ميلاد جديد في اللغة العربية/ منصورة عز الدين
Witold Gombrowicz
تسعى هذه الورقة إلى تعقب الطريقة التي استُقبِل بها أدب فيتولد غومبروفيتش عربياً عبر طرح أسئلة من قبيل: إلى أيّ مدى يلعب الزمن دوراً في عملية التلقي؟ كيف يمكن استقبال رواية قديمة من ثقافة بعيدة بعد عقود على كتابتها؟ ألا يكون سؤال الزمن مركزياً في فعل القراءة في هذه الحالة؟ فهل نجح غومبروفيتش في اجتياز حاجز الزمان والمكان؟ ما الذي قد يجذب القراء العرب إلى كاتب بولندي عاش ورحل قبل عقود؟ هل هناك ما يجمع بينه وبين كتّاب عرب؟ وما المعايير الدالة على رواج كتاب ما في سوق كبير جغرافياً وغير مترابط كسوق النشر في العالم العربي؟
حين يُعاد اكتشاف كاتب ما بلغة جديدة بعد مرور عقود على وفاته، أو حين تُترجم رواية ما إلى لغة جديدة بعد عقود من كتابتها ونشرها للمرة الأولى، يصبح الزمن -شئنا أم أبينا- عاملاً رئيسياً في فعل التلقي، ويوضع الكاتب أو العمل أمام اختبار صعب قد ينجح في اجتيازه بدرجة تدفعنا لإعادة النظر في تاريخ الأدب بحثاً عن موقع ملائم للقادم الجديد أو يخفق في هذا، فيتم تلقيه فقط من باب العلم بالشيء.
الاختبار المقصود هو اختبار الزمن؛ هل تقادم العمل أو الكاتب ـــ بفعل مرور الوقت ـــ ولم يعد بالإمكان قراءته بمعزل عن عصره؟ أم أنه لا يزال قادراً على الإدهاش والصمود كعمل تجريبي بوسعه تخطّي حُجُب الزمان والمكان (المكان هنا ضروري حين نتكلم عن كُتَّاب ينتمون إلى ثقافات بعيدة عنّا)؟
كنت مشغولة بعامل الزمن وقدرة الفن الجيد على تخطّي حواجزه ثلاث مرات على الأقل خلال السنوات القليلة الماضية: الأولى «حكايات بين جعبة وأخرى» للتشيكي كارل تشابك (ت: برهان قلق، دار المتوسط 2016)، والثانية «كازانوفا في بولزانو» للمجري ساندور ماراي (ت: إيمان حرز الله، دار التنوير 2013) والثالثة مع عملَي فيتولد غومبروفيتش «اليوميات ــ الجزء الأول» (ت: أجنيشكا بيوتروفسكا ومعتصم بهائي ــ منشورات الجمل 2018) و«فرديدوركه» (ت: أجنيشكا بيوتروفسكا ومعتصم بهائي، منشورات الجمل 2016).
غير أن حالة فيتولد غومبروفيتش تحديداً هي أكثر الحالات السابقة إثارةً للاهتمام، وأشدها لتبيين فكرة العصيان على التقادم من عدمه. ويرجع هذا في ظني إلى أنه الكاتب الأكثر تجريبية بين هذه الأسماء (من دون أن يعدّ هذا حكم قيمة في حدّ ذاته)، كما أنه ــــ كما يتبدى في «فرديدوركه» بوجه خاص ـــ شديد الانشغال بفكرة التحديث والعصرنة.
وفي رأيي إن غومبروفيتش قد نجح في اجتياز اختبار الزمن، بل أجازف بقول إنه وصل إلى اللغة العربية في لحظة مواتية تماماً، حيث بدأ الأدب العربي بداية من تسعينات القرن العشرين يصبح أكثر انفتاحاً على الأعمال التي تُعلي من شأن اللعب وتتخذ من الهزل والإمعان في السخرية منهجاً لطرح أعقد الأفكار والمشكلات.
هذه الاتجاهات الأدبية شائعة، بل مفضلة في المشهد الأدبي المصري على الأقل، ومعها الجرأة في مزج اللغة الفصحى الكلاسيكية بمستويات أخرى من اللغة المحكية. جاءت ترجمة غومبروفيتش أيضاً بعد عقود من ترجمة خورخي لويس بورخيس، وإيتالو كالفينو وخوليو وكورتاثر، وآخرين ممن يجمع بينهم الحس التجريبي والولع باللعب كمفهوم أساسي في عوالمهم التخييلية، مع اختلاف كل منهم عن الآخر تمام الاختلاف بطبيعة الحال.
كان المشهد الثقافي العربي مستعداً إذاً لتلقي أعمال غومبروفيتش، إذ ليس من قبيل المصادفة، أن ترجمة «فيرديدوركه» ثم «اليوميات» تمت بسعي متحمس من الناشر خالد المعالي الذي ذكر في حوار أجرته معه أجنيشكا بيوتروفسكا ونُشِر في جريدة «أخبار الأدب»: «كنت في التسعينات أفكّر بترجمة ونشر أي عمل لغومبروفيتش، ومن أجل هذا قمت بسفرتي الوحيدة إلى بولندا لزيارة صديق عراقي كان يعمل في جامعة بوزنان، على أمل التعرّف إلى مترجم عن البولندية يمكنه إنجاز المهمة، لكني لم أقتنع بمن تحدثت إليهم أو عنهم من خلال هذا الصديق، وبقيت فكرة ترجمة غومبروفيتش مجرد فكرة في الرأس، حتى التقينا صدفة في معرض الجزائر للكتاب قبل سنوات وبعد الكلام العام الذي تبادلناه، عرجنا على غومبروفيتش، واتفقنا بشكل ارتجالي. كانت عملية صعبة ومحفوفة بالمصاعب والعراقيل، ولكن ما اتفقنا عليه تحقّق وصدر الكتاب الأول».
كنت أقول إن التعريف بغومبروفيتش عربياً جاء في توقيته المناسب تماماً، وأضيف على هذا أنه لا يمكنني تخيّل كيف كان من الممكن استقبال «فيرديدوركه»، على سبيل المثال، إن تُرجِمت في أربعينات القرن العشرين أو حتى خمسيناته. في تلك الفترة، كانت الرواية العربية في مراحلها الأولى؛ أقرب إلى التقليدية والواقعية الجادة في معظمها، ما يعني أن «فيرديدوركه» ربما كانت ستبدو، في الغالب، مزحة قد لا تُعامَل بالجدية الكافية.
لكن لندع الافتراضات جانباً، ولنتأمل في كيفية استقبال الطبعة العربية من الرواية نفسها حين صدرت بعد صدور النص الأصلي بأكثر من سبعة عقود.
«فيرديدوركه» أو كيف يمكن استقبال رواية، في ثقافة مغايرة، بعد عقود على كتابتها؟
ما إن يُترجَم كاتب للمرة الأولى إلى لغة جديدة حتى يُقرَأ في سياق غيره من كُتَّاب معروفين بين قراء هذه اللغة. مؤكد طبعاً أن الحالة المُثلى تفترض أن يُقرَأ العمل من داخله وفي سياقه الخاص، لكن هذا الوضع ليس هو السائد دائماً، فنادراً ما تُقرَأ الأعمال الأدبية من داخلها وفي سياقها الخاص، إذ ثمة دوماً مقارنات لا تنتهي، تحدث بشكل عفوي أو قصدي، بين كاتب/ عمل ما وبين كُتَّاب آخرين/ أعمال أخرى.
فأي عمل نقطة في بحر متلاطم هو تاريخ الأدب، بعض الأعمال مسكونة حتى بأعمال أخرى بحيث يصعب فصلها عنها. إذا تحدثنا عن «فيرديدوركه» مثلاً، فمن الصعب قراءة مشهدها الأول من دون أن يخطر في بالنا المشهد الافتتاحي لـ «مسخ» كافكا. وعلى الرغم من أن الرواية عصية على التصنيف، فإن محاكاتها الساخرة للكابوسية، تستدعي معها قراءتها في سياق ما سبق وقرأناه من روايات كابوسية أو من روايات المحاكاة الساخرة. أيضاً روح اللعب السائدة على امتداد العمل تستدعي قراءته في ضوء أعمال أخرى تُعلي من شأن اللعب.
هذا بخلاف أن العنوان نفسه يُذكِّر القارئ الحصيف باسم «فريدي دوركه» الوارد عابراً في رواية «بابِت» للروائي الأميركي سنكلير لويس. لكن في حالة استقبال «فيرديدوركه» عربياً، لم يقتصر الأمر على هذا النوع من المقارنات بين فنيات الرواية وبين جماليات روايات أخرى، بل تركز بالأساس على محاولة منح فيتولد شرعية واعترافاً، لا يحتاج إليهما، من خلال استعراض آراء كُتاب آخرين في روايته.
فمع أن كلمة الغلاف الأخير قدمت الرواية بشكل مستقل عن غيرها من أعمال باعتبارها «جوهرة الثقافة الرائعة في فترة ما بين الحربين العالميتين»، لم تكد تخلو مقالة كُتبت عن «فيرديدوركه» بالعربية من الإشارة إلى آراء كُتَّاب معروفين في كاتبها. فالروائي اللبناني حسن داوود يكتب مثلاً في مقاله «أوروبا قبل قليل من الحرب العالمية الثانية» المنشور في جريدة «القدس العربي»: «هذا وكان ميلان كونديرا قد أقام تلك المقارنة أيضاً بين الكاتبين (غومبروفيتش وسارتر) حين ذكر أن اعتبار رواية «الغثيان» لسارتر نموذجاً للاتجاه الجديد، وليس «فيرديدوركه»، كانت له نتائج مأساوية» (1)، فيما يكتب طارق أبي سمرا في مقاله «فيرديدوركه.. رائعة غومبروفيتش الذي فضله كونديرا على سارتر» في موقع «المدن» الإلكتروني: «غومبروفيتش، المُعلِن نفسه «أعظم كاتب مغمور في عصرنا»، مجهول نسبياً للجمهور العام غير البولندي، بالرغم من إشادة كُتّاب كبار بأعماله، كالأميركي جون أبدايك والتشيكي ميلان كونديرا الذي لم يتردد في وصف «فيرديدوركه» كـ «واحدة من أهمّ ثلاث أو أربع روايات كُتبت بعد موت بروست»» (2). وفي المقال نفسه، يكتب أبي سمرا أيضاً: «كل هذا التأمل الفكري أو حتى الفلسفي الذي يضفيه المؤلِّف على عمله لا يتحوّل أبداً إلى وعظ جاف أو تنظير مجرّد، بل يبقى أقرب إلى الهزل المَرِح والعابث. هذا ما دفع كونديرا في كتابه «الوصايا المغدورة» إلى مقارنة غومبروفيتش بسارتر، قائلاً إن الثاني استحوذ عن غير حق، عبر روايته «الغثيان»، على مكانة الأول في تاريخ الرواية. فكونديرا يعتبر روايات سارتر مجرّد تنظيرات فلسفية مُتنكرة بزيّ روائي، بينما أعمال غومبروفيتش هي روايات فلسفية بكل ما للكلمة من معنى. يقول كونديرا: «أن تصبح «الغثيان»، لا «فيرديدوركه»، مثالاً على هذا التوجّه الجديد، فهذا ما كانت له عواقب وخيمة: فقد أقيمت ليلة عرس الفلسفة على الرواية، في مناخ من الضجر المتبادل»» (3).
في هذا السياق، ربما يكون مقال الروائي المصري إبراهيم فرغلي، المنشور في جريدة «الحياة» والمعنون بـ «البولندي غومبروفيتش يفضح مراهقة مجتمع الحرب»، المقال الوحيد الذي لم يستعرض آراء كتاب آخرين في غومبروفيتش و«فيرديدوركه»، فرغم ربطه بين سخرية الكاتب وسخرية كل من ثربانتس وشارلي شابلن، إلّا أنه ناقش الرواية من داخلها، منتبهاً إلى أن النص «يبدو عصرياً وطليعياً في تقنياته وأسلوبه، يعد اليوم من كلاسيكيات الأدب الأوروبي، والبولندي على نحو خاص، حيث نُشر في عام 1937. وهو على الرغم من كونه يعبّر عن مأزق ذهني واجتماعي كبير مرت به أوروبا بعد الحرب العالمية، لكنه يمتح من إحساس مدهش بالسخرية التي يمتلك الكاتب ناصيتها ببراعة. ويبدو وهو يطرق بمطرقته القاسية على القيم المبتذلة والمراهقة التي سادت آنذاك، قادراً على أن يضحك القارئ على المفارقات التي تقوم بها الشخصيات» (4).
أما بالنسبة لي، فكان أكثر ما شغلني في ما يخص «فيرديدوركه» حسها العالمي وقدرتها على تجاوز حدود العصر الذي كُتِبت فيه، مع أنها حافلة بإشارات تشير إلى ذاك العصر، لتبقى حديثة بل لتزداد قيمتها الآن خاصة لدى الأجيال الشابة المتمردة على كل ما هو متوَافق عليه سواء فنياً وأدبياً أو اجتماعياً وسياسياً.
كما لفت نظري أيضاً حضور الجسد في الرواية، خاصةً عبر المؤخرة أو «البوبو» والوجه، فالجسد ـــ على مدى صفحاتها ـــ سائل ولا يكف عن التشكل، أعضاؤه تنفصل عن بعضها بعضاً تارة، وتزدري وتغتصب بعضها البعض تارة أخرى. ثمة خوف من الجسد وغربة عنه. أما الوجوه، فتحضر بعيدة عن مفهوم الوجه: مجعدة ومرهقة ومضغوطة ومستعدة لأخذ شكل أي وجه. أو مخلوعة ومشوهة ومقلوبة من الداخل إلى الخارج.
سيولة الجسد هذه وذوبان أعضائه واستعدادها للتشكل بأشكال أخرى، ذكرتني بالوجوه الذائبة والمصهورة في لوحات فرانسيس بيكون، كأن الفنان البريطاني استلهمها من «فيرديدوركه» وعالمها الغريب العصي على الركون لشكل محدد.
فالعمل بكامله لا يكف عن التغيّر وإعادة التشكل، كما لو كان يحاكي الوجه في تبدله وتمرده على الشكل.
من جهة أخرى، حين صدرت الطبعة العربية لـ «فيرديدوركه» فاجأني أمر آخر بشكل شخصي، إذ كنت قد انتهيت من كتابة روايتي الرابعة «أخيلة الظل»، تلك الرواية (ميتا رواية) التي تلعب على المسافة البينية بين نوعي الرواية والقصة القصيرة وتنشغل بالكتابة كموضوع أساسي لها. كان طموحي الفني، في أثناء كتابتها، أن يقترب كل فصل من قصة قصيرة قائمة بذاتها، وفي الوقت نفسه يبقى مرتبطاً بغيره من الفصول، وفي خضم هذه الفصول المنفصلة المتصلة في آن، توجد قصة قصيرة يُفترض أن بطل العمل كتبها وأرسلها للبطلة التي ردت عليه بقصة أخرى. أي في المحصلة، قصتان مستقلتان داخل متن رواية قائمة على فصول أشبه بالقصص القصيرة.
وقرأت «فيرديدوركه» لأجد انشغال مؤلّفها بالشكل ورغبته في التمرد عليه وتضمينه لقصتين قصيرتين تسبق كل منهما مقدمة في عمله. بالنسبة لي، كانت المسألة لعباً مع الشكل وتطويعاً لنوع أدبي لخدمة نوع أدبي آخر، وليس تمرداً على الشكل كما في حالة «فيرديدوركه» التي يقطع مؤلفها أحداثها بقصة «فيليدور المبطن بالطفل»، سابقاً إياها بمقدمة يقارن فيها بين أجزاء الجسد وبين البناء الروائي ويقدم رؤاه الفنية وتأملاته حول الشكل في رواية تحتفي بالميتا سرد.
وبعد المقدمة والقصة، يعود الكاتب لملاحقة راويه في عالم عدم النضج، قبل أن يقطع السرد بقصة ثانية بعنوان «فيليبرت المبطن بالطفل»، يسبقها بمقدمة يعلن فيها أنه أسير المقدمة ولا يستطيع أن يعمل بدونها، ويوضح أن قانون التماثل يفرض عليه أن قصة فيليدور يجب أن تقابلها قصة فيليبرت والمقدمة الأولى تقابلها المقدمة الثانية. الحديث عن قانون التماثل وما يفرضه يقودنا إلى خلاصة متوارية بين طيات العمل: «حتى لو أردت فإنني لا أستطيع أن أتفادى القوانين الحديدية للتماثل والقياس». و«يبدو لنا بأننا الذين نقوم بالبناء – وذلك وهم لأننا على حد سواء يتم بناؤنا من قِبل البناء».
وفي نهاية كلامي عن «فيرديدوركه»، لا تفوتني الإشارة إلى أنه على الرغم من حماسي للرواية، وما تمثّله من إعلاء لشأن اللعب والتجريب وما تحتويه من تأمّلات حول الأدب والفن، فإنني أعرف أن هذا النوع من الكتابة لا يحظى بإعجاب الجميع، بل إن العلاقة به عادة ما تكون حدّية: إما إعجاباً جارفاً أو نفوراً لا رجعة فيه واتهامات لكاتبه بالفذلكة والادّعاء من جانب القراء العاديين الذين يميلون، في معظمهم، إلى حبكة تقليدية وحكاية بسيطة. وعليه فإن الرواية وغومبروفيتش نفسه من ذلك النوع الذي ينتقي قراءه بعناية؛ إن جاز استخدام تعبير مماثل.
زواج: لقاء أول لم يكد يُلحظ
في السطور السابقة تحدثت كما لو أن «فيرديدوركه» أول ما تُرجِم من أعمال غومبروفيتش إلى العربية، والحقيقة أن عمله الأول المترجم إلى لغة الضاد هو مسرحية «زواج» التي صدرت عام 2004 في وارسو عن «دار الحوار» بترجمة وتقديم جورج يعقوب الأستاذ في معهد الاستشراق في جامعة وارسو، في إطار الاحتفال بمئوية ميلاد الكاتب.
لكن كون «زواج» كانت فاتحة ترجمات صاحب «كوزموس»، لا يعني إطلاقاً أن يُنسَب لها فضل التعريف به عربياً، فمعرفة القراء العرب به بدأت بترجمة «فيرديدوركه»، والسبب في هذا أنها نُشِرت في دار نشر عربية كبيرة مقرّها بيروت التي تُعد من عواصم الكتاب المهمة في العالم العربي، في حين أن «زواج» نُشِرت في بولندا بعيداً عن قراء اللغة العربية في عمومهم وصدرت عن دار أكاديمية لا تجارية ولا أعتقد أن نسخاً من المسرحية قد توفرت بما يكفي في مكتبات العواصم العربية الكبرى. وثمة عامل آخر لا يمكن تجاهله مفاده أن الروايات هي النوع الأدبي الأكثر انتشاراً وتفضيلاً من جانب القراء العرب، بخلاف المسرحيات التي تلقى رواجاً فقط إن تحولت إلى عرض مسرحي ناجح، بعدما انقضى زمن ازدهار نشرها في فترتي الخمسينات والستينات؛ حيث نُشِرت في تلك الفترة ترجمات لأهم المسرحيات العالمية.
وبما أننا قد أشرنا إلى الأنواع الأدبية المفضلة، فالظاهرة اللافتة أن الكاتبين البولنديين الأكثر شهرة وشعبية عربياً شاعران، وأعني بهما: فيسوافا شيمبوريسكا وتشيسواف ميووش، لكن السبب الأبرز لتعريف القراء العرب بهما ليس كونهما شاعرين إنما لأن كليهما فاز بـ «نوبل»، وبعد ترجمة أشعارهما حظيا بتقدير كبير من الشعراء والقراء العرب على حدّ سواء.
«اليوميات» أو أسئلة الفن العصية على التقادم
قراءة يوميات كاتب ما، تشبه تلبية دعوته إلى جلسة خاصة في بيته أو ربما داخل روحه. إحساس غريب ينتابك حين تجد مَن عاش قبلك بعقود يجيب عن أسئلتك الشخصية أو يطرح أسئلة تشغلك ويتوقف أمام معضلات لطالما أرقتك. في هذا جرعة مكثفة من كرم الكتابة. لليوميات إذن سحر من الصعب مقاومته، ولا أتحدث هنا عن إغواء التلصص على الحياة الشخصية لكاتبها، بل إتاحة فرصة التوغل داخل عقله وأفكاره وعكس روح عصره وأسئلة هذا العصر الفنية والجمالية. ثمة يوميات مُهندَسة؛ أي مكتوبة وفي ذهن كاتبها أنها سوف تُقرَأ لاحقاً، لذا يبدو طيف القارئ ماثلاً فيها ومختبئاً بين سطورها، كما أن هناك يوميات مشغولة بأسئلة فنية أكثر من انشغالها برصد تفاصيل شخصية وأحداث حياتية. لكن حتى في هاتين الحالتين، لا تقل حميمية اليوميات ولا يبطل سحرها.
ولا تخرج يوميات غومبروفيتش عن هذه القاعدة، بل تمثّلها أفضل تمثيل، إذ تتيح لقارئها الاطلاع على أفكار وهواجس واحد من أهم كُتَّاب القرن العشرين. غير أن كونها يوميات «خاصة – عامة» بحسب وصف مؤلفها وانشغالها بانشغالات فنية وجمالية في الأساس، يجعلها في رأيي تهم الكُتَّاب أكثر من غيرهم، لتكون بهذا مخلصة تماماً لصورة غومبروفيتش كما أتصورها؛ فهو «كاتب كُتَّاب» وفق الوصف المعروف، وكثير من محتوى يومياته يصبّ في خانة هذا الوصف ويعززه.
لكن بعيداً عن هذا، أرى أن اليوميات لديها الكثير لتقوله للكتاب والمثقفين العرب والمصريين على وجه الخصوص، كأنها كُتِبَت تلبية لاحتياج ملائم للظرف الذي يعيشونه الآن، حيث ثورات انتهت إما إلى حروب ونزاعات أهلية أو إلى أنظمة ديكتاتورية أشد بطشاً من سابقتها، ونتج عن الحالتين اضطرار أعداد كبيرة من الكُتَّاب إلى هجرة طوعية أو قسرية. اقرأ في الطبعة العربية من الجزء الأول لليوميات الفقرة التالية:
«ههنا نخبة البلاد يتم طردها إلى الخارج. يمكنها أن تفكر وتشعر وتكتب من الخارج. إنها تكسب مسافة. تكسب حرية روحية مدهشة. جميع الارتباطات تنفجر. يمكن للشخص أن يكون نفسه أكثر» (5) (اليوميات.. ص95) فأشعر أنه يتكلم عن قطاع كبير من النخبة العربية في الوقت الحالي.
وحين يكتب:
«لا تضيعوا وقتكم الثمين في مطاردة أوروبا – لن تلحقوا بها أبداً. لا تحاولوا أن تصبحوا «ماتيسات» بولنديين، لن يولد «براك» من نقائصكم. بدلاً من ذلك انطلقوا إلى الفن الأوروبي، كونوا من أولئك الذين يزيحون الأقنعة. وبدلاً من رفع أنفسكم إلى مستوى نضج الآخرين، حاولوا الكشف عن عدم نضج أوروبا» (6) (اليوميات.. ص70)
يبدو لي كأنما يتكلم عن العلاقة الشائكة للمثقف العربي بالغرب ويقدم خلاصة خبرته فيها، فمنذ بدايات النهضة العربية الحديثة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مثَّل الغرب المرجعية الأساسية للمثقفين العرب، حتى من عادوه وهاجموه عرَّفوا أنفسهم ــ في الغالب ــ انطلاقاً من موقفهم المعادي له؛ كأن موقفهم المناهض له شكَّل أساس هويتهم.
امتدّ هذا للفن والأدب أيضاً، فكم من فنانين وكُتَّاب عرب طمحوا لأن يكونوا «ماتيسات» أو «بلزاكات» أو «ديكنزات» جدداً، ووقفوا من كل ما يأتي من الغرب من فنّ وأدب موقف التلميذ المنبهر لا موقف الندّ ذي الرؤية النقدية.
وفي مقابل ما كتبه غومبروفيتش عن «فرع كامل من أدب اليوم الذي يعيش فقط على مشكلة واحدة: الشيوعية» (7) (اليوميات.. ص53) نجد لدينا، في العالم العربي، فرعاً كاملاً من الأدب الذي يعيش على مشكلة واحدة هي الديكتاتورية؛ وأدباءً يقدمون أنفسهم للغرب تحديداً بوصفهم ناشطين سياسيين أكثر منهم كُتَّاباً.
يمكن تتبع عشرات التشابهات العامة، هذا بخلاف التشابهات الفردية التي قد يستشعرها كل كاتب أو فنان عن رؤيته لذاته، عن هواجسه ومخاوفه وتشككه في ما ينتجه ورد فعله على هذا النقد أو ذاك لعمله.
عبر اليوميات، يتخطّى غومبروفيتش عصره، يتجاوز خصوصية الثقافة البولندية وطبيعة المشهد الفني والثقافي في الأرجنتين، ويتخطى مجرّد تسجيل رؤيته للثقافة الغربية في زمنه، ليقدم نصّاً يرى فيه كُتَّاب آخرون من ثقافات مختلفة وبعيدة أنفسهم ويقابلون بعضاً من انشغالاتهم وأسئلتهم ماثلة في عقل كاتب ومثقف نجح في الخروج بيومياته من الإطار الخاص إلى الإطار العام الأشمل المتجاوز لهويته الفردية وللثقافة التي ينتمي إليها.
معايير الرواج
في سوق نشر كبير جغرافياً وغير مترابط بما يكفي مثل سوق النشر العربي، قد لا يتعلق نجاح كتاب من عدمه كثيراً بمضمون الكتاب نفسه أو مدى جودته وقدرته على تلبية احتياجات معينة لدى القراء، بل تتداخل عوامل أخرى خارجية لتحدّ من انتشار الكتاب أو تسهم في رواجه. ومن أهم هذه العوامل اسم ناشر الكتاب، فبعض دور النشر تكتفي بتوزيع كتبها محلياً ولا تحرص على توفيرها للقراء في الدول العربية الأخرى، أو توفرها هناك فقط من خلال معارض الكتب المختلفة، لكن الدور المثالية هي تلك التي تشارك في كل معارض الكتب العربية وتوفر كتبها خارج حدودها عن طريق وكلاء وموزعين محليين، غير أن حتى هذه الدور لا تتساوى، فقد تقف أهمية الدار وكبر اسمها عائقاً أمام مقروئية كتبها في بلدان بعينها، فدور النشر اللبنانية تُسعِّر كتبها بالدولار الأميركي، وبسبب فرق العملة وتكاليف النقل تُصبِح أسعار كتب الدور الكبرى منها فوق متناول القراء في دول مثل مصر والعراق وغيرها. هذا بخلاف أن الحروب والنزاعات الأهلية في سوريا واليمن وليبيا أخرجت قراء هذه الدول من معادلة النشر العربية.
في الغالب، متوسط عدد النسخ المطبوعة في الطبعة الواحدة ألف نسخة باستثناء أعمال الكُتَّاب الأفضل مبيعاً؛ حيث تتراوح بين 3000 نسخة و10000، وفي غياب إحصائيات شفافة عن عدد النسخ المباعة، يتم الاحتكام إلى عوامل أخرى لتبين إن كان عمل ما قد حظي بالنجاح أم لا! وعلى رأس هذه العوامل عدد المراجعات النقدية له ومقدار ما يثيره من نقاش وعدد تقييماته على مواقع القراءة مثل «غود ريدز» وغيره، لا أقصد هنا مضمون التقييمات أو كونها إيجابية من عدمه، بل كم هذه التقييمات لأنه يعطي مؤشراً إلى مدى انتشار العمل بين القراء وإقبالهم على قراءته، بغضّ النظر عن تقييمهم اللاحق له.
إذا نظرنا إلى ترجمات أعمال غومبروفيتش إلى العربية عبر هذه العدسة وبناءً على هذه «المعايير»، يمكن استخلاص أن الاهتمام به عربياً جاء من الكُتَّاب والمثقفين في الأساس لا من الجمهور العريض، وأن «فيرديدوركه» حظيت بمراجعات نقدية أكثر من اليوميات، لكن الأخيرة تفوقت على الأولى في عدد الاقتباسات المنشورة منها على مواقع التواصل الاجتماعي. هذه ملاحظات شخصية، إذ لا إحصاءات دقيقة خاصة في هذا الصدد، والكلام هنا في معظمه يتعلّق بالقراء العرب الذين عرفوا الكاتب البولندي الكبير عبر الترجمة إلى لغتهم. بشكل عام، يمكن تقسيم قراء غومبروفيتش في العالم العربي إلى نوعين: الأول من قرأه أو سمع به عبر لغات أخرى مثل الفرنسية أو الإنكليزية والألمانية ومن هؤلاء الشاعر والناشر خالد المعالي الذي تعرف إليه عبر نصوصه المترجمة إلى الألمانية ومن ثم تحمس لفكرة نشر طبعات عربية منها. أما النوع الثاني فمن لم يتعرفوا إليه سوى بعد ترجمته إلى العربية، وهؤلاء ــ في معظمهم ــ تلقوه مشفوعاً بآراء كتّاب معروفين لهم ومفضلين عندهم فيه؛ كما سبق وأوضحت.
لكن من ناحية أخرى، هل هناك نقاط التقاء بين غومبروفيتش وأي من الكتاب العرب أو المصريين؟! الحقيقة أنني لم أكن مشغولة على الإطلاق بسؤال مماثل، إذ لم يخطر ببالي قط حتى وجهته لي المترجمة والباحثة البولندية أجنيشكا بيوتروفسكا؛ مترجمة غومبروفيتش إلى العربية. كان السؤال مباغتاً، لكن خطر ببالي على الفور اسم الكاتب المصري الراحل بدر الديب الذي يشترك مع الكاتب البولندي في الولع بالفلسفة وعصيان كليهما على التقادم ونجاح أعمالهما في تجاوز حاجز الزمن. لم يطرأ على ذهني اسم آخر غير الديب، لكن مع التفكير في الأمر أدركت أنه من الصعب الوصول إلى قرين عربي للكاتب البولندي، لأن المفترض بكل كاتب جيد أن يكون له نسيج وحده، لكن من الممكن، كما هي الحال مع بدر الديب العثور على من يلتقي مع غومبروفيتش في سمة أو أكثر من سمات كتابته. فالعكوف الدؤوب على تدوين اليوميات وكذلك الولع بالتجريب والإعلاء من شأن اللعب كمفهوم فني واختيار جمالي، يستحضر في ذهني الكاتب المصري مصطفى ذكري.
والسخرية الذكية المقارِبة لحدود الهزل مع تناول قضايا معقدة وكذلك الابتكار اللغوي سمات يمكن أن تفتح باب المقارنة مع كُتاب من قبيل الروائي الفلسطيني الراحل إميل حبيبي، والروائي والقاص المصري الراحل محمد مستجاب، على سبيل المثال لا الحصر، من دون أن يعني هذا الإيهام بأنّ هناك تطابقاً مفترضاً، بل فقط أبواب مواربة للبحث والمقارنة التي لا تغفل اختلاف المرجعيات والسياقات الثقافية من ثقافة إلى أخرى.
في الختام، أخلص إلى أن غومبروفيتش وإن وصل إلى اللغة العربية متأخراً، فإن اللحظة مواتية الآن لاستقباله كما لم تكن من قبل، وأنه من نوع الكتّاب النخبويين الذين يؤثرون من أعلى، لكن أثرهم يتعمق مع الوقت، لذا أتوقع له حضوراً أوسع عربياً في المستقبل في حالة مواصلة ترجمة باقي أعماله، بحيث يُتاح للقارئ المهتم الاطلاع على تجربته من وجوهها كافة.
1- «أوروبا قبل قليل من الحرب العالمية الثانية»، حسن داوود، جريدة القدس العربي، 13 يونيو 2016.
2- «فيرديدوركه.. رائعة غومبروفيتش الذي فضله كونديرا على سارتر»، طارق أبي سمرا، موقع المدن الإلكتروني، 17 يناير 2016.
3- المصدر السابق.
4- «البولندي غومبروفيتش يفضح مراهقة مجتمع الحرب»، إبراهيم فرغلي، جريدة الحياة، 14 فبراير 2016.
5- «اليوميات 1953: 1958، الجزء الأول» الطبعة الأولى، فيتولد غومبروفيتش، ت: أجنيشكا بيوتروفسكا ومعتصم بهائي، منشورات الجمل، 2018، صفحة 95.
6- المصدر السابق، ص70.
7- المصدر السابق، ص53.
* روائية وكاتبة مصرية
ملحق كلمات
———————–
«منشورات الجمل» تنقل يومياته إلى العربية: فيتولد غومبـروفيتش… النَّزق مفهوماً فلسفيا/ رشيد وحتي
فيتولد غومبروفيتش روائي، قصاص ومسرحي بولوني، وُلِد سنة 1904 في مدينة مالوزيتش لأسرة إقطاعية ميسورة، تابع دراسته في القانون من دون حماسة، ثم تَسَجَّلَ في معهد الدراسات العليا الدولية في باريس (1928-1929)، لكنه أهمل الدراسة لصالح «أصدقاء السوء»، ما اضطر أباه لقطع المصاريف عنه. بعودته إلى بولونيا، تسجل في دورة تدريبية في محكمة وارسو، وواظب على مخالطة المقاهي الأدبية ومحيط أهم مجلة ثقافية في بولونيا: «الأخبار الأدبية». انهمك بين 1926 و1933، بكتابة مجموعته القصصية الأولى «ذكرياتُ زمن النَّزَق». يتوفى والده مع صدور باكورة أعماله الأدبية، ليرث نصف العقارات والأراضي، ما سيسمح له بالتفرغ أكثر لصنعته الأدبية وتسكعاته في حَوَارِي وارسو والنشر في صحف محلية عديدة. في 1937، سينشر ـــ بالاشتراك مع الناشر في نفقات الطباعة ـــ روايتَه الأولى «فيرديدوركه»، حيث يعبر عن النَّزَق، لا كقيمة أخلاقية مضادة، بل أيضاً كمفهوم فلسفي، ليؤسّس بذلك لخيار شخصي انْبَنَى على ما عَبَّرَ عنه بقوله: «أرفضُ كل شكل من الأشكال التي تُحَدِّدُ حياتنا تحت سلطة أو تأثير الجسد الاجتماعي. كنتُ أريد أن أكون أنا لِذاتي، لا فناناً، ولا فكرةً، ولا حتى أعمالي بنفسها ـــ لا شيءَ سوى أنا ـــ فوق كلّ فن، فوق كل عمل، فوق كل أسلوب، فوق كل فكرة». كان استقبال الجمهور لهذه الرواية منقسماً بين الحماسة والازدراء، ما جعلها علامة فارقة في تاريخ الأدب البولوني، الذي طغى عليه، قبلَها وطيلة قرن، الشعر والتزامُ الكُتَّاب بالقضايا الوطنية، وهي قضايا لا تعني شيئاً لغومبروفيتش. في هذا الصدد، يقول الكاتب: «لم أتساءل قط، ولو لخمس دقائق، إن كنتُ بولونياً أو لم أكن كذلك، إن كنتُ كاتباً بولونياً أو لم أكن كذلك. عندما يتوجب عليَّ أن أكتب شيئاً ما، أحاول أن أقوم به بالطريقة الأذكى والأروع قدرَ الإمكان. لكن عندما أكتب، ليس عليَّ أن أتساءلَ إن كنتُ بولونياً أو صينياً. أنا إنسان، وعليَّ أن أكتب بأجمل قدر ممكن. أظن أن أولئك الذين يُجْهِدُونَ أنفسَهم ليكونوا بولونيين يَنْمَسِخُونَ. عندما أكتُبُ، لا أنا بِالبولوني، ولا أنا بِالصيني، أنا غومبروفيتش فَحَسْبُ». بعودته من رحلة إلى إيطاليا، يحضر الكاتب، في 3 آذار (مارس) 1938، دخول جيوش هتلر مدينةَ فيينا، لينبذ مقامه الأوروبي، بالرحيل إلى الأرجنتين، حيث أمضى 23 سنة في بوينس آيرس، كرسها كلها للكتابة، واستخلص منها كتابَه «تجْوَالٌ أرجنتيني»، الذي شرع فيه عام 1959 ونشره سنة 1977. لكنه لم يلق في بلده، وبمباركة من السلطات الرسمية، إلا الرقابة والتشنيع، بحيث لَمْ يُسْمَح للدور البولونية بطباعة أعماله الكاملة إلا في 1986. في 1947، يُصْدِرُ رواية ثانية، «عابرُ الأطلسي»، يصفي فيها حساباته مع بولونيا والأرجنتين معاً، تليه روايتان أكثر نضجاً: «بورنوغرافيا» (1960) و«كوسموس» (1965)، وهي كلها نصوص سردية تصف عالماً في طور التحلل، تتشظى فيه الذات، تتفكك فيه الأسرة وتَنْمَسِخُ الممارسة الثقافية إلى أن يفقد الأبطال الروائيون توازنهم وانسجامهم مع نفوسهم. وحده استعمال الأنا، ضمير المتكلم يُوَحِّدُ معمارَ هذه الكتب، من خلال تجربة مهووسة بالأيروسية. لكن يبدو أن قراء أوروبا الشرقية يفضلون يومياته التي صدرت في ثلاثة أجزاء («يوميات 1: 1953-1956»، «يوميات 2: 1957-1960»، «يوميات 3: 1961-1969»)، حيث يبدو غومبروفيتش مُسَاجِلاً شرساً. ولن يعود له وهجه لدى القراء الأوروبيين قاطبة، إلا بحصوله على منحة إقامة في برلين الغربية طيلة سنة 1963، ليستقر بعدها جنوبَ فرنسا، حيث اقترن بِرِيتَّا لَابْرُوسْ، لغاية وفاته بسبب ضيق الشعاب التنفسية سنة 1969. لا ينبغي إغفال أن لغومبروفيتش تجربةً في الكتابة للمسرح: «إيفون، أميرة بورغونيا» (1935)، «أوْبرِيت» (1963)، و«الزواج» (1953) التي اعتَبَرَها النقاد محاكاة ساخرة لـ «هاملت» و«فاوست». تبقى كتابة غومبر فيتش، في الأخير، سخريةً من فظائع البشرية في قرن ظنت أنها تحرّرت فيه من كل التابوهات ونزعات التسلط على الحريات الفردية. بعدما نقلت الجزء الأول من اليوميات إلى اللغة العربية، ها هي «منشورات الجمل» تصدر الجزء الثاني (يوميات 1959-1962 ـــ ترجمة أجنيشكا بيوتروفسكا). هنا مقتطفات منه:
مقالات مرتبطة
الجمعة. أقول لطلابي: لا تنسوا أنني لست واحداً من أساتذتكم النبلاء المرخصين والمضمونين. معي لا يمكن لأحد الجزم بشيء. قد أكذب أو أقول شيئاً أحمق في أي لحظة… قد أَستغفِل شخصاً ما. معي لا ضمانات. أنا متمرد، أحب إمتاع نفسي.. ولا أبالي.. لا أبالي بكم ولا بمحاضراتي مطلقاً.
■ ■ ■
الخميس. حينما أتأمل مخاوفي العديدة، أصل إلى استنتاج مفاده أن مقاومتي الضعيفة، أو ببساطة جبني -الذي يجعل من الصعب، بالنسبة لي مثلاً، أن أدخل المصعد ويظهر عندما أركب الترام، جبني الذي يسمّم حياتي – ينبع من هذه الخاصية (أو ربما التكلف) لخيالي والتي تؤدي إلى أن معاناتي تتبدى غالباً في بعدها الأدنى والأقل. بالنسبة لي «أنا أختنق» ليس في اللحظة التي تنفجر فيها الرئتان، بل عندما يكون هناك نقص في الهواء.. إلى الأبد. أنا مستعدّ لمقارنة ألم الظهر، عندما لا تستطيع تغيير موضعك، بكسر في الساق، وطعم شاي الأمس أو بثرة على الإصبع أو الظلام بالحرب. هذه الرؤية تقضي على الشجاعة مثلما تفسد الآفات شجرة. ما القاسم المشترك بين الخوف والبراءة؟ بالنسبة لي، الرعب الأقصى نقي مثل.. البراءة القصوى.
■ ■ ■
الخميس. رأس السنة الجديدة 1959 في تانديل. من هنا، من فيلا آل مورو الجميلة، حيث أعيش كملك مدلل بكرم ضيافتهم، أشاهد الألعاب النارية المضيئة تنفجر فوق البلدة المستقرة في تجويف جبلي. وخلفي جدار مظلم للجبل الصنوبري يرتفع عالياً، مثل الحصان.. ويقف صامتاً. من اليمين واليسار تنفتح مساحات كبيرة من الليل، ضائعة بين التلال. نشرب الشمبانيا.
■ ■ ■
الخميس. الغزو الرهيب للصور النمطية، النظريات، التجريدات والأشكال سابقة التجهيز، التي طُوِرت في مكان آخر، نتيجة لحقيقة أن اﻟ «أنا» الخاصة بهم بالكاد قادرة على الوقوف على قدميها. هذا الغزو موسوم أكثر بالغرابة لأن التجريد ليس في طبيعتهم. ثمة شيء مؤلم في حاجتهم للتنظير مع عدم قدرتهم عليه. فنانو هذا البلد (والقارة بأكملها) لا يستطيعون التحرك خطوة واحدة بدون عكاز.. ليكن ذلك الماركسية أو باريس، أو الحفريات الهندية القديمة أو توينبي.. أو التكلف الرومانتيكي كما الأناركية، وعلى سبيل المثال الملكية (رأيت أيضاً هؤلاء). إنهم يعيشون على الخطب الطويلة. وبسبب أنه هنا في هذه الحياة الميسرة والمنعمة، فإن الكلمة تتضخم بسهولة. كل هذه النظريات تنتهي عند المرحلة الشفهية.
الكلمة! أدبهم كلمات جميلة. كي تكون فناناً يكفي أن تعبِّر عن نفسك بشكل جميل. الكاتب الأكثر أصالة واستقلالاً في الأرجنتين، بورخيس، يكتب بإسبانية رائعة وأنيقة، هو صاحب أسلوب رفيع بالمعنى الأدبي (ليس بمعنى الحلول الروحية)، بكل سعادة يكتب أدباً عن الأدب وكتابة حول الكتب.. وإذا كان أحياناً سيخضع نفسه للخيال، فسوف يقوده بعيداً عن الحياة الواقعية منتقلاً به إلى حيز الميتافيزيقا المشوشة، ترتيب ألغاز جميلة، وحجج متفلسفة تتألف من الاستعارات. المنتبِهون لهذا العجز والمتألِّمون مِنه ــ على سبيل المثال، الكوبي بنييرا ــ غالباً ما يكونون واعين للهزيمة بدرجة تمنعهم من القتال. بما أن بنييرا يشعر بأنه مغلوب على أمره، فهو يشيد ﺑ «العبث العظيم» الذي يسحقه – الإعجاب بالعبث، في فنه، احتجاج ضد عالم بلا معنى، بل هو حتى انتقام وتجديف إنسان مهان في أخلاقه. «إن كان المعنى، المعنى الأخلاقي للعالم مستحيل بلوغه، فسوف أُظهر نفسي بمظهر الأحمق». هذا تقريباً شكل الثأر والتمرد لدى بنييرا. لكن لماذا شأنه شأن عدد كبير من الأميركيين الآخرين، يتشكك كثيراً في قوته؟ حسناً، لأن ما يهمه «العالم»، وليس حياته. في مواجهة العالم، البشر والأمة، لا حول لك ولا قوة. إنهم يتجاوزون قوتك.. لكن يمكنك على الرغم من ذلك، إنجاز الكثير في حياتك الخاصة، هنا، تعود القوة إلى الإنسان، وإن كانت في بعد محدود. البعض منهم.. بعض الكتاب المحليين.. يتمتعون بآلية عقلية ذات كفاءة ودقة في التعبير، لكنهم لا يستطيعون الانطلاق من مكانهم لأنهم مَغروسون في قضايا موروثة، لم تعد مسايرة للزمن. يحدث ذلك بالتحديد للعقول العصرية بشكل سطحي. يستمرون في البحث عن انتصار في إطار قواعد اللعبة نفسها. في حين أنه يجب عليهم قلب رقعة الشطرنج وإنهاء اللعب. طرح مسائل جديدة – أفضل طريقة لحل المسائل القديمة. المستوى! آه، يا له من عذاب! المستوى! آه، كم يصيب بالشلل! يُبذَل الجهد الأساسي في تعلية التفاهة وتعقيد البديهيات، كما هو الحال دائماً عندما يكون لدى المرء القليل لقوله. هذا الأدب، على درجات اجتماعية متنوعة، مرتبك إلى حدّ كبير دائماً. الجميع يريد الكتابة أعلى بدرجة. الأقاليم تعمل ما في وسعها لتتساوى مع العاصمة بكلمات مصطنعة. الشيء الأكثر سوءاً هو عندما يحاول المشاهير، مِمَن ينتمون إلى المستويات الأعلى في العاصمة، الاستعراض.. تصبح جملهم المتضخمة والملتوية حينئذ لا تطاق ولا يمكن فهم ماذا يقصدون. حياة ميسرة. حياة ريفية. أي شخص نال بعض الجوائز هنا، ينصّب نفسه، دون صعوبة «أستاذاً». لكن كلمة «مايسترو» تعني «أستاذاً» و«معلماً». نظراً لأن لا أحد يريد أن يكتب لنفسه، بل للأمة (أو القراء)، فالكاتب الجنوب أميركي غالباً ما يكون معلماً وأستاذاً للنشء ومرشداً ومُستنيراً (عموماً فإنه من المدهش كم أصبحت الثقافة المحلية هنا بأكملها تربوية في صميمها.. حتى أنه يتولد لديك الانطباع بأن السيدات المدرسات هن من شكَّلن الأمة). مع القليل من حسن النية، يخضع «المايسترو» للتحول التالي: يصبح نبياً، وشاعراً، وأحياناً شهيداً أو بطل أميركا. والغريب أنه في أمة متواضعة جداً على نحو لطيف، هناك الكثير من التباهي في المستويات العليا، بشكل صبياني تقريباً.
■ ■ ■
السبت، الساعة 21.20 (في البار عند ناصية لافال وسان مارتين). مناقشة مع غوميز حول راسكولنيكوف (لأن واحداً منهم، غوما أو ربما أسنو، يقرأ الآن «الشياطين»). وجهة نظري: لا يوجد في «الجريمة والعقاب» دراما الضمير بالمعنى التقليدي والفردي للكلمة. هذا ما حاضرتهم عنه. في بداية الرواية ــ قال غوميز ـــ يرتكب راسكولنيكوف جريمة. في نهاية الرواية، يبلّغ الشرطة متطوعاً ويعترف بالجريمة. ما هذا إن لم يكن ضميره؟
أنا: – ليس بهذه البساطة، يا أطفال! انظروا بدقة أكثر.. لا يشعر راسكولينكوف بالذنب. في الفصل الأخير قيل بوضوح إنه كان يوبخ نفسه فقط على أنه «فشل». هذا ما اعتبره خطأه الوحيد وبسبب شعوره بالذنب لاقترافه هذا الخطأ، لا غير، أحنى رأسه أمام الحكم العبثي الذي حُكِم عليه به. في غياب الضمير.. ما القوة التي استحوذت عليه حتى يسلِّم نفسه إلى أيدي الشرطة؟ ما هي؟ النظام. نظام الانعكاسات في المرآة تقريباً. راسكولنيكوف ليس وحده.. إنه موجود بين مجموعة معينة من الأشخاص، سونيا.. المحقق.. أخته وأمه.. صديقه والآخرين.. هذا هو عالمه. ضميره صامت، في حين أن راسكولنيكوف يظن أن ضمائر الآخرين لن تكون صامتة وأنه إذا عرف هؤلاء الناس، لأدانوه بوصفه مجرماً. إنه غامض بالنسبة لنفسه وهذا الغموض يسمح له بكل شيء. لكنه يعرف أن الآخرين يرونه بشكل أكثر وضوحاً وحدة على الرغم من سطحيتهم، وبالنسبة لهم سيكون الحكم عليه ممكناً. بالتالي.. بالنسبة لهم.. سيكون مجرماً بشكل ما؟ وبتأثير هذا الظن، يبدأ شعوره بالذنب يتبلور في داخله، الآن يرى نفسه قليلاً من خلال عيون الآخرين ويرى نفسه مجرماً بعض الشيء.. ينقل صورته هذه عن طريق الأفكار لأولئك الناس.. ومن هناك يعود إليه وجه القاتل الأكثر وضوحاً وحكم الإدانة. لكن هذا الضمير لا ينتمي إليه وهو يشعر بذلك. إنه ضمير خاص، ينشأ وينمو فيما بين الناس، ضمن نظام انعكاسات.. عندما يرى إنسان نفسه في إنسان آخر. تدريجاً كلما تصبح حالته المزاجية بعد الجريمة أكثر سوءاً، يجعل منهم راسكولنيكوف قضاته.. ويظهر له ذنبه ويتجسد بقوة. لكن، أكرر، هذا ليس حكم ضميره.. بل حكم نشأ من الانعكاس، الحكم المنعكس في مرآة. في ما يخصني، أميل إلى التفكير في أن ضمير راسكولنيكوف يتجلّى في شيء واحد فقط: عندما يخضع لهذا الضمير الاصطناعي، ما بين الإنساني، المنعكس، كما لو كان ضميره الشرعي. يكمن في ذلك المغزى كله: مَن قتل إنساناً آخر ينفذ الآن ما تمليه عليه الجماعة الإنسانية. ولا يسأل إن كان الأمر عادلاً.
■ ■ ■
الثلاثاء. من الواضح بالنسبة لي أن الطبقة العليا في بولندا – على الرغم من إفقارها – تتفوق اليوم من ناحية الذكاء والتنوير على نخبة المهجر. في حين أن المهجر قد خسر معظم الفرص المتوفرة له من خلال الحرية الكبيرة والكنوز المتاحة له في «الغرب». تمكن البولنديون في الوطن على الأقل من انتهاز بعض الإيجابيات لديهم. ما تلك الإيجابيات؟ في المقام الأول نضوجهم الشخصي الداخلي، الخفي والسري تقريباً، الذي يحدث في جو القمع والعنف والمضايقات المتنوعة والصعوبات، ناهيك بالكوارث والفظاعات والضربات والهزائم. كل ذلك جعلهم أشداء بقدر ما جعلت النعومة والرتابة من المهجر (الذي كفاحه الوحيد هو الكفاح من أجل المال) برجوازية نموذجية. الكياسة البيروقراطية للنبرة الرسمية في بولندا يصحبها نشاز رهيب نابع من مكان ما في الأعماق. نشاز ديناميكي كبير بقدر ما هو مُر. خيبة أمل.. سلسلة من خيبات الأمل.. لعلها أفضل تدريب على القوة. لنتذكر أيضاً التجديد المعين الذي تأتي به كل ثورة، حتى إن كانت فاشلة. إعادة البناء الاجتماعي لا بد من أن تجلب معها تغييرات في وجهات النظر الفكرية والروحية. الإنجيل المادي الجديد شكّل في الحقيقة صاعقة انتزعتهم من ضيق التقاليد الكاثوليكية، التي صارت مقيدة للغاية في بولندا، وفقط الآن يُصفى تراث المدرسة اليسوعية. هكذا هتكت الماركسية «الكنيسة»، لكن هي نفسها تعرضت للهتك في الأثناء، بعدما كشفت أنها ليست أقل تزمتاً ودوغمائية. وفي المقابل، فإن «الأمة» أصبحت في موضع التشكك والسؤال (أتحدث عن الطبقة العليا)، لأنها أظهرت ضعفها ولأنه، في الترتيب السياسي الجديد في بولندا، أصبحت قضية القومية أقل أهمية.
سخرية من فظائع البشرية في قرن ظنت أنها تحررت فيه من كل التابوهات ونزعات التسلط على الحريات الفردية
يبدو بناءً على هذا، أنه على جثة «الإيمان» و«الوطن» أو «الماركسية»، وعلى جثة «الدوغما» و«الفلسفة» وكذلك «الأيديولوجيا»، يمكن لـ «العلم» و«التكنولوجيا» إعلان مملكتهما. لكن التكنولوجيا والعلم بالكاد حيّان في بولندا، شيء ما يحدث هنا وهناك.. لكن على نحو أخرق جداً لدرجة تمنعه من أن يصبح بديلاً عن المحتوى الأعمق للحياة. الفضيحة متكاملة، شملت جميع المجالات وسحقت جميع الآلهة.. من ثم خيبة أملهم ومن ثم حكمتهم. غير أن هذه الحكمة خاصة يتعذر الكشف عنها. لأسباب سياسية؟ ليس ذلك فقط. هؤلاء الناس مثل الأطفال الذين يرغبون في بناء صرح جديد بينما ليس في متناول أيديهم سوى كومة من المكعبات القديمة المختلطة والمتبقية من أعياد ميلادهم السابقة. يبنون شيئاً على غير ما أرادوا، شيئاً غير متناسق مكوناً من أروقة قلعة، واجهة منزل سويسري، مدخنة مصنع ونافذة كنيسة. بولندا مليئة بالخردة، وحياتها الثقافية تتكون من قذف مثقفيها بعضهم بعضاً بالتفاهات. تفاهات من قبل الحرب وأخرى انغرست في أفواههم بعد الحرب. حين نستمع إلى هذه المناقشات المدروسة، نشعر بكارثية تعليمهم بل حتى بسوء تربيتهم، وفوق كل شيء، بعدم وجود أسلوب من شأنه السماح لمواهبهم الرفيعة، بإنجاز شيء بين الحين والآخر. كل شيء خردة وفوضى وعدم كفاءة وقذارة. الكثير من القذارة! والكثير من القمامة! وعلى الرغم من ذلك، فإن الضغط التحتي لذكائهم المأساوي والوحشي الهائج وخائب الأمل يبدو لي أقوى مما كان عليه قبل الحرب، ويوماً ماً سيجد طريقه إلى السطح على الأرجح.
■ ■ ■
الاثنين. أنا أتعذب. لا شيء يتعب الفنان أكثر من فنان آخر. فعلاً يجب أن يعبر الفنان إلى الجانب الآخر من الشارع عند رؤية فنان آخر. المرء يكون فناناً من أجل غير الفنان، الفنان غير التام. القارئ المتلقي. لكن عندما يلتقي الفنان بفنان، فيتحول كلاهما إلى زملاء في المهنة. أعضاء نادي القلم. تم جلب هؤلاء الناس إلى هنا من جميع أنحاء العالم وأُجبر كاسو على تبادل المجاملات مع سيلونه، مادارياغا يستمتع بابتسام فايدليه، بوتور ينحني لدوس باسوس ولا شيء سوى: يسرني ذلك. أنا سعيد جداً. مبروك. بالطبع. بكل سرور. يقابلون بعضهم بعضاً بأقصى حذر، كما لو كانوا خائفين من التوسخ، تُطبَّق هنا أساليب السلوك اللائق المستخدمة عادة في حفلات الشاي الدبلوماسية، فيبدون كحفنة من الكونتيسات المسنات في سفارة. ورغم هذا يدمرون أنفسهم، يقللون من قيمتهم ويُستبعدون.
————————-
فيتولد غومبروفيتش أو الذبابة التي تفكّر في الألم
يقدّم ميلان كونديرا الروائي البولوني فيتولد غومبروفيتش Witold Gombrowicz كثالث ثلاثة افتتحوا العصر الجديد للرواية الأوروبية ببعثهم التجربة المنسية لرواية ما قبل بالزاك، مستحوذين على المناطق التي كانت سابقا محفوظة من أجل الفلسفة أو محسوبة عليها. الأوّل هرمان بروخ بثلاثيته الروائية السيرنمائيون التي يصوّر فيها انهيار الإمبراطورية الألمانية سنة 1918 وروبير موزيل Robert Musil بروايته “رجل بدون مزايا” الرواية الاستثنائية على حدّ قول الروائي الألماني الكبير توماس مان. وفيتولد غومبرفيتش بروايته “فيردي دورك” التي كتبها سنة 1937 قبل رواية جان بول سارتر “الغثيان” بعام والتي صادرت بنجاحها المكان الحقيقي الذي تستحقّه رواية غومبروفيتش، حيث اعتبرها مرّة أخرى ميلان كونديرا أنّها أحقّ بالامتياز والتقدير من رواية “الغثيان” التي لم تكن حسب وصفه سوى درس يقدّمه مدرس الفلسفة بشكل روائي من أجل تشويق تلامذته الضجرين، في حين أنّ الرواية التي يمكن اعتبارها بحقّ رواية وجودية كانت رواية “فيرديدورك” لفيتولد غومبروفيتش.
فيتولد غومبروفيتش من عائلة ذات أصول ارستقراطية، فوالده رجل أعمال من أصل ليتواني مولع بالنساء والأسفار، وأمّه من عائلة ملّاك أراض بولونية دأبت على التزاوج فيما بينها ممّا خلّف بين أفرادها العديد من المرضى العقليين والمعتوهين، يقول فيتولد عن ذلك: “… عندما كنت أزور جدّتي في القرية كنت أموت رعبا، المنزل سفلي وكبير. ينقسم إلى جزئين، في واحد منهما كانت تقطن جدّتي، وفي الآخر ابنها، أخو والدتي المجنون جنونا مطبقا، والذي كان يذرع ليلا في الحجرات الفارغة محاولا كتم فزعه عن طريق خطب غريبة، والتي كانت تتحوّل شيئا فشيئا إلى أغنيات غامضة، لتنتهي إلى صراخ غير آدمي. لقد كان يدوم ذلك طوال الليل، وكنت خلالها أتنفّس الجنون”. رغم دراسته للقانون بأمر من والده فإنّ فيتولد كان مهووسا بالكتابة ومخالطة جماعة الكتاب البولونيين، لكن حماسه البالغ جعله في النهاية يوثر الابتعاد عن الأوساط الأدبية التي كان يكنّ لها الازدراء، منصرفا إلى كتابة عمله الأساس “فريديدورك”. النقاد والأدباء البولونيون تلقوا هذه الرواية بالكثير من الاستهجان، وسوء الفهم الكبير. على إثرها ولاستشعاره بما ستؤول إليه الأوضاع في بولونيا وأوروبا سيقرّر في أحد أيام 1939 والحرب العالمية الثانية تقرع طبولها أن يهاجر إلى الأرجنتين، حيث سيخلد إلى صمت من نوع خاص. حدّد فيها لنفسه وضعية أساسها الرفض للتقاليد الأدبية لبلده بولونيا خصوصا إرثها الرومانسي، والرفض للإذعان لأيّ التزام سياسي باعتبار أنّ جوهر الفنّ يتناقض مع أي التزام، وبالموازاة مع ذلك رفض للحداثة الغربية العقيمة والغارقة في التنظير وغير الوفية للواقع من وجهة نظره. إنّ غومبروفيتش لم يكن حداثيا، أو على الأقل كانت حداثته مختلفة.
عاش فيتولد في منفاه الأرجنتيني حياة البؤس، مكتفيا بأعمال لا تدرّ عليه دخلا كافيا، محاولا نشر أعماله دون جدوى. الوسط الأدبي في الأرجنتين لم يأخذه بمحمل الجد رغم علاقاته الجيّدة بلويس بورخيس وأرنستو ساباتو. المرة التي أثار فيها ضجّة منقطعة النظير بإلقائه محاضرة مثيرة تحت عنوان “ضدّ الشعر والشعراء”. بعد روايته الرّائدة سيواصل بحثه الدّائم والمؤرق عن الواقع والعلاقة الصادمة به. ستأتي روايته “بورنوغرافيا” و Trans-Atlantique لتنتبه إليه أوروبا وفرنسا على الخصوص، ممّا جعله يجمع حقائبه إلى الجنوب الفرنسي لينشر روايته الأخيرة “كوسموس” وليبدأ كذلك الحديث عنه مرشحا لجائزة نوبل، لكن مرض الربو وضعف صحته أرغماه على الاستسلام أخيرا للموت. قبل ذلك نشر “يوميات” أمتع كتبه وأغناها. قبل موته وكعادته في الكتابة انطلاقا من فكرة أو صورة عابرة، كان يتحدث عن روايته القادمة بطلتها ذبابة منشغلة بموضوع الألم. إنّه الشكل ذاته في الكتابة الروائية الذي يعد غومبروفيتش من أهمّ روادها.
مقتطفات1: “من يوميات فيتولد غومبروفيتش يفسّر فيها طريقة اشتغاله في الكتابة الروائية، خاصة في رواية Cosmos.”
1962
ما الرواية البوليسية؟
إنّها محاولة لتنظيم الفوضى. لهذا فإنّ روايتي Cosmos التي أحبّ أن أسمّيها “رواية تشكّل الواقع” ستكون نوعا من الحكي البوليسي.
“
بغتة الواقع طافح بسبب حادث فائض عن الحاجة. ثمّ إبداع لمجسّات جانبية… تجاويف معتمة… لاحتقانات هي أكثر فأكثر شاقة ومتعبة… ثمّ كوابح… فمنعطفات … فتيارات… إلخ. إنّها الفكرة تحوم حولي كما لو كانت حيواناً متوحشاً
“
1963
أطرح نقطتين للانطلاق، نقطتين غير مألوفتين ومتباعدتين كثيرا:
أ- النقطة الأولى، عصفور دوري مشنوق.
ب- النقطة الثانية، الجمع بين فم كاترين ولينا.
هاتان المسألتان تشرعان في المطالبة بمعنى.
الأولى تنفد إلى الأخرى متجهة إلى فكرة كلّية. هكذا تبدأ سلسلة من الافتراضات، من التداعيات ومن التحقيقات، شيء ما يبدأ في التخلّق والنشوء.
لكنّه شيء جنيني، هو بالأحرى مسخ وجهيض…
وهذا اللغز الغامض وغير المفهوم سوف يقتضي حلّا له.
1963
أيّة مغامرات، أيّة حوادث هذه مع الواقع، أثناء هذا الصعود نحو أعماق الدياجير!
من منطق داخلي، ومنطق خارجي. من خدع المنطق.
من فخاخ عقلية: المتشابهات، والمتقابلات، والمتماثلات… إيقاعات شرسة فجأة تمتدّ بسبب واقع يحتدم ثمّ ينهار… وها هي المصيبة، وها هي الفضيحة.
بغتة الواقع طافح بسبب حادث فائض عن الحاجة. ثمّ إبداع لمجسّات جانبية… تجاويف معتمة… لاحتقانات هي أكثر فأكثر شاقة ومتعبة… ثمّ كوابح… فمنعطفات… فتيارات… إلخ. إنّها الفكرة تحوم حولي كما لو كانت حيوانا متوحشا… مشاركتي أنا من الجانب الآخر لذلك الجانب من اللغز، محاولا إنهاءه، ومدفوعا بتيار الأحداث والوقائع التي تبحث لنفسها عن شكل.
إنّي عبثا أقذف بنفسي داخل هذا التيار على حساب سعادتي…(لكن لا شيء يدعو إلى الخوف ستكون رغم ذلك حكاية عادية، ورواية بوليسية عادية، وإن كانت خشنة بعض الشيء)
في العدد اللامتناهي من الظواهر التي تعبر بي، أفرد واحدة منها. ألاحظ على سبيل المثال مرمدة على طاولتي (ما تبقى ينمحي في الظلّ). إن كان لهذا الإدراك ما يبرّره (كأن أكون مثلا قد لاحظت المرمدة لحاجتي إلى التخلص من رماد سيجارتي) فالأمر ممتاز. وإن كنت قد لمحت المرمدة بالصدفة ولم أعد لذلك ثانية، فالأمر جيّد. لكن إذا كنت قد لاحظت هذه الظاهرة دون هدف معين ثمّ عدت إليها
فيا للمصيبة! لماذا عدت إليها إن كانت فعلا بلا معنى!
آها. آها، هي إذن تعني شيئا بالنسبة إليك ما دمت قد عدت مرّة ثانية إليها.
مقتطفات2: من كتاب”دروس الفلسفة في ست ساعات وربع”
* تحدثت عن المنهج الظاهراتي لهوسرل لأنّه جعل الفلسفة الوجودية ممكنة. في واقع الأمر، الوجودية لا يمكن أن تنتج أيّ فلسفة.
*أنا أولي أهمية كبرى للتناقض في الفنّ. ينبغي على الفنان أن يكون الشيء ونقيضه. مجنونا وفوضويا ولكن أيضا منضبطا، باردا وصارما. ليس الفنّ أبدا شيئا واحدا، لكنّه معوض على الدوام بنقيضه.
* يزعمون أنّ شوبنهاور متشائم. لكن من القليل جدا قول ذلك، إنّه في الوقت نفسه رؤية عظيمة ومأساوية للأسف تتصادف تماما مع الواقع.
* ينبغي لفهم نيتشه، فهم فكرة مثلما هي بسيطة فكرة تربية الأبقار. مربّي الأبقار يحاول تحسين قطيعه بطريقة يدع فيها الأبقار الأكثر ضعفا تنفق، ومن أجل الإنتاج سيحافظ على الأبقار والثيران الأكثر قوة.
* يبدو الفلاسفة، عدا شوبنهاورأشخاصا مرتاحين في الجلوس على مقاعدهم حينما يتعاملون مع الألم بازدراء أولمبيّ مطلق، سيختفي يوم يذهبون إلى زيارة طبيب الأسنان ويصرخون آي آي آي يا دكتور.
المترجم: سعيد الباز