اليهودية وممثليها، وبين قادة من الدول العربية المجاورة لفلسطين، وكثير من النخب السياسية والإعلامية في هذه البلدان”. وقد تناولت دراسات وكتب عديدة علاقات الوكالة اليهودية بقيادات أردنية ولبنانية ومصرية، إلا أنها لم تتناول علاقات الوكالة اليهودية بقيادات ونخب سياسية سورية في الفترة ذاتها، على الرغم من أنه “جرت اتصالات واجتماعات سرية كثيرة جداً بين الوكالة اليهودية وقيادات ونخب سورية، وفي مقدمتها الكتلة الوطنية السورية، والمعارضة الشهبندرية، وقادة جبل الدروز”.

ويبدو أن الغاية من الكتاب هي كشف المخفي والمسكوت عنه، أو بالأحرى التاريخ الآخر لعلاقة الوكالة اليهودية مع النخب السورية، من خلال البحث بطريقةٍ منهجيةٍ في “نشاط الحركة الصهيونية في سورية، والعلاقات المتشعبة والمتنوعة التي أقامتها الدائرة السياسية للوكالة اليهودية مع القيادات والنخب السورية في المرحلة المذكورة”، بوصفه “موضوعاً قائماً في حدّ ذاته أيضاً، لا عربياً، ولا إسرائيلياً”، ووضعه “في سياقه التاريخي في الصراع العربي الإسرائيلي، مع تبيان أهداف الوكالة اليهودية الحقيقية من تلك العلاقات، التي تفنّد ادعاءات الرواية الإسرائيلية المتمثلة في تحقيق السلام بين العرب واليهود، لأنه في حقيقة الأمر يناقض ذلك تماماً، حيث كان هدف “الوكالة اليهودية من هذه العلاقات، كما يتبين من وثائق مداولات قادة الوكالة اليهودية، ومن تقاريرهم وقراراتهم في تلك الفترة، أولاً وقبل كل شيء”، هو “ضرب الحركة الوطنية الفلسطينية وإضعافها وعزلها عن عمقها العربي”. أما أهدافها من العلاقات والاتصالات مع النخب السورية، فتمحورت حول “وقف الدعم المتنوع والمهم جداً الذي كان يقدمه الشعب السوري، وقواه الوطنية، للثورة الفلسطينية، وإحداث شرخ بين القيادات والنخب السورية، وخصوصا الكتلة الوطنية، والمعارضة الشهبندرية، وقادة جبل الدروز من ناحية، والحركة الوطنية الفلسطينية، من ناحية أخرى، والحصول على تأييد هذه القيادات والنخب في إنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين، وتكوين مصالح مشتركة بين الوكالة اليهودية وهذه القيادات والنخب، على حساب الحقوق القومية للشعب العربي الفلسطيني، ونفي هذه الحقوق وتهميشها، ووسم الحركة الوطنية للشعب العربي الفلسطيني بالتطرّف والإرهاب، وحل القضية الفلسطينية في إطار اتفاق يهودي عربي شامل بين الوكالة اليهودية، ومن كانوا يدّعون أنهم يمثلون الحركة القومية العربية”.

ويبدأ التناول البحثي من بدايات التجسّس الصهيوني على العرب، واستعراض النشاط الاستخباراتي الصهيوني في سورية، والمفاوضات التي أجرتها الوكالة اليهودية مع الكتلة الوطنية، ثم يجري الانتقال إلى المقالات الصهيونية التي دسّت في الصحف السورية واللبنانية خلال الثورة الفلسطينية الكبرى، وكيفية الانتقال من المفاوضات بين الكتلة الوطنية إلى الاختراق الصهيوني، وتجنيد عملاء للوكالة اليهودية، لينتهي الجهد البحثي بتناول العلاقات بين الوكالة اليهودية وبعض القادة الدروز في سورية، من أجل تسويق خطتها لترحيل دروز فلسطين إلى جبل العرب، والتي انتهت إلى الفشل.

ويعتمد محمود محارب، في تناوله، على مصادر أولية من الأرشيف الإسرائيلي، تتمثل في تقارير مسؤولين كبار في جهاز المخابرات التابع للدائرة السياسية للوكالة اليهودية، الذين أجروا تلك اللقاءات والمفاوضات والاتصالات، ومذكّرات قادة الوكالة اليهودية في ذلك الوقت، إضافة إلى محاضر الاجتماعات الرسمية، وغير الرسمية، بين الطرفين، التي كتبها مندوبو الوكالة اليهودية الذين حضروا الاجتماعات، وإلى تقارير ورسائل عملاء استقطبتهم الوكالة اليهودية للعمل لمصلحتها، فضلاً عن الدراسات والمذكرات التي عالجت تلك الفترة.

ويعزو محارب بدايات التجسس الصهيوني على العرب إلى عاملين أساسيين، تمثلا في المسعى الصهيوني للاستيلاء على الأراضي العربية وامتلاكها لإقامة المستوطنات اليهودية عليها، وضرب المقاومة العربية الفلسطينية للمشروع الصهيوني الذي هدف إلى تحويل فلسطين إلى وطن قومي لليهود وطرد الشعب الفلسطيني من وطنه، وارتبط ذلك بمدى تطور حركة التحرّر الوطني الفلسطيني وبوتيرة النضال الوطني الفلسطيني. وعليه، دار صراع بين الحركة الوطنية الفلسطينية والحركة الصهيونية على الرأي العام العربي، وعلى مواقف النخب العربية السياسية والإعلامية ودعمها، وتكثف النشاط المخابراتي الصهيوني في أثناء الثورة الفلسطينية الكبرى، التي امتدت من العام 1936 – 1939، لذلك اهتم المكتب العربي التابع للوكالة اليهودية في أثنائها بكل من سورية ولبنان، بعد تحولهما إلى مراكز للثوار الفلسطينيين ومركز إسناد هام للثورة الفلسطينية، وازداد ذلك الاهتمام بالبلدين بعد خروج المفتي الحاج أمين الحسيني من فلسطين، على أثر محاولة السلطات البريطانية اعتقاله، ولجوئه إلى بيروت في العام 1937.

وتعود بدايات الاتصالات بين الوكالة اليهودية والكتلة الوطنية إلى شهر سبتمبر/ أيلول 1935، حين زار فلسطين القيادي فخري البارودي، بهدف الاطلاع على أوضاع المشروع الصهيوني في فلسطين، والتقى بممثل الوكالة اليهودية إلياهو أبشتاين، وزار مشاريع ومؤسسات تعليمية وزراعية وصناعية يهودية صهيونية مختلفة، وعدداً كبيراً من “الكيبوتسات”، والجامعة العبرية في القدس، ولم يخف البارودي انبهاره بالتطور العلمي والتقني للمشاريع والمؤسسات التي زارها، وعبّر في الوقت نفسه عن خشيته من أخطار المشروع الصهيوني المتطوّر علمياً على العرب. واقترح عليه أبشتاين الاجتماع إلى رئيس الدائرة السياسية للوكالة اليهودية، موشيه شاريت، من أجل الحصول على إجاباتٍ عن تلك الأسئلة، لكن البارودي رفض الاقتراحَ، لكي لا تأخذ زيارته بُعداً سياسياً. وحين سافر أبشتاين إلى دمشق، التقى فخري البارودي، بغرض تنظيم اجتماع رسمي مع الكتلة الوطنية في سورية، في 17 يوليو/ تموز 1936، ودار الحديث بين الجانبين عن الوضع في كل من فلسطين وسورية، وعن إمكانية التوصل إلى اتفاق سلام بين الوكالة اليهودية والحركة القومية العربية. واقترح البارودي على أبشتاين أن تعطي الصهيونية إشاراتٍ واضحة للعرب عن حسن نياتها تجاههم من أجل أن تكسب ثقتهم، وأن تخدم مصالح العرب أيضاً، وأن “عليها تعديل مسارها والتوجّه نحو الشرق، إن كانت تريد التوصل إلى تفاهم كامل مع العرب”. وشدّد البارودي على أنه “لا توجد قوة في العالم بإمكانها إيقاف الثورة الفلسطينية من دون الاستجابة لشروط مسبقة”، وأنّ مفتاح وقف الثورة في فلسطين هو وقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ومن دون وقف الهجرة لا يمكن الحديث عن اتفاقٍ بين العرب واليهود في فلسطين. فمطلب وقف الهجرة اليهودية هو أهمّ مطالب الثورة في فلسطين، ولن يوقف الفلسطينيون ثورتهم من دون وقف الهجرة اليهودية. وفي ختام اللقاء، اقترح البارودي أن تقوم الوكالة اليهودية بمساعدة الوفد السوري في باريس، من أجل إثبات ما يقال عن مشاعر الودّ التي يكنّها الشعب اليهودي للشعب العربي، “ومن شأن عمل كهذا أن يعطي الكتلة الوطنية سلاحًا قويًّا للمبادرة باتجاه المواضيع التي جرى نقاشها”.

ومهّد اللقاء بين البارودي وأبشتاين للاجتماع الرسمي الأول بين الكتلة الوطنية والوكالة اليهودية الذي جرى في بلودان في الأول من أغسطس/ آب 1936، حيث قاد شكري القوتلي وفد الكتلة الوطنية الذي شارك فيه وفخري البارودي ولطفي الحفار، بينما مثّل الوكالة اليهودية الياهو أبشتاين وعاموس لندمن. وكان قادة الكتلة الوطنية يعتبرون أن هدف اللقاء لا يخرج عن “استيضاح موقف الوكالة اليهودية والحصول منهم على معلومات وتوضيحات، وبناءً على ذلك ستقرر الكتلة الوطنية إن كانت هناك جدوى للاستمرار في المفاوضات مع الوكالة اليهودية”، ثم عُقد اجتماع آخر بين الكتلة الوطنية السورية والوكالة اليهودية في دمشق في التاسع من أيلول / سبتمبر 1936.

وتميّز موقف شكري القوتلي بأنه كان واضحاً وحازماً تجاه رفض الادّعاء الصهيوني أنّ هناك حقاً تاريخياً لليهود في فلسطين، بدعوى أنّ اليهود عاشوا في فلسطين قبل ألفَي عام، حيث ركز على الفصل بين حياة اليهود مع العرب بسلام خلال العصور الماضية وسعي الصهيونية إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. واعتبر أن المشكلة تكمن في سعي الصهيونية إلى إقامة وطن قومي يهودي في فلسطين، وفي الخطر الذي يشكّله إقامة وطن قومي يهودي في فلسطين، وطالب أبشتاين بتحديد الضمانات التي تحدّث عنها مدّعياً أن الوطن القومي اليهودي لن يلحق الأذى بالشعب الفلسطيني، وعما إذا كانت الغاية من إقامة وطن قومي يهودي في فلسطين هي تحويلها إلى وطن قومي يهودي. ولعل مواقف القوتلي جعلته موضع استهداف من طرف الوكالة الصهيونية، التي أوعزت لأحد عملائها من أجل تنفيذ محاولة لاغتياله.

ويبدو أن الهدف الأساسي الذي كانت ترمي إليه قيادة الكتلة الوطنية من العلاقة مع الوكالة اليهودية هو الاستفادة من قوة اليهود في أنحاء العالم من أجل مساعدة السوريين بكل الوسائل لنيل استقلالهم عن فرنسا. لكن سرعان ما تبيّن أنه كان واهياً، لأن الصهاينة كانوا يمارسون الخداع والكذب، وكانوا يرمون إلى الحصول على موقفٍ داعم لمشروعهم الاستيطاني، وظهر ذلك جلياً في موقف القوتلي الذي “استخلص من مواقف الوكالة اليهودية في هذين الاجتماعين الرسميين، أن ليس هناك جدوى من تلك المفاوضات فأوقفها وركز جل جهده على تقديم مختلف أشكال الدعم للثورة العربية الفلسطينية الكبرى”.

كان معظم قادة الكتلة الوطنية يدركون حساسية اللقاءات مع الوكالة اليهودية، ولذلك طالب القوتلي، باسم الوفد السوري، بعدم نشر أيّ شيء عن الاجتماعين معها من دون الحصول على موافقة مسبّقة من الطرفين، لكن بعض قادتها لم يجد حرجاً في إبقاء صلاتٍ معينةٍ مع الوكالة اليهودية، لأنه كان يتوهم إمكانية مساعدة الوكالة اليهودية له من أجل وصول جماعته إلى الحكم في سورية، من خلال علاقات الحركة الصهيونية بفرنسا، مثلما توهم محمد الأشمر، فيما كان بعضهم الآخر يعتقد بوجود مصالح مشتركة معها، مثلما اعتقد نصوح بابيل، الذي كان يرى تلك المصالح في إلغاء المعاهدة السورية الفرنسية المبرمة عام 1936، لأن إلغاء المعاهدة وإفشال حكومة جميل مردم يتصدّران أولويات المعارضة التي كان يتزعمها في ذلك الوقت عبد الرحمن الشهبندر، على خلفية أن “عدم إلغاء المعاهدة قد يضع حدّاً لمشروع سورية الكبرى الذي ينادي به الدكتور الشهبندر. أما نجاح حكومة جميل مردم فقد يؤدي إلى تعزيز قوة الكتلة الوطنية وإضعاف المعارضة الشهبندرية أو قمعها”. في المقابل، كان جميل مردم وآخرون في قيادة الكتلة الوطنية ينطلقون في اتصالاتهم مع الوكالة اليهودية من “فرضية وجود ثلاثة أطراف في القضية الفلسطينية؛ وهم العرب واليهود وبريطانيا، ويرون أن التوصل إلى السلام الحقيقي يتم فقط إذا أُخذت في الحسبان مصالح جميع هذه الأطراف”.

وقد استغلت الوكالة اليهودية، واستثمرت في ذلك كله، من أجل بناء التواصل وتمتينه من بعض من أنساق معها خدمة لمصالحه الشخصية والحزبية، وأوعزت المهمة إلى رجالها من اليهود السوريين وسواهم، من أجل تجنيد شخصياتٍ كانت تسعى إلى التكسّب المادي مقابل التعاون معها وخدمة أهدافها، حيث يكشف محارب عن أسماء من تعاون مع الوكالة اليهودية، وتلقى أموالاً لقاء خدماته الوضيعة.

ويرى محمود محارب أنّ إجراء الكتلة الوطنية مفاوضات رسمية سرّية مع الوكالة اليهودية في تلك الظروف والخلفيات ساهم في إيجاد جو لا يمنع أو لا يحرّم الاتصالات أو اللقاءات السرية بين قادة من الكتلة الوطنية والوكالة اليهودية، حيث جرت اجتماعاتٌ واتصالاتٌ مع جميل مردم بيك ونسيب البكري وفوزي البكري ولطفي الحفار وعبد الرحمن الشهبندر ونصوح بابيل وفايز خوري ووديع تلحوق وفريد زين الدين، وكذلك مع قادة في جبل العرب وفي مقدمتهم سلطان الأطرش ويوسف العيسمي.

في الجانب الإعلامي، اهتمت الدائرة السياسية للوكالة اليهودية كثيراً بالرأي العام العربي، وسعت إلى التأثير فيه عبر التغلغل في الصحافة العربية، حيث تمكّنت من شراء خمس صحف منها، ونشرت مقالات وأخبارا كثيرة في الصحف اللبنانية والسورية، وصل عددها إلى ما لا يقل عن 280 مقالاً خلال العامين 1937 و1939. وجرى نشر تلك المقالات إمّا باسم هيئات تحرير تلك الصحف، أو بأسماء عربية مستعارة، أو على شكل تقارير جرى التستر على أسماء كتابها الحقيقيين.

ويميط محمود محارب اللثام عن اتصالاتٍ أجرتها الوكالة اليهودية مع بعض قادة الدروز وشيوخهم في سورية، وتمكنها من تجنيد يوسف العيسمي، الذي سعت من خلاله إلى التأثير على مواقف الدروز، وبشكل خاص مواقف آل الأطرش، وفي مقدمتهم سلطان الأطرش بغية الحصول على موافقته على مشروعها الذي كان يهدف إلى ترحيل دروز فلسطين إلى جبل العرب في سورية. واعتمدت على العيسمي من أجل تسويق مزاعم تفيد بأن عدد الدروز سيزداد في سورية، إذا ما تمّ ترحيل دروز فلسطين إليها، وأن أمولاً كثيرة ستتدفق الأموال إليها جراء ذلك الانتقال، وبما يجعل مناطق الجبل مزدهرة وغنية.

ويرجع اهتمام الوكالة اليهودية بالدروز في فلسطين وسورية ولبنان إلى ما بعد ثورة البراق في فلسطين عام 1929، وازداد مع قيام الثورة الفلسطينية الكبرى، حيث هدفت الوكالة إلى إبعادهم عن المشاركة في الثورة، وكسبهم لمصلحة المشروع الصهيوني. أما دور سورية فقد كانت أهداف الوكالة في بداية الاتصالات مع شخصياتٍ منهم تتمحور حول عدم تدخلهم في الثورة، ثم تطورت إلى مشروع نقل دروز فلسطين إلى سورية، لذلك حاولت التغلغل، بالاستناد إلى تعاون العيسمي وسواه، في تمرير مشروع النقل الذي فشل، على الرغم من محاولات التأثير في قادة الدروز وشيوخهم، لكنها نجحت في إحداث اختراقٍ في صفوف بعض قادتهم، عبر استقطاب بعضهم، مثل أسعد كنج وزيد الأطرش وعلي الأطرش.

ويخلص محارب إلى أن مخابرات الوكالة اليهودية استفادت من عوامل عديدة في نشاطها بين أوساط نخب سياسية وإعلامية في سورية، وخصوصا المفاهيم والفرضيات الخاطئة التي كانت سائدة في ذلك الوقت، وتتعلق بافتراض أن اليهود في العالم يشكّلون أمة واحدة، وعدم التمييز بين اليهودية والمشروع الصهيوني، وأن اليهود يسيطرون على العالم وعلى صحافته وعلى سياسات الدول العظمى، وأن هناك مصالح مشتركة بين النخب العربية والحركة الصهيونية لا تتناقض مع الحقوق القومية للشعب الفلسطيني.

والواقع أن الجهود البحثية المبذولة في كتاب محارب تلقي الضوء الكاشف على مرحلة من تاريخ سورية وفلسطين والمنطقة، وتشير إلى مواضع خلل كثيرة في سلوك بعض النخب السياسية، وتفضح سلوك بعض الشخصيات، وذلك اعتماداً على ما تم الإفراج عنه من الأرشيف الإسرائيلي، الذي يتضمّن رسائل وتقارير كثيرة، ويقدّم وجهة النظر والرواية الإسرائيلية للأحداث التي جرت، والتي لا تكفي وحدها من أجل إطلاق أحكامٍ على المرحلة وسلوك شخصياتها السياسية، إذ ليس من الجائز الحكم عليها انطلاقاً من معطيات مرحلتنا الراهنة ومفاهيمها، لأن ذلك يتطلب مزيدا من البحث في الروايات الأخرى الغائبة، من أجل استيعاب كل معطيات المرحلة المدروسة، والإحاطة بمجمل حيثياتها وظروفها، خصوصا أن شخصيات الكتلة الوطنية وسواها، باستثناء من تورّط في التعامل وخدمة الوكالة، كانت ترى في اللقاءات مع الوكالة اليهودية بوصفها مفاوضاتٍ من أجل التوصل إلى حلّ سياسي لا يحرم الشعب الفلسطيني من حقه في العيش بسلام على أرضه وفي وطنه.

العربي الجديد

وثائق صهيونية بين يدي مؤرّخ فلسطيني.. علاقات سرّية بين الوكالة اليهودية وقيادات سورية/ تيسير خلف

أفرجت السلطات الإسرائيلية قبل سنوات عن وثائق تعود إلى سنوات الثورة الفلسطينية (1936-1938)، تتضمن معلوماتٍ عن اتصالاتٍ بين الوكالة اليهودية وبعض السياسيين السوريين، بمن فيهم شخصيات تتمتع برمزية ومكانة خاصين في وجدان السوريين. وتكشف هذه الوثائق التي درسها المؤرخ الفلسطيني، محمود محارب، وأصدرها في كتاب صدر أخيراً “العلاقات السرّية بين الوكالة اليهودية وقيادات سورية في أثناء الثورة الفلسطينية الكبرى” (دار جسور للترجمة والنشر، بيروت، 2021)، الأزمة الوجودية التي كانت تعانيها النخب السورية في لحظةٍ تاريخيةٍ مفصلية قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى، ووصول المفاوضات السياسية التي قادتها الكتلة الوطنية، برئاسة جميل مردم بك، مع حكومة الانتداب الفرنسي، إلى جدار مسدود، وهو ما أفقد الحركة السياسية السورية برمتها التوازن، وجعل بعض نخبها تلهث وراء أوهام ساذجة تتعلق ببيع الحركة الصهيونية لقاءات سرّية، مقابل دعمها موقفا سياسيا لدى حكومة الانتداب. ولكن؛ وفي زحمة الاتصالات، وجدت الوكالة اليهودية شخصيات سورية عامة ارتضت بالعمل لصالح جهاز استخبارات الوكالة المسمى “القسم العربي”، عينا على ما يدور داخل الحكومة السورية والكتلة الوطنية من جهة، والعمل ضد القضية الفلسطينية بمختلف الوسائل والسبل، بما في ذلك التجسّس ضد الثوار الفلسطينيين ومن يدعمهم من السوريين، وتقديم المعلومات الأمنية التي تقود إلى اعتقال وحتى قتل المشاركين بالثورة الفلسطينية من السوريين وغيرهم، وكشف طرق تهريب السلاح ومعابر الثوار إلى الداخل الفلسطيني، أخيراً التأثير على الرأي العام السوري المؤيد للثورة الفلسطينية، بنشر مقالات مدسوسة في صحف سورية تصدر في دمشق وحلب.

ويمكن اقتراح تقسيم الوثائق المدروسة في الكتاب إلى ثلاثة أنواع: الأول، التقارير الشخصية عن مضامين اللقاءات والاجتماعات، وهي أكثر هذه الوثائق من حيث العدد، لكنها أضعفها من حيث المصداقية، ففي كتابة هذه التقارير تتحكّم عوامل عديدة، منها؛ تفسيرات كاتب التقرير كلام الشخص المستهدف كما فهمها، أو كما يحب أن يفهمها، خصوصاً إذا كان كلام الشخص المستهدف يتسم بقدر من المجاملات، وهو دأب السياسيين في كل زمان ومكان، يضاف إلى ذلك ميل بعض العملاء إلى تضخيم أعمالهم ومقدّراتهم أمام رؤسائهم، ولذلك؛ لا يمكن الاعتداد بهذه النوعية من الوثائق ما لم تؤيدها وقائع عملية مثبتة بمصادر أخرى. الثاني؛ محاضر اللقاءات المشتركة، وهي وثائق أقل مصداقية، لأن من يدوّنها ينتمي إلى طرف واحد، إلا إذا حظيت بتصديق الطرفين. الثالث؛ الرسائل المكتوبة بخط اليد، وهي وثائق عالية المصداقية، خصوصاً إذا وجد مصدر آخر أو مصادر أخرى تؤيد ما جاء فيها.

ومن خلال هذا الاقتراح؛ نلحظ أن التقارير التي كتبها عملاء أو مبعوثو الوكالة اليهودية تجنح في عمومها إلى المبالغة في عرض رغبات السياسيين والزعماء الوطنيين السوريين في بناء علاقة مع الوكالة اليهودية، وسهولة تقبلهم فكرة العمل لصالح الحركة الصهيونية، فما إن يُعرض الأمر على أحدهم حتى يرحب به، وكأنه كان ينتظره على أحرّ من الجمر.

وضمن هذه الفئة، تقع الوثائق المتعلقة بالشيخ محمد الأشمر، الثائر الشهير ضد الفرنسيين، ورفيق عز الدين القسام، وأبرز المتطوعين السوريين في ثورة عام 1936، فبعد أن اجتمع به عضو البرلمان السوري وعميل الوكالة اليهودية، يوسف لنداو، مرتين، بغرض تجنيده لصالح الوكالة اليهودية، أعرب الأشمر في الاجتماعين عن استعداده لمساعدة الوكالة في وضع حد للثورة في فلسطين بكل الوسائل التي في حوزته! فهو، من ناحية، يستطيع التأثير في الدمشقيين الذين يجنّدون الثوار ويهرّبون السلاح؛ ليتوقفوا عن ذلك. وهو، من ناحية أخرى، يستطيع إعطاء معلوماتٍ عن منظمات الثوار وعن فعالياتهم وطرق دخولهم فلسطين، ومعلوماتٍ تقود إلى القبض عليهم. ولم يتطرّق لنداو والأشمر إلى الحديث عن المبلغ المالي الذي سيتقاضاه الأخير مقابل الخدمات التي سيقدمها للوكالة اليهودية، نظراً إلى أن الأشمر، بحسب الوثائق، كان معنيًا أساسًا بإقامة علاقات سياسية مع الوكالة اليهودية، بسبب تغير الأوضاع الداخلية في سورية، حيث فرضت هذه التغيرات عليه التفرّغ للقضية السورية. لذلك أبلغ الأشمر الزعيم الفلسطيني، المفتي الحاج أمين الحسيني، في لقائهما الأخير، بحسب تقرير للقيادي في “الهستدروت”، آبا حوشي، قراره النهائي؛ إنه لن يقود الثورة الفلسطينية المسلّحة، بعد أن طلب منه الحاج أمين ذلك بشكل مباشر! بل سوف يستعد لقيادة تحرك للسيطرة على الحكم في سورية بالقوة، بسبب فساد الكتلة الوطنية. علماً أنه لم يرد هذا الخبر في أي من مذكرات السياسيين السوريين، سواء المحسوبين على الكتلة الوطنية أو المحسوبين على الكتلة الشهبندرية (نسبة إلى عبد الرحمن الشهبندر)، فمن أين أتى هذا الكلام إذن؟ يضاف إلى ذلك أن الحاج أمين الحسيني لم يتطرّق في مذكراته لأي حديثٍ دار بينه وبين الشيخ محمد الأشمر، أو أنه طلب من الأشمر قيادة الثورة في فلسطين، وأن الأشمر رفض ذلك.

والسؤال في هذه المناسبة، هل الوقائع الواردة في متن الوثائق المتعلقة بالشيخ الأشمر تنسجم مع المنطق التاريخي للأحداث وللشخصيات المعنية؟ وهل كان الوضع الفلسطيني منهاراً حتى يتخلى عن القضية الفلسطينية أصدقاؤها المخلصون في سورية، كالشيخ محمد الأشمر مقابل دعم سياسي غامض أو مبالغ مالية زهيدة؟ نعرف أن الثورة الفلسطينية كانت تشهد مرحلة انتعاش كبيرة في 1938، وكانت تحظى بدعم عربي وإسلامي منقطع النظير؛ وصل إلى إلغاء بريطانيا خطّتها لتقسيم فلسطين، والتي طرحتها لجنة بيل عام 1937، ما عُدَّ يومها من نجاحات الثورة الفلسطينية، وكان انعكاس ذلك على الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية غايةً في السلبية. ثم هل كانت فكرة الانقلاب على الحكم في سورية، آنذاك، فكرة مقبولة عقلياً أو منطقية، في ظل تردّي أوضاع النخب السياسية السورية إلى درك عميق، وتمنّع باريس عن التوقيع على المعاهدة، لا بل إرسال قوات إضافية وصل عددها إلى 50 ألفا؟ علماً أن قبول الشيخ الأشمر لقاءات مع مندوبي الوكالة اليهودية يعد سقطةً لهذا الشيخ المجاهد، ولا يمكن تبريرها إلا بما يمكن أن نسميها “غفلة الشيوخ” والانصياع الأعمى لطلبات عبد الرحمن الشهبندر الذي كان يحظى بمكانةٍ لدى الشيخ، والدليل على غفلة الشيخ وعدم إدراكه ألاعيب السياسة حديثة الغريب، إن صدق التقرير، عن انقلابٍ مسلح ضد الكتلة الوطنية في ظل احتلال عسكري فرنسي!

وضمن هذه الفئة، يمكن أيضاً وضع الوثائق المتعلقة برئيس الحكومة، جميل مردم بك، فما نقل عنه مجرّد تصريحات دبلوماسية ومجاملات متوقعة، من دون أن تترجم بأي قرارٍ منه، بما في ذلك حديثه المزعوم مع الحاج أمين الحسيني عن وقف الثورة الفلسطينية، ورفض الحاج ذلك، وتأكيد عملاء الوكالة أنه لم يصدر أي تعليمات لبرلمانيي الكتلة الوطنية بشأن المشاركة في المؤتمر البرلماني العربي لدعم الثورة الفلسطينية في القاهرة، على الرغم من وعوده لمندوب الوكالة بذلك. والحق إن ما نقل عن جميل مردم بك في التقارير عن مواقفه من الثورة الفلسطينية والحركة الصهيونية يبين أنه لم يكن من أصحاب الأوهام الكبيرة عن قدرات الحركة الصهيونية في التأثير على الموقفين، الفرنسي والبريطاني، من القضية السورية، وما قاله لا يخرج عن دبلوماسيةٍ مراوغةٍ، قد تكون ذهبت بعيداً في مراوغتها، ولا تخرج عن إطار “بيع الكلام المعسول” أملاً في التخفيف من حدّة الحرب التي كانت تشنّها الوكالة اليهودية والحركة الصهيونية ضد معاهدة العام 1936 التي قاد مفاوضاتها.

وأيضاً، وضمن هذه الفئة يمكن وضع التقارير المتعلقة بعبد الرحمن الشهبندر وجماعته، والذي قادته أوهامه عن الحركة الصهيونية وقدراتها الخارقة في العلاقات الدولية إلى أن يسعى إلى التواصل مع أذرعها العديدة، مثل وكالة الشرق الأوسط للأنباء، في أثناء إقامته في القاهرة، والوكالة اليهودية عندما عاد إلى دمشق، وذلك كله بهدف إسقاط الكتلة الوطنية وحكومتها، والمعاهدة التي وقعتها مع الفرنسيين. ويأتي موضوع القضية الفلسطينية الذي بحثه مع رئيس المنظمة الصهيونية العالمية، حاييم وايزمن، وغيره في إطار مقارعته الكتلة الوطنية، ومحاولته استغلالها ضد خصومه السياسيين. ويمكن ملاحظة أن موقف الشهبندر من الثورة الفلسطينية خصوصاً، والقضية بشكل عام، لا يبارح تصوّرات أمير شرقي الأردن، عبدالله بن الحسين، الذي كان يعمل بدأبٍ لا يلين على تنصيبه ملكاً على عرش سوريا الكبرى، مع وضع خاص لفيدرالية أو دولة يهودية فيها.

ويمكن دعم رأي صاحب هذه المقالة القائل بالتقليل من مصداقية وثائق الفئة الأولى بما ورد في تقارير مندوبي الوكالة اليهودية عن فحوى اجتماعاتهم مع الزعيم فخري البارودي من تأييده المطالب الصهيونية والتعاطف معها، في حين تنقل تقارير أخرى كلام الجواسيس المجنّدين مقابل المال عن إخلاصه للقضية الفلسطينية، ودعمه الثورة بالمال والرجال والسلاح.

تتضمن وثائق الفئة الثانية، بحسب التقسيمات المقترحة أعلاه، محاضر اجتماعات الكتلة الوطنية مع مندوبي الوكالة اليهودية، وهي اجتماعاتٌ شارك فيها، من الكتلة الوطنية، شكري القوتلي وفخري البارودي ولطفي الحفار وفايز الخوري، ومن الوكالة اليهودية إلياهو إبشتاين وعاموس لندمن. وهي؛ على الرغم من أنها مكتوبة من وجهة نظر الطرف الصهيوني، إلا أن ما ورد فيها لا يشكل أي اختراق على صعيد المواقف المعروفة للمشاركين في الاجتماعات من القضية الفلسطينية، فقد كرّر شكري القوتلي في هذه الاجتماعات ما كان يقوله ويفعله من تأييده الثورة الفلسطينية، فقد رفض فكرة الحق التاريخي لليهود في فلسطين، ورفض فكرة الوطن القومي لليهود في فلسطين ورفض الهجرة اليهودية، وأكد أن أسباب الثورة الفلسطينية هي الهجرة اليهودية. وطالب إبشتاين، عبر أسئلة محرجة، بإيضاح مسائل كثيرة تطرحها الحركة الصهيونية بشكل غامض، من قبيل أن المشروع الصهيوني لن يكون على حساب الفلسطينيين، وبأنه سيرفع من المستوى الاقتصادي للفلسطينيين.. وغير ذلك من ادّعاءات فارغة لا تنطلي إلا على السذّج.

واللافت في الوثائق أن الوكالة اليهودية وضعت خطة لاغتيال شكري القوتلي في العام 1940 عن طريق أحد عملائها المدعو ميشيل جرجورة، ورصدت مبالغ للتنفيذ كي يبدو الاغتيال كأنه عملية انتقامية لاغتيال عبد الرحمن الشهبندر الذي كانت تحوم فيها الشبهات حول القوتلي والكتلة الوطنية، ولكن الخطة فشلت، لأسبابٍ غير واضحة.

أما وثائق الفئة الثالثة، وهي الرسائل والأوراق التي لا يرقى الشك إليها، فتمثلها الوثائق المتعلقة بالسياسي المعروف وعضو الكتلة الوطنية نسيب البكري، فهذا السياسي ابن الباشاوات وصاحب الأملاك في دمشق وريفها، والذي سبق أن فتح بيته لاستقبال الأمير فيصل وحاشيته عام 1916، سعى بملء إرادته للعمل لصالح الوكالة اليهودية مقابل مائتي جنيه فلسطيني: 50 جنيهًا فلسطينيًّا مع بداية عمله، و50 جنيهًا فلسطينيًّا تدفع له بعد تقديمه التقرير المفصل عن الثوار الفلسطينيين في سورية، و50 جنيهًا فلسطينيًا تدفع له بعد أن يأتي بمعلوماتٍ دقيقةٍ عن عديدين من قادة الثوار الفلسطينيين، و50 جنيهًا فلسطينيًا تُدفع له بعد أن يقدّم معلومات عن مجموعاتٍ مسلحة ومهرّبي أسلحةٍ تقود إلى القبض على واحدة منها عند دخولها من سورية إلى فلسطين، والتي نفّذها جميعاً بحماس غريب. وقد استغل البكري، بحسب الوثائق، نفوذه السياسي وعلاقاته الواسعة مع الجهازين، الإداري والسياسي، بما في ذلك نفوذ شقيقه مدير الشرطة في دمشق الذي سخر جهازه للتجسس على الثوار الفلسطينيين، ومن يدعمهم. ووصل الأمر به، حين وصل إلى الوزارة، أن تخلص من جميع المؤيدين للثورة الفلسطينية في وزارتي الداخلية والعدل، أمثال منير الريس، وعادل العظمة وغيرهما.

وتستحق حالة نسيب البكري دراسة مخصصة لحياته الشخصية والعملية، والتنقيب في السجلات العقارية وغير العقارية للتحقّق من ضائقته المالية التي تتحدّث عنها الوثائق، وهي ضائقة عميقة كما يبدو اضطرّته لأن يبيع نفسه للصهاينة في مقابل مائتي جنيه فلسطيني في المرحلة الأولى، ومبالغ أخرى في مراحل لاحقة، فالموضوع بالنسبة له، كما توضح الوثائق المعروضة، مرتبط بالمال والمال وفقط. ولا تفسير لمثل هذا الموقف إلا بأن الرجل كان مُدمناً على القمار، فسلوكه هو سلوك مدمن قمار أنموذجي.

وتنطوي الوثائق على جانب مظلم من تاريخ الصحافة السورية المأجورة التي كانت تنشر مقالات مقابل مبالغ معينة، يكتبها عميل الوكالة اليهودية، إلياهو ساسون، بتوقيع هيئة تحرير هذه الصحف ضد الثورة الفلسطينية، وتحرّض ضد الشعب الفلسطيني وتحملّه مسؤولية النكسات التي كانت تعانيها النخبة السياسية السورية. وفي المقابل دعم وجهة النظر الصهيونية من الأحداث، وخصوصاً تسمية الثورة بالإرهاب والثوار بالإرهابيين. ومن الصحف السورية التي تورّطت بهذه المقالات المدسوسة “الاستقلال العربي”، و”الأحوال”، و”البيرق”، و”الإنشاء” وغيرها.

اشتمل الكتاب أيضاً على فصلٍ عن العلاقات بين الوكالة اليهودية والقادة الدروز في سورية، حيث أوضحت الوثائق أن الهدف من هذه الاتصالات كان وقف دعم الدروز الثورة الفلسطينية، وبحث إمكانية ترحيل دروز فلسطين إلى جبل حوران. وكان يمكن أن يشكل هذا القسم دراسةً مستقلة عن موضوع الكتاب، نظراً إلى اختلاف الشروط الموضوعية؛ بين النخب السياسية الدمشقية التي كانت تحرّكها دوافع حزبية براغماتية وقادة الطائفة الدرزية الذين كانت تحرّكهم دوافع وجودية محدودة الخيارات. وهو موضوع يستحق معالجة من زاوية أخرى؛ نظراً إلى أنه موضوع عابر للحدود والأحزاب والسياسات.

كتاب المؤرخ محمود محارب إضافة مهمة للمكتبة العربية، ويشكل قراءةً عربيةً مهمة وضرورية لوثائق صهيونية مطروحة أمام الباحثين؛ رأينا رؤية العيان كيف قرأها أحد المؤرّخين الإسرائيليين قبل فترة، وكيف أثار حولها كثيرا من اللغط والتعمية.

العربي الجديد

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button