لماذا تنتشر ثقافة “التنميط” بين السوريين؟/ رشيد الحاج صالح
تُعدّ ظاهرة “التنميط” بين السوريين، أي تقسيمهم إلى فئات مناطقية: “حوارنة”، “شوام”، “شوايا”، “حلبية”، “ريف”، “مدينة”.. أو إلى فئات قومية وطائفية: “أكراد”، “إسماعيلية”، “سنّة”، “علوية”، “دروز”، وما تحمله هذه التنميطات من تخيلات سلبية تؤطر كل فئة ضمن صفات معينة، من الظواهر التي تحتاج إلى وقفة نقدية. وذلك بهدف الكشف عن السبب في انتشار هذه الظاهرة، ومن هي الفئات التي تستفيد من مثل تلك التصنيفات. وعلى الرغم من أن هذه الظاهرة عالمية، فإنها في سورية تضخمت حتى إنها تكاد تتحول إلى أحد مفاتيح السياسة التي يُنظر من خلالها إلى السوريين.
تُعدّ تلك التنميطات زائفة من الناحية السياسية، والتفكير في المجتمع السوري من خلالها أمرٌ له أسبابه، وكثيرًا ما يؤدي إلى تقسيم ذلك المجتمع أفقيًا (قبائل، طوائف، إثنيات). هذه التنميطات هي في النهاية نتيجة، وليست سببًا. بمعنى أنها تحمل بداخلها احتجاجًا ضمنيًا على أوضاع معيّنة. وهي موجودة منذ زمن طويل، ولكنها تحولت إلى منظور متضخم يقيّم من خلاله السوريون بعضهم. هي وسيلة “سهلة” للاحتجاج بطريقة لا تزعج النظام الأسدي، الذي بدوره يسمح لأي كلام سياسي أو اجتماعي يعزّز سيطرته على السوريين. السبب هو أن تضخيم الصور السلبية بين السوريين أمرٌ جيدٌ للنظام الأسدي، فهو من جهة قد يوجد أسبابًا وهمية للأوضاع غير المرضي عنها في أوساط السوريين، ويقدّم السوريين لبعضهم البعض على أنهم أعداء محتملون.
أكثر الفئات التي تستخدم التنميط في كلامها هم عناصر الأمن والمخابرات، وذلك لأنهم يعبّرون عن دواخلهم بسهولة ومن دون رقابة. هم يفضّلون هذا التصنيف، ويتمنون لو أن المجتمع السوري يغرق في مثل تلك التنميطات. بحسب علم النفس الاجتماعي، تؤدي ظاهرة التنميط إلى ضهور “وسواس قهري” زائف، بحيث يعتقد أكثرية السوريين أن مشكلاتهم قادمة من الفئات الأخرى، وليس من النظام الأسدي، بوصفه مصدرًا للظلم والقهر.
على سبيل المثال، هناك فئات من العرب التي تعيش في الجزيرة السورية تعتقد أن وجود الكرد في المنطقة يعدّ أكبر مشكلة، وأنه عامل مزعزع لأمن المنطقة، وفي المقابل تعتقد فئات من الكرد أن سكان المنطقة العرب هم أكبر مشكلة تواجههم. هذا التنميط يضيع النظام الأسدي في الوعي الاجتماعي السوري، من حيث هو عامل الظلم الأول، والمسبب الرئيس لعدم ثقة سكان المنطقة ببعضهم.
ويبدو أن التقسيم العمودي للمجتمع السوري يساعد أكثر في فهم حركية المجتمع والمصالح التي تسري بين مكوناته؛ فإذا أخذنا ما يسمى بـ “الشوايا” أو “الحلبيين” أو “الشوام” أو “الحوارنة” أو “الأكراد” أو “السنّة” أو “الإسماعيلية” أو “العلويين” أو “الدروز” أو “الأيزيديين” أو “الديريين” أو “السريان” أو “المرشدية” أو “الحموية”، أو “الحماصنة”، وغيرهم من التنميطات التي يزخر بها المجتمع السوري؛ فسنجد أن كل جماعة منقسمة بين مؤيد للنظام الأسدي حتى العظم ومعارض له حتى العظم، كما أنهم منقسمون بين إسلاميين متشددين وليبراليين حتى العظم، كما أنهم منقسمون اقتصاديًا أيضًا بين فقير ومتوسط الحال وغني، وخارطة الانقسام العمودي لا تكاد تنتهي. وبهذا المعنى، يمكن التعامل مع المجتمع السوري من خلال فئات: الموظفين، العمّال، التجار، طلاب المدارس والجامعات، صغار الكسبة وأصحاب الورشات والدكاكين، الأطباء، المحامين، رجال دين، شيوخ قبائل. وكذلك يمكن التعامل معهم من خلال توجهاتهم السياسية والأيديولوجية: إسلامي، علماني، يساري ….
النقطة الأخرى أن تلك التقسيمات لا بدّ من أن تراعي نقطتين أساسيتين: الأولى مراعاة الفروق بين أعضاء المجموعة الواحدة إلى أقصى درجة ممكنة؛ والنقطة الثانية أن قناعات ومواقف تلك المجموعات نفسها قد يطرأ عليها تغيير من حال إلى آخر، ولا سيّما أن السوري أصبح يعيش أحوالًا وأوضاعًا متسارعة.
يريد الموظف، بحسب التوصيف الماركسي التقليدي، تحسين وضعه، ولكنه لا يسعى لتغييره بشكل جذري، لأن النتائج في الحالة الثانية مجهولة، ولذلك يمكن توقّع موقف متحفّظ تجاه التغيير، عند غالبية الموظفين. ومع ذلك فإن فئة الموظفين في سورية كانت من الفئات المساندة للثورة، وهذا يعود إلى أن تلك الفئة تراجعت أوضاعها الاقتصادية بدرجة كبية في العقود الأخيرة. يضاف إلى ذلك أن مكانتها الاجتماعية، من حيث هي فئة محترمة ولها مكانة اجتماعية جيدة، تراجعت كثيرًا لصالح تحالف من الفاسدين والمرتبطين بالفروع الأمنية والمخابرات، أخذ يسيطر على المجال العام للمجتمع، ويخرق المعايير الاجتماعية، ويستهزئ بها.
ليس لدى الشباب وطلاب المدارس ما يخسرونه، وتفكيرهم ما يزال يتصف بالشموخ والحماسة، ولذلك كانوا أكثر الفئات التي تجاسرت على كسر حاجز الخوف، وكانوا أكثر الفئات التي دفعت ثمنًا باهضًا. أما صغار الكسبة وأصحاب الورشات والدكاكين، فهم في النهاية أبناءُ سوق، ولديهم خبرات ومهارات يستطيعون أن يعيشوا من خلالها، أيًا كانت الظروف، ولذلك يعتقد القسم الأكبر من هذه الفئة أنه يمكن خوض المغامرة. أما التجار فلديهم، عمومًا، ما يخسرونه، ولذلك فإن معظمهم كانوا شديدي الحذر، وكثيرًا ما انزلقوا إلى تقديم دعم مادي للنظام. وهم من الفئات التي كثيرًا ما تخسر في زمن الثورات، ولذلك يفضلون تقديم تنازلات للسلطات القائمة للحفاظ على ممتلكاتهم. وليس هناك ضمانات للمحافظة على ثرواتهم، وصوت الفوضويين في بداية الثورات قد يكون هو الأقوى.
يعدّ رجال الدين وشيوخ القبائل من مكونات المجتمع التقليدية، ولذلك نجدهم كثيرًا ما يميلون إلى الوقوف ضد أي تغيير في التراتب الاجتماعي السائد في المجتمع السوري. دفاع هاتين الفئتين عن النظام الأسدي هو، في حقيقته، دفاع عن مصالحهم ومكانتهم التي يحظون بها، وليس دفاعًا عن النظام الأسدي. أما فئة الشيوخ ورجال الدين التي وقفت مع الثورة، فقد حاولت حجز مكانة لها عبر الموقف المتحفّظ من الحقوق والحريات، هذه الحريات التي شكلت أحد أبرز شعارات السوريين المحتجين منذ البداية. هاتان الفئتان تريدان الحصول على مكانة فقدتاها عبر العقود الأخيرة. تلك العقود التي حملت تغيرات في موازين القوى، وتحديث لمؤسسات المجتمع السوري، من أجهزة شرطة وجامعات ومدارس وقضاء، أدت إلى سحب البساط من تحت أرجل المتنفذين من تلك الفئتين.
أما الأطباء في سورية، فإنهم أغنياء، وهم يختلفون عن التجار في أن رأسمالهم بيدهم وليس سيولة مادية ومصانع، ولذلك يستطيعون حمل هذا الخبرة إلى أي مكان، واستخدامها حتى في أحلك الظروف، ولذلك نجد العدد الأكبر منهم ساند الثورة، حتى إن أعداد ضحايا السلك الطبي كانت كبيرة جدًا.
أم التقسيم الأفقي (المناطقي، الطائفي، القومي)، فإنه تقسيم مريح للتنظيم الأسدي، حيث إنه يساعد في تدجين المجتمع السوري في صور نمطية يسهّل من خلالها استفزاز حتى أكثر الناس حصافة، إذ من الواضح أنه ليس هناك من وظيفة لتلك التنميطات سوى وضع السوريين في مواجهة بعضهم البعض.
تعزيز ثقافة تنميط السوريين ضمن تصنيفات شبه جاهزة، مناطقية أو قومية أو دينية، كان بهدف إيجاد بيئة سلبية تقوم على “عدم الثقة” بالفئات الاجتماعية المكونة للمجتمع السوري. على الرغم من أن إحدى المهمات الأساسية للدولة الحديثة عمومًا هي تشجيع الناس على الثقة ببعضهم البعض. وهنا نصل إلى الفرق الحاسم بين الدولة والسلطة. خاصة إذا عرفنا أن أهمّ وسيلة تلجأ إليها الدولة لتعزيز ثقة المجتمع ببعضه هي تبنى قضية العدالة والحريات السياسية إلى أقصى درجة ممكنة.
مركز حرمون