سوريا: ثورة الفلاحين الذين لم يعودوا كذلك/ محمد سامي الكيال
برز سؤالان مركزيان منذ بدايات الثورة السورية عام 2011 أثارا دائماً حيرة وغضب مؤيديها: الأول، لماذا لم تثر المدن السورية (والمقصود هنا دمشق وحلب)؟ والثاني، لماذا لم يتمكن المعارضون السوريون من التوحد وتشكيل جبهة صلبة قادرة على قيادة الثورة سياسياً وعسكرياً؟
البعض حاول تجنب هذين السؤالين أو التقليل من شأنهما، البعض الآخر قدم إجابات متعددة لم تكن شديدة الإقناع. بالنسبة للسؤال الأول أكد عدد من الكتاب والناشطين أن المدن السورية ثارت بالتأكيد، واستشهدوا بثورة أحياء وسط حمص التاريخية (الخالدية وباب سباع)، والتجمعات الكبيرة في ساحة العاصي الحموية، فضلاً عن مظاهرات حي الميدان الدمشقي وبعض المظاهرات التي حاولت الوصول إلى قلب حلب. إلا أن هذه الإجابة لم تكن كافية، فحمص وحماة لم تكونا على ما يبدو تطابقان التصور المعياري للمدينة، حتى بمقاييس عالمثالثية. وهما بالتأكيد ليستا مركز “المدنية السورية”، أما مظاهرات حلب ودمشق فكان يمكن الجدل بأن متظاهريها قادمون من الضواحي والأرياف، وعموما بقيت هاتان المدينتان مواطن الاستقرار والثقل للنظام، بما يجعل من الصعب إلصاق علامة “المدن الثائرة” عليهما.
السؤال الثاني لم يُبذل أي جهد حقيقي لبحثه، واكتفى معظم المهتمين بشتيمة المعارضين السوريين وبيان مدى تفاهتهم وفسادهم، فتحول بحث هذه النقطة المهمة إلى نوع من الهجاء الطويل الذي لا ينتهي.
اليوم لم يعد أحد يفكر كثيراً بهذين السؤالين بعد كل التطورات التي عرفتها الساحة السورية، فمشاهد الأحياء السكنية المدمرة وقوافل النازحين واللاجئين جعلت البحث في قضايا المدينة والريف والسياسة ترفاً بدا أن الأحداث قد تجاوزته.
إلا أن القضايا والإشكاليات التي أثارها هذان السؤالان ما زالت إلى حد كبير المفتاح الأساسي لفهم كل حراك تاريخي سوري، وقادرة على قول الكثير، ليس فقط عن الثورة السورية، بل عن سوريا نفسها منذ نشأتها ككيان سياسي في الربع الأول من القرن الماضي. ومحاولة تقديم الإجابات ستعيننا كثيراً في فهم ما وصلنا إليه.
إحدى أكثر التنظيرات أهمية في هذا السياق هي أن سوريا لا تملك أصلاً مدناً أو بنية مدنية، وبالتالي لا معنى للحديث عن تخلف المدينة السورية عن المشاركة في الثورة، وبما أن غياب المدينة يعني غياب المجتمع المدني والمجتمع السياسي أيضاً، فهذا يفسر عدم وجود معارضة سياسية جديرة بهذه الصفة. وبدلاً من ثنائية ريف/مدينة تمت استعارة مصطلح “التهميش” من أدبيات اليسار الغربي المعاصر للإشارة إلى جيوب ريفية مفقرة ومبعدة عن المشاركة السياسية والاقتصادية، ومظلومة ثقافياً. هي من حمل الثورة ضد المركزية القمعية للنظام.
هذا التنظير، الذي كان كاتب هذه السطور من مؤيديه لفترة طويلة، يبدو ملفقاً بعض الشيء، فإذا كانت المدينة السورية غير موجودة أصلاً، لا كبنية اقتصادية ولا كموطن لمجتمع سياسي، فما هي الجهة التي همشت تلك الجيوب الريفية؟ وهل جمهور مؤيدي النظام يمثل فئات أكثر حظاً حقاً من فئات الثائرين “المهمشين”؟ ثم إذا كانت الثورة السورية ثورة جيوب ريفية فهل هي ثورة فلاحين؟ لماذا لم يبذل أي جهد فعلي لدراسة بنى الإنتاج في هذه الجيوب؟ أم أن مصطلح “التهميش” وضع أصلاً بوصفه مقوله ثقافوية تتيح التهرب من الإجابة على السؤال الأخير؟
ربما كان مصطلح “التهميش” لا يعني شيئاً حقاً، ويفشل في رسم أي خريطة جدية للصراع السوري، فهو ينفع في التظلّم والشكوى أكثر من التحليل الإجتماعي والتاريخي. ولعل أسلوب القياس التاريخي يساعدنا أكثر على فهم تعقيد الوضع.
عندما حاصر ماو المدن
الماركسية وتراث الحركة الشيوعية يقدمان منجماً لا ينضب للقياس التاريخي، فمحترفو الثورة الماركسيون الذين طبعوا القرن الماضي بطابعهم خلّفوا لنا ما لا حصر له من التنظيرات وأساليب العمل في الوضع الثوري.
بالنسبة لماركس لا يلعب “التهميش” دوراً مهماً فيما رأى أنه “حركة التاريخ”، وباستثناء بعض أعماله الأولى، وخاصة “مخطوطات 1844” و”إسهام في نقد فلسفة الحق عند هيغل”، التي يمكن ببعض التأويل المتعسف والقراءة الموجهة استنباط بعض المقولات عن “التهميش” منها، فهو يركز في المقام الأول على مفهوم “الاستغلال”: الطبقة العاملة هي الوحيدة القادرة على تحقيق التحول الثوري بسبب موقعها المحوري في بنية الإنتاج، وليس لمجرد كونها مظلومة أو مضطهدة.
إلا أن مكانة الفلاحين كانت إشكالية دوماً في النظرية الماركسية، ولطالما أثارت النزاعات بين الحركات الشيوعية والتنظيمات ذات الطابع الفلاحي، وبين الماركسيين والأناركيين، وبين تيارات الماركسية المتعددة نفسها. فالفلاحون غير المحدثين، المتخلفون، غير القادرين على إنتاج أي تنظيم ثوري متماسك بحكم تشتتهم وتباعدهم المكاني وطبيعة إنتاجهم. لم يكونوا بالتأكيد مناسبين للتصور الماركسي عن الثورة.
الميل إلى التقليل من دور الفلاحين وقدرتهم على الحراك الثوري، الذي وسم أيضاً تاريخ الحركة البلشفية في روسيا، تغير بشكل كبير مع صعود الحركة الشيوعية الصينية. الزعيم الصيني ماو تسي دونغ، الذي اكتسب خبرة كبيرة من الانتفاضات الفلاحية، وجد نفسه أمام وضع تاريخي لا يمكن الالتفاف عليه. فالصين في النصف الأول من القرن الماضي كانت بلداً فلاحياً بشدة، والحركة العمالية في المدن الكبرى تراجعت بشكل كبير، ولم تبلغ نسبة عضوية العمال في الحزب الشيوعي الصيني أكثر من 3%، في حين كانت قاعدته الأساسية من الفلاحين.
الثورة الصينية إذا (مع مراعاة فارق الحجم والامتداد والأهمية التاريخية) كان من الممكن تشبيهها إلى حد ما بوضع الثورة السورية: مناطق ريفية ثائرة ومدن تشكل قاعدة الثقل والاستقرار للسلطة.
بتقديمه قراءة جديدة لمفهوم التناقض الماركسي، ابتكر ماو أسلوباً مبتكراً للعمل الثوري، فالطبقة العاملة الغائبة، التي كان من المفترض أن تقود من المدن ثورة الفلاحيين. استُبدلت بالحزب الثوري، الذي يحلّ في الريف قائداً لثورة الفلاحين ومرشداً لهم.
هنا تجدر الإشارة إلى أن ماو، رغم نشأته في وسط ريفي، أجرى دراسته الجامعية في بكين، أما الحزب الشيوعي الصيني فقد أسسه إثنا عشر مثقفاً، منهم ماو، في مدينة شنغهاي، المدينة الكوزموبولتية العظيمة. لقد كان حزباً يمثل التمدن الصيني آنذاك بأرقى أشكاله.
ماو نقل بشكل من الأشكال “روح المدينة” من خلال الحزب المنظم الحديث ذي الإنضباط الحديدي، وموضعها في قلب الريف. ومن الريف انطلق لحصار المدن الكبرى التي سقطت بيده بعد حروب طويلة وصراع مرير.
تبدو هذه الاستراتيجية قريبة من بعيد لأسلوب الثورة السورية بعد تسلحها، على الأقل من الناحية العسكرية. فعلى الرغم من غياب الحزب القائد و”روح المدينة”، سعت مختلف التنظيمات المسلحة ذات الطابع الإسلامي في سوريا إلى “تحرير” الأرياف المتاخمة للمدن السورية، ونجحت في بعض الأحيان في فرض ما يشبه الحصار أو التطويق على حلب ودمشق.
قبل هذا حاول بعض المثقفين السوريين، وعلى رأسهم ميشيل كيلو، التنظير لـ”تحالف بين المجتمعين المدني والأهلي في سوريا”، والمعني بـ”المجتمع المدني” في هذه الصياغة على ما يبدو هم المثقفون والناشطون “الحداثيون” الذي يعيشون في “المدن”، أما “المجتمع الأهلي” فهو البنى الاجتماعية التقليدية الثائرة في “الجيوب المهمشة”. ضمن هذا التحالف القائم على قيم التحديث الكونية، كما يفترض كيلو، يقدم المجتمع المدني للأهلي الخطاب السياسي والاستراتيجيا الثورية، في حين يقدم المجتمع الأهلي للثورة وقودها البشري والعمود الفقري لحراكها. هذه استراتيجية ماوية بعض الشيء. ولكنها لم تحقق شيئاً يذكر على أرض الواقع.
بالطبع كان ميزان القوى مختلاً منذ البداية لمصلحة النظام، ولكن هذا لوحده لا يعطي تفسيراً للفشل الكارثي والمثير للشفقة الذي منيت به حرب الجيوب الريفية. و”قوى المجتمع المدني” السورية، مما يجعلنا نتسائل عن طبيعة هذه الجيوب والقوى نفسها.
لا مدينة، لا ريف
قلنا في مقدمة حديثنا إنه يمكن التشكيك بشدة في وجود مدينة في سوريا، يمكننا أيضاً أن نشكك بمفهوم الريف السوري نفسه، وذلك من خلال النظر إلى هذا الريف من ناحية النشاط الإنتاجي لسكانه.
حسب المجموعات الإحصائية الرسمية السورية فقد بلغت نسبة العاملين في الزراعة إلى مجموع القوى العاملة %15 عام 2010 ، أما مساهمة الزراعة في الناتج المحلي الأجمالي فلا تتجاوز 17.6%، وهذه النسب كانت في تراجع ثابت عاماً بعد عام منذ الثمانينيات. كما أن المساحات المزروعة وحجم الإنتاج الزراعي لم يحقق أي تقدم يذكر لسنوات طويلة.
يتم تصنيف سوريا تاريخياً كبلد زراعي، ويُحكى عادة عن الأهمية الاجتماعية والسياسية للفئة الفلاحية فيه، ولكن الأرقام التي بين أيدينا لا تؤكد هذا. الفلاحون أصبحوا منذ زمن أقلية غير مؤثرة اقتصادياً في البلاد.
كما أن تراجع عدد العاملين في الزراعة لم يكن بسبب المكننة، أو الاستثمار في قطاعات أخرى تتطلب استجرار المزيد من الأيدي العاملة، بل هو نتيجة توجه البلاد أكثر للاقتصاد الريعي من خلال عائدات النفط وغيره من الثروات الباطنية من جهة، واستثمار “الأهمية الاستراتيجية” للبلاد في نيل المساعدات الخارجية من جهة أخرى، فضلاً عن حركة الهجرة إلى الخارج واعتماد الكثير من العائلات على تحويلات المغتربين، ما كرس وضع الاقتصاد السوري بوصفه اقتصاداً ريعياً بالدرجة الأولى. كما زاد من أهمية جهاز الدولة كموزع للريع بناءً على الولاء.
من الصحيح أن سنوات الجفاف المتلاحقة، والسياسات الزراعية الكارثية للنظام السوري، ساهمت في تسريع انهيار الزراعة السورية، كما كان لها آثار كارثية على حياة مئات الآلاف، حيث تشير بعض التقارير إلى نزوح حوالي مليون ونصف مواطن من المناطق الريفية إلى المدن في سنوات ما قبل الثورة، إلا أن هذا لم يكن عاملاً حاسماً في انفجار الوضع في البلاد، ولا يوجد ما يؤكد أن هؤلاء النازحين قد قاموا بدور فعال في الحراك الثوري، كما لم تُرصد أي شعارات أو مطالب في سياق الثورة تتعلق بأوضاعهم. محاولة جعل الثورة السورية أثراً جانبياً لـ”الاحتباس الحراري” قد تلاقي سوقاً رائجة لدى حماة البيئة الأوروبيين، ولكنها بالتأكيد غير مسنودة بأي براهين قوية، ولا يمكن التعويل عليها تحليلياً.
سكان الجيوب “المهمشة” إذاً لم يكونوا فلاحين بأغلبيتهم، وهم في كثير من الأحيان يعملون في وظائف شبيهة جداً بوظائف أبناء “المدن”: موظفون في جهاز الدولة، أصحاب مهن وورشات صغيرة، مستثمرون صغار ومتوسطون، عمال موسميون، مع نسبة بطالة عالية بكل تأكيد.
من الصعب إيجاد فرق إنتاجي بنيوي بين سكان الريف والمدينة في سورية. وإذا أضفنا إلى ذلك غياب أي بنية سياسية أو ثقافية مؤسسية في “المدن”، فيمكننا أن تقول مع هامش ضيق من الشك أن ثنائية ريف/مدينة هي ثنائية زائفة في السياق السوري: في سوريا لا توجد بنية زراعية قوية في الريف، ولا بنية تحتية صناعية أو خدمية يعول عليها في المدن. في “المدن السورية الكبرى” لا توجد صحافة أو حركة نشر قوية، لا أكاديميات أو مؤسسات بحث علمي يمكن الحديث عنها بجدية، لا أحزاب سياسية أو حركة ثقافية فعلية، لا مؤسسات مجتمع مدني أو جمعيات حقوقية أو أجتماعية أو رياضية عريقة. حتى الطوائف والإثنيات والإقليات العرقية لم تملك، في بلد يوصف عادة بأنه طائفي، أي مؤسسات دينية أو لغوية أو ثقافية راسخة. إنه اليباب السوري الكبير، والذي يبدو مثيراً للشفقة حتى لو تمت مقارنته بدول الجوار: تركيا ومصر ولبنان، بل وحتى العراق قبل حرب الخليج.
ولنوضح هذه النقطة أكثر يمكننا أن نعود من جديد إلى قياسنا الصيني.
حلب ليست شنغهاي
في الواقع لم تكن استراتيجية ماو تقتصر على محاصرة المدن بالأرياف الثائرة، فهو كان يملك نظرة أكثر عمقاً لثنائية الريف والمدينة. بعد انتصاره الكبير سعى القائد الصيني إلى تحقيق “تراكم بدائي” كالذي تشكل في الدول الغربية مع بدء الثورة الصناعية، لكي ينطلق في عملية التحديث الشامل الذي سعى إليها.
هذا التراكم لم يكن تحقيقه ممكناً دون استغلال الريف لحساب المدينة، هكذا فرض ماو سياسة تبادل قاسية على المزارعين من جهة، الذين كان عليهم تقديم منتجاتهم لسكان المدن بأقل بكثير من أسعارها الحقيقية، وشراء منتجات المدن بأسعار أعلى من قيمتها الفعلية، وعلى مثقفي المدن والخريجين الشباب من جهة أخرى، الذين أُجبروا على النزوح إلى الريف لمواصلة فرض “روح المدينة” على الريف من خلال التنظيم الحزبي القاسي.
هذه السياسة كانت كارثية من الناحية الإنسانية، وأدت إلى مجاعات وأهوال ومآسي يصعب تصورها، ولكن رغم كل شيء، ورغم الفاتورة الدموية التي اضطر الصينيون إلى دفعها، فلا يمكننا أن نقول سوى أن ماو وخلفائه نجحوا بتحقيق “التراكم البدائي” الذي خططوا له، وبفضله، وبفضل التخلي عن مبدأ “فك الارتباط بالغرب” فيما بعد، والسماح للاستثمار الأجنبي بالدخول للبلاد، أصبحت الصين العملاق الاقتصادي والدولة العظمى التي نعرفها اليوم، ببنيتها التحتية المذهلة، وتحديثها الذي لا يتوقف.
مدن عظمى مثل شنغهاي وبكين وتيانجين عادت للازدهار والتوسع بشكل أسطوري، بعد سنوات من الانكماش والإهمال في عصر “حصار المدن”، وذلك ما كان ليحدث لولا التضحيات العظمى التي قدمها الريف، أو لنقل، بعبارة أقل تهذيباً، لولا الاستغلال المتوحش للأرياف.
الصين إذاً هي مثال نموذجي على تناقض ريف/مدينة. حيث توجد منظومتان إنتاجيتان متغايرتان تعتمد كل منهما على الأخرى، تحققان التوازن حيناً، وتطغى إحداهما على الأخرى أحياناً أخرى. أما في سوريا فلا تختلف المدينة عن الريف إلا بالتسمية الإعتباطية التي يطلقها موظفون بيرقراطيون مصابون بالملل على هذه المنطقة أو تلك، فهذا التجمع السكاني يعتبر “مدينة” وذاك يعتبر “قرية” بناء على عدد السكان وهمة المواطنين في التكاثر. هذه المنطقة هي من “دمشق” وتلك من “ريف دمشق” بناء على خرائط قديمة يعلوها الغبار والعفن.
“المدينة السورية” لم تستغل الريف أو تهمشه، والقرويون لم “يريفوا” المدينة ويخربوا بهاءها العظيم، كل ما هنالك هو سياسة تنموية فاشلة، وإنتاجية ضعيفة، وغياب تخطيط جدي أو سوق حرة، وضعف ثقافي وهشاشة اجتماعية وتعليم سيء. هذه الرثاثة الشاملة هي الطابع السوري العام السائد في كل التجمعات السكانية، كبيرة كانت أم صغيرة، وهي سبب الكارثة الشاملة التي سقطت البلاد فيها فيما بعد.
حرب الضيع
النظام السوري نظام مجرم بالتأكيد ويتحمل مسؤولية الفشل التاريخي السوري بشكل أساسي، ولكنه ليس الطرف الذي بدأ سيرورة الفشل السوري، فرثاثة المدن السورية وضعف مجتمعها المدني والسياسي أقدم بكثير من وجود النظام السوري، الذي لم يكن ليسيطر ويستقر لولا هذا الضعف وتلك الرثاثة.
منذ الاستقلال السوري في الأربعينات عولت الكثير من الأحزاب السياسية السورية على الجيش، المؤسسة شبه المتماسكة في البلاد، والقوة الاجتماعية المنظمة الوحيدة، لتحقيق أهدافها، وكان لكل منها لجنته العسكرية السرية أو العلنية، في مخالفة صريحة لأساسيات العمل السياسي المدني، كما أن تحول الأحزاب السياسية والإيديولوجيات الحداثية لغطاء يخفي العصبيات الجهوية والعائلية والمناطقية، هو ظاهرة أساسية في بنية السياسية السورية منذ نشأتها، البعثيون لم يكونوا استثناء في التاريخ السوري، ولكنهم الطرف الذي لعب اللعبة بالشكل الأصح والأكثر قسوة.
سيرة الفشل السوري هي سيرة فشل دمشق وحلب، فلولا فشل هاتين المدينتين لما كانت السياسة والثقافة السورية بهذه الهشاشة، ولما تمكنت فئات همجية من العسكر من استلام السلطة، لتحكم بعقلية “المشلحين” في الضيع.
وعلى عكس ما حلم به ميشيل كيلو أو غيره، لم توجد فئات مدنية في سورية أنتجتها مدن عظيمة مثل بكين أو شنغنهاي، لكي تمد “المجتمع الأهلي” في الريف بالاستراتيجية الثورية.
وهذا يقودنا لتوصيف الوضع السوري تاريخياً بأنه وضع “ضيعجي”. ولا يعود استخدامنا لهذه المفردة بسبب استهانتنا بالصواب السياسي (Political-correctness) أو لرغبة في الاستعلاء والإهانة، فلا يوجد للأسف لفظ يفوقه بامتلاك شحنة دلالية قادرة على التعبير عن الوضع.
الضيعة ليست موطن الفلاحين والعمل الزراعي بالضرورة، بل هي تعبير عن نمط حياة و(لا) إنتاج، يتسم بضعف المؤسسات أو غيابها، وأوقات فراغ ممتدة لا يحدها إلا أشكال من العمل الموسمي، والميل إلى النميمة والتآمر، وضيق الأفق والسعي وراء المصالح الضيقة. وهي النمط الاجتماعي الأكثر انتشاراً سواء سواء فيما يسمى “الريف” أو حتى في “المدن”.
الضيعة لا تنتج سياسة أو ثقافة أو معرفة منضبطة، ولذلك اتخذت الثورة والحرب السورية ذلك الطابع المشتت اللاسياسي، ومال قادتها من العسكر والسياسيين إلى تشكيل شبكات مصالح ضيقة وإمارات حرب ذات سمت ريعي، أو مؤسسات ارتزاق سياسي ومدني، وغابت لديهم حتى أكثر أشكال التخطيط العسكري والاستراتيجي بدائية. ولأن “الضيعة” نمط غير منتج وغير ممأسس فنحن لا نملك سياسيين أو مثقفين أو أكاديميين حتى بالقياس بدول الجوار.
سوريا أيضاً بلد أقل من أن يوصف بالطائفي، فالطوائف والقوميات فيه لا تملك أي وجود سياسي أو اجتماعي منظم، كما لا يوجد تأسيس قانوني أو دستوي للوضع الطائفي كما هو موجود في لبنان مثلاً. لا توجد في سوريا سياسة طائفية بل شبكة معقدة رثة من مصالح العائلات والعشائر والمناطق والعصبيات، تتفق أو تتصارع بناء على حسابات انتهازية صغيرة، ولا يمكن التبؤ بها أو التعويل عليها. ولذلك اتخذت الحرب السورية ذلك الشكل الفوضوي المتوحش.
وإذا كان جهاز الدولة المترهل والجيش الفاسد ذو التاريخ الإجرامي قد شكلا فيما مضى نقطتي الارتكاز الوحيدتين في هذا الوسط غير المتمايز، فقد دخلت البلاد منذ زمن طويل في طور “الدولة الفاشلة”، كما ظهر جيش النظام بوصفه قوة ميلشياوية لا تختلف عن أي مليشيا رثة أخرى إلا بأنها الوحيدة التي تملك سلاح طيران.
ربما كان على السوريين أن يعوّدوا أنفسهم على وضع “الدولة الفاشلة” لسنوات طويلة مقبلة، خاصة في الظرف الدولي الحالي، وربما يكون الاعتراف بالواقع السوداوي وعدم المكابرة عليه، ومحاولة فهمه والعمل عليه نظرياً، والسعي إلى تخفيف مأساة الناس قدر المستطاع، هو كل ما يمكن فعله في هذه المرحلة، على أمل ان يتغير شيء ما في المستقبل.