ممدوح عدوان…. «الفارس الخاسر» منتسباً إلى حزب الجوع
خليل صويلح
كان محمود درويش قد اختزل صورة ممدوح عدوان (1941- 2004) بقوله: «مثل عازف يحتار في أية آلة موسيقية يتلألأ.. لم أقل لك أن واحداً منك يكفي لتكون عشيرة نحل تمنح العسل السوري مذاق المتعة الحارقة». لكننا لن نتوقف عند هذه المرثية وحدها، وربما بسببها سنجد مرايا أخرى في تظهير صورته كلما نأى في الغياب، ذلك أن الميراث الذي تركه صاحب «يألفونك فانفر» ينطوي على روح متمرّدة وعصيان أصيل، وبسالة استثنائية «اكتشفت أنني كنت أكتب – دون كيشوت- طوال حياتي، قوة التصدي الفردية لعالم ينهار، لأن القيم فيه تنهار، والاكتشاف الأخطر هو إلى أي حد كنت أنا أيضاً دون كيشوت، حين أنبري لمعالجة عطب عصري بالكلمات» يقول. لم يتوقّف هذا الوتر المشدود إلى أقصاه في قوس الكتابة عن إشعال الموقد بمعارك ضارية، ومشاغبات لزعزعة المياه الراكدة، داعياً إلى تمجيد الجنون، قبل أن يغلق القوس بأكثر كتبه عمقاً «حيونة الإنسان» كاشفاً عن تطوّر مراتب البهيمية، والعسف، والتنمّر، والطعنات التي نالها الكائن الهشّ، في وضح النهار. الآن، ستبدو المهمة أصعب، في حال قرّرنا فحص تضاريس 90 كتاباً، في الشعر والرواية والمسرح والترجمة والبحث والدراما، أودعها صاحب «ليل العبيد» المكتبة العربية؟ لكن من يعرف ممدوح عدوان عن كثب، سيكتشف أهمية حضوره كموقف في أكثر المنعطفات إشكالية، فهو صاحب العبارة المشهورة «الإعلام الرسمي يكذب حتى في النشرة الجويّة». كما سيحيلنا إلى عبارة أكثر صميمية وردت في روايته «أعدائي»: نحن لا نتعوّد يا أبي، إلا إذا مات فينا شيء. تصوّر حجم ما مات فينا، حتى تعوّدنا كل ما يجري حولنا؟». من جهتها، تحاول نهلة كامل في كتابها «ممدوح عدوان: الفارس الخاسر» الذي سيصدر عن «دار التكوين» قريباً، استعادة صورة الشاعر بالطول الكامل، بالاتكاء إلى حوارات كانت قد أجرتها مع صاحب «تلويحة الأيدي المتعبة» في فترات متباعدة، بالإضافة إلى شهادات عنه، وقراءات نقدية في أدبه، بكشّاف نقدي عميق يضيء أبعاد هذه التجربة، وتأصيل نسبها إلى «حزب الجوع» في المقام الأول، بعيداً عن الأيديولوجيات الجاهزة، إذ لطالما «استرشد بغريزة العدالة، وتسلّح بشجاعة البراءة، وصفاء الذات، والحق في الحلم»، هو الذي اعترف بقوله: «الصراخ سلاحي الوحيد، سأشحذه وأتقن استخدامه حتى يشقّ حنجرتي». هذا العويل إذاً، يخصّ شخصاً استثنائياً، لم يرتبك وهو يجرّب أدوات كثيرة، لإيصال صوته من المنبر العالي، إلى الغرف المغلقة، في بلاد اعتادت النبرة الخافتة في مواقف كثيرة، تحتاج إلى شجاعة المثقف، وبسالة الصوت المنفرد، واقتحام الدروب «القشق» مهما كانت وعرة، فالعدالة بالنسبة له لا تأتي بالتقسيط، إنما بالمطلق. هنا مقتطفات من الكتاب:
كيف أكون متمرّداً
لا أعد بكشف أسرار شخصية لدى ممدوح عدوان، فالواضح المباشر، الصادم، الخطابي، كان يعلن أسراره بنفسه من منابره العديدة، حتى ليبدو بلا أسرار.
وإذا كان لكل كتاب أسراره، فإن علاقتي الإعلامية والأدبية ثم الصداقة الشخصيّة، جعلتني ألاحظ ثم أدرك أن له أسراره الإبداعية الخاصة، وراء كل هذا الوضوح في الممارسة والإعلان بالنبرة العالية حتى الصراخ، وأن غموضاً مفاهيمياً مزمناً وموجعاً ودؤوباً كان يطارده طوال حياته.
ولا أقصد بهذا الغموض، من جانبه في التأويلية والضبابية التي تقدمها القصيدة للقارئ، والذي سيعترض المثقفون والنقاد على وجوده لدى الشاعر، بل في ذلك الكشف المفاهيمي الذي كان يشتبك معه وهو ينجز أعماله، وهو ذاتي داخلي تفترضه عملية تغيير الرؤية والعدالة الشعرية للحياة.
وقد أشار إليه، وهو يتوجع بداية، عندما كتب مسرحية «هملت يستيقظ متأخراً»، ورأى بقعة ضوء كلما اقترب منها وتعرّف على صراعها، كانت تتخلق لديه مشاكل وقضايا أكبر وأعمق.
وقد أدرك ممدوح عدوان تراجيدية كونه شاعراً وأديباً ارتبط انتماؤه وتحدّد التزامه بفكر التمرّد والتحريض.. والمشكلة لم تنتهِ بهذا، بل هنا بدأت.. كما وصفتها الفلسفة والنقد: عملية مطاردة مستمرة للحقيقة وتفتّح لا يتوقف لمشكلات جديدة، وبالتالي مفاهيم جديدة.
اشتبك أولاً، مع متوالية التحقّق من مرجعيات الفرضية والنظرية والمعلومة واللغة، كما تصل إلينا بعد تراكم تاريخي متهم بالتزوير، طالما أن التفكير النقدي يقتضي أولاً التشكيك في المفاهيم.. والخروج من حالة السبات اليقيني التي لم تكن لتحسم بعنوان الالتزام فقط، بل بسؤال: كيف أكون متمرداً؟
وربما كان هذا هو السر الذي كلما حاول الإجابة عليه تجددت لرؤيويته ميادين جديدة تضليلية غامضة أو مغلقة، واصطدم بكيان صلب متكامل العقائد والتقاليد والفلسفات والآداب المكرسة وتطاول على البديهيات الإنسانية، وظهرت بين يديه تيارات إنسانية موافقة أو متمردة حفل بها قرن الحروب والمآسي الكبيرة.
سألت ممدوح عدوان، قبل لقاء صحافي، منذ ثلاثين عاماً، وكان في ذروة مواجهاته الهملتية، قبيل تأليف «سفر برلك أيام الجوع» و«أعدائي» وتأليف كتب مفاهيمية تناقش وتحدد مرجعياته المتمردة في مجال الكيف لا الكم:
– كيف الحياة معك الآن؟
فأجابني: «غنية الإنتاج، مرهقة البحث، وضيّقة الفسحة الذاتية، فالانطلاق من مفاهيم العدالة ليس أمراً بديهياً، والتمرّد على ما كرسه التاريخ من فرضيات يكتنفه ذلك الغموض المتعدد المستويات، وكأنك تخوض وراء الحجب وتسير على أرض ملغمة اللغة والمرجعيات، ما يجعلني أعاني مشكلة البدء من الصغر، فيصبح هامش كيف أكون متمرداً أوسع من فضاء القصيدة أو المسرحية ذاتها أحياناً».
فهل تحوّل آنذاك من شخصيته الهملتية، إلى الدون كيشوتية وهو يخوض عالماً ضبابياً وغامضاً، قبل أن يخرج منه بوضوح مفاهيمي يقيني، للإجابة عن سؤاله المزمن:
– كيف أتمرد، كيف أطلب العدالة، وأقدم للمتلقي مفاهيم مسؤولة ونظيفة وواضحة من مآسيه في الحياة وطلب التغيير؟
إن اعتماد صاحب «طيران نحو الجنون» على ما يسميه الذات الصافية للمبدع كي يرى، وشجاعة البراءة كي يتمرّد لم يعد سراً، بل أصبح لدى المثقفين والنقاد أداة مقاربة، ومنطلقاً معروفاً للمعارك التي يخوضها «وكانت تبدو ضرورية نتيجة الوسخ الذي حولي، ما كان يملأني برغبة في التنظيف» كما يقول.
وكذلك تشكله القومي ورفضه للاستعمار والاستغلال والصهيونية، وقناعته بأن الفكر الماركسي لا يزال مناسباً لهذا الزمن الراهن، بات من تراثه المكرّس.
شخصياً انتبهت إلى سرّه هذا، عندما سمعته يقول لأول مرة «أنا أسير في أرض «قشق» أي وعرة وغير مطروقة». وهذا ما يستدعينا سؤاله عن فكرة التمرّد في القرن العشرين، يجيب «إن فكرة التمرد ظاهرة ولدت مع الإنسان، وليست مرتبطة بالقرن العشرين، هي موجودة في الشعر العباسي ولدى المتنبي وأبو تمام وأبو نواس، ولدى ابن رشد في الفلسفة. وقد رأى عباس محمود العقاد أن «من الواجب أن نثور على أدب الموافقة، وكان طه حسين «في الأدب الجاهلي» ونجيب محفوظ في «أولاد حارتنا» من أوائل المتمردين الذين أعادوا إنتاج التاريخ العربي والإسلامي في القرن العشرين الذي شهد تيارات عبثية ووجودية وماركسية تنضوي تحت مفهوم التمرّد، بل لقد أصبح موضة في بلداننا، ألم يكن كولن ويلسون «اللامنتمي» بارزاً في الوطن العربي مثل الهيبز والبيتلز بينما كان مغموراً في أوروبا؟»
سلحفاة موديل 1941
عزّز ممدوح عدوان مبدأ النفور الإيديولوجي الساخر في حياته اليومية، فاقتنى سيارة فقيرة وقديمة موديل 1941 (تاريخ ميلاده)، ومضحكة المظهر. سلحفاة «فولكسفاكن»، وفاقعة الألوان، حمراء بنقط سوداء، كان يسير بها في شوارع دمشق، وكأنه يشتم سيارات المرسيدس والـ «بي. إم» والبورش التي اكتظت بها المدينة في النصف الثاني من القرن العشرين، ويقيم بهذا مقارنة بين بطر الفاسدين وحديثي النعمة والمسؤولين السلطويين وبين تقشف أبناء الشعب.
ولا تزال هذه السيارة حتى اليوم أمام بيته، ماركة مسجّلة تعلن الموقف ذاته، ويتضامن معها العابرون بالتصوير إلى جانبها للذكرى.
صوتي من رأسي
خرمش عدوان ثلاث مرجعيات سلطوية: الدينية، والعرفية، والسياسية، في مسرحيته «ليل العبيد» (1976)، التي مُنعت بعد عرضها الأول، على «مسرح الحمراء» في دمشق، بوجود النقاد والصحافة وشخصيات سياسية وحزبية بارزة، وقد علّقتُ آنذاك «ربما لأنك من أنصار «انظر إلى الوراء بغضب» المسرحية الشهيرة للكاتب البريطاني جون أربورن؟ فأجاب قبل أن أتم جملتي «بل من أنصار انظر إلى الماضي، والحاضر والمستقبل بغضب». لم يكن يحبّ الالتفاف على التمرّد والغضب والدعوة إلى التغيير في أسلوبه الإبداعي الواضح، ولا التستر وراء الشعارات الجاهزة، والحركات المرحلية، والحدود المرسومة، بل أراد تحديد بوصلته بنفسه إلى أبعاد طليقة، فكانت علاقته مع جمهوره حرّة، ومع موضوعه واضحة بلا غموض أو تأويل.
وتحت عنوان «كان صوتي من رأسي» الشعبي المفهوم، النخبوي الدلالة، مارس غضبه ومبدأه وخلقه، وقد غادر ممدوح عدوان الأحزاب التي تقاسمت الساحة السياسية باكراً، إنما ليتقاطع معها في الأهداف القومية والثورية والتحررية في سوريا والوطن العربي والعالم، وكان بهذا الموقع المتحرر من الاستراتيجيات المفروضة، والتكتيك السياسي المتحول، يختار الحرية الفكرية والعدالة الشعرية، والحق الأدبي الذي أعلن من فوق منبره، أن نكسة حزيران لم تنتهِ، مضيفاً من تيار النقد الذاتي للهزيمة «الأنكى من ذلك، كان المواطن العربي مقموعاً إلى درجة أن الحكومات كانت قادرة على منعه من الكلام». وآثر، بعد حزيران أن يكون صوته من رأسه، وبقي كذلك طوال عمره، فقد ترك حزب البعث الذي انتمى إليه منذ بداية الستينيات حتى عام 1968 «عندما صارت حرب حزيران، انقلبت رأساً على عقب، وفقدت علاقاتي بالتنظيمات كلها، وفقدت إيماني بها» يقول.
فكّك حيونة الإنسان إلى ظواهر واقعية ملموسة، وحقائق عاشتها البشرية بعدما ترسخت في الماضي قبل الحاضر
ومن اللافت أن صاحب «تهويد المعرفة» اختار، بعد ذلك، أن يساهم في مبادرات سياسية ذاتية: «ذهبت متطوّعاً مع الفدائيين ونزلت إلى الأغوار»، كما غطّى حرب 1973 كمراسل حربي. يوضح أحوال تلك الفترة بقوله: «كنت أكتب متخيّلاً أنني في القصيدة القادمة لا بدّ سأحرر فلسطين، وفي التالية سأقيم الوحدة العربية، متوهماً أن بإمكان القصيدة أن تفعل ذلك، وأصدرت الدواوين في سبيل ذلك، بعد ذلك نضجنا قليلاً، واكتشفت أن الشعر لن يغير العالم، وبدأت أكتب بهدوء، ولكن كان ما زال لدي هاجس سياسي واهتمام ومتابعة».
فهل كان التحوّل من العصيان الهجائي، إلى النقد الهادئ سبباً في ترسب مرارة أدبية، جعلته دائم السخرية اللاذعة، وبدل أن يعبّر بأسلوب جاف ومباشر، كان يعمد إلى النكتة؟، يجيب: «لا أثق بمن لا يضحك، أو لا يحب الضحك، وأكثر ما يغيظني هو الذي لا يفهم النكتة، كما إنني لا أثق بأي سياسي لا يقرأ الأدب، وقد كان معظم أصدقائي من العراقيين لأنهم يغنون.. فالغناء بوابة أخرى من بوابات الروح، ومنها تستطيع التواصل مع الآخر، وفي العمق، والذي تستطيع أن تضحك معه، أو تغني معه، هو الذي يمكن أن يكون صديقك في المستقبل».
كان مستنفراً طوال حياته للبحث والاطلاع والمبادرة، فقد أدرك أنه يسير في أرض «قشق» كما كان يقول، أي غير مطروقة أو ممهدة، فوجد نفسه مطالباً بتطوير العقل المعرفي لوعيه كشاعر، والبحث دوماً في حقائق التراث العربي والإنساني، والاطلاع باللغة الإنكليزية على أهم تجارب الفكر والأدب، الأمر الذي دفعه لمشاركة القارئ تجربته بالترجمة، والذاتي الذي جعله يجري محاكاة وحوارات وإحالات مع نفسه أولاً، كي يتمتع منجزه بالعدالة الشعرية التي يقصدها، بحسب قناعاته الفنية والإبداعية، والذي حوّله إلى محترف ثقافة يقرأ ويكتب ويترجم حوالى عشر ساعات في اليوم.
مسرح يهدم ويبني
أراد صاحب «حال الدنيا» تقديم مسرح طليعيّ، استند في تجربته الأولى إلى إعادة تأليف مسرحية «في انتظار غودو» للكاتب الإيرلندي صموئيل بيكيت.
وقد عالج في تجربته مفهوم العبث في الواقع العربي، حيث وجد أن «الانتظار في حياتنا يلقي ظله على كل التفاصيل، وأن للانتظار مؤسساته، والمنتفعين منه، والمخدوعين به، وضحاياه، وأن هناك وجوداً كاملاً قائماً على الانتظار». ولم يقدم انتظار بيكيت معدّاً بل مؤلفاً، وقد فسر علاقة مسرحيته بمسرحية بيكيت بقوله: «كالعلاقة بين بناء يقوم إنسان بتهديمه ويبني من حجارته مصنعاً». وربما كان إيمانه بأن المسرح فن قادر على تحليل ومناقشة الظاهرة السياسية وإعادة قراءة التاريخ والتراث من منظور منطقي آخر، هو ما دفعه إلى التأليف المسرحي، وسنجد في أعماله الأولى مثل «كيف تركت السيف» و«ليل العبيد» و«محاكمة الرجل الذي لم يحارب» صدى قصائده المتمردة في بداياته الشعرية.
«دون كيشوت» هافانا
يروي ممدوح عدوان مشاهداته أثناء زيارته كوبا (1984) بقوله: «في العاصمة هافانا رأيت بغتة تمثالاً مذهلاً لدون كيشوت على ظهر جواده، وبيده رمحه، إنها الصورة المألوفة لدون كيشوت، ولكن هذا التمثال كان محبوكاً من الخيزران، وقد أعطاه الخيزران قوة لا يمكن توقعها، إن قضبان الخيزران قد استطاعت إظهار عضلات الحصان بشكل لم يسبق لي أن رأيته في تمثال آخر، ثم انتبهت إلى دون كيشوت، ولأول مرة يبدو أمامي نحيلاً وقوياً وليس هزيلاً، ونحوله نحول شخص له عضلات وأعصاب متوترة، وهي أعصاب توحي بالعزم والقوة والإرادة والفحولة، نعم إن دون كيشوت الذي رأيته هناك هو صورة الرجل المثالي كما أراه، الرجل المثالي في مواجهة قدره وأي قدر؟ إنها المواجهة المستحيلة مع أخطاء العالم، وهو مدرك عظمة المسؤولية، وجسامة المواجهة، كأنه يريد القول: لا بدّ لي من المواجهة وليكن ما كان الثمن، وينطبق على هذا الموقف ما جاء على لسان هاربرلي: ليست الشجاعة في الحرب وحدها بل في أن تبدأ شيئاً تعلم أنك الخاسر فيه».
«حيونة الإنسان» انثروبولوجيا مضادة
يستند صاحب «القيامة» إلى أهم الأعمال الإنسانية الوضاءة، وتجارب مفكرين وأدباء عرب وعالميين، ويدرس آلية «حيونة الإنسان» في فصول متعددة، وتحت عناوين مظاهرها في الحياة البشرية الواقعية، فيصيغ منها أنثروبولوجيا مضادة لتاريخ السلطات القمعية.
ويوصف حالة حيونة الإنسان تحت عناوين تأملية (ورطة الإنسان الأعزل، هل نحن جلادون، صناعة الإنسان.. صناعة الوحش، ولادة الوحش بين الجلاد والضحية، القامع والمقموع، مسؤولية الضحايا، الجلاد الذي ينتقم من ماضيه، السلطة والتنمر، السلبطة السلطوية والشبيحة، الأخلاق المقموعة، مجتمع المقموعين أصل العنف، الدولة القمعية، الدين والحكم، الأنتي يوتوبيا، الحاشية، قلت للطاغية، الديكتاتور).
وتظهر العناوين السابقة إنّ تأمله لم يكن ابتعاداً عن الجمهور، بل إنه كان يفكّك حيونة الإنسان إلى ظواهر واقعية ملموسة، وحقائق عاشتها البشرية بعدما ترسخت في الماضي قبل الحاضر، وقد جعل عناوينه عالية النبرة، كعادته في التوجه إلى قارئه، وصرخة احتجاج قبل أي هدف آخر. إنه يرفع الصوت مع جورج أورويل، في روايته الشهيرة «1984»، «لا تدعوا هذا يحدث لكم، الأمر متوقف عليكم».
ويشير إلى أهمية فهم الذعر الذي أصابه من تحويل الإنسان إلى آلة أيضاً، ومن الأنظمة التي عملت على اعتبار أن الإنسان يمكن تحويله إلى آلة، كما حدث في رواية جورج أورويل «مزرعة الحيوانات»، ورواية يفغيني زامياتين «نحن» وهي أيضاً قصة هجائية تروي تحوّل الإنسان إلى آلة.
وحول تحوّل الإنسان بفعل قمع الحاجة والسلطة، يستشهد بالمسرحية الشهيرة «الرجل الذي صار كلباً» للكاتب أزوالد دراغون، التي عُرضت في سوريا مراراً، حيث يتحوّل العامل العاطل عن العمل إلى كلب بعدما قبل بتأدية وظيفة كلب لدى رب العمل.
وإذا كانت المجتمعات الصناعية تحوّل الإنسان إلى وظيفة، فإن كتاب «جغرافية الجوع» لجوزيه دي كاستروا، وهو خبير تغدية في الأمم المتحدة يحذر: «إذا تسلط الجوع التام على الإنسان صار سلوكه من العنف مثل سلوك الحيوان تماماً، فالجوع يهدم الشخصية، ويقضي على التجاوب الطبيعي بين الإنسان، وجميع مؤثرات البيئة التي لا تمت بصلة إلى إشباع غريزة الأكل، أما العوامل الأخرى التي تصوغ السلوك البشري، فلا يبقى لها أثر». وقد كتب دي كاستروا رواية حول حالة الفقر والجوع التي أوصل الاستعمار الناس إليها، وأبقاهم فيها، تحت عنوان «الناس والسراطين» حيث يتصرف الناس الجوعى، مثل مجموعة من السراطين الجوعى.
إن النماذج التي استند إليها ممدوح عدوان، تجعل نقطة الاستقطاب التي حددها «حيونة الإنسان» رؤية عامة، وليست خاصة بكاتبها. فاستطاع التحرك بسهولة في مجتمعات القمع و«السلبطة» التي يسيطر عليها الطغاة والديكتاتوريون، وإلى جانبهم عصابات الفساد والتشبيح والتنمّر. ومؤسسات السيطرة الاقتصادية والأمنية والثقافية، ولعلها المرة الأولى الأكثر وضوحاً في كتاب عربي يناقش الظاهرة لا النموذج الفردي.
يحدد صاحب «قفزة في الهواء» الاتجاه التراجيدي المتوحش الذي يسير إليه العالم كظاهرة، بأقلام مفكرين وأدباء عرب وعالميين، ولا يدّعي أنه يرسم للخروج اتجاهاً واحداً واضحاً، متفادياً الخوض في الإيديولوجيات المتداولة والشعارات السياسية المستهلكة.. ويقدم التوصيف والإدانة على سبيل المثال، لدى: طاغور، سارتر، غاندي، الكواكبي، سوفوكليس، البرتو مورافيا، هيرمان هيسه، ميشال فوكو، جاك لندن.
ويقول إيريك فروم في هذا المجال: «إن الإنسان يختلف عن الحيوان في حقيقة كونه قاتلاً، لأنه الحيوان الوحيد الذي يقتل أفراداً من بني جنسه، ويعذبهم دونما سبب بيولوجي أو اقتصادي لقد دلت الأبحاث والتجارب، برأي عدوان، إلى أن ما نصفه بالوحشية هو سلوك خاص بالإنسان». يوضح فروم أيضاً: «إن التجربة الإنسانية في هذا الاتجاه تسير إلى التوحش لأن السلطة فيها تؤدي إلى تحويل الإنسان الحي إلى جثة، ومن ثم إلى شيء». وفي كتابه «الخوف من الحرية»، يضيف فروم «إن دوائر النهب الاستعماري القديمة والحديثة بشكل المؤسسات الدولية، والدول القمعية والحروب العالمية والأهلية، وحالة الفقر والجهل والتخلف التي عاشتها المجتمعات الإنسانية، والتي ترافقت بالظلم والقهر والاستعباد والاستغلال جعلت الظروف الإنسانية تنحط إلى حالة الحيونة».
لا يضع ممدوح عدوان هذه الظاهرة في مجتمع أو إيديولوجيا أو عقائدية واحدة، وإلا لما كانت سيطرت على العالم بأكمله، بل يراها نتاج اتجاه إنساني تاريخي، ولا عند مهب تراشق التهم السابقة بين النظامين الشيوعي والرأسمالي، كما يؤكد أن التشوهات التي أصابت الفرد والمجتمع كافة كانت من تفشي القمع والمؤسسات القمعية التي تشيع العنف بكل مظاهره، وأنها ستترافق مع مؤسسات إعلامية وثقافية ترسخ هذا الاتجاه. ويقول آرثر سالزبورغ، مدير مؤسسة صحيفة «نيويورك تايمز» مبيناً أثر الإعلام: «أحجب المعلومات الصحيحة، عن أي إنسان، أو قدمها إليه مشوهة، أو ناقصة، أو محشوة بالدعاية والزيف، إذا فقدها، دمرت كل جهاز تفكيره، ونزلت به إلى ما دون مستوى الإنسان».
ويستشهد بكتاب «سيكولوجية الإنسان المقهور» لمصطفى حجازي «إن الإنسان في المجتمعات المقموعة يحسّ أن العالم قد تحوّل إلى غابة ذئاب لا يمكن الاطمئنان فيها حتى إلى أقرب الناس قرباً، ولا يمكن الثقة بأكثر الناس صدقاً، وتعمم نموذج التسلط والخضوع على كل العلاقات والمواقف من الحياة والآخرين والأشياء، وتسمم علاقة الرئيس بالمرؤوس والصغير بالكبير، والقوي بالضعيف، والمعلم بالتلميذ، والموظف ورجل الشرطة بالمواطنين».
ونجد في قصة «المهجع الرابع» لسعيد حورانية، التي تقوم على حدث واقعي وشخصية حقيقية، إن المواطن العادي منصور يختم قصته التي يحكيها للمساجين بهذه الأمنية: «أنا ما بدي شي من الدنيا، إذا عشت وانقلبت خيمة كراكوز هذه، يعني تغيير الأوضاع السياسية، ما بدي إلا أن أكون سجّان هؤلاء المجرمين، وقتها يا لطيف على النجوم بعز الضهر».
ويرى عدوان أن الاتجاه الذي تطورت به عملية الانحطاط الإنسانية إلى الحيوانية، كان متلاحقاً ومتسلسلاً بوجود الطاغية أو الديكتاتور ليقدّم تحليلاً قل مثيله في التأمل والمنطق والموضوعية بل والشجاعة في الكتب العربية، فيقول: «إننا منذ الثقافات البدائية، حتى ديكتاتوريات القرن العشرين، لا نزال وثنيين في تعاملنا مع الحاكم، وما زلنا نراه إلهاً، أو ابن إله، أو ظل إله، أو ذا صلة بإله ما، أو على الأقل ما زال هو راغباً في أن يقدم لنا نفسه على أنه إله أو من سلالة الآلهة».
رفض ما كرّسه التاريخ
يكتب ممدوح عدوان ليرفض بقلمه ما كرّسه التاريخ، ويواجه ما تفرضه الأحداث القاسية على المواطن السوري والعربي، لهذا فإن عالمه الأدبي كان دوماً طازجاً وجديداً ويقوم على مفاهيم فكرية واجتماعية وسياسية مختلفة.
وإن كان علينا أن نفهم تلك السهولة والغزارة والانسجام التي يتدفق بها إنتاجه الأدبي ليرسم عالماً أدبياً خاصاً موازياً للواقع المعاش، لكنه يختلف عنه بمفاهيمه وأفكاره، فإننا نلاحظ أنه ببساطة ينظر إلى الواقع من زاوية مختلفة يفسرها بقوله: «إن الفقراء يغيّرون الصورة من أساسها، لأنهم ينظرون إليها من موقع آخر، ومن زاوية أخرى».
ملحق كلمات