«ملاذ العتمة» للسوري ضاهر عيطة: تفكيك ثالوث الثورة والحب والأحلام/ محمد المطرود
تأتي رواية «ملاذ العتمة» إضافة أخرى كميّة للمنجز الروائي، الأخذ بموضوع الثورة السورية كعماد بناء، وانتصار لتحوّل مفاجئ في بنية المجتمع السوري أولا، وثانياً في بنية الأدب الذي لم تتوضّح أنساقه بعد، وإنّ كان المتابع بوصفه مجتمعاً، أو نخبة مجتزأة من العام، فهو لا بدّ سيعرفُ بحكم معايشتهِ عقوداً لسلطةٍ مُغتَصبةٍ، ذهنيةَ هذه السلطة، التي حكمت وفق منظورها الأمني والشعاراتي، والمتمثّل بصناعة قضايا ومناطق خوف متوترة، ساهم التفكير الجمعي بإذكاء نارها، وإخراجها من حالة التشكيك إلى اليقين بها، وصار الخروج عن هذا المنظور المشغول عليه أمنياً وعاطفياً، خروجاً على» المرتكزات الوطنية» وضرباً في السعي» للتوازن الاستراتيجي» مع دولة غاصبةٍ، بحيثُ تشكّلَ جيشٌ رديفٌ لا يكتفي بالسهر على الحدود لحماية الوطن، وإنّما دخل غرف نوم المواطن السوري، ليتبيّن أحلامه!
وفي هذا المناخ غير الصحي، تبدو القراءات أيضاً واهنة ومعطّلة، وتكاد الكتابات التي خرجت على السياق العام قليلة وقاصرة، بل عوملت كأدوات معادية لتلك القضايا الكبيرة والمخدّرة، وهو ما يجعلُ الكتابات التي انتصرت للثورة المستوفية أسبابها والمسروقة في ما بعد، جزءاً من حراك سابق، معتّم عليه، رقابة وتداولاً، رغم ندرته وجرأته ومخالفته للسائد، ما منحهُ جواز سفر أدبي، دون ملاحقته فنياً ونقدياً، وهنا في هذا العمل الذي يذهب في منحى تفكيك بعض المفاهيم، انطلاقاً من شخصيات» ثورية» هو يقدمُ صورة ولو مجتزأة عن حال ترصد مشهد اليوم والبارحة.
مديحُ العتمة أو رصد الخوف
تنطلق رواية «ملاذ العتمة» من فكرة مكثّفة للعنونة، وتكاد لا تسرفُ في المتن الذي قد يجنبها العنوان ومركزيتهُ، لو عرفنا بالمجاز الذي تأخذنا إليه «العتمة» كمفردة ارتكازية وحيوية، ليس في ملاذ العتمة وحسب، وإنّما في معناها الحقيقي، الذي بالضرورة يقود إلى الخوف، متعاونة مع» ملاذ» التي بدورها تحيلُ إلى التلطي والاختباء. شخصيات الرواية أيضاً تسندُ هذه العتبة، كونها خائفة، ليست أسطورية ولا خارقة، نعم لديها تفاؤل ثوري، ويقين بحتمية التغيير، لكنها أيضاً مهزومة ومركّبة، تنظرُ إلى أرض الروي المشتعلةِ، وترى انحسار الأحلام شيئاً فشيئاً، ولعلّ هذا الانحسار وتراجع التفاؤل، هو ما سيخلقُ هروباً إلى الخارج حقيقةً، يوازيه هروب أكثر حدة إلى الداخل، ولو مجازاً، وتكاد الشخصيات التي رسمت عنواناً عريضاً لحالها، كأفراد مشاركين في عملية التحوّل، وجماعات صارت تنتظم وفق هويات شتىّ لو جاز التعبير، ثمّ في لحظة مفصلية تحولت من فاعلين ثوريين مع الثورة أو فاعلين لا ثوريين «رماديين» و»متدينين» ضدّ الثورة إلى مهزومين ومتشائمين، ما يرجّح الاجتراح الذي ارتآه الراوي، بحيث يبدأ مشهدهُ البدئي بالانتحار، ويسدل ستارة النهاية بالانتحار.
ثمة دلالة واضحة لقول كبير في تعبير مشغول عليه فكرياً ومشهديا فنياً، كما لو الروائي هنا، الذي يسرد على ألسنة أبطاله، ويتخفىّ خلفهم، معزّزا فكرة الخوف، كشخصية أخرى حاضرة ومغيّرة، وفي الآن ذاته، تظهرُ مسرحةُ الفعل الروائي، سواء من التقطيع الذي يطيل المشهد نفسهُ، أو من خلال المغامرة بالانتقالات الفجّة من مشهدٍ إلى آخر، وبما يوحي بامتلاك صانعُ المشهد/ الراوي القادم من خلفيةٍ مسرحيةٍ، ثقةً مفرطة بوضوح الصورة التي يقدمها، في ما لو قرأنا ترجمة ـ ضاهر عيطة/ الراوي/ السارد/ الروائي ـ الشخصية على الغلاف الأخير كمتحصّل لإجازة في الفنون المسرحية من معهد عال في دمشق وككاتب مسرحي.
سُرّادٌ عديدون تحت قبعةِ الراوي
في «ملاذ العتمة» لضاهر عيطة، الرواية الصادرة عن دار موزاييك للدراسات والنشر في إسطنبول، وعلى امتدادِ مئتين وخمس صفحاتٍ، تتجاورُ شخصيات في مفصلِ الروي واضحة، ليست إشكالية، تبدأ قوية في الظاهر، وسرعان ما تتداعى جهة الانهزام من الداخل، وهنا تتعقّدُ مصائرها، ويصير حلم النجاة بالذات هو الإشكال، بعد أن كانت قضايا كبرى تحرّك هذه الذات المشغولة بنفسها أكثر، مشغولة بتفاصيلها وهوامشها، مشغولة بخلاصها الشخصي، أكثر مما هي مشغولة بخلاص وسط اجتماعي يعيش محنتهُ وأحلامه الجمعية، وهنا يمكن للمتلقي أن يتلمّس المفارقة المتمثلة في تشابهِ أبطال الرواية، رغم اختلافاتهم شبه الجذرية، ابتداء من (غفران) الفتاة الثائرة والعاشقة لرجل الدين والأستاذ الجامعي (عاطف) إلى (عاطف) الذي يرسو على الضفة الأخرى من الثورة، ويسحق بقدمه رمزية الورود التي تقدمها العاشقة للمتظاهرين، إلى (سيلينا) الألمانية العاشقة أيضاً، وتلتقي مع (غفران) الثائرة بثوريتها وكذلك بعشقها لـ(عاطف).
تتوازع السرد شخصياتٌ ثلاث، يتلطىّ خلفها الراوي، ظنّا منه أنّه يخفي صوتهُ، أو يتماهى مع زحمة الأصوات المتشابهة في قولها، ومتمايزة في خطابها الأيديولوجي، لو صحّ التعبير، وتكاد تكون القوة التعبيرية نفسها، والشحنات العاطفية نفسها، ما يسمُ الرواية بكاملها بذلك الهدوء الذي لا يمثلهُ الأبطالُ/ السرّاد، لتشتتِ أفكارهم وتصاعد مشاكلهم، منتقلين من مكان ساخن ومخيف، إلى مكان هادئ، ويبعث على السكينة، وإنّما يمثلهُ الروائي، الذي يقدم رؤيته، ويديرُ هؤلاء وفق تلك الرؤية.
الديستوبيا السورية
ثمة ما يوحي بالغرائبي والخيالي والمرير، وإن لم يحقق بدقة مفهوم الديستوبيا، فهو يرصد بشكل ما الانتهاك الفظيع لحلم مجتمعٍ بحياة كريمة، وهذا الرصد ذاته يبيّن بجلاء التعامل الفظ، من سلطة سالبة لإرادة بشرٍ لهم أحلامهم وحيواتهم ومتطلباتهم، ينتهونَ إلى لاجئين، أو معتقلين، أو مُغتصبين وقتلى، وبالتالي إلى أرقامٍ وقصص، رغم واقعيتها ووثائقيتها تكون أقربُ إلى الخيالي منه إلى الواقعي.
لو أخذنا بثلاث قصصٍ تتداور على السرد، وترسم ثلاثة عوالم تتمايز عن بعضها بتفكيرها وقدراتها وأهوائها، وتتلاقى في نقطةٍ ملتبسّة وغرائبية من حيث النهاية، باجتماع (غفران) و(عاطف) و(سيلينا) في بلدة ألمانية بحكم الصدفة، فالزوجان (سيلينا) و(عاطف) مع روح (غفران) التي لا تفارق رجل الدين المهزوم من داخله، كمؤيد لسلطة مستلبة، إلى مهزوم عاشق أمام (سيلينا) التي تلبّست روح غريمتها في العشق، وأرادت أن تكون هي لا لصورة الذكرى، إلى (غفران) الثائرة التي لم تفصل بين ثوريتها وعشقها.
وإذا كان من رمزية تنتهي فيها رواية «ملاذ العتمة» ستكونُ في ذلك الحبل الذي صنعه عاطف كأنشوطة في مكان قريب من منزله الألماني، لينهي بذلك صراعهُ الأزلي مع شخصيتين تتعاركان جوّاتهُ، ولعلّ هذه النهاية الروائية تنسحبُ إلى نهاية حلم، أو هي اقتراب من تفاؤل خجول على أرضِ الحقيقة ومآلات الحال!
رواية «ملاذ العتمة» لضاهر عيطة، رواية تسرد حال السوريين انطلاقاً من شارع التظاهر، مروراً بالبحر والقوارب المطاطية التي نكّلت ببعضهم، وعبّرت بعضهم إلى ما يحسبونه (أرضِ النجاة) وانتهاء بأرض النجاة التي تفتح لهم باباً آخر على وجع آخر.
هامش: «ملاذ العتمة» رواية 2021. المؤلف ضاهر عيطة ـ الدار: موزاييك للدراسات والنشر.
شاعر وناقد سوري
القدس العربي