قصائد مختارة لـ اورهان ولي
اورهان ولي والشعر التركي الحديث
دار الحياة – اورهان ولي هو رائد الحداثة في الشعر التركي، صدرت الترجمة العربية لأعماله الكاملة عن دار آفاق للنشر والتوزيع – القاهرة بتوقيع عبدالقادر عبد اللي. لم يعش اورهان ولي الذي ولد في اسطنبول أكثر من ستة وثلاثين عاما (1914- 1950) لكنه يعتبر رائد الحداثة الشعرية في تركيا.ترك قسم الفلسفة وعمل موظفاً في البريد وأنهى الخدمة العسكرية ضابطاً، فعمل مترجماً في وزارة التربية، وفي عام 1947 استقال بعد شم رائحة الديكتاتورية من جديد. وفور استقالته اصدر صحيفة من ورقتين بعنوان» الورقة « لم تكمل سنة من عمرها. سقط في حفرة نسيت البلدية التحذير منها في الطريق فجرح في رجله و ساءت حالته على أثرها فنقل إلى المشفى وتوفي بنزيف دماغي.
اورهان ولي أشهر شعراء تركيا. الأتراك يختلفون على شعر ناظم حكمت لكنهم لا يختلفون عليه، فهو مقبول في الأوساط السياسية كلها حتى اليسارية التي تتهمه بالرجعية، والرجعية ليست تهمة لشعره وإنما لمواقفه السياسية المحايدة، فهو من الشعراء النادرين الذين بقوا بعيدين عن التحزب السياسي.
اتسم شعره النثري بخفوت النبرة والبساطة والاهتمام بالتفاصيل اليومية العابرة والهامشية، أما شعره المنظوم فهو متألق، ويضاف إلى انه من المترجمين الذين ترجموا الشعر منظوما، وقد جعله حياده السياسي متطرفا في التنظير للشعر وجريئاً في فن القول، وعارض بشدة موضوعات الشعر القديم وقوافيه، ويبدو هذا واضحاً في مقدمته لكتاب «غريب» الذي أصدره مع صديقيّ العمر مليح جودت واوقطاي رفعت. بعد الكتاب ظهر تيار شعري في تركيا اسمه «غريب» وأصبح مدرسة شعرية تركية، يهتم بها الشعب كله وليس كما كان مقصوراً على النخب المثقفة سابقاً.
يرى اورهان ولي في مقدمة «غريب» (1941) أن النظم كان مناسبا للمرحلة الشفوية، فالناس سعوا إلى القافية والوزن للمساعدة على الحفظ، مع إقرار بأن لها سمات جمالية، «وأؤمن بأن النغم موجود خارج عنصري الوزن والقافية»، بل هما قيدان يحكمان أفكار الشاعر وحساسيته، لأنهما اضطرتاه إلى استخدام مفردات اثقلت تركيب النظم، ويذهب إلى أن فنون القول مثل التشبيه والاستعارة تجبر على رؤية الأشياء على غير ما هي عليه، عدا عن أن الشعر تم توظيفه لخدمة الإقطاع والسلطة، والشعر الجديد هو شعر الناس، لأنه يشبه لغتهم.
تغيير الذوق هو تغيير للسلطة بطرق ووسائط جديدة. وهذا التغيير يحتاج إلى فرسان يحطمون تقاليد الشعر السابقة ويؤسسون للشعر الجديد، والطريق مستمر وليس نهائياً. كما ان اورهان يقف ضد مزج الفنون مع بعضها فالرسم رسم والشعر شعر. وهو مع السهولة، فالشعر الجيد هو الذي يفهمه الناس. أما شعور الإنسان حين يفهم امراً يعتقد انه غير مفهوم فهو ناجم عن مساواة القارئ نفسه بالكاتب. الشعر الجيد هو الذي يخاطب روح الإنسان لا الحواس الخمس. ويزدري الشاعر حيلة الشاعر ابوليينر في إقحام الرسم إلى الشعر (صف الجمل من زاوية علوية إلى زاوية سفلية للإيهام بسقوط المطر مثلاً) وكذلك براعات اليابانيين في كتابة الشعر على شكل أشجار قصب وبحيرات وكواكب… مهما يكن فعلى الشعر أن يكتسب قيمته من كلماته وليس من أدوات بديلة.
(إن إهمال الوزن والقافية والإطاحة بهما لا يعني العفوية، فالشعر اجتهاد أيضا، صناعة، واستخدام الكلمات الجميلة كأدوات شعرية ليس مكسبا للشعر، فطريقة أدائها هي التي تحدد مصيرها وهي ما نسميه الشاعرية).
بعد خمس سنوات كتب اورهان مقدمة أخرى لكتاب «غريب»، ولم يتنصل منه، وهو يؤمن بمقولة «ليس ثمة ما لا يمكن إثبات نقيضه في الفن. فتاريخ الفن هو تاريخ محتالين».
ظلي
مللت من جره
منذ سنين وهو بطرف قدمي
لنعش قليلاً في هذا العالم
هو وحده
وأنا وحدي
صوت القطار
أنا غريب
بلا جميلة تسلي قلبي
في هذه المدينة
بلا وجه مألوف
ما أن اسمع صوت قطار
حتى تغدو عيناي / نبعين
عصر النهضة
يجب الذهاب إلى رصيف الميناء غداً
سيخرج عصر النهضة من السفينة
عصر النهضة كيف هو
لباسه، هندامه؟
هل هو أنيق أم رث؟
هل هو سياسي في يده عكاز؟ أم ذو غرة وشارب
يشبه النصابين؟
هل سيخرج من العنبر أم من القمرة؟
أم انه وقاد وما شابه ذلك
أتى على السفينة عاملاً.
————————
[لو أنّني بكيت]
لو أنّني بكيت
أكنتِ تستطيعين أن تسمعي
نحيبي في قصائدي ؟
أكان بمقدوركِ
أن تلمسي دموعي بيديكِ ؟
قبل أن أقع فريسة لهذا الحزن
لم أكن أعرف
أن للأغاني كلّ هذا السحر
وأن الكلمات
تحملُ كلّ هذه البلاغة
أعرف مكاناً واحداً
حيث يمكنك
أن تتحدّث عن كلّ شيء
وأشعر أنّني قريب
من ذلك المكان
لكنّي لم أستطع بعد
أن أتبيّن حقيقته
————————
[دمّرني هذا الطقسُ الجميلُ]
دمّرني هذا الطقسُ الجميلُ،
وفي مثل هذا الطقس
استقلتُ من وظيفتي في الأوقاف.
اعتدتُ التدخينَ في مثل هذا الطقس،
ووقعتُ في الحب في مثل هذا الطقس؛
نسيت أن أحضر الخبز والملح إلى البيت؛
في مثل هذا الطقس
ودائما ما ينتكس مرضي بكتابة الشعر
في مثل هذا الطقس
لقد دمّرني هذا الطقس الجميل!
————————–
على أي حال هكذا هي الحياة
وكان في هذا البيت كلب مجعد الفرو
اسمه جينكون، لكنه مات
وأيضاً كان فيه قطة تدعى ” زرقا “
اختفت في أحد الأيام
فتاة الدار تزوجت
والفتى أنهى دراسته
أيضاً
أشياء أخرى جرت :
منها ما يحمل الفرح وأخرى الترح
الكثير من الأشياء حصلت هذا العام
الكثير من الأشياء وكل منها يشبه الآخر
ذاتاً، هكذا هي الحياة
———————–
مِلقط
لا القنبلة الذريّة،
ولا مؤتمر لندن؛
في إحدى يديها مِلْقَط،
وفي الأخرى مِرْآة؛
فهل تبالي بهذا العالم؟
——————–
لخاطر الكتابة وحدها
وظنّت الحلواتُ أن كلّ شعر الحب الذي أنظّمه
لخاطر عيونهن
أمّا أنا لطالما عانيتُ من معرفة الحقيقة وراء نظم الأشعار
هي هكذا…..فقط للكتابة وحدها
——————-
بدلاً من الجدران الأربعة/ أورهان ولي
–
رسالة من قطّ شوارع إلى قطِّ بائع الكبد
لا يمكننا أن نتوافق أبداً، طُرُقُنَا منفصلة
أنتَ قِطُّ بائعِ الكبد، وأنا قطُّ شوارع
طعامك في وعاء مطليّ بالقصدير
وطعامي في فم الأسد
في الأحلام ترى أنتَ الحبَّ، وأنا العظمَ
لكنّ حياتَكَ ليست سهلةً أيضاً يا أخي
ليس سهلاً على الإطلاق
أن تهزّ ذيلَكَ هكذا كلّ يوم.
الرد:
– من قِطِّ بائع الكبد إلى قط الشوارع –
أنتَ تتحدّث عن الجوع
وهذا يعني أنك شيوعي
إذاً الذي أحرق كلَّ البنايات هو أنتَ
بنايات إسطنبول، أنتَ
بنايات أنقرة، أنتَ
يا لك من خنزير!
■■■
ليست سهلة
أعرف أنَّ الحياة ليست سهلة
ولكن ها هو؛
سرير أحد الموتى لا يزال دافئاً
ولا تزال الساعةُ تعملُ في يد أحدهم
الحياةُ ليست سهلةً يا إخوتي
ولا الموت أيضاً
ليس من السهل مغادرة هذا العالم!
■■■
لا أستطيع أن أقول شيئاً
لو أنّني بكيتُ
فهل تقدرونَ على سماع النحيب في قصائدي،
وأنْ تلمسوا دموعي بأياديكم؟
قبل أن أقعَ في هذا الحزن
لم أكن أعرف
أنّ الأغاني جميلةٌ إلى هذا الحدّ
وأنّ الكلمات ليست كافية.
أعرف أنَّ هناك مكاناً
يمكن أن تتحدّثَ فيه عن كلّ شيء
أقترب منه كثيراً، وأسمع صوته
لكنّني لا أستطيع أن أقول شيئاً.
■■■
من أجل الكتابة
كلُّ الجميلاتِ يتصوّرنَ
أنّ قصائدي عن الحبِّ
كُتبتْ فيهنَّ
وأنا أعاني دائماً
من معرفتي بأنّها
من أجل الكتابةِ
والسلام.
■■■
مساءات الأحد
ثيابي الآن رثَّة
ولكن من المحتمل بعد أن أسدّد ديوني
أن يكون لديّ ثياب جديدة
ومن المحتمل أيضاً ألّا تحبّيني مرّةً أُخرى
ومع ذلك،
وأنا أمرُّ من حيِّكِ بثيابٍ مهندمة
في مساءات الأحد،
هل تظنِّينَ أنني سأفكر فيكِ مثل الآن؟
■■■
أجراس
نحن الموظّفين
نكون في الشوارع مع بعضنا البعض
في التاسعة صباحاً، والثانية عشر ظهراً
والخامسة مساءً
هكذا كتب الإلهُ المُعَظَّمُ قَدَرَنَا؛
ننتظر جرسَ انتهاء العمل
أو أوّل الشهر.
■■■
في الداخل
الشبّاك
أفضل شيء هو الشبّاك
على الأقل سترى الطيور المارّة
بدلاً من الجدران الأربعة.
■■■
شيء ما في هذا الأمر
هل البحرُ جميلٌ كلَّ يوم إلى هذا الحدّ؟
هل تبدو السماءُ هكذا دائماً؟
هذه الأشياء وهذه النافذة؟
لا والله
إنها ليست كذلك؛
يوجد شيء ما في هذا الأمر.
■■■
مِثْل البشر
هل كان للدبَّابة رغبةٌ في أحلامها،
وفي أي شيء تفُكرِّ الطائرةُ وهي وحيدة؟
وأقنعة الغاز التي تغنّي معاً في انسجام
ألا تعشق تحت ضوء القمر؟
أليس لدى البنادق رحمةٌ
ولو حتى بالقدر الذي لدينا؟
* Orhan Veli أحد أبرز الشعراء الأتراك في العصر الحديث. وُلد في إسطنبول عام 1914 وقضى فيها طفولته ثم انتقل مع عائلته إلى أنقرة. لم يكمل دراسة الفلسفة في جامعة إسطنبول، وبدأ في وقت مبكر بنشر قصائده الأولى في مجلة “فارليك”، كما أسّس مع الشاعرين مليح جودت وأوكتاي رفعت حركة شعرية عُرفت باسم “غريب”. خاضت الحركة عدّة معارك أدبية بسبب ثورتهم على قوالب الشعر التركي القديم، وأصدروا مجموعة شعرية مشتركة عام 1941، حملت اسم الحركة نفسه، وكتب مقدّمتها أورهان ولي الذي عبّر فيها عن رأي الحركة في الشعر الجديد. أصدر ولي بعض المجموعات الشعرية بعد ذلك، مثل: “لم أستسلم” 1945، و”مثل الملحمة” 1946، ويعتبره النقاد أوّل الشعراء الأتراك الذين أدخلوا اللغة اليومية إلى الشعر. وقد نُشرت أعماله الشعرية الكاملة في مجلّد بعد رحيله عام 1950.
** ترجمة عن التركية: أحمد زكريا وملاك دينيز أوزدمير
—————————-