بوحُ الضّحايا: توثيق لحكايات نساء في السجون السورية/ موسى الزعيم
«من سيسمعون الحكاية صِنفان، صِنفٌ أخذَ حِصّته من البلاءِ، وهُم في غِنى عن توصيفِ المشاعر التي لا تُفارقهم، وصِنفٌ لا يهمّه ما نشعرُ به، لو كانَ يهمّه لما استمرتْ آلةُ الذّبح».
إحدى عشرة قصة ترويها أمهات المعتقلين في سجون النظام، وحكايات على ألسنة نساء كنّ معتقلات، وثّقها كتاب «بوح الضحايا» الصادر حديثاً في الشمال السوري، الذي وثقت حكاياته الحقوقية هدى سرجاوي، وصاغه أدبياً الكاتب فراس الرحيم، ورسم لوحات قِصصه الفنان رامي عبد الحق.
التهمة أنهن كنّ متلبّسات بالحلم، أو كنّ يُسعفن الجرحى، يوزعن الحليب لأطفال «الإرهابيين» وربما حيازة هاتفٍ محمولٍ فيه صورة أو أنشودة تتغنّى بالحرية ـ لا تتعبْ نفسكَ في عدّ التّهم، وقّع على بياض ونحن نختار لك تهمة ـ ولتغدو بعدها رقماً لجثّة منسيّة، محطماً، حتى لو خرجتْ من المعتقل ودبّت في عروقك الحياة من جديد.
تشعرُ مع كلّ تفصيلة تقرأها في حكاياتهن، أنّ روحك تهوي بين متاهات القهر والوجع، تتساءل معها أيّ حقد ووحشية تكنّه لك الكائنات المعطوبة التي أدمنت التعذيب، وانساقت نحو أدنى درجات الانحطاط والوحشية.. تروي إحداهن مشاهداتها في المعتقل «أمّ اعتقلتِ للمرّة الثانية وهي حامل، أنجبت توأماً في السجن، فقام السجان بخنقهما أمام عينيها». الألم يعبر خلاياك في كلّ جملة وشهقة مع حكاية أم هدّها الانتظار، أو صراخ مُعتقلة عارية تقاوم مغتصبيها في أقبية صيدنا، وغيره من المعتقلات التي ارتبط اسمها بالموت الشنيع.. تقولُ أمّ «الكلّ يطلب منّي أن أكون أمّاً صابرةً تنتظر عودة طفلين مرّا بمذبحٍ ومسلخٍ».
ترف الموت
«سعيدٌ هو من مات على فراشه بين ذويه». أصبح موت الإنسان بشكلٍ طبيعيّ على فراشهِ ترفاً يتمناه كثيرٌ من السوريين». نعم.. يحدث أن تتمنى الموت لمن تُحب، بحكم أنّ القبر مساحة أكثرَ اتساعاً وأمناً ورحمة، لكن الموت عنيد متواطئ مع السجّان «لئيمٌ هو الموت عندما يطلبه الآلاف فيأبى الحضور، رغم أنّ كلّ شيءٍ حولنا يوحي به ويلائمه» تقول إحداهن.. «كنّا نتمنى أن يعمدَ الثوار إلى قصفنا وقتلنا داخل المُعتقل، فنخلص من هذا العذاب».
أحيانا يبدو أن الأقل سوءاً باب من أبواب فرج حين الانتقال بين شرّين، تقول أخرى.. «صباح أحد الأيام فجأة دخلت الجنّة.. نعم الجنة! لن تفهموا كيف يصبح السجن جنّة إلاّ حين تعرفون الفرق بين فروع التحقيق وسجن عدرا». ويحدثُ أن توثّق أمّ الأحداث التي مرّت في غياب ابنها المعتقل «في السنة الأولى استشهد صديقك الأول، وفي الثانية استشهد صديقك الثاني، في الثالثة كان نصيب أطفال خان شيخون الكيماوي، بعدها كتبت الأمّ وصيتها له، تركها في بيتها الذي نزحتْ منه، لعل «عبد الله» الغائب إن عاد، يقرأ ما كتبت بدمٍ عينيها ونور قلبها له» لكنها سنوات طوال ولم يعقبها بعدُ عام يُغاث به القلب، وكانت تذكّر نفسها بلحظاتٍ كثيرةٍ، كيف طلبت من الله «سِراً أن يأخذ ولدها إليه.. وكان ذلك! حين أفسدتْ صور قيصر المُسربة الحلمَ على المنتظرين.
يكفي أن تقرأ عناوين القصص ليصلك منها ما يقتلع هدوء روحك، ويدمي قلبك، لكن ما أخفت غصات الأمهات بين شهقات البكاء، كان أشدّ إيلاماً وقهراً، بعض عناوين هذه القصص (لقد فقدتهم جميعاً، أرسلته أمه إلى المعتقل، موت بلا عزاء، عارية في كلّ تحقيق، وغيرها من القصص التي تفيض بقهر الأمهات وأوجاع المظلومين، وضحايا المحتالين عليهن والمبتزّين لهن من أجل خبرٍ.. من أجل بصيص أمل .. هل هو حيّ أم لا؟).
السجن الأبدي
الكتاب يرصد صورا أخرى من تلك الانتكاسات التي حصلت لمن نجتْ من جحيم المُعتقل، لتجد جحيم المجتمع في الخارج بانتظارها، ونظرته إليها لتعود لتنكفئ على ذاتها وتترقب الانهيار الأخير، إلاّ من رحم ربي منهنّ، يكفي أن يسألها أحد المقربين.. هل اغتصبوك أم لا؟ أو أنّ تشعر لسان حالهم يقول لها من أقرب المقربين، كنتُ أتمنى موتك في المعتقل على أن يتم اغتصابك. وكأنها تخرج لترى السجان في ثوبٍ آخر يتربص بمستقبلها. بعض الناجيات يروين قصص نجاحهن وتجاوزهن مِحنة الاعتقال، ونظرة المجتمع الخارجي تتابع تعليمها الجامعي العالي وتبدأ عملها لكنهنّ قلّة قياساً للبقية.
الكتاب يفتح الباب أمام قضية في غاية الأهمية، وهي توثيق حكايا الثورة من فم أصحابها مباشرةً، قبل أن يمتدّ بها الزمن ونفقد أهم مصادرها الشفاهية مما يعطيها المصداقية والموثوقية في نقل الواقع.
كاتب سوري
القدس العربي