أطروحات في الظاهرة الاستبدادية/ سيف الدين عبد الفتاح
في إطار استكمال الأطروحات المهمة حول الظاهرة الاستبدادية، فإن خمس كتابات أخرى يمكن الوقوف عليها لمعالجة هذه الظاهرة، خصوصا حينما ترتبط بظواهر أخرى، أو بأحداث كبرى. تتشابك هذه الظواهر المختلفة مع حلقات الاستبداد وأشكاله المتعدّدة، مثل ارتباط مسألة الاستبداد الشرقي بالمجتمعات النهرية وعلاقة الاستبداد بانتقال السلطة، وكذلك علاقة تلك الظاهرة بأشكال مقاومتها ومواجهتها والضمانات الكفيلة بالتعامل الفعال معها. ويأتي عالم الأحداث المتعلق بالثورات العربية ليمثل انفتاحا لأبوابٍ جديدة في معالجة الظاهرة الاستبدادية، وتشريحها ضمن الحالة الثورية من غير غفلةٍ عن رصد جذور الظاهرة، وكذلك النظر إلى تلك الثورات باعتبارها مدخلا للخلاص من الاستبداد.
وعلى الرغم من أن هذه الكتابات جميعا تشكّل رؤىً من زوايا مختلفة، تحاول دراسة هذه العلاقات وتلك الأحداث، فإن الأمر لا يزال يحتاج إلى دراسات في تلك الظاهرة، تقدّم مزيدا من الرؤى والمداخل؛ وربما يكون البحث في هذا الأمر واجب الوقت، بحيث تُفتح ملفات هذه الظاهرة بالدراسة الواجبة والمنهاجية المناسبة، وأطر التحليل والتفسير اللائقة، في محاولة سبر أغوار هذه الظاهرة والوقوف على مفاصلها وسبل مواجهتها. هذه الدراسات المشار إليها لا تزال تمثل امتدادا وتفاعلا وتواصلا مع كتاب عبد الرحمن الكواكبي “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد..”، من جانب، ومع الواقع المعاش من جانب آخر.
أشار حسين الهنداوي في كتابه “استبداد شرقي أم استبداد في الشرق؟” (دار المدى للثقافة والنشر، بغداد، 2016) إلى أن مفردات الطغيان والاستبداد والدكتاتورية حاضرة في الحياة اليومية، بتجلياتها السياسية والاجتماعية والثقافية، مؤكّدا أن المفردات الثلاث تتبادل المواقع وتتعاقب مرحليا في التوظيف، مشيرا إلى أن دراسته تهتم أكثر بمفهومي الاستبداد والطغيان، وهو أميل إلى أنهما يحملان المعنى نفسه. وخلص إلى أنه ليس هناك استبداد شرقي أو استبداد غربي، وإنما هناك استبداد بشع هنا أو هناك، في الشرق كما في الغرب. وقد ناقش هذه الفكرة من خلال عدة موضوعات، تمثلت في الاستبداد الشرقي ما بين الخرافة والتاريخ، وتناقضات التأسيس الأرسطي لمفهوم الاستبداد الآسيوي، وشرقنة واقع غربي جدا، واختراع الشرق بوصفه ضدّا، والاستبداد الشرقي باعتباره حتمية مناخية عند مونتسكيو، والاستبداد الشرقي حماقة بشرية عند بولانجيه، والاستبداد قدرا شرقيا عند هيغل وقسرية نمط إنتاج آسيوي عند ماركس، والاستبداد الشرقي كدونية عرقية عند رينان وسلطة العبيد أو الاستبداد التابع. يحتاج مدخل الاستبداد الشرقي وتمييزه عن ذلك الاستبداد الغربي إلى نقد تلك المقولة وتفكيكها بالمنهجية العلمية والوعي بالسياقات المختلفة، ورصدها في إطارها التاريخي وعمقها الفكري.
وحاولت دراسة مهمة مترجمة، تقديم منظور جديد، خصوصا حينما ترتبط تلك الظاهرة الاستبدادية بمسألة انتقال السلطة والكيفيات التي تتعلق بظاهرة التحوّل؛ فقد قدمت باربرا قديس وجوزيف رايت وإريكا فرانتز، في الدراسة الصادرة تحت عنوان “سقوط الاستبداد وانتقال السلطة: نظرة جديدة “، ترجمة غادة بن عميرة، بيانات توفر معلومات عن انتقال السلطة في أكثر من 280 نظاما استبداديا (في 110 دول ذات تعداد سكاني يتجاوز المليون نسمة)، والتي وجدت في السلطة بين عامي 1946 و2010. وتوضح البيانات هذه كيفية ترك الأنظمة السلطة، ومقدار العنف الذي ينتج عند انتقال السلطة، وهل كانت الأنظمة السابقة واللاحقة استبدادية أم لا. وفسّرت الدراسة أيضا مجموعة البيانات، مبينة الكيفية التي يساهم فيها استخدام البيانات التي تعبر عن المعنى المتعارف عليه لمفهوم النظام في تغيير الأجوبة الأساسية عن انتقال السلطات، وكيف توفر أمثلةً توضح الفائدة العملية لمجموعة البيانات هذه.
تناول راشد الغنوشي، في كتابه “الحريات العامة في الدولة الإسلامية” (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1993) في قسمه الثالث موضوع الاستبداد، تحت عنوان “ضمانات عدم الجور أو الحريات العامة في النظام الإسلامي”، مشيرا إلى مفهوم الاستبداد، وإلى المبادئ الأساسية لمقاومة الجور في الدولة الإسلامية، سواء من خلال مشروعية الله العليا ورقابة الشعب واعتبار الإمامة عقدا، والقرب من الناس وعدم الاحتجاب والبعد عنهم، ومبدأ فصل السلطات أو تعاونها، وكذلك تعدّد الأحزاب للوقاية من الاستبداد، بالإضافة إلى ضمانات أخرى لمنع الاستبداد، وكيفية تفسير ما ظهر من استبداد في تاريخ الإسلام. ويشكل هذا الإسهام للغنوشي البيئة التي يمكن أن تكون حاضنةً لمنظومة الحريات العامة، ويقدّم ذلك ضمن سياقات مرجعيته الإسلامية، وهو ما يمثل، في حقيقة الأمر، إسهاما متميزا للوقوف على تلك الظاهرة، وأهمية هذا المدخل.
وقد حظيت ظاهرة الربيع العربي باهتمام ما يزال محدودا في تفكيك العلاقة بين هذه الظاهرة والاستبداد، حيث تضمن كتاب “الربيع العربي: ثورات الخلاص من الاستبداد .. دراسة حالات” (شرق الكتاب، بيروت، 2013) عدة دراسات تناولت الربيع العربي وعملية الانتقال إلى الديمقراطية، وكذلك التجارب والخبرات العربية بعد الربيع العربي، سواء في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين والمغرب والأردن والجزائر. ومع الإشارة إلى موضوع النساء في الثورات العربية، وكذلك دور الإعلام الاجتماعي في الثورات العربية.
كما حاول مصلح خضر الجبوري، في كتابه “جذور الاستبداد والربيع العربي” (الأكاديميون للنشر والتوزيع، عمّان، 2014)، رصد جذور الاستبداد منذ فجر الحضارة الإنسانية، حيث أشار إلى الآلهة والأديان وأنظمة الحكم في الحضارات القديمة، وكذلك الكنيسة ودورها في الحروب الصليبية، وهي الحروب التي وقعت خارج أوروبا، أو دورها في الحروب التي وقعت داخلها، وعرفت بحرب الثلاثين عاما. كما رصد الكتاب الأنظمة الشمولية والاستبدادية في أوروبا، سواء الفاشية الإيطالية أو النازية الألمانية أو الاتحاد السوفييتي. ورصد كذلك آفاق الديمقراطية ومستقبلها في إندونيسيا، مشيرا إلى المشكلات التي تعترض الديمقراطية في إندونيسيا، وكذلك الحركات الانفصالية، وأثرها على الديمقراطية في البلاد. ورصد كذلك التحدّيات التي تواجه الديمقراطية ومستقبلها. كما خصص الكتاب قسما للربيع العربي، تناول من خلاله المفهوم والأسباب والنتائج، وكذلك المواقف الدولية والإقليمية، ورصد التداعيات المحتملة للربيع العربي على المنطقة.
من المهم إذا أن نؤكد أن الظاهرة الثورية، بطبيعتها، تفتح الباب واسعا لمعالجة الظاهرة الاستبدادية، والتي تشكل، في حقيقة أمرها، تحدّيا من أهم تحدّيات رؤية التغيير من خلال فعل تلك الثورات، وما تشكله هذه الظاهرة من عقباتٍ حقيقيةٍ، ربما تسهم، في النهاية، إلى إجهاد هذه الثورات، والالتفاف عليها أو إجهاضها، والعودة إلى الوراء. ومع ذكر تلك الدراسات المختلفة، ودراسات أخرى أشار إليها مقال سابق؛ فإنها لا تزال نادرة وقليلة معالجات هذه الظاهرة، على الرغم من أنها من أخطر الظواهر التي تواجه عمليات التغيير في بلداننا. وربما تعود ندرة هذه الدراسات ذاتها إلى المناخ الاستبدادي الذي يشرعن لذاته مسوّغا لكل السياسات الفاشية التي يمارسها، وباستخدامه كل الأدوات والمسالك الطغيانية. ويكشف هذا الأمر النقاب عن ضرورة القيام بما يجب لتأسيس علم للاستبداد، يقارن علم السياسة، ويقدّم رؤى واستراتيجيات متكاملة في فهم الظاهرة الاستبدادية والقدرة للوقوف على جذورها، والعوامل التي تكرس وجودها واستمرارها.
العربي الجديد