نقد ومقالات

صنيع الشمس واضحٌ مثلها!/ قاسم حداد

هذا هو خيارك، أن تصدر جريدة إلكترونية، يعني أنك تضع نفسك وروحك وتجربتك في مهب المستقبل، بأحلام المستقبل وشروطه. حتى عندما تصير الورقية جسماً إلكترونياً في الأفق الأزرق.

ليس سوى فرق في التقنية بين الجريدة في الورق والجريدة في الإلكترون. وهذا ما لا أعتقد أن أصحاب الفكرة يغفلون عنه. فإن تختار نقل الرأي إلى الإنترنت، فهذا يعني أنك وضعت رأيك في الأفق اللامتناهي من احتمال الحوار الحر الرحب الذي يسعى، ليس لتوصيل رأيه إلى الأوسع من الناس فقط، لكي يتيح للناس، العدد الأكبر من الناس، أن يتصلوا بهذا الرأي، ويسهموا في بلورته بأكبر قدر ممكن من الحوار والسجال والجدل، ليس اتفاقا مع، لكن التعبير الرصين عن الاختلاف معه.

٭ ٭ ٭

دائما كنت أرى في شروط النشر الإلكتروني، عناصر بالغة الضرورة لتطوير آلية التجربة العربية في حقل الثقافة والمعرفة، هذه الثقافة التي ورثت تراكماً نوعياً من النظرة الواحدة، والموقف الواحد والإيمان الغليظ بالنص المكتوب، إلى حدّ القداسة التي تضاهي الدين خضوعاً. فمنذ بدء التدوين في التاريخ العربي، (وهو تدوين ابتدأ بتدوين النص الديني)، أصبح النص المكتوب بمثابة الحقائق النهائية المطلقة، التي سوف يعتبرها العربي، منذ تلك اللحظة، محصّنة لا تطالها المساءلة ولا المراجعة، ناهيك من الشك والاختلاف والنقض.

٭ ٭ ٭

وقد ورثت الثقافة العربية هذا التقليد الإيماني، لكي يتسرب، ويتجلى، ويصبح ضرباً من المتعاليات، في جميع المراحل التاريخية التي مرَّ بها فعل الكتابة العربية، ليس في حقل النصوص الدينية وشروحها واجتهاداتها المختلفة، والمتفاوتة الحصافة والدقة والمصداقية فحسب، لكن، أيضاً، في شتى ضروب الكتابة من تاريخ وأدب وشعر وخطب وسير وغيرها من أشكال الكتابات. وسوف ينتقل هذا الموقف الإيماني إلى كل ما يصدر، مكتوباً، ومن ثم سنصادف انتقال طبيعة تقديس المكتوب إلى الصحافة العربية منذ لحظتها الأولى (تكرّس في النصف الأول من القرن التاسع عشر)، حتى اللحظة الراهنة. فما يكتب في جريدة سيعتبره العقل الحقيقة التي يتوجب التعامل معها على هذا الأساس. ولن يكون باستطاعة القارئ نقض هذه الحقيقة بعد أن صارت مكتوبة ومنشورة على الملأ. وهذا ما سيجعل بواكير التجارب الصحافية في العالم محاطة بالإثارة، حيث يعتمد أصحاب الجريدة وناشروها، على نشر الأخبار التي تحقق مآرب ليست بالضرورة حقيقية.

٭ ٭ ٭

في التجربة العربية، سوف يساعد ذلك على تكريس نظرة الهيبة المقدسة تجاه النص المكتوب والمنشور في تلك الصحافة، بسبب الغياب الفادح لإحساس الحق الفطري في النقد، وفقد ما سوف يسمى لاحقاً (الديمقراطية)، ذلك الحق وهذه الديمقراطية، التي ما زالت حتى يومنا هذا تشكل ضرباً معجزاً من السلوك الذي لا يقدر النظام العربي على قبوله كفكرة، واستيعابه كحق إنساني من بديهيات الحياة.

فعلى الرغم من كل التحولات الكونيّة في حياتنا، لم تزل الثقافة العربية، مرصودة بالنظام السياسي العربي، تتعثّر في القضايا القديمة، التي يتوجب أن نكون قد تجاوزناها منذ حقب كثيرة.

٭ ٭ ٭

وعندما تنتقل الصحافة من طبيعتها الورقية التقليدية إلى النشر الإلكتروني، فهي تتصدى للدور التنويري، الذي لا يمكن تفاديه، في ما هي تذهب إلى وسائط الاتصال الجديدة. وأعني هنا بالضبط دورها في استيعاب شرط الحريات أولا، ومن ثَمّ فتح الأفق الأرحب أمام الحراك المجتمعي، بشتى تجلياته، من أجل أن يتفهم المعنى الحديث لحق التعبير، وفي اللحظة ذاتها حق قبول حق الآخرين، كل الآخرين، واختلافهم، في التعبير، دون غضاضة في كون هذه الآراء جميعها متوفرة في درجاتها الخاصة من الاختلاف والمغايرة. فالامتياز النوعي، الذي ستنهض به الصحافة في صيغتها الإلكترونية، سوف يتمثل في موهبة الكاتب الجديد ومعرفته الجديدة، فهي سوف تتفادى الامتثال لدور الصحافة التقليدي الموروث، من حيث هي ضرب من ضروب الدعاية (البروباغاندا)، لتذهب إلى ممارسة وتكريس المفاهيم الحقيقية للديمقراطية التي يتطلبها الفعل التنموي لمجتمعنا، في ما يرنو إلى مستقبله الذي يؤهله كشريك كونيّ في العالم الجديد.

صحافة تصدر عن المعرفة بالدرجة الأولى، وعن وعي الفارق المهني، تقنياً، بين الرأي والمعلومة، فليس من الحكمة، ونحن في القرن الواحد والعشرين، أن تواصل صحافتنا إلى الخضوع لاعتماد الكذب والابتزاز والتضليل، زاعمة أنها تقول رأياً.

فإذا اخترت أن تشارك في صنيع الشمس يتوجب أن تكون واضحا مثلها.

٭ ٭ ٭

هذا هو الدور الأهم في تاريخنا الاجتماعي، الذي أتوقع من أصحاب مشاريع النشر الإلكتروني جميعه، والصحافي خصوصاً، أن ينهضوا به، وأن يشكلوا كتلة مستحدثة من المفاهيم الجديدة للديمقراطية، التي لم يبق شخصٌ ولا جهة ولا فكر إلا وقد زعم الأخذ بها، دون أن نتمكن من الإمساك بالضوابط والمقومات والسياقات والقيم التي تجعل من هذا الاجتهاد، أو ذاك، جديراً بمصداقية أخلاقية تستبق التظاهر (التقني)، الذي سيكون متاحاً يوماً بعد يوم للجميع، ما دام قادراً على اقتناء هذه (التقنية)، لكي نقول دائماً إن حق الإنسان في الحرية لا ينتهي بالتقادم، وإن الديمقراطية لا تتحقق بالتمنيات والمَنح، كما أنه ليست المبادئ والقيم تشترى في السوق كما التقنية.

٭ ٭ ٭

عندما تختار التقنية الجديدة يتوجب عليك أن تكون جديداً مثلها. إن حق الإنسان في حريات العدل ليس جديداً، غير أن الوسائط الجديدة تجعله أكثر أهلية لتجديد إثبات الحق في العدل، برصانة المعرفة، وثقة الموهبة، وبشكل يليق بالمستقبل.

شاعر بحريني

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى