تاريخ المطعم: حكايا من بطن الحداثة/ محمد تركي الربيعو
كان مشروع كلمة للترجمة قد عكف في السنوات الأخيرة على تعريف القارئ العربي بمجموعة من الكتب التي تعنى بتاريخ وأنثروبولوجيا الطعام؛ فوفقا للباحثين في هذا الحقل، غدا الطعام في القرن العشرين، مدخلاً مهما لدراسة قضايا تتعلق بالسياسة وحياة اللاجئين، والهويات، والتفاوت الطبقي والميديا، والعلاقة بين المحلي والعالمي، وكثير من المواضيع الأخرى. وكمثال على هذه الترجمات المهمة، أشير هنا إلى ثلاثة كتب صدرت عن المشروع، وكان لها وقع جيد؛ الأول كان بعنوان «مذاق الزعتر» وأشرف على تحريره عالم الاجتماع العراقي البريطاني سامي زبيدة، الذي حاول من خلاله، برفقة عدد من الأنثروبولوجيين دراسة علاقة الطعام بالسياسة في الشرق الأوسط، كما درسوا دور الطعام التقليدي في مواجهة عالم ماك (العولمة) الذي أخذ يبشرنا بثقافة مطبخية أخرى كما كتب بنجامين باربر، بينما سيلاحظ هؤلاء الباحثون أن الطعام المحلي، وخلافاً لمن توقع أن يتراجع، قد استفاد من شبكات الاتصال الجديدة ليرسخ وينمي وجوده، وهو ما نراه مثلا مع الشاورما التركية، التي استطاعت في فترة قصيرة، مع هجرة الأتراك لأوروبا، من أن تحجز مكانا لها في عدد من المدن الأوروبية، وبالأخص الألمانية، كما لاحظوا أن مطاعم إسطنبول التركية الشعبية، التي تقدم الأرز مع الفاصولياء البيضاء، أو غيرها من الطبخات التقليدية التركية، بقيت تحظى بإقبال واسع في المدينة، دون أن تتمكن سلسلة الماكدونالدز من تغييبها.
أما الكتاب الثاني فجاء بعنوان «قدحة النار» وحاول من خلاله ريتشارد راينغهام أستاذ الأنثروبولوجيا التطورية في جامعة هارفارد، دراسة دور الطهي في تغيير السلوك الإنساني، وناقش أيضاً سؤالاً مهماً حول لماذا تطبخ النساء عبر التاريخ في المنزل؟ بينما يتكلف الرجال بهذا الأمر في المطاعم، أو في الاحتفالات الجماعية؛ بينما جاء العنوان الثالث من خلال كتاب الأنثروبولوجية الفليبينية جوي أدابون «فن الطهو والأنثروبولوجيا» الذي حاولت فيه دراسة الطعام كممارسة فنية، ووفقا لذلك فإن الطاهي هو الفنان، والصورة هي الطعام، والمتلقي هو من يتناول الطعام، وبذلك يتحول الطعام إلى حدث اجتماعي و»قيمة جمالية» مكون من طبخ الطعام وتقديمه في وجبة شهية لتستمتع بها مجموعة محددة من أفراد المجتمع.
تاريخ المطعم
ومما يلاحظ في العناوين الثلاثة المذكورة، أن الطعام وطريقة تقديمه، قد شكّل جل اهتمام الباحثين في هذا الحقل، كمكون لفهم العوالم الثقافية والاجتماعية التي تحيط به وتؤثر وتتأثر به، في حين لا نعثر بالمقابل على اهتمام واسع بالمكان الذي يقدم فيه الطعام، وطبيعة العاملين في هذا المجال وسيرهم وقصصهم الذاتية، وربما هذا النقص هو ما شكل محور اهتمام الكتاب الجديد المترجم عن مشروع كلمة بعنوان «في المطعم: ثقافة المطعم، حكايات من بطن الحداثة» وقد صدر بالألمانية عام 2016 للمؤرخ الألماني كريستوف ربات، وترجمه للعربية محمد أبو زيد. في هذا الكتاب سيكشف لنا المؤلف عن تاريخ مؤسسة المطعم بوصفه تاريخاً حديثاً، خلافاً لمن يتخيل أن للمطعم تاريخ أقدم، كما سيركز الكتاب على دراسة حياة الطباخين والندل في هذه المؤسسة، كما نكتشف من خلاله أن أهم الكتاب وعلماء الاجتماع من أمثال جورج أورويل وارفينغ غوفمان قد انطلقوا في مشاريعهم الأولى من مؤسسة المطعم وعماله لفهم عوالم الرقابة والتفاوت الطبقي داخل المجتمع.
ولادة المطعم
خلال أواخر القرن التاسع عشر كان تناول الطعام في لندن يعني شراء قطعة مستديرة من الخبز وكأس من الحليب، لكن سينحّى هذا التقليد جانباً نحو عام 1900 من قبل عرف جديد مستورد من باريس. فعدد السياح المتزايد باستمرار، وولادة رغبات ذوقية جديدة لدى الموظفين، دفع إلى ظهور أول أشكال المطعم الفاخر، الذي يمتاز عن الخان أو الحانة. ستغدو مطاعم لندن مشوقة ومعقدة، كما ستتم إداراتها من قبل فرنسيين وإيطاليين، كما ستستفيد الإمبراطورية الإنكليزية في هذه الفترة من مستعمراتها، ما أدى لظهور عدد متزايد من الأماكن التي تقدم طعاماً هنديا. في هذه الفترة أيضاً، كانت مدرسة شيكاغو لعلم الاجتماع في الولايات المتحدة الأمريكية تدعو طلابها لاستخدام المدينة كمختبر، إذ عليهم دراسة جميع أوجه الحياة الحضرية: من الهجرة حتى الحياة العائلية وجرائم الأحداث، فما يهمهم هو التخلص من الصفة الرسمية الاحتفالية للعلم، فالهدف يكمن في القيام بتجارب وملاحظتها وتسجيلها مباشرة، وفي هذه الأثناء ستتأثر فرانسيس دونوفان بهذه الأفكار، ولذلك ستقرر العمل كنادلة في عام 1917 في أحد مطاعم شيكاغو، وفي عام 1920، سينشر لها كتاب في دار نشر في بوسطن بعنوان «المرأة التي تخدم كنادلة»؛ ستروي من خلاله قصص النادلات في غرفة تبديل الملابس، كما ستخبرنا أنه خلال هذه الفترة لم تكن هناك فروق واضحة بين المقهى والمطعم، كما ستتحدث عن الطباخين بوصفهم حثالة المجتمع، كما تحذر قارئها من وساخة المطاعم، التي تحرص صباحاً على الظهور بشكل نظيف بينما تغزوها الفئران ليلاً.
وخلال هذه الفترة، ستبقى أجور الطباخين متدنية، كما عملوا في اليوم أربع عشرة ساعة، وماتوا قبل أن يبلغوا الأربعين بعد، بسبب الإجهاد البدني المفرط، لكن هذا المشهد سرعان ما سيتغير، فالمطعم الذي اعتبر مكانا للنخبة الارستقراطية في فرنسا، أو المطاعم الفرنسية في أمريكا، سيتنحى جانبا، لتغزو الطبقات الوسطى المطاعم؛ ففي الفترة بين 1920ـ 1930 سيبرز للعيان طعام شهي جديد معقول السعر، وستتحول الولايات المتحدة إلى أمة متجانسة استهلاكيا، من خلال الهامبورغر، إذ سيتم توحيد مقاييسه وبيعه بكميات كبيرة من قبل شركة وايت كاستيل، أولى شركات الوجبة السريعة في الولايات المتحدة، التي ستنجح في نزع الصورة النمطية عن الهامبورغر بوصفه طعاماً خاصاً بالطبقة السفلى، وهنا سيتغير شكل المطعم أيضا، إذ سيجلس الجميع على النوع نفسه من الكراسي، والطراز نفسه من الموائد، وسيتم شي اللحمة لجميع الضيوف على المقدار نفسه من الحرارة، مع ذلك ستبقى المطاعم مكانا للوسخ، وهو ما سيعبر عنه كاتب شاب يدعى أريك بلير، الذي سيتحدث في كتابه «الانحطاط والتشرد في باريس ولندن» عن الأسرار الوسخة لفنون الطهي، لتباع منه آلاف النسخ، وليرد لاحقاً على بعض رسائل المعجبين باسمه الجديد، جوروج أورويل، لكن هدفه من هذا الكتاب لن يقف عند عالم الأوساخ، فكتابه يستطلع موضوعا سوف لا يكف مرة بعد أخرى عن إشغاله: حقيقة وكذب، معايير مزدوجة، هرميات مصطنعة، إذ سيلاحظ أن النادل دون شارب، والطباخ بشارب، لأنه أعلى مرتبة منه، وهو ما يدل على نظام طوائف في فن الطهي الباريسي، وهناك المطبخ الذي يبعد بضعة أمتار عن صالة طعام الضيوف، مع ذلك يطالب أورويل قارئه، أن لا يشعر أبداً بالحزن والأسى تجاه الندل، فالنادل يتمتع بعقلية مدعي لأنه يقيم طوال الوقت على مقربة من الأغنياء، ويتماهى معهم، بل حتى يتلذذ بذله وخنوعه.
المطعم والحرب العالمية الثانية
ستتسبب الغارات الجوية الألمانية في الحرب العالمية الثانية، بأضرار متزايدة في المدن الإنكليزية، لتبدأ مرحلة نقص في المواد الغذائية، وفي خريف 1940 ستقام في لندن أولى محطات التموين، إذ تقوم المطابخ الميدانية بتقديم وجبات طعام ملائمة ساخنة للسكان، لكن الفكرة لن تروق كثيرا لتشرتشل، فقد بدت له التجربة وكأنها بيوت للشيوعية، ولذلك سيطلق على هذه الأماكن اسم « مطاعم بريطانية» ورغم أن المؤرخين يعتبرون دورها في توفير المواد الغذائية هامشيا، إلا أنهم لا يقللون في المقابل من الدور الذي لعبته على صعيد تشجيع الإنكليز المعتادين على البقاء في البيت على الأكل خارجه.
بعد الحرب سيزداد الإقبال أيضاً على المطاعم أكثر من السابق، إذ سيكتشف الصحافيون الأمريكيون في باريس جيلاً جديداً من المثقفين الفرنسيين، الذين يقضون أوقاتهم في المقاهي والمطاعم. أحد مراسلي مجلة «التايم» يرافق سارتر في مقهى فلورا، إذ ينام الفيلسوف في غرفة فندق ويعيش على مائدة مقهاه المعتاد؛ هذا الافتتان الأمريكي بالفلاسفة الذي يأكلون خارج البيت سنراه في شوارع الولايات المتحدة أيضا، من خلال العثور على وطنيين حيويين من الطبقة الوسطى، يحرضون من أجل مجتمع جديد، يكون للمطعم دور أساسي فيه. وفي هذه الأثناء سيأتي شاب في نهاية العشرين من عمره، يعرف باسم أرفنغ غوفمان، وهو كندي الأصل، وكان طالب دكتوراه في جامعة شيكاغو، إلى أحد المطاعم للبحث والتقصي من أجل أطروحته «تقديم الذات في الحياة اليومية» التي ستغدو واحدة من أهم الأطروحات في القرن العشرين؛ وفي هذه الأطروحة سيشكل المطبخ وقاعة الطعام مناطق مثالية لدراسته، ليقوم بتطوير فرضية التميز الفضائي للتقديم الذاتي، التي تقوم على فكرة أن النادل والزوار يمارسون في قاعة المطعم، أدوارا مختلفة وكأنهم على خشبة المسرح.
في فترة السبعينيات يلاحظ المؤلف عودة انتعاش أصناف الطعام المحلية، وهو ما سيؤدي إلى تغير المطبخ الفرنسي، إذ ستصبح لوائح الطعام أكثر بساطة والذوق أكثر حدة، كما سيزداد الاهتمام بالمواد الطبيعية، وبالنسبة للأمريكيين المهتمين بأجسادهم، ستصبح هذه النسخة من المطبخ الجديد الشكل المثالي لهم، كما ستعرف هذه الفترة أيضاً نهاية فترة رخاء ما بعد الحرب في أمريكا، وأمام هذا التحول ستبدو الفرصة سانحة للماكدونالدز للعب دور أوسع، كما سيعيد بعض علماء التجديد الحضري التأكيد على ضرورة وجود مطاعم ومقاه صغيرة.
في الثمانينيات، وبعد سنوات الحرمان الطويلة التي عاشها البريطانيون، استيقظ اهتمام طهوي، كما سيتقدم في هذه الفترة المطعم الكاتلوني بعد موت الجنرال فرانكو، كما ستترافق هذه الفترة مع قدوم موجة لاجئين أتراك إلى ألمانيا، وافتتاحهم لعدد من مطاعم الشاورما، لتتبعها موجة أخرى في التسعينيات من اللاجئين القادمين من يوغسلافيا السابقة، وهنا سيغدو المطبخ في أوروبا أحياناً كتجمع لغرباء وأناس «ذوي ماضي سيئ» مهاجرون من كل بلد، محشورون في حيز ضيق جدا، كما سيتحول المطبخ إلى مكان للتعبير عن الجرائم العنصرية، خاصة بعد قيام عدد من الألمان خلال الفترة 2000 ـ 2006 بقتل عدد من الأتراك في ما عرف بقضية الخلية النازية الجديدة، وفي الصين سيتحول أحد المطاعم إلى مكان للصراع السياسي والدعوات للإصلاح، بعد قيام الرئيس الصيني بزيارة مطعم لتناول كبد خنزير مقلي، وهو ما سيفسره البعض بأنها رسالة إلى بعض موظفي الحكومة الطماعين، مثل الخنازير، بأنه سيتم قليهم، أي إقالتهم؟ ويعود الحديث عن وجود «أمل في الصين» وبعد بضعة أسابيع يتجمع حشد صغير من المتظاهرين أمام المطعم من أجل دعوة السياسيين إلى صدق وتواضع أكبر، وفي الفصل الأخير من الكتاب يبين المؤلف أن المطعم لم يعد حجرة العمل اليدوي، بل غدا يحظى بزيارة الملايين، وهو ما يصفه بولادة ديانة جديدة، وإلى جوع منتشر نحو الأصالة والطعام المحلي، وقد ساهم هذا التطور في اختراق فكرة المطعم التقليدية الفرنسية، إذ غدت المطاعم الآن مسارح لمطبخ منشق، إذ يسعى الطباخون والمستثمرون إلى خلق أجواء مختلفة وجديدة لإشباع رغبات زائريهم الذوقية والبصرية، كما أصبحت المطاعم أكثر ارتباطاً بعالم السياسة، وغدا طباخون، مثل بوراك التركي، يتحولون بفروع مطاعمهم إلى جزء من السياسات الحكومية والانتخابية وحتى الإقليمية.
كاتب سوري