فيلم Minari
“ميناري”.. عن كل ما هو مهم في الحياة/ محمد صبحي
Minari
لدى الحديث عن ملحمة سينمائية أميركية خالصة، فالأمر يتعلّق بالأساس بنوع الويسترن، مثلما بشخصية الرائد، فاتح الأرض ومستعمرها. وإذا كان هناك أي شيء يحدّد فكرة الحلم الأميركي، التي لم تتوقف عن التحوّر طوال عقود، فهو الكفاح للوصول إلى أرض حرة وبكر، مفتوحة أمام احتمال جميع أنواع الأحلام الجماعية والفردية. في بداية القرن التاسع عشر، بدأت من المستعمرات الـ13 لأميركا الشمالية، عملية توسّع من شأنها أن تقود هؤلاء الرجال والنساء، ومعظمهم من المزارعين ومربّي الماشية الباحثين عن أفقٍ واضح، لإنهاء “الغزو”، وبحلول العام 1853، شكلّت تلك الأراضي “المحرَّرة” نواة الولايات المتحدة كما نعرفها اليوم.
اقترب الويسترن من هذه الرحلة، رحلة بلد في طور التكوين، كأسطورة، تنظمها علامات في طريق “الملحمة التأسيسية العظيمة للأمة الفتية”. في هذا السياق، يبرز مفهوم سوسيو-سياسي وفلسفي، مشبع، في الوقت نفسه، بالخيال والخوف: الحدود. هذا المكان الذي لا يمكن تمثيله في مخيلة المهاجر، حيث كل شيء -حتى الأكثر فظاعة- ممكن. عندما يتعلق الأمر بفيلم “ميناري” للمخرج الأميركي-الكوري لي إيزاك تشونغ، تحضر أصداء قوية لأفلام جون فورد الويسترنية: من التأسيس في “الحصان الحديدي”(1924)، إلى الولادة الجديدة في “الباحثون”(1956) – حيث اكتمل غزو الغرب الأميركي لكنه لم يكن قد رُوِّض بعد – من دون نسيان النسخة الحزينة من نهاية الغزو التي يمثّلها فيلم “خريف الشايين”(1964). يمكن القول إن “ميناري” دراما عائلية على الطراز الفوردي.
في العام 1965، وضع قانون الهجرة الأميركي حدّاً لنظام الكوتا وفقاً للأصول القومية، الذي كان أساس سياسة الهجرة الأميركية منذ عشرينيات القرن الماضي، ما سمح للمهاجرين من أميركا اللاتينية وآسيا في البدء، بالوصول بشكل مستمر إلى الولايات المتحدة. في أواخر السبعينيات، في ذروة موجة الهجرة الكورية، استقر والدا لي إيزاك تشونغ (1978 – دنفر، كولورادو) في مزرعة صغيرة في شمال غربي أركنساس، حاملين معهما أحلاماً ومشروعات وطاقة. يموضع تشونغ قصة فيلمه في الثمانينيات، أميركا رونالد ريغان وصعود الخطابات اليمينية والقومية، ليروي، بطريقة ما، سيرته وسيرة أسرته المهاجرة، تاريخه، صراعاته، تناقضاته، هوس المهاجر في أرض جديدة وبيئة غريبة بعادات وقيم وخصوصيات مختلفة تماماً عمّا عرفه في بلد منشئه.
يركز الفيلم على تجارب أسرة كورية مهاجرة تسعى إلى رسم طريقها الخاص لتحقيق الحلم الأميركي: الأب جاكوب (ستيفن يون)، الأم مونيكا (يري هان)، الإبنة آن (نويل تشو) والإبن ديفيد (آلان كيم). كانت لدى العائلة خبرة سابقة في كاليفورنيا، لكن جاكوب اشترى للتو قطعة أرض كبيرة في ريف أركنساس بغرض إنشاء مزرعة هناك، لزراعة الخضروات الكورية وبيعها للمجتمع الكوري المتنامي باستمرار في الولايات المتحدة. هذه طريقته من أجل تحقيق الحلم الأميركي. تنتقل الأسرة الصغيرة للعيش في منزل متنقل جاهز، في أحد أركان أرضها المُعدّة للزراعة حيث سيتعين عليهم نسيان وسائل الراحة النموذجية لحياة المدينة، فيما مونيكا، لا تخفي استياءها وخيبة أملها. كلاهما يؤدي وظيفة رتيبة تتمثل في فصل الكتاكيت الإناث، والتي ستُستخدم لاحقاً لوضع البيض، عن الذكور الذين سيتم التخلّص منهم مباشرة.
البدايات ليست سهلة على الإطلاق، لكن (وعندما يبدأ التوتر في الازدياد) سرعان ما تصل الجدّة سونجا (الأسطورية يون يوه جونغ)، والدة مونيكا، في محاولة متأخرة لتأدية دور الجدّة الذي لم تتقنه قطّ، والمساعدة في ضبط أشرعة سفينة الأسرة المتضاربة. المشكلات الطبية لديفيد المصاب بانسداد الشريان التاجي، ونقص المياه، وصعوبة تسويق الحصاد، والتأزّم المستمر بين الزوجين، ومحاولات الذهاب إلى الكنيسة المحلية للاندماج أكثر مع المحيط… كل مشهد في “ميناري” له معنى ومنطق، كثافة درامية، عمق نفسي، روح إنسانية. رغم أن تراكم المصائب في بعض الأحيان يأخذ الميلودراما إلى مناطق غير مريحة.
في الفيلم، تأخذ الأمزجة السينمائية منحى حاسماً مثل تلك النظرة الطفولية التي يعتمدها الإبن ديفيد، الأنا الصغيرة للمخرج، في مقاربة عادات وديناميات أسرة مهاجرة يتنازع هويتها، في الوقت نفسه، مَيْلان: كوري وأميركي. الشكل المجازي المتجذر في هذا التحديث لسرديات المكتشفين والأراضي المجهولة وصدامات العادات، هو النبتة التي تعطي الفيلم عنوانه. فالميناري، وهو الاسم الشائع لنبات Oenanthe javanica، عشبة مُعمّرة معروفة في كوريا على نطاق واسع، وتتمثل ميزتها الأساسية، على حد تعبير الجدّة في الفيلم، في قدرتها على النمو في أي تضاريس أو تربة. يكافح جاكوب ومونيكا في كثير من الأحيان، ضد الظروف المعاكسة. وولداهما ديفيد وآن، وحتى الجدّة، وجميعهم، بهذا المعنى، بذور ميناري.
الابتعاد عن استعارات أحدث الإنتاجات السينمائية الأسيوية-الأميركية المستقلة – من “كولومبوس” (كوغونادا، 2017) إلى “ذيل النمر” (آلان يانغ، 2020) مروراً بـ”الوداع” (لولو وانغ، 2019) – هو أجمل ما في “ميناري” الذي يلعبها بذكاء، متشرّباً روح جون فورد ليروي قصّة “روّاد” آخرين، من غربٍ أقصى آخر، وحدود أخرى. يعيد اختراع سردية الهجرة التي شكّلت أميركا المعاصرة، انطلاقاً من التعايش بين الخيال والذاكرة، بين الأحلام والواقع القاسي، بين توترات وجود صعب وشاق. يتجنّب تشونغ الوقوع في فخّ الغوغائية كما استجلاب الملحمية إلى فيلمه. صحيح، هناك طفل استعطافي في كل مشهد تقريباً، لكنه قادر أيضاً على إحداث أذى شديد (مثل تقديم البول إلى جدّته بدلاً من الماء).
هناك سمات من اللطف والتضامن والحب، لكن هناك أيضاً عدم فهم وخيبة أمل وانزعاج. بناء كلاسيكي وحساسية فيها من الصدق والعاطفية ما يكفي لإقناع جمهور عريض، وحتى لتلقّيه جوائز مهمة. “ميناري”، بهذا المعنى، هو أحد أفضل المقاربات الحديثة لمعضلات المهاجرين الآسيويين (الكوريين) في أرض الفرص (والإحباطات) التي هي الولايات المتحدة.
لا يقتصر التأثير الفوردي على النهج العام لرواية قصة الفيلم فحسب، بل يتعدّاها إلى تفاصيل الروابط الناظمة لمكونات الفيلم نفسه، من أحداث درامية وتكوينات جمالية. عمل الأسرة وكفاحها لإبقاء رأسها فوق الماء، والملاحظات الميلانكولية لبول (ويل باتون)، العامل الأميركي الممسوس-المتدين الذي يساعد الأب في زراعة الأرض، والمشاهد التي لا توفّر جهداً في توضيح وجبات الطعام، وأيام العمل، وطبيعته، وألعاب الورق، أو لقاءات الكنيسة؛ تؤكد ما يربط الفيلم بأسلوب المعلّم الأميركي الأول. في المشاهد الداخلية أيضاً، تبرز تلك التوافقات الموضوعية والأسلوبية بين “ميناري” وأفلام فورد، بتتبُّع “الميزانسين” للعلاقات بين الشخصيات والأحياز والمساحات، بينما في المشاهد الخارجية، يكون لعمل المخرج الأسبقية، في تأكيد المزاج الملحمي للسرد. تعدد طبقات المعنى السيرفانتيني الذي ظهر، على سبيل المثال، في أعمال مثل “فورد أباتشي” (1948)، يعيد هنا نبلاً ضائعاً للسينما الأميركية: في مواجهة ديماغوجية “الفوز” الأميركية، يتعاطف تشونغ، بالقدر ذاته، مع مغامرة جاكوب وإحباط مونيكا المتزايد. من ناحية أخرى، تتردد أصداء شخصية موس هاربر من فيلم “الباحثون” (1956) في شخصية بول: في الإثنين، شخصيات ثانوية تدعوهما الحبكة في الوقت المحدد لإبراز البعد الروحي الحقيقي لفيلم يسائل فكرة الإيمان على نحوٍ معقّد، من داخله لا من خارجه، عبر إخضاعه لتمثيلات طبيعية (كالفصول وتغيرات الطقس)، لكن بشكل أساسي، للنظام الاقتصادي الذي -على عكس تلك الرأسمالية البدائية اليوتوبية التي صوّرها فيلم “سيّد العربة” (1950)- فَقَد رسوه في المجتمع.
ما يجعل الفيلم رائعاً هو العالمية التي يستدعيها خطابه من صورٍ تشفّ ما تحتها من سطح رائق، بقدر ما تكتنزه، في النهاية، من ثقل الإنجازات الفنية والأدائية الرائعة. من الصعب الإشارة إلى موضوع مركزي في فيلم تشونغ. ربما يمكن تلخيص”ميناري” كفيلم روائي طويل يتحدث عن كل ما يهمّ، أو يجب أن يكون مهماً في الحياة. إنه، بأفضل معنى ممكن للكلمة، وقت مستقطع: إعادة بناء لحياة حميمة مستعصية في العصر الذي نعيشه. قلة نادرة من الإنتاجات الأميركية الحديثة -يتبادر إلى الذهن “المهاجرة” (جيمس غراي، 2013) و”لافينغ” (جيف نيكولاس، 2016)- عرفت كيف تتحدث مثل “ميناري”، باقتناع صادق وصراحة حميدة، حول الكرامة الأساسية للبشر وهذا التحدي المتأصّل في الوجود نفسه، الذي يستلزم مواءمة رغباتنا العميقة مع الروابط العاطفية التي تربطنا بمن نحبّهم.
المدن
فيلم «Minari»: قصة ذاتية عن الجميع
هذا فيلم للأطفال صنع للعالم الذي يجب أن نسكنه وليس الذي نوجد فيه بالفعل، فيلم من دون أشرار. لا مشاهد قتال. لا كبار مروعين. لا صراع بين الطفلين. لا وحوش مخيفة. لا ظلام قبل الفجر. عالم وديع. عالم حيث إذا قابلت كائناً هائلاً في الغابة سوف تستلقي على بطنه الضخم وتأخذ قيلولة.
تلك ليست حبكة فيلم ميناري minari بالضبط لكنها مقدمة مقال الناقد الراحل روجر إيبرت عن فيلم جاري توتورو (my neighbour totoro) لهاياو ميازاكي، يصف إيبرت عالم الفيلم بالوداعة والرقة، بانعدام الشر حتى مع وجوده البديهي، فوالدة الفتاتان بطلتا الفيلم ترقد مريضة في المشفى لكن ينتهي ذلك على ما يرام وحينما تتوه إحداهما وتركض الأخرى باحثة عنها تجدها سليمة ضاحكة وقد وجدت كائناً ضخماً في الغابة يجب أن يكون مخيفاً لكنه ألطف ما يكون.
يملك فيلم ميناري لأيزاك لي شانج نفس تلك القومات، فيلم عن أسرة تهجر وطنها كوريا الجنوبية بحثاً عن حياة أرحب في أمريكا أرض الأحلام والحريات، تواجه مصاعب اقتصادية وشخصية، يختلف الزوجان في طريقة إدارة الأزمات والمشكلات اليومية، نرى الفيلم من وجهة نظر طفل في السابعة يملك قلباً ضعيفاً، لكن كل شيء ينتهي على ما يرام، وتبدو مشكلات الحياة الكبرى كمصاعب يمكن تخطيها بالرفق والحب إذا رأيناها بعيني طفل، لاقى الفيلم ردود أفعال إيجابية من النقاد حول العالم وفاز بجائزة الجولدن جلوب لأفضل فيلم بلغة أجنبية كما ترشح لست جوائز أوسكار من ضمنها جائزة أفضل فيلم.
يسرد ميناري قصة أسرة يي الكورية الأمريكية بدءاً من نقطة رحيلها عن كاليفورنيا للاستقرار في مزرعة في أركنساس. تتكون الأسرة من الزوج جيكوب يلعب دوره ستيفن يون بدقة وهدوء، والزوجة مونيكا (هان يي ري)، وأبنائهما آن وديفيد، يفتتح وجه ديفيد (ألان كيم) الابن الأصغر الفيلم متأملاً خارج نافذة السيارة التي تنقل الأسرة إلى بيتها الجديد يؤسس ذلك لوجهة النظر السردية للفيلم، فهو إضافة لكونه حكاية عن الهجرة، الاغتراب، التأقلم والانتماء هو تجميع لشذرات من ذكريات طفل يسترجع انطباعاته عن حياته الأسرية والأرض التي قطنها واضطراب هويته الثقافية والشخصية.
عندما تشاهد ميناري سينتابك شعور أن تلك هي ذكريات أحدهم، لا يملك الفيلم سرداً متشظياً أو صوراً حلمية لكنه يركز على تفاصيل حسية ترتبط بتصوير الذاكرة للماضي، انعكاس الشمس على الماء، وصوت السير وسط أرض عشبية ضخمة، اختبار رؤية ذويك يتشاجران لأول مرة ومغامراتك مع الجدة، الفيلم ليس تجريبياً مثل شجرة الحياة لتيرانس ماليك أو المرآة لأندري تاركوفسكي الذي يشترك معهما في سرد تداعى من وعي الطفولة، بل يستخدم منطق الذكريات ليصنع قصة تقليدية ذات نبضات مألوفة ومعتادة وربما متوقعة أكثر من اللازم، لكن ما يميزه عن أفلام أخرى تناولت نفس الموضوعات والفترة الزمنية هو ابتعاده عن فرض أيديولوجيا قومية مقحمة أو صلبة بل يلقي بما يتذكره للعالم ويترك له حرية الشعور والتأويل.
يبني لي شانج فيلمه مما يتذكره عن انتقال عائلته في ثمانينيات القرن الماضي إلى ولاية أركنساس بالولايات المتحدة، يتبنى الفيلم وجهة نظر ديفيد في معظم أحداثه وحتى عندما يبتعد السرد عنه يظل هو ما ترجع إليه الأحداث ، مما يجعل فيلماً عن معاناة المهاجرين في أرض غريبة أكثر خفة وشاعرية من سرد حقائق اجتماعية وسياسية أو معاناة فردية، يقول شانج إن وقت كتاتبه للفيلم كانت ابنته في مثل عمره عندما انتقل إلى أركنساس فكتب كأنه يرى بعينيها، ويشير لذلك التعدد في وجهات النظر السردية بأنه يحاول تلبس كل شخصية يكتبها، فهو ذلك الطفل الذي يختبر الأحداث الرئيسية وهو الزوج الذي يواجه مشكلات في علاقته الزوجية وحالته المادية، بل ويتبنى أيضاً صداقات الزوج الجديدة، فكأنه يعايش عدة أجيال من المهاجرين تتمثل في ذاته القديمة عندما كان طفلاً ثم عندما أصبح أباً لديه أولاد.
ولد ديفيد مثل شانج في أمريكا، لذا لا تتعلق مشكلته الأساسية بالتأقلم وبالانقلاع من أرض وثقافة اعتادها بل ذلك هو كل ما يعرفه، الغريب عنه هو القادم من جذوره، تتغير حياة ديفيد عندما تأتي جدته والدة أمه سون جا (يون يوه جونج) للسكن مع الأسرة، تلعب جونج دور الجدة الغرائبية الجريئة بخفة ظل مؤثرة وتقدم أداء من أفضل أداءات العام، إذا كان الفيلم هو رحلة نضوج ذلك الطفل، فإن العامل الرئيسي في ذلك هو تواصله مع الجدة التي تمثل كل ما هو أجنبي عنه، وبسببها يصبح أكثر تعاطفاً وفطنة وانفتاحاً على فرضية تعدد الثقافات.
النمو في أرض غريبة
ميناري هي اسم نبتة يمكنها أن تنمو حيث زرعت، يستخدمها لي شانج كمجاز مباشر لكنه مؤثر، عائلة يي تحاول أن تنمو أينما وجدت، وتثقل عليها التنقلات المتعددة سواء من كوريا في الأساس أو حتى داخل الأراضي الأمريكية بعد ما أصبحو مواطنيها، لكن شانج لا يصنع فيلماً عن الفروق الثقافية بين كوريا وأمريكا، على الرغم من وجود بعض الحوارات ذات الغرض الكوميدي بين ديفيد وجدته فإنها لا تؤطر الفيلم كمحاولة مبتذلة أخرى لخلق الكوميديا من الاختلاف، هو ببساطة فيلم عن التأقلم، عن نبتة تقتلع من أرضها لتنمو مرة أخرى في أرض جديدة.
تتمحور تلك الخلافات بشكل أساسي حول السيطرة الثقافية للإعلام الأمريكي على العالم، تلك المركزية تقلل من اقتناع ديفيد بجدته كجدة حقيقية فهي ليست كافية بالنسبة للصورة الذهنية النمطية التي كونها عن الجدات، هي ليست مثل أولئك في الأفلام وبرامج الأطفال التي يستهلكها، ليست متقوقعة على ذاتها تغزل الكنزات الصوفية ولا تصنع «الكوكيز» أو تحكي القصص، هي سيدة كبيرة السن سليطة اللسان تعرف كيف تستمتع بوقتها، ورائحتها مثل «كوريا».
يخرج الفيلم الجدة نفسها أيضاً من الفكرة الراسخة عن تمسك الكبار بهوياتهم القومية بشكل متجهم هي تفتقد أرضها بالفعل لكنها لا تقلل من ثقافة الصغار بل تحتضن ما تراه جديداً مثل المشروبات الغازية الأمريكية على سبيل المثال.
تصنع تلك الديناميكية سردية مضادة لسردية الصراع بين الأجيال المعتادة في الأفلام المعنية بالهجرة أو الهوية المزدوجة، لا يصل الفيلم لخاتمة تفيد بأن الأصالة الشرقية هي الأصلح أو أن الحداثة الغربية أكثر ملاءمة لكنه يلمح بشكل مبطن إلى هيمنة ثقافة على أخرى دون ضجيج وعظي بل كأمر واقع، لكن تلك هي النقطة فتلك الأسرة ليست مجرد أسرة مهاجرة تبحث عن هوية أو جذور بل هم مواطنون مزدوجو الهويلة يمتلكون أسماء أمريكية ووجوهاَ آسيوية وتاريخاً طويلاً تختلط فيه الجذور الشرقية بالغربية.
ورغم محاولاتهم في الاندماج والانتماء الكامل فإن من حولهم يعاملونهم كآخر أجنبي من حين لآخر حتى على سبيل الكياسة، في أحد المشاهد تذهب الأسرة لحضور قداس الأحد لأن مونيكا الزوجة تشعر بالوحدة والاغتراب، فتعاملها النساء الأمريكيات باعتبارها “لطيفة” بسبب ملامحها الرقيقة المميزة ولغة جسدها المهذبة، يمتد ذلك التغريب إلى عالم ما خارج الفيلم، ميناري فيلم أمريكي يحكي قصة فئة كبيرة من الأمريكيين الآسيويين ذوي إنتاج أمريكي أنتجته شركة أمريكية، لكن عندما التفتت له لجان توزيع الجوائز مثل الجولدن جلوب وضعته في فئة الآخر “أفضل فيلم بلغة أجنبية”، امتدادا لرؤية هوليوود وأمريكا لذاتها كمركز للكون والثقافة، وكل من لا يتحدث بلسانها بنسبة أقل من خمسين في المئة فهو أجنبي عنها.
عالم دون أشرار
منذ بداية الفيلم يتصاعد التوتر بين جيكوب وزوجته مونيكا، فكلاهما يملك منظومة فكر مختلفة لما يجب أن تكون عليه حياة الأسرة، يتراشقان بالكلمات، يحتدان ويختلفان عن صحة قرارهما بالانتقال وأحياناً يتحول النقاش إلى شجار مشتعل، تشغلهما صحة ديفيد العضو الأصغر في الأسرة، والذي ولد بثقب في قلبه، يضع الفيلم تلك الحقيقة كتهديد محتمل منذ البداية تحذره والدته من الركض والمجهود الزائد، وتنصحه بأن يدعو الله أن يرى الجنة، فيصبح الموت جزءاً رئيسياً من وجوده الفتي، لكن في وقت لاحق يتم إعلام الأسرة أن ذلك الثقب قد بدأ في الالتئام، في نفس الوقت الذي بدأت فيه علاقة جيكوب ومونيكا في التفسخ.
يحاول جيكوب أن يصنع مزرعة أحلامه، قطعة أرض شاسعة يطمح أن يملأها بالثمار الطازجة ويتكسب منها وتعيش أسرته من خيرها، يملك نظرية محددة وهي إذا كان حولهم في أمريكا كل هؤلاء المهاجرين الكوريين فلمَ لا يخصص زراعته للثمار التي يفتقدونها من الوطن؟! يواجه صعاباً متعددة من نقص الماء إلى قلة الأيدي العاملة ورأس المال، يقرر مساعدته رجل أمريكي يملك نزعات دينية روحانية غرائبية لكنه يملك روحاً نقية، يعامل جيكوب كأخ ويخف عنه عندما يجزع، في قصة كتلك يمكن توقع أن يقع في طريق الأسرة شخص عنصري مؤذ لكن على العكس تماماً فإن المساعدة الخارجية تأتي من شخص يكاد يكون منزلاً بشكل إلهي لكي يقدم العون.
في الثلث الأخير من الفيلم تتحول الأجواء التي تتبدل بين الرقة والتوتر إلى تصاعد قاتم يهدد حياة أفراد الأسرة ومصدر دخلهم بل ومحل سكنهم، لكن تقوي تلك الخسارة الكبيرة من الروابط بينهم، تجمعهم وتذيب خلافاتهم، تعطي فرصة ديفيد أن ينضج ويتغلب على مخاوفه في سبيل إنقاذ من يحب، ولجيكوب ومونيكا أن يعيدا تقييم علاقتهما واستيعاب كم الحب القابع خلف الوجوه المتجهمة والآراء المختلفة.
ميناري فيلم يدمج العام والخاص في قصة ذاتية لكنها كونية، قصة كاتبها ومخرجها الشخصية لكنها أيضاً تصبح كقصة عن الجميع، يواجه فيها الأفراد مصاعب تبدو أبدية لا حل لها لكن في النهاية يلتئم الثقب ويصغر الصدع وتنطفئ النيران ويستعد الجميع لبداية جديدة للنمو أينما ألقت بهم الحياة.
Winner Oscar | Best Performance by an Actress in a Supporting Role Yuh-Jung Youn |
Nominee Oscar | Best Motion Picture of the Year Christina Oh (producer) |
Best Performance by an Actor in a Leading Role Steven Yeun | |
Best Achievement in Directing Lee Isaac Chung | |
Best Original Screenplay Lee Isaac Chung (written by) | |
Best Achievement in Music Written for Motion Pictures (Original Score) Emile Mosseri |
لمشاهدة الفيلم اتبع أحد الروابط التالية