“كلهم شهود” أصابعٌ نجت فرسمت الحكاية/ علي سفر
هل يمكن المقارنة بين صرير الأقلام، أو طرقات الأصابع على أزرار الكيبورد، مع صوت القلم الرصاص، وهو يمر متثاقلاً على الورق المقوى، ليخط التشكيلات المفجعة، حين تُستدعى من الذاكرة الشخصية، بيد فنان سوري، تعرض مرتين للسجن في أقبية أجهزة الأمن التابعة لنظام الأسد؟
يَعقدُ التقابل بين نسقين من السرد، هما اللوحة والنص (بكافة أنواعه) نية حاضرة لدى صناعه تقول بوجود تكامل بينهما، فالنص قد يشرح اللوحة، وكذلك قد تكون اللوحة رسماً تعبيرياً عما يبثه النص.
لكن الريح، قد تذهب بهذا التكامل، في حال كان ثمة فائض تعبيري، أو لنقل كتابة شاردة، وقع فيها أحد النسقين، ما يؤدي في المحصلة إلى حدوث تفاوت في تلقي المشاهدين والقراء بينهما.
هنا، ونحن نطالع نصوص كتاب “كلهم شهود” (Tous Témoins) المكرس للوحات الفنان التشكيلي السوري نجاح البقاعي، التي قدم عبر تفاصيلها تجربة قاسية من المشاهد التي حضرها شخصياً (70 يوماً في الفرع 227 في دمشق) في مرحلة من مراحل اعتقاله، نحاول أن نبحث عما يمكن أن يشكله مثل هذا الائتلاف بين النصوص المكتوبة وبين اللوحات، في وجدان المتلقي الفرنسي، وكذلك العربي والسوري حكماً، بعد عشر سنوات من الثورة، وما انطوت عليه من تفاصيل قاسية!؟
الكتاب الذي أشرف عليه فاروق مردم بك وصل إلى المكتبات الفرنسية منذ منتصف شهر أذار الفائت تقريباً، وترافق صدوره عن دار Actes Sud مع معرض للوحاته في صالة galerie Fait et Cause الباريسية يستمر حتى نهاية الشهر الحالي، يمكن اعتباره كتابين، وهذا واضح لجهة الشكل الفني الذي صدر وفقه، حيث نلاحظ الغلاف الطولاني الخاص بالنصوص، والآخر العرضاني الموقوف على اللوحات.
فإذا كان هذا الجزء يتميز باتساق واضح، حيث جرى تقديم اللوحات بقلم الناقد والمؤرخ الفني جيروم جودو وعرضت الصحفية هالة قضماني لحكاية البقاعي عبر (بورتريه) مكتوب مر على مراحل حياته، وصولاً إلى لحظة الثورة الفارقة، في التاريخ السوري الراهن.
فإن الجزء الثاني، الذي ضم كتابات 24 كاتباً، بدا متعدداً، يتضمن كل نص من نصوصه طريقة مختلفة في تناول المسألة الأساسية، أي المأساة السورية، والتي تأتي لوحات البقاعي المفجعة مجرد تفصيل في ملامح لوحتها العامة، وكأن هناك محاولة لإعادة القارئ إلى اللحظة الأولى، للتفكير بسوريا، كبلد حدثت فيه ثورة للتو، ولكنها لم تنته، رغم مرور عقد كامل عليها.
التدقيق بالصياغة المنجزة لهذا المشروع، من خلال مفردات التفكير السوري ذاته، والذي يرتبط بالتراكم المديد للأذى، سيجعل تلقي النصوص مختلفاً عن تلقي اللوحات.
فتبدو الأولى متفاوتة بين البرودة، حيث يتم قراءة سوريا كنص تاريخي أثاري فولكلوري، وبين الدفء الذي حملته لحظات الربيع العربي، وقد مضى فيها غير كاتب من المشاركين!
بينما ستظهر اللوحات ساخنة، ملتصقة بأقسى ما تحمله الذاكرة السورية الراهنة!
ولكن، خلق مادة كهذه، في إطار جعل سوريا حاضرة كما يجب في المشهد الثقافي، وقبله الإعلامي الفرنسي، قد يحتاج إلى نظرة مختلفة عما يفكر به السوريون، أو ما يقترحونه كشكل للتعبير عما يريدون قوله!
الاشتغال على الفني، أياً كان نوعه (لوحة، فيلم، مسرح، رواية شعر، الخ)، يمنح أصحاب القضية القدرة على فرد حكايتهم مرة أخرى أمام الجمهور المتعاطف، الذي بددته أحداث مميتة، ركّز عليها الإعلام، صاحب التأثير الأكبر، كسيطرة الجماعات الجهادية في وقتٍ ما، على المشهد الميداني السوري، وهو يضيف إلى ذلك تغييراً مهماً في النظرة السائدة حالياً للقضية السورية، قوامه الأنسنة، حيث يتم ترسيخ الحكايات كملكية لأصحابها الحقيقيين، الذين لم يخلقوها من الخيال، بل عاشوها، وقضى بعضهم في سياقها، ونجا الآخر، وجاء ليحكي عنها.
نجاح البقاعي، في لوحاته المنشورة هنا، شخصيةُ حكايته، وسارد حكايات الآخرين، تتمدد في تفاصيل الوقائع التي رسمها، صور السوريين الذين تركوا خلال عقد كامل لمصائرهم المبهمة، بعد أن تم تسمية كتلتهم البشرية باسم المعتقلين، فاشتغل الحقوقيون على قضيتهم، وحاول الإعلام المعارض أن يبقي على حضورهم في مواد بثه، لكن كل ما كان يروى عما يجري هناك في الأقبية، والسجون والمعتقلات ومراكز التوقيف، ظل أسير الشفوي، الذي تتم محاكاته بشكل تمثيلي على الأغلب، ليكون حاضراً أمام المشاهدين كمعادل بصري، فجاءت لوحاته، لتكون أشبه بصور تم التقاطها بكاميرا مخفية.
ما يموّه عادة، من باب الحرص على عدم إيذاء المشاهد نفسياً، حولته خطوط نجاح إلى سجن من نوع آخر، فهي تبقي السوريين مصلوبين على ذاكرة الأسى، وفي الوقت نفسه تقيّد من يرى، بأحمال الواجب، تجاه الجريمة المسكوت عنها، وتجعله أسير الفاقد البشري الذي لم يدر أحد به، من أولئك الذين لم يشاهدوا مثل هذا من قبل، أو ربما يسمعون بوجود بلد اسمه سوريا لأول مرة!
ضمن هذا الإطار، ثمة أسئلة تطرح حول العلاقة بين الإبداعي والتوثيقي، والإنشاء اللغوي حولهما، ولكن، هل نحتاج الآن أن نفرد على الطاولة كل ما نفكر به؟
ألسنا نجعل من المسألة شأناً فنياً خالصاً، بينما هي في الواقع تبدو أكبر من مجرد ظاهرة، وكأنها جرح حار علقت على حوافه أجساد الآخرين المجهولين وحيواتهم المنسية؟!
المدن