الشاعر والصحافة.. من يوسف الخال إلى محمود درويش/ بشير البكر
غالبية الذين يشرفون أو يعملون في الصفحات الثقافية العربية شعراء، وهناك شعراء أداروا مجلات ثقافية كبيرة، ومرموقة مثل يوسف الخال صاحب مشروع مجلة “شعر” في الستينيات من القرن الماضي، ومن ثم أدونيس الذي أصدر مجلة “مواقف”، ومحمود درويش الذي ترأس تحرير مجلة “الكرمل” من بيروت في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، وانتقلت معه إلى باريس ومن ثم إلى عمّان ورام الله، وبقي يصدرها حتى وفاته في آب/اغسطس 2008. وثمة شعراء وصلوا إلى رئاسة تحرير صحف يومية على قدر كبير من المهنية مثل أنسي الحاج في النهار البيروتية، والذي استمر في هذه التجربة سنوات.
هناك شعراء لم يتجاوزوا عملاً واحداً وتوقفوا عن النشر، بعدما انهمكوا بالعمل الصحافي، مثل رياض نجيب الرئيس الذي صدر له ديوان “موت الآخرين” العام 1962، ولم يعاود ذلك رغم انه استمر بالكتابة على نحو متقطع، لكنه ذهب بعيداً حين تحول إلى صحافي “المسافات الطويلة”، يسافر بعيداً كي يكتب تحقيقات في زمن كان سفر الصحافي العربي صعباً جداً، لتغطية أحداث مثل حرب فيتنام وربيع براغ. وبقي الريس قريباً من الشعر، لم يبتعد عنه، واستمر في توريط الشعراء بالعمل الصحافي في تجربتي “الناقد” و”النقاد” مثل نوري الجراح، يحيى جابر، ويوسف بزي. وحين أسس دار الريس للنشر، كانت من بين الدور القليلة التي نشرت الشعر. وهذا يعني أنه بقي يحن إلى البدايات ويتمنى لو يعود إليها، وعوّض عنها بطرق مختلفة خدم فيها الشعر. وكانت الريس أول دار نشر تقيم مهرجاناً عربياً للشعر في لندن العام 1987، لتكريم الشاعر الراحل يوسف الخال، شارك فيه شعراء عرب مثل نزار قباني وأنسي الحاج، وأقام أسبوع لندن الثقافي العربي الذي وصفه درويش: “رياض نجيب الريس يقوم بعملية جمالية لترميم العائلة الشعرية”، وأسس جائزة شعرية لدورة واحدة.
هل يمكن للشاعر أن يتفرغ للصحافة والكتابة الصحافية، ويستمر في كتابة الشعر؟ قد يبدو هذا السؤال تعسفياً إلى حد ما، لكنه مشروع إذا اعتبرنا أن الكتابة الشعرية ذات خصوصيات كثيرة، ولها طقوسها، وأن الصحافة كمهنة لا تترك لصاحبها من الوقت كي يهتم بمجال آخر. هي من جهة تأكل الوقت وتستهلك الأعصاب، ومن جهة أخرى فيها من المغريات ما يجعل الكاتب يمنحها حياته ووقته، وندر من بين الصحافيين الذين أدمنوا الصحافة من تركها حتى نهاية حياته، أو تفرغ لشأن آخر، و أجاد في الكتابة كما في ميدانها. وفوق هذا وذاك فإن الصحافة تسرق اللغة من الشاعر وتوظف قاموسه وخياله لخدمتها وتعطي مجالاً للتواصل مع الرأي العام أكثر من الشعر.
النثر فضاح الشعراء على حد تعبير الجاحظ، والصحافة ضرّة الشعر، ولا يمكن لهاتين الضّرتين أن تتعايشا معاً تحت سقف واحد. يمكن أن تكون هناك هدنة بينهما، إلا أنها يستحيل أن تستمر طويلاً. كان محمود درويش يكتب مقالاً أسبوعياً في مجلة “اليوم السابع” التي صدرت في باريس بين 1983و1991. مقال سياسي لكنه مكتوب بلغة درويش الخاصة التي لم يبلغ أحد من الكتّاب مصافها، وبالتالي فهو يأخذ منه وقتاً، لأنه يشتغل عليه كما لو أنه يكتب قصيدة، وكما صرح لنا ذات يوم، جوزيف سماحة مدير التحرير وأنا، انه يكتب كشاعر ولا يستطيع الفصل، ولذا فإن “المقالة تسرق الشعر”. وفي يوم أربعاء، جاء بمقال الأسبوع إلى المجلة ووضعه على مكتب سماحة، وقال هذا هو المقال الأخير، ودعانا إلى الغذاء وفسر لنا سبب توقفه عن كتابة المقالة، والسبب أنه يعمل على ديوان شعر، وكان العمل هو “أحد عشر كوكباً” الذي صدر بعد عامين في العام 1992، وهذا يعني أن الشاعر اشتغل على هذا العمل أكثر من عام، وتبين قراءة الديوان أن الشاعر قرأ الكثير قبل أن يكتب لأن العمل مليء بالاسقاطات التاريخية والإحالات من التراجيديا الفلسطينية، على أحداث تاريخية تبدأ من سقوط غرناطة واكتشاف أميركا.
كان درويش يريد أن لا يترك لغته تتسرب من بين أصابعه وتذهب وراء إغراء النثر، ويحتاج إلى الوقت من أجل العمل بدأب والتفرغ للكتابة الشعرية التي يتعامل معها درويش كوظيفة، يكرس لها ساعات عديدة كل يوم على طاولة العمل. وقد يكون درويش إستثناء ولا يصلح للقياس عليه او للتعميم، لكن هذا الإستثاء يصبح القاعدة إذا وضعنا نتاج بعض الشعراء الذين تورطوا في الصحافة على المحك، وهذا أمر يحتاج إلى دراسة تفصيلية، وبأدوات نقدية تتعامل مع التجارب الشعرية بأمانة ومن دون قسر أو تعسف. وبرر رياض الريس ابتعاده عن الشعر في كتاب “صحافي المسافات الطويلة” بقوله “كان طموحي أن يكون الشعر والثقافة هما مساري الأساسيين، لكن ذلك لم يكن ممكناً، فالصحافة لا تلتقي مع التأليف والإبداع والمزاج، فهي دوامة تلتهم كل المواهب، وكذلك تبتلع كل الإمكانات الإبداعية”. وما صرح به الريس أخفاه الكثير من الشعراء الذين لم يمتلكوا الجرأة في الوقت الذي استهلكت فيه الصحافة لغتهم وأعمارهم.
المدن