أكتبُ لأن الكتابة هي منقذتي/ بيغونيا أباد
ولدت بيغونيا أباد في قرية بيّاناسور الصغيرة من مقاطعة بُرْغُش شمال إسبانيا عام 1952. بدأت رحلتها في كتابة القصص لأولادها ثم كتبت قصصًا للكبار، قبل أن تكتب الشعر؛ وهي التي تقول عن نفسها: أنا لست شاعرة، أنا أنظم الشعر وحسب. وتوضح في إحدى المقابلات التي أجريت معها بأن الكتابة بالنسبة لها أمر طبيعي، لكن جعْلَ ما تكتبه مرئيًا، بمعنى أن تصبح هي ذاتها مرئية، كان أمرًا آخر. حازت عام 2006 على الجائزة الأولى في الأدب من جامعة لوغرونيو الشعبية.
بعد مجموعتيها الشعريتين (بيغونيا قيد الإعداد، 2006) و(مقاس أمي، 2008)، نشرت بِيغونيا (كيف تتعلم أن تطير) عام 2012، حيث عكس هذا الديوان تجربتها الخاصة لمدة خمسين عامًا كانت قد عاشت فيها حياةً لم تكن لها، كأم وزوجة متفانية خاضعة للدور الذي لطالما أناطه التاريخ بالمرأة. ولم تجد لها من ملجأ سوى الشعر الذي به استطاعت أن تعيش كما تقول في إحدى قصائدها “في الخمسين من عمري طلع لي جناحان”. وقد نُشرت أعمالها في العديد من المجلات والمختارات الشعرية، كما أنها شاركت في العديد من الملتقيات الشعرية وتشغل حاليًا منصب نائبة رئيس نادي ريوخا الثقافي في لوغرونيو.
إننا أمام كاتبة تسمح للدهشة أن تأخذها في هذه التجربة التي تدعى الحياة. وقد أشاد الشاعر الإسباني المعروف أنطونيو كرِسبو ماسيو بها في مجلة “بيينتو سور” مؤكدًا أنها عرفت أبدية الحاضر العابر، الأمر الذي جعلها تحلّق، صوب النور دائمًا لتقدم لنا هذا التحليق كهدية.
(ترجمتها عن الإسبانية: مها عطفة)
كيف تتعلم أن تطير
قال لي: أحب الاختصار،
سأحبك طالما أنا حي.
***
انظرْ كيف يعثر الماء
على البحر
وسترى الحياةَ، يا حياتي
في بحثٍ عن الضوء.
***
لمّا قمتُ بالخطوة الأولى
لم أتخيّل قط مسار الطريق،
كانت مجرّد خطوة اندفاعية،
أتذكركَ أمامي،
باسطًا ذراعيك
مُحَدّقًا بي
ما الذي كان بوسعي أن أفعله سوى أن أتقدم؟
لم يكن هناك خط مستقيم أقصر
وبدأت أسير كي أصل إليك.
قضيتُ عمري كله أخطو تلك الخطوة
ولم أحظ بعد
بأن تنقذني ذراعاك
من هذا السعي المنهك للعيش.
***
لقد غيرتُ حياتي جذريًا
من قبل كنت أعيش مع وحدتكَ،
الآن أعيش بصحبتي.
***
إلى أولادي
ما زلتُ أحيا
فقط لأجل أن يكون لديك
مكان تعود إليه دائمًا.
***
إلى خوان باردو
يبدو الأمر كما لو أن بشرتي
تغدو ماءَ عسلٍ.
مراعاةُ الكلمات،
وكأنها قطيعٌ مقدس،
مسؤوليةٌ تخيفني.
***
إن أتيتِ يومًا إلى حياتي،
لا بدّ لي أن أوضّح لك أنك إلهة.
أنه لا يحق لأحد أن ينسى ذلك.
أنه لا أحد لديه الإذن
في أن يعاملك كشيء آخر.
سيعلمونك القراءة والكتابة.
ستتعلمين العدّ وكيفية استخدام أدوات المائدة،
أن تلبسي ثيابك، أن تمشي،
لكن عليك أن تفعلي كل ذلك
دون أن تنسي أنك إلهة فريدة
قيّمةٌ، لا تتكرر
وأن مجرّد معرفة هذا يجعلك حرة.
لا تحتاجين أحدًا سواكِ لتتعلمي ذلك،
غير أني سأعيده عليك كل ليلة
كي لا تنسيه،
فربما يومًا ما
أرادكِ أميرٌ وسيم له
وعندها لا بد لك أن تكوني على علمٍ
أنْ لا وجودَ للأمراء الوسيمين
وأنّ لا مالك للإلهات.
***
إلى حفيدي أليخاندرو
يدي خمسُ قاراتٍ
تُسكِنُكَ وتُؤويك.
***
إنه الأكثر شبهًا
بجنة الأرض
التي حدّثوني عنها.
تغني ماريا تهويدة غريبة
لشمس الخريف، كي تغفو.
بين أصابعه يضمّ كل القوانين الكونية
ويرفعها إلى فمه.
ثمة صمتٌ
لطيور شادية.
يحدق كلبي في البعيد
ومن أشجار القيقب الحمراء هذا الخريف،
تتدلى ولأول مرة في حياتي،
قصائدُ أعرفها.
حين يفيق الهواء
سيجعلها تسقط
وستبقى ثمار القطلب الحمراء
وأنا أجلس إلى جوار النافورة.
كمالُ البساطة الأنيق.
***
على الرغم من أن هذا الطيران سيأخذك بعيدًا عني،
أريد اليوم أن أعلّمك كيف تطير
لأنني لا أجد طريقة أخرى أفضل
لأحبك.
***
أحيانًا تشعر
أنه لم يعد لديها مزيدٌ من الجلد
تبني به
عالمًا من الكلمات
يصير مأوى
للقادمين من بعد.
أحيانًا تفكر أنه ربما
ما من أحد سيأتي فيما بعد
لأن العالم يحتاج إلى أن يتحطم.
أحيانًا يغيب عنها أنها موجودة
فتتنفس وحسب.
حينها يصبح لكل شيء معنى.
***
ولدت كي أتعلم
ومعرفتي بهذا تبقيني
سعيدة بتواضعٍ
ومندهشة دومًا.
***
الحياة مساحة
نسامح فيها
ونُسامَح
وكل ما يحدث بينهما
عديم الأهمية
لكنه يجعلنا جِدّ تعساء.
***
شعر وكرامة
سأتمّ الستين من عمري.
عشت أكثر من أربعين عامًا منها
لم أكن فيها سوى هذا المكتوب على الهوية:
المهنة والعمل.
في الأربعة عشر عامًا الأخيرة
عملت كبواب
بإحدى العِزَب.
حين أنظفها، أفعل ذلك بكرامة
وحين أنهي مهمتي،
في هذا المكان نفسه،
أنظمُ القصائد
دفاعًا عن كرامة أولئك اللامرئيين
في حال أراد الذين فقدوها بين
التأشيرات الذهبية وبريق السلطة
أن يجردوهم منها.
حين أنظر في العيون
حين أتكلم وأتنفس أو أبكي
أفعل ذلك أيضًا بكرامة.
***
حميمية
الحميمية هي ما يحدث
حين لا نتلامس
ومع ذلك
فإن كل ما يحيط بنا
يكون ضوءًا
يتنفسه الآخرون.
***
يعتقد الشعراء أنّ ما تركوه بعد مضيّهم
هو المقروء
ويغادرون سعداء إذا ما رُبِّتَ على ظهرهم،
إذا ما كُرّموا تكريمًا عسكريًا،
إذا ما طُلب منهم توقيع أو صورة،
إذا ما أراد شخص أن يطبع لهم ديوانًا،
إذا طُلبت منهم مقدمة أو أُهديت لهم قصيدة.
لا يختلف الشعراء عن
عامة البشر، ليس في هذا،
لكن هناك من هم إلى جانب هذا يتعلمون التلاشي ليلًا.
هؤلاء هم العظماء.
***
بعيدًا عن النيافة والموضة،
عن الشرائع المملة والحزينة،
أكتب على هوامشها
حقائقَ مخزيةً لملمتها
من أسواق القرية،
من الأماكن التي يتعرّى فيها الناس
ثملين ظلمًا وقرفًا
إلى درجة أنهم يتركون عارهم في كل مكان.
أكتب
لأن الكتابة هي منقذتي.
***
ما لا يحتاج إلى كلمات، ما لا يُسمّى،
ما قد قيل منذ صمت الخليقة،
الجوهري، الفطري، المقدس، المَفتوح بعيون
تفتح بيبانًا بلا باب،
إلى حيث لم يدخل أحد قطّ إن لم يكن قد صار نورًا،
مستسلمًا لهذا البرهان الذي يستجيب لكل شيء بلا كلمات
موحّدًا سرّ الحياة.
***
أنا لا شيء
عندما أتنزه في الغابة، أكون شجرةً
وأكون الشمسَ تتسربُ بين الأوراق،
الهواءَ الذي يحركها أو الحشرةَ التي تسكنها.
وإذا كان البحر ما أتأمله
أغدو موجة وديعة وزبدًا وطائرَ بحر.
إذا استمعت إلى الموسيقى أغدو علامةً موسيقية
أو إشارة صمت مُطوَّلة على المدرج الموسيقي.
عندما تكون السماء ما أراه
أطير، إذ إنني أغدو سحابة،
أو مطرًا ناعمًا، ثلجًا أحيانًا أو جليدًا شفافًا.
يستحيل جلدي إلى بشرة بجوار بشرتك
وإلى يدٍ عند المداعبة وإلى عينين في نظرتك،
وفي الكلمة التي تنطق بها، أتعرّف على نفسي.
وحين أتقدّم نحوك، أكون أنا أنت.
أنا هذا كله ولا شيء منه.
***
مقاس أمي
لا أعرف إن أخبرتك:
أمي صغيرٌ قدّها
وعليها أن تقف على أصابع قدميها
كي تقبّلني.
أعتقد أني منذ سنوات وأنا أنحني،
كي أسترق منها قبلة.
أمضينا حياتنا
ونحن نمط أنفسنا وننحني
كي نجد القياس الدقيق
الذي يمكننا من أن نتحابّ.
***
أُلبس أمي
بالتأكيد يحدث أن تنحنيْ يومًا ما،
دون سابق إنذار،
إلى مستوى الأرض،
أن تبدئي بلمس قدمَيها وتخلعي عنهما الحذاء،
أن تنظري إليها من الأسفل
دون أن ترَي عينيها،
وتلبسيها ثيابها، فتستسلم وتُسند يديها على
كتفيكِ.
ولا شيء آخر يحدث
مع ذلك فأنت تدركين هزيمتَها
وتبدئين بحبها بطريقة أخرى،
أنت أيضًا مهزومة،
كلتاكما مهزومة
ويبدأ الزمن عدّه التنازلي.
***
الأم المحبوبة (*)
أمي لا تتذكر اسم والدتها.
نسيت طريق العودة إلى الحياة،
لا تعرف كيف تستخدم المشط أو الملعقة،
وغالبًا ما ترتدي سترتها بالمقلوب
تفتش أدراج ذاكرتها،
لكنها تبتسم دائمًا عندما تسمع اسمي.
أمي لا تذكر إن كان لها عشيق،
إن سافرت بعيدًا جدًا، إن فاتها قطار،
لا تتذكر خواتمها، إن كانت مرّةً جميلة،
أنها كانت تحب لعب الورق والقهوة كثيرًا،
أن للحروف المتصلة معنى،
وأن الكلب الذي كانت تحبه قد غادرنا منذ شهر.
أمي تُذَكرني، دون مرارة،
بما نسيتُه من حماقتي الشديدة،
بصلاة جدتها التي كانت تنوّمني
بالتهويدات التي كانت تغنيها لي،
وببعض الأغاني الرومانسية المغربية التي كانت تردّدها بابتهال
وهي تنظر من النافذة.
نتمسّك أنا وأمي قدر استطاعتنا،
بذكريات منسية
بحزن تارةً
بسرور تارةً أخرى
وبالأمل دائمًا.
(*) عنوان القصيدة Mater Amabilis باللاتينية وتعني الأم الحنون،
كناية عن مريم العذراء.
المترجم: مها عطفة