الضمير والتفكير في النكبة السورية/ مضر رياض الدبس
ليس للنكبات حالة وجودية لذاتها، لكنَّها تتكوَّن في الغياب؛ فالنكبة غيابُ شيءٍ يكون حضوره كافيًا لينفي وجودها بالضرورة، وليس وجودها إلا هذا الغياب نفسه. النكبة التي نعنيها هي “غياب السياسة”؛ هي شيء قريبٌ ممَّا قاله المؤرخ اليوناني ثوقيديدس في القرن الخامس قبل الميلاد: “فَعَل القوي كلَّ ما بوسعه، وقاسى الضعيف كلَّ ما عليه أن يقاسي”. قال ثوقيديدس ذلك واصفًا الذي حَصَل خارج حدود المدينة/ البوليس، أي خارج نطاق السياسة. ولهذا نسمي الذي حَصَل في سورية نكبة. والنكبة في سورية كونية، لأنها جريمةٌ أخلاقية تُرتكب بحق ذواتٍ توَّاقة إلى الحرية، والتوق إلى الحرية توقٌ إلى الكونية بطبيعة الحال. بالإضافة إلى ذلك، جوهر الحرب في سورية هو جوهر النكبة ذاته: تحالف الظلم والشر والتفاهة ضد الجمال والطبيعي والإنساني، أو بتعبيرات محمود درويش “عجزُ الحق عن البرهان على قوة الحق أمام حق القوة المتمادية”، ولأن الفلسطيني يفهم النكبة؛ فإن درويش يعرف أن عليه أن ينادي بالشعر السياسة؛ فيقول إن لهذا العجز “أنينًا”، ويراه صورةً من صور “الحنين”.
في كل الأحوال، تتكون المدينة/ الدولة (البوليس) من أفرادٍ أحرار، تعاقد بعضهم مع بعض في عقدٍ اجتماعي، يجعلهم قابلين للاجتماع السياسي الإنساني الذي يصون كرامتهم، ويضمن لهم ولأبنائهم الرفاه والسعادة، ومن ثم، بطبيعة الحال، يحقق العقد كينونتهم بوصفهم مواطنين يصنعون شعبًا ينتمي إلى العالم، أو إلى جماعات البشر العالمية. وتغيب السياسة عندما تغيب المدينة، بالتجريد أو بالتعيين أو بكليهما معًا. ويمكن أن نقول إن السياسة في سورية قد بدأت بالغياب التدريجي منذ انقلاب “البعث” في بداية ستينيات القرن الماضي، وكان هذا الغياب (أو التغييب) نتيجة التحييد الممنهج لفكرة المدينة لصالح فكرة العصبية، وتحييد مفهوم الفردانية الصاعد مع البرجوازية لصالح الجماعاتية البروليتارية، والجماعات التي تصهر الفرد في بوتقتها، ومنها الأحزاب العقائدية التي تشبه في بناها الاجتماعية بنية القبائل العصبية، والتي يتحدّد سلوك أعضائها بالاستناد إلى “النعرة التي تحمل هذه العصبية”، بتعبيرات ابن خلدون، وصولًا إلى التعميم الممنهجٍ للإمعية الذي بدأ حين قام الأسد بانقلابه في بداية السبعينيات، مدشنًا بداية مرحلة اللامعنى التي أكملها بالإجهاز على السياسة السورية في مطلع ثمانينات القرن الماضي. ومنذ ذلك الحين، والسوريون يعيشون التفاهة؛ فإذا كان لـ “سورية الأسد” صفة حقيقية جوهرية، فهي صفة “التفاهة” التي تدلّ إليها إمكانية صياغة عبارة “سورية الأسد” ومثيلاتها واستخدامها بصورةٍ واسعة. يعني هذا الكلام أن جماعة “البعث”، ثم جماعة الأسد، عصبويتان تافهتان خارج السياسة. لذلك نقول إن النكبة بدأت في سورية، عندما صار لهذه الجماعة التافهة قوة كافية لتغييب السياسة. ولا ترتبط التفاهة بغياب المعنى فحسب، ولكنها ترتبط بالشر لأنها تعني غياب التفكير، وفي غياب التفكير فرصة وجودية، ربما تكون وحيدةً، لظهور المذاهب والعقائد الشرّيرة، وفي هذا الغياب، تتكوَّن الإمعية، وهذه الأخيرة، بتقدير الكاتب، هي قاعدة الشر السوري، ومادة صناعة العنف من طريق مراكمة رأس المال الاجتماعي الأسود (تشبيح، وتطرّف، وممارسات قاع).
يشتغل التفكير ضد الجريمة، لأنه نابذٌ للتفاهة والشر، أو بتعبيرات حنا أرندت لـ “تفاهة الشر”، ذلك لأن التفكير يحقق الاختلاف داخل الهوية الواحدة، ويؤدّي إلى فهم الطبيعة المركّبة لهوياتنا بوصفها نتيجةَ الوعي؛ فيؤدّي إلى الضمير، بوصفه منتجا ثانويا للتفكير. استنادًا إلى ذلك، يمكن القول إن التفكير لا يجب أن يبقى شأنًا هامشيًا في السياسة السورية. وفي الوقت نفسه، لا ينبغي أن يظل المفكرون بعيدين عن السياسة، ومن المفيد جدًا أن ننجز، نحن السوريين، هذه الشراكة أو هذا الزواج بين التفكير والسياسة، إذا أردنا وطننا مرةً أخرى. والتفكير الذي نعني لا يتعيّن في صورة معرفة ومعلومات، بل في صورة قدرةٍ على الحُكم على الأشياء، بلغة كانط، وقدرة على التمييز بين الصح والخطأ، وبين الخير والشر، وبين الجميل والقبيح: بعبارة أخرى، يتعين التفكير في القدرة على امتلاك ضمير، وهذا الأخير هو الذي يُحصِّن الإنسان ضد نفسه، حين تأمره بالسوء، وحين تصنع النكبات له ولبني جلدته، والضمير هو الذي يمكِّن الإنسان، ويجعله قادرًا على مواجهة النكبات، عندما يتعين عليه ذلك.
هكذا يمكن أن نقرأ النكبة السورية بأنها التزامن المنطقي بين غياب القدرة على التفكير (الإمعيَّة) والإخفاق الكارثي للضمير السوري. ولا يعني غياب التفكير بالضرورة غياب المعرفة، وإنما غياب ذلك الحوار الصامت المستمر مع الذات (بتعبيرات هايديغر)، فغياب القدرة على التفكير لا يعني الغباء، ولا يعني نقص المعرفة أو تدنّي مستوى التعليم، بل يعني فقط غياب التفكير (Thoughtlessness). وفي هذا الغياب بالتحديد، يكون الشكل الوجودي الوحيد للنكبة، لأنه يعني غياب الوعي، من ثم غياب الضمير، من ثم غياب القدرة على الحكم، والتردّد الذي يؤدّي إلى ضعف في اتخاذ القرار؛ فيصير المرء إمّعة. وما إن تتكاثر الإمعات، حتى تتهيأ قاعدة واسعة وممنهجة للجريمة. وبتشارك الإجرام، تتكوَّن شبكات ثقة إجرامية واسعة، تراكم رأس المال الاجتماعي الأسود بصورة سريعة.
ولهذا الأخير القدرة العجيبة على إنتاج اللامعنى وإعادة إنتاجه، كما لرأس المال الاجتماعي الوطني القدرة العجيبة على جعل الديمقراطية تعمل، وعلى تعيين السعادة والأمان. في اللامعنى، يتطابق مفهوم السياسة مع مفهوم “الرعي”، لأن العصبية تنتج قطعانًا من البشر يغيب عنها مفهوم الفرد الحر المُفكِّر. وحينها يشتغل السياسي في “إتقان فنون الرعي”، وهذا ما وقع على كثيرين من سياسيي المعارضة أيضًا، فكانوا استمرارًا للمأساة عندما أرادوا إنهاءها. وكان هذا مؤلمًا، لكنه منطقي في غياب التفكير؛ فالتفكير ضروري، لأنه يصنع وعيًا، والوعي يصنع ضميرًا يؤدّي إلى نبذ فكرة الراعي والرعية، ويؤدّي إلى حظر تداول مفردات الرعوية في قاموس السياسة السوري.
بالتكثيف الشديد، نقول إن إنهاء النكبة السورية يحتاج ضميرا سوريا، والضمير سمةٌ حصرية للذين يفكرون، الذين يتقنون تصدير أحكامٍ معيارية على القيمة. وفي العموم، يتداخل مفهوما الوعي والضمير إلى حدٍ بعيد، حتى إن بعض اللغات، مثل الفرنسية، لم تنجز الفصل بين هاتين المفردتين.
العربي الجديد