صفحات الثقافة

ملف مجلة “بدايات” عن ” ما هي النيوليبرالية؟”

ما هي النيوليبرالية؟

أردنا لهذا العدد أن يحمل ملفًّا يعرّف بالظاهرة التي تحكم معيشتنا وحياتنا منذ أكثر من أربعة عقود من الزمن تقريبًا دون تسمية. الدافع الرئيس هو شحّة الأدبيات، النقدية خصوصًا، عن هذا الموضوع في بلادنا، في مقابل طوفان ما تضخّه المؤسسات المالية والتنموية من نظريات ومفاهيم ذات مرجع مشترك هو النيوليبرالية.

في زمنٍ يُراد فيه إقناعنا بنهاية زمن الأيديولوجيات، هذه أيديولوجيا متكاملة تشتمل على نظرة شاملة للحياة والكون وتقدّم نفسَها على أنها مذهب طبيعي جبري لا بديل عنه، حسب عبارة مارغريت ثاتشر الشهيرة، بل هي عقيدة إيمانية لا تخلو من السحر إذ تبشّر بـ«اليد الخفية» التي تحرّك السوق.

منذ نهاية الحرب الباردة والنيوليبراليةُ هي الوجه الاقتصادي للإمبريالية الأميركية الجديدة. وليس أبلغ تعبيرًا عن التلازم بين مذهب اقتصادي يُملي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تطبيقاته وقوة الولايات المتحدة العسكرية، من عبارات الصحافي توماس فريدمان: «إنّ اليد الخفية للسوق تحتاج إلى القبضة الحديدية للبنتاغون الأميركي و“همبرغر” ماكدونالد ليس بديلاً من منتجات “ماك دوغال”»، أكبر مصانع الأسلحة الأميركية.

نفتتح الملف بموجز تاريخي تعرّف فيه سوزان جورج جوهرَ النيوليبرالية على أنه تحكّم آليات السوق في مصائر البشر وفرْض الاقتصاد إرادته على المجتمع. وتروي فصول الردّة النيوليبرالية ضد «دولة الرعاية» بقيادة رونالد ريغان ومارغريت ثاتشر.

يستعرض جورج مونبيوت مفاهيم وشبكات ترويج أيديولوجيا تسيطر على حياتنا لكنها بلا اسم، مع أنها أيديولوجيا واعية تسعى إلى إعادة تشكيل الحياة البشرية ونقل محور السلطة التي تتحكّم بتلك الحياة. ويذكّر مونبيوت بمسؤولية النيوليبرالية عن الأزمات الاقتصادية الرئيسة التي عرفتها البشرية في ظلّها وأبرزها الأزمة الماليّة العالميّة ٢٠٠٧- ٢٠٠٨.

تكشف آرونداتي روي التلازمَ بين سَحب دور الدولة في الخدمة الاجتماعية والتوزيع الاجتماعي وبين تدخّل المنظمات غير الحكومية للعب هذا الدور، ولكن بإمكانات ما دونها بكثير. وتشير إلى أنّ كبريات تلك المنظمات تحظى بتمويل من الدول الغربية والبنك الدولي وسائر المؤسسات الدولية. وتخلص روي إلى التحذير من دور الأنجيووز في تبديد الغضب الشعبي وإضعاف المقاومة الشعبية السياسية.

ترافق التبشير بالليبرالية وتطبيقها مع إحياء أفكار المفكّر الليبرالي النمساوي فريدريش فون هايك (١٨٩٩-١٩٩٢) الذي غابت تعاليمه الاقتصادية خلال الثلاثينيات وفترة «دولة الرعاية» بعد الحرب العالمية الثانية عندما غلبت مبادئ الاقتصادي البريطاني جون ماينارد كينز، داعيةً تدخّل الدولة في الاقتصاد لوقف الأزمات الدورية للرأسمالية. يعرض فواز طرابلسي لأبرز أوجه نظام فون هايك الاقتصادية والحضارية والفلسفية والسياسية ومحوره مركزية السوق التنافسية ومجابهة المساواة بالحرية.

تقدّم جيسيكا وايت كتابها الأخير «أخلاقيات السوق» (٢٠١٩) الذي تشدّد فيه على أنّ النيوليبرالية مذهب سياسي وأخلاقي وليست مجرد مذهب اقتصادي، وتؤكد أنّ العلاقة بين حقوق الإنسان والنيوليبرالية أوثق بكثير ممّا يعترف به دعاة تلك الحقوق، وتخلص إلى التشكيك في قدرة تلك المنظمات على تحدّي الآثار البنيوية لآليات السوق.

يكتب إدواردو غاليانو، بأسلوبه الذي لا يضاهى، عن إبادة الكوكب على يد حفنةٍ من كبريات الشركات والسياسيين يسمّمون الهواء والغذاء والبشر ويحوّلون بلدان الجنوب إلى مكبّ للنفايات الإشعاعية. يصف غاليانو عالمًا فيه مرائب ولا حدائق، مستهلكون ولا مواطنون، شركات عامة ولا شركاء، علاقات عامة ولا علاقات، والزهور فيه بلاستيكية.

ف.ط.

———————————-

تاريخ موجز للنيوليبرالية/ سوزان جورج

لو أنك اقترحتَ في العام ١٩٤٥ أو ١٩٥٠ أيًّا من الأفكار والسياسات التي تشكّل اليوم عدة شغل النيولييربالية القياسية، لطُردتَ من المسرح ترافقكَ الضحكات الساخرة أو أرسلتَ إلى مستشفى للمجانين. في ذلك الوقت كان الجميع كينزيًّا، على الأقل في البلدان الغربية، أو اشتراكيًّا ديموقراطيًّا أو مسيحيًّا ديموقراطيًّا اجتماعيًّا أو منتميًا إلى منوع أو آخر من منوّعات الماركسية. إن فكرة السماح للسوق بأن يتخذ القرارات الاجتماعية والسياسية الكبرى، والفكرة القائلة بأنه يجب أن تتخلّى الدولة طوعًا عن دورها في الاقتصاد، وأنه ينبغي إطلاق الحرية الكاملة لكبريات الشركات، وأنه يجب قمع النقابات وتقليص الحماية الاجتماعية للمواطنين بدلاً من زيادتها — كانت مثل هذا الأفكار أجنبية عن روح العصر. وحتى لو وافق أحدهم على تلك الأفكار، فقد يتردد، أو تتردد، في اتخاذ مثل ذلك الموقف علنًا وكان سيصعب عليه كثيرًا العثور على جمهور.

ومهما يكن ذلك مستبعد التصديق في أيامنا هذه، خصوصًا لدى الجمهور الشاب، كانت النظرة إلى «صندوق النقد الدولي» و«البنك الدولي» أنهما مؤسستان تقدميّتان. كانا يسميان «توأمَي كينز» وُلدا من جون ماينارد كينز وهاري دكستر وايت، والأخير أبرز مستشاري فرانكلين روزفلت. وعندما نشأت المؤسستان في أعقاب «بريتون وودز» عام ١٩٤٤، كانت مهمتهما المساعدة على الحيلولة دون نشوب نزاعات مقبلة بتقديم القروض لإعادة الإعمار والتنمية ومن أجل حلّ المشكلات المؤقتة التي تطرأ على ميزان المدفوعات. لم يكن لهما التحكّم في القرارات الاقتصادية للحكومات الفردية ولا كانت مهمّتهما تتضمّن الإذن بالتدخل في السياسة الوطنية.

من دولة الرعاية إلى النيوليبرالية

انطلقت «دولة الرعاية» و«العقد الجديد» في الأمم الغربية في الثلاثينيات من القرن الماضي، إلا أن الحرب أوقفت انتشارها، فكان أول بند على جدول الأعمال بعد الحرب هو إعادة الاعتبار لها. أما البنود الأخرى الكبرى على جدول الأعمال فكانت تحريك التجارة العالمية – وقد تحقق ذلك من خلال «مشروع مارشال» الذي حوّل أوروبا مجددًا إلى الشريك التجاري الأكبر للولايات المتحدة الأميركية، صاحبة أقوى اقتصاد في العالم. وفي ذلك الوقت، هبّت رياح النضال ضد الاستعمار، ونالت شعوبٌ الحرية أكان على شكل تنازل كما في الهند، أم من خلال الكفاح المسلّح كما في كينيا وفيتنام وسائر الأمم.

على العموم، كان العالم قد شرَع في تنفيذ جدول أعمال تقدّمي جدًّا. نشر الباحث الكبير كارل پولانيي رائعته «التحوّل الكبير» في العام ١٩٤٤، وهو نقدٌ عنيفٌ لمجتمع القرن التاسع عشر الصناعي المسيّر بواسطة السوق. منذ خمسين عامًا، تنبّأ پولانيي بهذا القول الاستشرافي والحديث: «إنّ السماح لآلية السوق بأن تكون المسيّر الأوحد لمصير البشر وبيئتهم الطبيعية… سوف يؤدي إلى تدمير المجتمع» (ص ٧٣). وعلى الرغم من ذلك، كان پولانيي مقتنعًا بأنّ مثل هذا التدمير لن يحدث في عالم ما بعد الحرب لأننا «نشهد داخل الأمم تطوّرًا بطُل فيه تحكّم النظام الاقتصادي في المجتمع وتأمّنت أسبقية المجتمع على ذاك النظام»، على ما قال (ص ٢٥١).

مع الأسف، إن تفاؤل پولانيي لم يكن في محلّه – فكلّ فكرة النيوليبرالية تقوم على تمكين آلية السوق من أن تتحكّم بمصير البشر. يجب على الاقتصاد أن يُملي قوانينه على المجتمع، وليس العكس. وتمامًا كما استشرف پولانيي، فهذه العقيدة تقودنا مباشرةً نحو «تدمير المجتمع».

فما الذي جرى؟ كيف وصلنا إلى تلك الحالة بعد نصف قرن من نهاية الحرب العالمية الثانية؟ والجواب الموجز هو «بسبب جملة من الأزمات المالية الحديثة في آسيا». لكن هذا يتفادى السؤال – فالسؤال المطروح هو «لماذا نشأت النيوليبرالية من معزلها الأقلوي جدًّا لتصير العقيدة الطاغية في عالم اليوم؟ لماذا يستطيع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي التدخّل كيفما شاءا لإجبار البلدان على المساهمة في الاقتصاد العالمي في شروط غير مناسبة؟ لماذا دولة الرعاية مهدّدة في جميع البلدان التي طُبّقت فيها؟ ولماذا تقف البيئة على حافة الانهيار ولماذا يوجد هذا العدد من الفقراء، في البلدان الغنية كما الفقيرة، في وقت لم توجد فيه ثروات ضخمة أبدًا كمثل الثروات الموجودة الآن؟ تلك هي الأسئلة التي يتعيّن الإجابة عنها من منظار تاريخي.

وكما حاججتُ في الفصلية الأميركية «ديسنت» Dissent (الانشقاق)، فأحد التفسيرات لانتصار النيوليبرالية وللكوارث الاقتصادية والاجتماعية والبيئية الملازمة لها هو أنّ النيوليبراليين قد اشتروا نسختهم الخاصة المؤذية والرجعية من «تحوّلهم الكبير» ودفعوا ثمنها. فقد أدركوا ما لم يدركه التقدّميون، أنّ للأفكار مترتّبات. ابتداءً من نواة في جامعة شيكاغو مع الفيلسوف – الاقتصادي وفي مركزها فريدريش فون هايك وتلامذته أمثال ميلتون فريدمان، نسج النيوليبراليون ومموّلوهم شبكة ضخمة من المؤسسات والمعاهد ومراكز الأبحاث والمنشورات والباحثين والكتّاب وخبراء العلاقات العامة الدوليين من أجل بلورة وتعليب أفكارهم وعقيدتهم ونشرها بلا هوادة.

لقد أنشأوا هذا الإطار الأيديولوجي بالغ الفاعلية لأنهم أدركوا ما كان يعنيه المفكر الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي عندما طوّر مفهوم الهيمنة الثقافيّة. فإذا كنتَ تستطيع احتلال أدمغة البشر فسوف تتبعها قلوبُهم والأيدي. لست أملك الوقت الكافي لإعطائكم أدلة هنا ولكن صدّقوني: إن العمل الأيديولوجي والدعَوي الذي قام به اليمين كان رائعًا بالمطلق. أنفقوا مئات الملايين من الدولارات لكنّ النتيجة كانت تساوي كل قرش أنفقوه لأنهم جعلوا النيوليبرالية تبدو وكأنها شرط طبيعي وعادي من شروط البشرية. ومهما يكن عدد الكوارث المتنوعة التي أتي بها النظام النيوليبرالي على نحو مؤكد، ومهما تكن الأزمات المالية التي قد تكون نتجت عنه، ومهما يكن عدد الخاسرين والمنبوذين الذين خلقهم، بدا كل هذا وكأنه حتمي مثله مثل فعل من أفعال الربّ، على اعتباره النظام الاقتصادي والاجتماعي الممكن الوحيد المتاح لنا.

دعوني أشدّد على أهمية أن ندرك أنّ هذه التجربة النيوليبرالية الواسعة التي نحن ملزمون بالعيش في ظلّها قد خلقها بشرٌ عن قصد. وما إن ندرك ذلك، ما إن نفهم أنّ النيوليبرالية ليست قوة مثل الجاذبية وإنما هي بناءٌ مصطنعٌ كليًّا، نبدأ بفهم أن ما صنعه البعض يمكن أن يغيّره البعض الآخر. لكنهم لن يستطيعوا تغييره دون الاعتراف بأهمية الأفكار. أنا مؤيدة كلّ التأييد للمشاريع القاعدية، ولكني أحذّر أيضًا من أنّ هذه سوف تنهار إذا كان المناخ الأيديولوجي الشامل معاديًا لأهدافها.

وهكذا فمن طائفة صغيرة غير محبوبة شبه معدومة التأثير، باتت النيوليبرالية الدِّين العالمي الأساس بعقيدته اليقينية وكهنته ومؤسساته التشريعية وربما الأهم من الجميع، بنار جهنّم التي يتوعد بها الكفرة والخطأة الذين يتجرأون على وضع الحقيقة المنزّلة موضعَ شك. إن أوسكار لافونتين، وزير المال الألماني السابق، الذي سمته الـ«نيويورك تايمز» «كينزيًّا لم يتعرّض للإصلاح» قد ألقي في نار جهنم للتوّ لأنه تجرّأ على اقتراح ضرائب مرتفعة على كبريات الشركات وخفوضٍ ضريبية على الأسر المتواضعة ومحدودة الدخل.

bid30_p.12-13_thatcher_reagan.jpg

تمجيد اللامساواة و«لا يوجد بديل»

وبعد تشييد المسرح الأيديولوجي ورسم الإطار، دعوني أتقدم الآن بسرعة لنعود إلى ما كانت عليه الأمور في العام ١٩٧٩، عام وصول مارغريت ثاتشر إلى السلطة ومباشرتها الثورة الليبرالية في بريطانيا. كانت «المرأة الحديدية» هي ذاتها من تلامذة فريدريش فون هايك، ومن أتباع الداروينية الاجتماعية، ولم تكن تخجل من المجاهرة بقناعاتها. عُرفتْ بأنها تبرر برنامجها بكلمة واحدة TINA وترجمتها «لا يوجد بديل». إن القيمة المركزية في عقيدة ثاتشر والنيوليبرالية هي فكرة المنافسة – المنافسة بين الأمم والمناطق، والشركات وبين الأفراد طبعًا. والمنافسة مركزية لأنها تفصِل الغنم عن الماعز، الرجال عن الصبيان، والأقوياء عن الضعفاء. والمفترض أنها توزع كافة الموارد، أكانت ماديةً أم طبيعيةً أم بشريةً أم مالية بأعلى قدر ممكن من الفاعلية.

وعلى العكس من ذلك، ختم الفيلسوف الصيني الكبير لاو تزو كتابه «تاو–تي تشينغ» بهذه الكلمات «فوق كل شيء آخر، لا تُنافسوا». الفاعلون الوحيدون في العالم النيوليبرالي الذي يبدو أنهم عملوا بنصيحته هم كبار الفاعلين قاطبة، أي كبريات الشركات عابرة للجنسيات. فمبدأ المنافسة بالكاد ينطبق عليهم، إنهم يؤثِرون ممارسة ما يمكن تسميته «رأسمالية التحالف». وليس صدفةً أنّ ثلثين إلى ثلاثة أرباع الأموال المسمّاة «استثمارًا خارجيًّا مباشرًا»، حسب الأعوام، ليست مكرّسة لاستثمارات جديدة تخلق الوظائف، وإنما لعمليات «دمج واستملاك» تنتهي دومًا بصرف موظفين من أعمالهم.

لأن المنافسة دائمًا فضيلة، لا يمكن لنتائجها أن تكون سيئة. بالنسبة للنيوليبرالي، السوق حكيمٌ إلى درجة أنه مثل الله تعالى: إنه «اليد الخفيّة» التي يمكنها اجتراح الخير من الشر المحقّق. هكذا قالت ثاتشر ذات خطاب: «إنه من مهمتنا أن نمجّد اللامساواة وأن نحرص على إطلاق المواهب والقدرات وتحرير طاقاتها التعبيرية لصالح الجميع». بعبارة أخرى، لا تكترثوا بالذين يبقون في مؤخرة ميدان الصراع التنافسي. البشر غير متساوين بحكم الطبيعة. ولكن هذا للخير لأن مساهمات أبناء الأسر الوجيهة، والأوفر حظًّا في التعليم والأقوى سوف تفيد الجميع. لا شيء يستحقه الضعفاء وذوو التحصيل التعليمي المتواضع، وما يجري لهم هو بسببهم وليس أبدًا بسبب المجتمع. إذًا إن «إطلاق سراح» نظام المنافسة، على قولة مارغريت ثاتشر، هو الأفضل للمجتمع. من أسف أنّ تاريخ السنوات العشرين يعلّمنا أنّ ما جرى هو العكس تمامًا.

في بريطانيا قبل عهد ثاتشر، كان حوالي شخص واحد من عشرة يصنّف على أنه يعيش تحت خط الفقر، لم يكن ذلك سجلّاً باهرًا لكنه مشرّف بالقياس لسائر الأمم وأفضل ممّا كان عليه الوضع قبل الحرب. والآن شخص واحد من أربعة، وطفل واحد من ثلاثة أطفال، معلنٌ عنه رسميًّا أنه فقير. هذا هو معنى البقاء للأقوى: الناس الذين لا يستطيعون تدفئة بيوتهم في الشتاء، المضطرون أن يضعوا قطعة معدنية في العدّاد قبل أن تكون لهم كهرباء ويكون لهم ماء، والذين لا يملكون معطفًا واقِيًا من المطر، إلخ. إني أستخدم هذه الأمثلة من تقرير العام ١٩٩٦ لـ«مجموعة العمل عن فقر الأطفال البريطانيين». وسوف أمثّل بنتيجة «الإصلاحات الضريبية» للثنائي ثاتشر-مايجر بمثال واحد. في الثمانينيات، كان واحدٌ بالمئة من دافعي الضرائب يحصل على ٢٩٪ من جميع فوائد الحسوم الضريبية، بحيث إنّ شخصًا يكسب نصف معدل الأجر العامّ يجد أنّ ضرائبه قد ارتفعت بنسبة ٧٪ في حين أنّ شخصًا يكسب عشرة أضعاف معدل الأجر العامّ ينال تخفيضًا بنسبة ٢١٪.

والمدلول الآخر للمنافسة بما هي القيمة المركزية للنيوليبرالية هو وجوب تقليص القطاع العام بقسوة لأنه لا ولن يطيع القانونَ الأساس وهو المنافسة قصد الربح وانتزاع حصة من السوق. والخصخصة واحدة من التحوّلات الاقتصادية الكبرى في العشرين سنة الأخيرة. بدأ التيار في بريطانيا وانتشر في سائر أجزاء العالم.

الخصخصة وكسر النقابات

دعوني أبدأ بالسؤال: لماذا كان للبلدان الرأسمالية، خصوصًا في أوروبا، خدمات عامة أصلاً ولماذا لا تزال لديها مثل تلك الخدمات؟ في الواقع، تشكّل معظم الخدمات العامة تقريبًا ما يسمّيه الاقتصاديون «احتكارات طبيعية». يوجد احتكار طبيعي عندما يكون الحجم الأدنى لتأمين الحد الأقصى من الفاعلية الاقتصادية مساويًا للحجم الفعلي للسوق. بعبارة أخرى، على شركة ما أن تكون بحجم معيّن لتحقق وفورات القياس فتقدّم بالتالي أفضل خدمة ممكنة بأقل كلفة ممكنة للمستهلك. وتتطلّب الخدمات العامة استثمارات كبيرة جدًّا في البداية، مثل خطوط سكك الحديد أو شبكات توصيل الطاقة – ما لا يشجع على المنافسة هو أيضًا. لهذا كانت الاحتكارات العامة الحلَّ الأمثل البديهي. على أنّ النيوليبراليين يعرّفون كل شيء عموميّ على أنه «غير فعّال» بالضرورة.

فما الذي يحصل عند خصخصة احتكار طبيعي؟ بشكل طبيعي وعادي يتّجه المالكون الرأسماليون الجدد إلى فرض أسعار احتكارية على الجمهور ويجْنون الأرباح الوفيرة لأنفسهم. يسمّي الاقتصاديون الكلاسيكيون هذه النتيجة «فشلاً سوقيًّا بنيويًّا» لأن الأسعار أعلى مما يجب أن تكون، والخدمة المقدمة للمستهلك ليست بالضرورة جيدة. من أجل الحيلولة دون حالات الفشل السوقية البنيوية، أوكلت البلدان الرأسمالية في أوروبا، بمجموعها تقريبًا، البريدَ والاتصالات الهاتفية والكهرباء والغاز وسكك الحديد وقطارات الأنفاق والنقل الجوي، وفي العادة خدمات أخرى مثل الماء ورفع النفايات إلخ، إلى احتكاراتٍ تملكها الدولة. استمرّت هذه الحالة إلى الثمانينيات من القرن الماضي. وكانت الولايات المتحدة الاستثناء الأكبر من هذه القاعدة، ربما لأنها كانت ضخمةً جغرافيًّا بما لا يسمح لها باعتماد الاحتكارات الطبيعية.

في كل الأحوال، عزمت مارغريت ثاتشر على تغيير كل هذا الوضع. والفائدة الإضافية من ذلك هي استخدام الخصخصة لكسر قوة النقابات العمّالية. بتدمير القطاع العامّ بما هو أقوى قلاع النقابات، تمكّنت من إضعافها على نحوٍ حاسم. وهكذا بين ١٩٧٩و١٩٩٤ انخفض عدد الوظائف في القطاع العامّ في بريطانيا بين ٦ ملايين و٧ ملايين وظيفة، أي بنسبة ٢٩ بالمئة. وكانت كل الوظائف التي ألغيت عمليًّا وظائف شاغلوها منضمّون إلى النقابات. ولمّا كان التوظيف في القطاع الخاص راكدًا خلال تلك السنوات الخمس عشرة، بلغ الرقم الإجمالي للانخفاض في الوظائف البريطانية ١،٧ مليون، أي بنسبة ٧ بالمئة بالمقارنة مع العام ١٩٧٩. ففي عُرْف النيوليبراليين أنّ قلّة عدد العمال أفضل من كثرتهم لأن العمال يقتطعون من عائدات أصحاب الأسهم.

أما بالنسبة للآثار الأخرى للخصخصة، فقد كانت متوقعة وقابلة للتوقع. لجأ مدراء المنشآت التي تعرّضت للخصخصة حديثًا، وقد حافظ معظمهم على مناصبهم، إلى مضاعفة أجورهم بمعدل ضعفين أو ثلاثة أضعاف. واستخدمت الدولة أموال دافعي الضرائب لتصفية ديون المنشآت وإعادة رسملتها قبل إنزالها إلى السوق. فمثلاً، تلقت شركة الماء اقتطاعًا من ديونها قدره خمسة مليارات جنيه إضافةً إلى ١،٦ مليار سمّي «المَهر الأخضر» لجعل العروس أكثر جاذبية للمشترين المحتملين. أثير الكثير من الضجة في أوساط العلاقات العامة حول كيف تقرر أن يملك صغار المساهمين حصةً في تلك الشركات، وبالفعل اشترى ٩ ملايين بريطاني أسهمًا فيها، لكنّ نصفهم وظّف أقلّ من ألف جنيه، ومعظمهم ما لبث أن باع أسهمه في مهلة سريعة نسبيًّا حالما استطاعوا قبض الأرباح المباشرة.

يستطيع المرء أن يرى من تلك النتائج أنّ الفكرة الأساسية من الخصخصة ليست الفاعلية الاقتصادية ولا تحسين الخدمات للمستهلك وإنما هي نقل الثروة من الخزينة العامة – القابلة لأن توزعها للتخفيف من الفوارق الاجتماعية – إلى أيدي الخاصّة. لقد اشترى موظفو «بريتيش تيليكوم» واحدًا بالمئة من أسهم الشركة فقط، وموظفو «بريتيش آيروسبيس» ١،٣ بالمئة، إلخ. قبل هجوم السيدة ثاتشر، كان قسم كبير من القطاع العامّ في بريطانيا يحقق الأرباح. ففي العام ١٩٨٤، أسهمت الشركات العامة بما يزيد على ٨ مليارات جنيه إلى الخزينة. إنّ كلّ هذا المال يذهب الآن إلى مساهمين أفراد. والخدمة في الصناعات المخصخصة كارثية أحيانًا، فقد كتبت الـ«فاينانشال تايمز» عن اجتياح الفئران لنظام «مياه يوركشاير»؛ ومن استقلّ قطارات شركة «ثايمز» ولا يزال على قيد الحياة يستحق نيل وسام.

لقد طُبّقت الآليات ذاتها حرفيًّا في سائر أنحاء العالم. في بريطانيا، كانت «مؤسسة آدم سميث» الشريكَ الفكري لاختراع أيديولوجية الخصخصة. وقد استخدمت «مؤسسة الولايات المتحدة للاستثمار والتنمية» «USAID» والبنكُ الدولي خبراءَ «مؤسسة آدم سميث» للترويج لعقيدة الخصخصة في بلدان الجنوب. وبحلول العام ١٩٩١، كان البنك قد قدّم ١١٤ قرضًا لتسريع العملية، وفي كل عام كانت هيئة «التنمية المالية الكونية» التابعة له تنشر جداول المئات من أعمال الخصخصة المنفذة في البلدان التي تقترض من البنك.

أقترح أن نتوقّف عن الحديث عن الخصخصة وأن نستخدم المفردة التي تقول الحقيقة: إننا نتحدث عن «نزع ملكية» وتسليم نتاج عقود من العمل بذلها آلاف الأشخاص إلى أقلية قليلة من كبار المستثمرين. هذه هي أكبر عملية سرقة بالقوة في جيلنا أو لأي جيل.

نقل الثروة من أسفل إلى أعلى

السمة البنيوية الأخرى من سمات النيوليبرالية كناية عن مكافأة رأس المال على حساب العمل وبالتالي نقل الثروة من أسفل المجتمع إلى أعلى. فإذا كنتَ في خانة الـ٢٠٪ الأعلى من سلّم المداخيل، فأنت قابل لأن تكسب من النيوليبرالية، وكلّما ارتقيتَ في السلّم زاد كسبك. وعكسًا، فجميع من هم في خانة الـ ٨٠٪ الأسفل يخسرون جميعًا، وكلما انخفض موقعهم من السلّم زادت خسارتهم بنفس النسبة.

إذا كنتم تظنون أني نسيت رونالد ريغان، فدعوني أمثل على هذه النقطة بملاحظات كيفن فيليبس، المحلل الجمهوري والمساعد السابق للرئيس نيكسون، الذي نشر عام ١٩٩٠ كتابًا بعنوان «سياسات الأغنياء والفقراء». وهو الكتاب الذي فتح الطريق أمام عقيدة ريغان النيوليبرالية وسياساته التي غيّرت توزيع الدخل في الولايات المتحدة بين الأعوام ١٩٧٧ و١٩٨٩. تبلورت تلك السياسات عمومًا في «هيريتايج فاونديشن» (مؤسسة التراث) أبرز مركز أبحاث في عهد ريغان والتي لا تزال ذات قوة يعتدّ بها في السياسة الأميركية. على امتداد عقد الثمانينيات من القرن الماضي، زاد الدخل العائلي المتوسط لأعلى ١٠٪ من العائلات الأميركية بنسبة ١٦٪، والـ٥٪ الأعلى بنسبة ٢٣٪. لكنّ الأوفر حظًّا كانوا الواحد بالمئة من العائلات الأميركية الذين أمكنهم شكر ريغان على زيادةٍ قدرها ٥٠٪. فقد قفز متوسط مداخيلهم المرتفعة أصلاً، وهو ٢٧٠ ألف دولار، إلى ذروة تبلغ ٤٠٥ آلاف دولار سنويًّا. أما الأميركيون الأفقر فقد خسروا جميعًا، وكلما كانوا أكثر انخفاضًا في درجات السلّم كانت خسائرهم أكبر. فبحسب إحصائيات فيليب نفسه، خسر الـ١٠٪ من الأميركيين في أسفل السلّم ١٥٪ من مداخيلهم الشحيحة أصلاً التي انخفضت من متوسط منخفض جدًّا قدره ٤،١١٣ دولارًا سنويًّا إلى متوسط غير إنساني قدره ٣،٥٠٤ دولارات سنويًّا. في العام ١٩٧٧، كان متوسط دخل الواحد بالمئة من العائلات الأميركية أكبر بـ ٦٥ ضعفًا من دخل الـ١٠٪ في أسفل السلّم. وبعد عقد من الزمن، صار أعضاء فئة الواحد بالمئة أغنى بنسبة ١١٥ ضعفًا قياسًا إلى العشرة بالمئة في أسفل السلّم.

إن الولايات المتحدة هي المجتمع صاحب أعلى نسبة من اللامساواة على الأرض. لكن جميع البلدان عمليًّا شهدت تفاقم الفروق الاجتماعية على امتداد السنوات العشرين الأخيرة بسبب السياسات النيوليبرالية. نشر «مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية» UNCTAD بعض الأدلة الاتهامية في هذا الصدد في «تقرير التجارة والتنمية» لعام ١٩٩٧ المبني على ٢٦٠٠ بحث منفصل عن أشكال اللامساواة في المداخيل، والإفقار وتجويف الطبقات المتوسطة. إن فريق «مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية» قد وثّق تلك التيارات في عشرات من المجتمعات المختلفة كليًّا في ما بينها، بما فيها الصين وروسيا وغيرهما من البلدان الاشتراكية السابقة.

لا يوجد أمر ملغز في هذا الاتجاه نحو المزيد من اللامساواة. وترسم السياسات الخاصة التي توفر لأصحاب الثروات دخلاً وفيرًا يتأمن خصوصًا من خلال الاقتطاعات الضريبية وتخفيض الأجور. إن النظرية والتبرير الأيديولوجي لمثل تلك الإجراءات هو أنّ المداخيل والأرباح المرتفعة للأغنياء ستؤدي إلى المزيد من الاستثمار، وإلى المزيد من توزيع أفضل للموارد وبالتالي المزيد من الوظائف والرفاه للجميع. في الواقع، وكما كان متوقعًا تمامًا، إنّ نقل المال عبر السلّم الاقتصادي قد أدّى إلى فقاعات في البورصات وإلى الثروة الورقية الخفيّة للقلّة والأزمات المالية. إذا ما أعيد توزيع المداخيل لفائدة الـ٨٠٪ من الذين في أسفل المجتمع فسوف يستخدم لغرض الاستهلاك وبالتالي يفيد في خلق الوظائف. أما إذا أعيد توزيعها باتجاه الأعلى، حيث يملك الأفراد معظم ما يحتاجون إليه، فلن تدخل تلك الأموال إلى الاقتصاد المحلّي أو الوطني وإنما ستتجه نحو البورصات الدولية.

وكما نعلم جميعًا، فإن السياسات ذاتها قد طُبّقت على امتداد الجنوب والشرق بحجة التعديل الهيكلي الذي هو الاسم الآخر للنيوليبرالية. لقد استخدمتُ ثاتشر وريغان للتمثيل على سياسات وطنية. أما على الصعيد الدولي، فقد ركّز النيوليبراليون كل جهودهم على ثلاث نقاط أساسية: حرية التجارة في السلع والخدمات، وحرية حركة رأس المال وحرية الاستثمار.

على امتداد العشرين سنة الأخيرة، كان صندوق النقد الدولي يعزز قدراته على نحو كبير. بفضل أزمة المديونية وآليات المشروطية، انتقل من دعم ميزان المدفوعات إلى أن يصير أشبه بالدكتاتور الكوني لما يسمّى السياسات الاقتصادية «الرشيدة»، أي السياسات الاقتصادية النيوليبرالية. ثم أنشئت «منظمة التجارة العالمية» أخيرًا في كانون الثاني/ يناير ١٩٩٥ بعد مفاوضات طويلة ومضنية وغالبًا ما جرى تمريرها في برلمانات لم يكن يدري أعضاؤها الكثير عما قرّروه. ولحسن الحظ، فإنّ الجهد الأخير لرسم قواعد نيوليبرالية كونية وملزمة، على شكل «اتفاق الاستثمار متعدد الأطراف»، قد فشل، مؤقتًا على الأقل. وكان مقدرًا له أن يمنح كل الحقوق لكبريات الشركات ويلقي كل الواجبات على الحكومات ويحرم المواطنين من كل الحقوق.

القاسم المشترك بين هذه المؤسسات هو انعدام الشفافية وعدم الخضوع للمساءلة الديموقراطية. هذا هو جوهر النيوليبرالية: تزعم أن الاقتصاد يتعيّن عليه أن يملي قوانينه على المجتمع، وليس العكس. فالديموقراطية مُربكة، ذلك أنّ النيوليبرالية معدّة للرابحين لا للناخبين الذين يضمّون فئتي الخاسرين والرابحين.

أودّ أن أختم بأن أسألكم أن تأخذوا على محمل الجد الكبير التعريف النيوليبرالي للخاسر، الذي لا يترتّب له أي شيء مخصوص. يمكن طرد أيٍّ أحد من النظام في أيّ وقت – بسبب المرض، السن، الحمل، ما يقرِّر أنه فشل أو بسبب ظروف اقتصادية وما يقتضيه تحويل الثروة من تحت لفوق بلا هوادة. إنّ قيمة حامل الأسهم هي كل شيء. مؤخرًا كتبت «الإنترناشيونال هيرالد تريبيون» أنّ المستثمرين الأجانب «يستحوذون» على الشركات والمصارف التايلاندية والكورية. لا عجب في أن تلك المشتريات يتوقع أن تؤدي إلى صرف للموظفين على نطاق واسع.

بكلمات أخرى، إنّ نتاج سنوات من كدح آلاف التايلانديين والكوريين يتحوّل إلى أيدي كبريات الشركات الأجنبية. والعديد منهم الذين كدحوا لإنتاج تلك الثروة هم الآن في قارعة الطرقات أو سوف يكون هذا مصيرهم عما قريب. فبناءً على قوانين المنافسة وتعظيم قيمة مالكي الأسهم، لن يُرى مثل هذا السلوك على أنه ظالم على نحو إجرامي وإنما طبيعي بل حتى إنه إجراء فاضل.

أزعم أنّ النيوليبرالية قد غيّرت طبيعة السياسة من أساسها. كانت السياسة تتعلق بالدرجة الأولى بالسؤال حول من يحكم من ومن ينال أي حصة من الكعكة. بالطبع لا تزال جوانب من هذا وذاك موجودة لكن بات سؤال السياسة المركزي الكبير الجديد هو «من يحق له الحياة ومن لا يحق له الحياة». إن الإقصاء الجذري هو شعار المرحلة الآن، وإني أعني ذلك بجدّية كاملة.

لعلي قدّمت لكم الكثير من الأخبار السيئة لأن تاريخ السنوات العشرين الأخيرة مليء بها. لكني لا أريد أن أنهي كلامي على هذه النبرة المحبطة والتشاؤمية. يجري الكثير لمواجهة تلك التيارات التي تهدد الحياة وثمة أفق بعيد للمزيد من الأفعال.

ساعد مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية على تحديد الكثير من تلك الأفعال التي أعتقد أنها يجب أن تتضمن الهجوم الأيديولوجي. لقد آن الأوان لنقرر نحن جدولَ الأعمال بدلاً من أن نترك الأمر لـ«سادة الكون» أن يقرروه في دافوس. وإني آمل أن يتفهم المانحون أنهم لا ينبغي أن يموّلوا مشاريع عادلة وإنما عليهم أن يمولوا أفكارًا أيضًا. لا يمكننا الاعتماد على النيوليبراليين لأن يتولَّوا هذا الأمر، لذا علينا أن نصوغ أنظمة ضريبية دولية عملية وعادلة، بما فيها «ضريبة طوبِن» على كل معاملات الأسواق المالية والضرائب النسبية على مبيعات «الشركات متعدّية الجنسيات»… وينبغي أن تخصص عائدات النظام الضريبي العالمي لردم الفجوة بين الشمال والجنوب، ولإعادة التوزيع لجميع الذين نهبوا خلال العشرين سنة الأخيرة.

اسمحوا لي أن أكرر ما قلته سابقًا: ليست النيوليبرالية عنصرًا من عناصر الطبيعة البشرية. ولا هي قوة فوق طبيعية. يمكن تحدّيها واستبدالها لأنّ فشلها يقتضي ذلك. علينا أن نكون مستعدّين لسياسات بديلة تعيد السلطة للجماعات وللدول الديموقراطية فيما نحن نعمل لبناء الديموقراطية، وحكم القانون والتوزيع العادل على الصعيد الدولي. للأعمال وللسوق مكانهما، لكن لا يمكن لهذا المكان أن يحتل كل نطاق الوجود الإنساني.

المزيد من الأخبار الجيدة أنه يوجد الكثير من المال حولنا وأن جزءًا صغيرًا منه، بل نسبة لا تكاد تُذكر، يكفي لتوفير الحياة اللائقة لكل إنسان على هذه الأرض، وتوفير الصحة والتعليم الشاملَين وتنظيف البيئة ومنع المزيد من تدمير الكوكب وردم الهوة بين الشمال والجنوب، أقلّه بناءً على ما تقترحه «وكالة الأمم المتحدة للتنمية»، التي تقدّر أنّ الأمر يحتاج إلى ٤٠ مليار دولار. وبصراحة، هذا مبلغ زهيد جدًّا.

أخيرًا، أرجو أن تتذكروا أنّ النيوليبرالية قد تكون شرهة لا تشبع ولكنها ليست منيعةً كاملة المناعة. إن تحالفًا دوليًّا للناشطين أجبر النيوليبراليين بالأمس فقط على أن يتخلّوا، ولو مؤقتًا، عن مشروعهم لتحرير كل الاستثمارات عن طريق «الاتفاق متعدد الأطراف حول الاستثمار» MAI*، وإن الانتصار المفاجيء لخصومها أغاظ دعاة حكم الشركات وأكد أنّ شبكةً محكمة التنظيم من الغواريين قادرة على كسب المعارك. والآن علينا أن نعيد تجميع قوانا وأن نحافظ عليها لكي نمنعهم من أن يحوّلوا «الاتفاق المتعدد الأطراف من أجل الاستثمار» (اسم مؤسسة دولية MAI Multilateral Agreement on Investment) إلى «منظمة التجارة الدولية».

لننظر إلى الأمور من هذا المنظار: الأرقام إلى جانبنا. لأنّ عدد الخاسرين في لعبة النيوليبرالية يفوق بكثير عدد الرابحين. وإننا نملك الأفكار. فيما أفكارهم بات مشكوكًا بأمرها بسبب تكرار الأزمات. ما ينقصنا، إلى الآن، هو التنظيم والوحدة التي تمكّننا من الانتصار في عصر التكنولوجيا المتقدمة هذا.

الواضح أن التهديد عابر للقوميات، الأمر الذي يعني أنّ الجواب يجب أن يكون هو أيضًا عابرًا للقوميات. لم يعد التضامن يعني المساعدة، أو أنه لم يعد يقتصر على المساعدة، بات يتطلب اكتشاف طاقات مخبأة في نضالات واحدنا والآخر بحيث تستطيع قوتنا العددية وقوة أفكارنا أن تنتصر.

—————————-

النيوليبراليّة – الأيديولوجيّة في أساس مشاكلنا كلّها/ جورج مونبيوت

تصوّروا لو أنّ الشعب في الاتّحاد السوفييتي لم يسمع بالشيوعيّة يومًا. بالنسبة للأكثريّة منّا، الأيديولوجيّة التي تسيطر على حياتنا، لا اسم لها. وإذا ما ذكرتَها في حديثك فستواجَه بقلّة الاكتراث. فحتى لو أنّ مستمعيك سمعوا بها من قبل، سيكون من الصعوبة عليهم بمكان تعريفها. النيوليبراليّة: هل تعلمون ما هي؟

أيديولوجيّة بلا اسم

أن يكون لا مسمّى للنيوليبراليّة، هو مظهرٌ من مظاهر سلطتها ومصدرٌ لهذه السُلطة في آن معًا. قد لعبت هذه الأيديولوجيّة دورًا أساسيًّا في مجموعة لافتة من الأزمات: الأزمة الماليّة العالميّة في 2007ــ 2008، نقل الثروات والسلطة إلى الخارج حصرًا للنفقات والضرائب الأمر الذي تُبيّن لنا «وثائقُ بَنَما» نموذجًا صغيرًا منه، الانهيار البطيء لقطاعَي الصحّة العامّة والتعليم، تصاعد ظاهرة فقر الأطفال، وباء الشعور بالوحدة، انهيار الأنظمة البيئيّة، وصعود دونالد ترامب. لكنّ ردّ فعلنا تجاه هذه الأزمات يأتي وكأنّها أزماتٌ تأتي تلقائيًّا، غير واعين على ما يبدو أنّه قد جرى تحفيزها أو مفاقمتها كلها عن طريق الفلسفة المتماسكة ذاتها، فلسفة تملك اسمًا، أو كانت تملك اسمًا. فأيّ سُلطة يمكن أن تكون أقوى من سلطة تلك التي تفعل فعلها من دون تسمية؟

لقد اخترقت النيوليبراليّة كل نواحي الحياة بحيث بتْنا بالكاد نعترف بها كأيديولوجيّة. يبدو أنّنا نتقبّل فرضيّة أنّ هذا الإيمان الطوباوي بالألفيّة يتحدّث عن قوة غير منحازة، وعن نوعٍ من القانون البيولوجي أشبهَ بنظريّة داروين في النشوء والارتقاء. لكنّ هذه الفلسفة نشأت بما هي محاولةٌ واعيةٌ لإعادة تشكيل الحياة البشريّة ونقل محور السلطة التي تتحكّم بها.

تجد النيوليبراليّة في المنافَسة السمةَ الأساسيّةَ في العلاقات البشريّة. وهي تعمد إلى إعادة تعريف المواطنين كمستهلِكين يمارسون خياراتِهم الديموقراطيّة من خلال البيع والشراء، على اعتبارها العملية التي تكافئ الجدارة وتعاقِب قلّةَ الإنتاجيّة. وتصرّ النيوليبراليّة على أنّ «السوق» يحقّق فوائد لا يمكن تحقيقها إطلاقًا عن طريق التخطيط.

تُعتبر محاولات الحدّ من التنافس تعدّيًا على الحرّية، أمّا الضرائب وتنظيمها فيُفتَرض جعلها في حدّها الأدنى، وتجبُ خصخصةُ الخدمات العامّة. ويصوَّر تنظيم العمّال والمفاوضات الجماعيّة من خلال النقابات على أنّها تشوّهات في نظام السوق تعيق تشكّل تراتبيّة طبيعيّة بين الرابحين والخاسرين. ويعاد تقديم اللامساواة على أنّها فضيلة: أي أنّها مكافأةٌ على المنفعة كما أنّها تولّد الثروةَ التي تتسرّب نزولًا لتُغني كل طبقات المجتمع. وإذا الجهودُ لخلق مجتمعٍ أكثرَ مساواة تأتي بنتائج عكسيّة وتقود إلى أضرارٍ أخلاقيّة، فالسوق يضمن أن ينال كلُّ ذي حقّ حقّه.

إننا نتشرّب النيوليبراليّة ونعيد إنتاج معتقداتها. يُقنِع الأغنياءُ أنفسهم بأنّهم حصّلوا ثرواتهم من خلال جدارتهم، متناسين المزايا التي يمكن أن تكون قد ساعدتهم في الحصول عليها كالتعليم والإرث والتفوّق الطبقي. أمّا الفقراء فيَلومون أنفسهم على فشلهم حتى وإن لم يكن باستطاعتهم فِعل ما من شأنه تغيير أوضاعهم.

لا تأبه للبطالة الهيكليّة: إن كنتَ بلا وظيفة فلأنك تفتقر لروح المغامرة. ولا تأبه بتكاليف السكن التي لا قدرة لك على تحمّلها: إذا وصلتَ باقتراضك إلى الحدّ الأقصى لبطاقتك الائتمانيّة فأنت غير كفوء ومُسرِف. ولا تأبه بأنّ أولادك لم يعد لهم ملعب في المدرسة، وإن أصبحوا زائدي الوزن، فهذا خطأ تُلام أنت عليه. في عالمٍ تحكمه المنافسة، الذين يتخلّفون عن الركْب هم الخاسرون بنظر المجتمع وبنظرهِم هم أنفسهم.

«أظهرت النيوليبراليّة أسوأ ما فينا»

من ضمن النتائج التي يسجّلها بول فرهايج في كتابه «ماذا عنّي أنا؟» (What About Me?) ترِد: أوبئة أذيّة الذات، الاضطرابات في الأكل، الاكتئاب، الشعور بالعزلة، رهبة الأداء، والرهاب الاجتماعي. ولا عَجَب أن تكون بريطانيا التي تطبّق الأيديولوجيّة النيوليبراليّة بصرامةٍ قصوى، هي عاصمة الشعور بالعزلة في أوروبا. أصبحنا كلنا نيوليبراليّين الآن.

صيغَ مصطلحُ «نيوليبراليّة» في اجتماعٍ عُقد في باريس عام 1938. بين المجتمِعين حضر شخصان تولّيا تعريف الأيديولوجيّة، لودفيك فون ميزس وفريدريش فون هايك. كلاهما منفي من النمسا، وجدا في الديموقراطيّة الاجتماعيّة المتمثلة بـ«العقد الجديد» الذي أطلقه فرانكلين روزفلت، وفي التطوّر التدريجي في بريطانيا نحو دولة الرعاية مظاهرَ لمبدأ الشموليّة التي تندرج في الطيف ذاته الذي يحوي النازيّة والشيوعيّة.

في كتابه «الطريق إلى العبوديّة» (١٩٤٤) يناظر فون هايك بأنّ التخطيط الحكومي، إذ يسحق الفرديّة، يقود حتمًا إلى السيطرة الشموليّة. شأنه شأن كتاب ميزس، «البيروقراطيّة»، حظي هذا الكتاب بقراءة واسعة، كما حظي بانتباه أصحاب الثراء الفاحش ممّن وجدوا في هذه الفلسفة فرصةً سانحةً لتحرير أنفسهم من تشريعات الدولة ومن الضرائب. فحين أسّس فون هايك في العام 1947 أوّل مؤسّسة لنشر العقيدة النيوليبراليّة – وهي «جمعية مونت بيليرين» (Mont Pelerin Society) – دعمها ماديًّا أصحابُ الملايين ومؤسساتُهم.

بمساعدتهم هذه، بدأ فون هايك بإنشاء «نوع من الأمميّة النيوليبراليّة»، بحسب تعبير دانيال ستيدمان جونز في كتابه «أسياد الكون» (Masters of the Universe)، وهي شبكة من الأكاديميّين ورجال الأعمال والصحافيين والناشطين تمتد إلى ما وراء الأطلسي. لقد موّل داعمو هذه الحركة الأغنياءُ سلسلةً من «بيوت الخبرة» (think tanks) التي عملت على صقل هذه الأيديولوجيّة وترويجها، وكان منها «معهد المشروع الأميركي لأبحاث السياسة العامّة» American Enterprise Institute، «مؤسسة التراث» The Heritage Foundation، «معهد كايتو» The Cato Foundation، «معهد الشؤون الاقتصاديّة» The Institute of Economic Affairs، «مركز دراســـــات السياسات» The Centre for Policy Studies، وأيضًا «معهد آدم سميـــــــث» The Adam Smith Institute. كما موّلوا كراسيَ جامعيّة وأقسامًا أكاديميّة، في جامعتَي شيكاغو وفيرجينيا خصوصًا.

مع تطورها ازدادت النيوليبراليّة بأسًا، فرؤية فون هايك بضرورة تنظيم الحكومات للمنافسة منعًا للاحتكارات، أحلّ محلَّها أتباعُه الأميركيون، مثل ميلتون فريدمان، الاعتقادَ بأنه يمكن اعتبار سلطة الاحتكار مكافأة على الإنتاجيّة.

خلال هذا التحوّل حدث أمرٌ آخر: فقدت الحركة اسمَها. ففي عام 1951 كان فريدمان سعيدًا بالتعريف عن نفسه كنيوليبرالي، لكن بعد ذلك بقليل بدأ المصطلح يختفي. غير أنّ الأغرب من ذلك أنه حتى لمّا صارت الأيديولوجيّة أكثر نضوجًا، والحركة أكثر تماسكًا، لم يجرِ استبدال الاسم الضائع بأيّ بديلٍ معروف.

في بادئ الأمر، ظلّت النيوليبراليّة هامشيّة، على الرغم من التمويل السخي لها. لقد كان توافقُ ما بعد الحرب توافقًا عامًّا تقريبًا: طُبّقت تدابير جون ماينارد كينز الاقتصاديّة على نطاق واسع فكانت العمالة الكاملة والتخفيف من وطأة الفقر أهدافًا مشتركةً بين الولايات المتّحدة والقسم الأكبر من أوروبا الغربيّة، فوضعت معدلات عالية جدًّا للضرائب، كما سَعَت الحكومات إلى تحقيق نتائج اجتماعيّة دونما حرج، مطوِّرةً بالتالي خدماتٍ عامّةً جديدة وشبكات أمان اجتماعي.

انتشار على أنقاض الكينزيّة

لكن في السبعينيات، حين بدأت السياسات الاقتصاديّة الكينزيّة تتهاوى، وضربت الأزمةُ الاقتصاديّةُ جانبَي الأطلسي، بدأت الأفكار النيوليبراليّة بالانتشار بين معظم الناس. وكما صرّح فريدمان، «حين جاءت اللحظة التي وجب عليكَ فيها التغيير… كان هنالك بديلٌ حاضرٌ لتتلقّفه». بمساعدة صحافيين متعاطفين ومستشارين سياسيين، اعتُمدت عناصرُ من النيوليبراليّة، خصوصًا إجراءاتها المتعلّقة بالسياسة النقديّة، من قِبَل إدارة جيمي كارتر في الولايات المتحدة وحكومة جيم كالاهان في بريطانيا.

بعد تسلّم مارغريت ثاتشر ورونالد ريغن للسلطة، تم استكمال حزمة الإجراءات: تخفيضات ضريبيّة هائلة للأغنياء، سحق النقابات العمّالية، رفع القيود، الخصخصة، الاستعانة بالمصادر الخارجية وتنفيذ المهام خارجيًّا، وفرض المنافسة في الخدمات العامّة. فُرضت السياسات النيوليبراليّة في معظم أنحاء العالم من خلال صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومعاهدة ماستريخت، ومنظمة التجارة العالميّة، وغالبًا من دون موافقة ديموقراطيّة. والأمر اللافت هو اعتماد هذه السياسات من أحزابٍ كانت تنتمي في الماضي إلى اليسار: كحزب العمّال البريطاني والحزب الديموقراطي الأميركي مثلاً. فكما يشير ستيدمان جونز: «يصعب التفكير في يوتوبيا حظيت بفرصة أن تتحقّق بالكامل مثلما حظيت النيوليبراليّة».

قد يبدو غريبًا أنّ عقيدةً تعِد بحق الاختيار وبالحرية احتاجت لترويجها إلى شعار «ليس هنالك من بديل». خلال زيارته إلى تشيلي في عهد بينوشيه أحد أوائل البلدان التي طبّقت البرنامج النيوليبرالي بشكل شامل صرّح فون هايك قائلاً «إنّ خياري الشخصي يميل أكثر نحو ديكتاتوريّةٍ ليبراليّةٍ منه نحو حكومةٍ ديموقراطيّة خالية من الليبراليّة». فالحرية التي تطرحها النيوليبراليّة، والتي تبدو جذابة ومخادعة في آن معًا حين تُطرح بشكل عام، يتبيّن أنها تعني الحرية لسمك القرش بالانقضاض على الأسماك الصغيرة.

إنّ التحرّر من تدخّل النقابات العمّالية ومن التفاوض الجماعي يعني الحرية في ممارسة تخفيض الأجور. والتحرّر من القيود يعني الحرية في تلويث الأنهار، وتعريض العمّال للخطر، وفرض معدّلات فائدة جائرة، وتصميمَ هندسات ماليّة غرائبيّة. والتحرّر من الضريبة يعني التحرّر من توزيع الثروة الذي يرفع البؤس عن الناس.

بحسب ما وثّقته نِيومي كلاين في كتابها «عقيدة الصدمة» (The Shock Doctrine)، دعا منظّرو النيوليبراليّة إلى توظيف الأزمات لفرض سياساتٍ غير شعبيّة فيما الناسُ مشتّتون، كما كان الحال في أعقاب انقلاب بينوشيه وحرب العراق وإعصار كاترينا الذي وصفه فريدمان بأنه «فرصة سانحة للإصلاح الجذري في النظام التعليمي في نيو أورلينز».

وحين يتعذّر فرض السياسات النيوليبراليّة محليًّا، تُفرَض دوليًّا عن طريق اتفاقيات تجارية تتضمّن «تسوية المنازعات ما بين المستثمِر والدولة»، بحيث يمكن تدخّل المحاكم الخارجية لتضغط باتجاه إلغاء الحماية الاجتماعية والبيئية المحلّية. وفي وقت تصوّت فيه البرلمانات من أجل الحدّ من مبيعات السجائر وحماية الموارد المائيّة من عمليات التعدين وكبْح الزيادات على فواتير الطاقة، أو منع شركات الأدوية من سرقة أموال الدولة، نجد الشركات تقاضي الدول وتنجح في أكثر الحالات. هكذا تتحوّل الديموقراطيّة إلى مسرحيّة.

المفارقة الأخرى التي تنطوي عليها النيوليبراليّة هي أنّ التنافس العالمي يعتمد على طريقة موحّدة عالميّة في قياس الكمّ وفي المقارنة. والنتيجة أنْ صار العمّال، وطالبو الوظائف وشتّى أنواع الخدمات العامّة، خاضعين لنظام تقييمٍ تافه، متلاعب وخانق، نظام مصمّم ليحدّد الفائزين ويعاقب الخاسرين. وعلى عكس ما افترض ميزيس، العقيدة التي قال إنها ستحرّرنا من الكابوس البيروقراطي للتخطيط المركزي قد كبّلتْنا به.

bid30_p.19.jpg

عمليّة احتيال لكسب المال

لم تكن النيوليبراليّة تُعتبر بمثابة عمليّةٍ احتياليّة لكسب الأموال، لكنّها سَرعان ما أصبحت كذلك. النموّ الاقتصادي في عصر النيوليبراليّة (بدأً من 1980 في بريطانيا والولايات المتحدة) هو أبطأ ممّا كان عليه في العقود التي سبقته على نحو ملحوظ، لكنّ هذا لا ينطبق على كبار الأثرياء. بعد 60 عامًا من تراجع التفاوت في توزيع الدخل والثروة، عاد للارتفاع بسرعة في هذا العصر بسبب سَحق النقابات العمّالية وخفض الضرائب وارتفاع الربحية والخصخصة ورفع القيود.

إنّ خصخصة الخدمات العامّة أو إخضاعها لآليات السوق، كقطاعات الماء والقطارات والصحة والتعليم والطرقات والسجون، قد مكّنت الشركات من إقامة أكشاكٍ قبالةَ ممتلكاتٍ حيويّةٍ تجني فيها رسومًا لقاء استعمال تلك الخدمات العامّة من قبل الدولة أو المواطنين. والريع هنا تعبيرٌ آخرُ عن دخْلٍ من غير جهد. فحين تَدفع ثمنًا مبالغًا فيه لقاءَ تذكرة سفر بالقطار، يكفي جزء فقط منه لتغطية ما يدفعه المشغِّلون ثمنًا للطاقة والأجور والمعدات المتحرّكة في السكك الحديد. أمّا الباقي فيعكس كونكَ قد وقعتَ تحت رحمتهم.

أولئك الذين يملكون ويشغّلون الخدمات المخصّخصة كليًّا أو جزئيًّا في المملكة المتحدة، يجنون ثروات مذهلة من خلال توظيف القليل من المال وجني الكثير. في روسيا والهند، القلّةُ القليلةُ المسيطِرة حصلت على ممتلكات الدولة عن طريق حرق الأسعار. وفي المكسيك مُنِح كارلوس سْليم السيطرةَ على كل خطوط الهاتف تقريبًا، الثابت منه والخليوي، وسرعان ما أصبح أغنى رجل في العالم.

يشير آندرو سايِر في كتابه «لماذا لا يمكننا تحمّل كلفة الأغنياء» إلى أنّ «الأمْولة» (financialisation) لها أثر مماثل. فهو يحاجج قائلاً «الفوائد شأنها شأن الريع… هي مدخولٌ غير مستحَقّ يتراكم من دون أيّ جهد». فيما يزداد الفقراء فقرًا والأغنياء غنًى، تزداد سيطرة الأغنياء على واحدة من الممتلكات أو الأصول الأساسيّة، ألا وهي المال. إنّ الفوائد هي في معظمها مدفوعات من الفقراء إلى الأغنياء. حين تُثقل أسعارُ العقارات وانسحاب الدولة من تمويل شراء العقارات، كاهلَ الفقراء، تستحوذ البنوك ومدراؤها التنفيذيون على الأموال (تفكّروا أيضًا بالتبدّل الذي طرأ نتيجةَ استبدال مِنح الطلاب بالقروض الطلابية).

يحاجج سايِر بأنّ العقود الأربعة الماضية تتميّز بانتقال الثروة ليس فقط من الفقراء إلى الأغنياء، بل ما بين صنوف الأغنياء أيضًا: من أولئك الذين يجنون مالهم بإنتاج سلَعٍ وخدمات جديدة، إلى أولئك الذين يجنونه من خلال السيطرة على الأصول وحَصْد الريوع أو الفوائد أو الأرباح على رأس المال. لقد تمّ استبدال الدخل المكتسَب بالجهد، بالدخل من غير جهد.

في كل مكان، نجد السياسات النيوليبراليّة محاصَرةً بإخفاقات السوق. هذا لا ينطبق فقط على المصارف الكبرى التي لا يجوز تركها تنهار كي لا ينهار الاقتصاد، بل ينطبق أيضًا على الشركات المكلّفة تقديم الخدمات العامّة. يشير توني جودت في كتابه «الوطن في حال بائس» (Ill Fares the Land) إلى أنّ فون هايك قد فاتَه أنّ الخدمات الوطنية الحيوية لا يمكن السماحُ بانهيارها، ما يعني أنّ المنافسة لن يُسمح لها بأخذ كامل مجراها. وهنا العمل التجاري هو الذي يجني الأرباحَ وتبقى المخاطر على عاتق الدولة.

وكلّما ازداد فشلها، ازدادت هذه الأيديولوجيّة تطرّفًا. تستغلّ الحكوماتُ أزماتِ النيوليبراليّة بما هي عذرٌ وفرصةٌ لخفض الضرائب وخصخصة ما تبقّى من الخدمات العامّة وإحداث فجوات في شبكة الأمان الاجتماعي ورفع القيود عن الشركات والعمل على إعادة تنظيم مواطنيها. هنا الدولةُ الكارهةُ لذاتها تعمل على غرس أنيابها في كلّ مؤسّسات القطاع العامّ.

أخطر الآثار سياسيّة

قد لا يكون التأثيرُ الأخطرُ للنيوليبراليّة هو الأزمة الاقتصاديّة التي تسبّبت بها، إنّما الأزمة السياسيّة. ففيما ينحسرُ نطاق فاعليّة الدولة، تنحسر معها قدرتنا على تغيير مسار حياتنا عن طريق التصويت في الانتخابات. وهنا، تؤكّد النظريّةُ النيوليبراليّة أنّ بإمكاننا ممارسة عمليّة الاختيار عن طريق الإنفاق في السوق. لكنّ لدى البعض ما يمكن إنفاقُه أكثرَ من الآخرين: في ديموقراطيّة المستهلك الكبير أو صاحب الأسهم الكبير، ليست القدرةُ على التصويت متساوية لدى الجميع. والنتيجة هي إضعاف الطبقتين، الفقيرة والوسطى. وبينما تعتمد أحزابُ اليمين وأحزاب اليسار السابق السياساتِ النيوليبراليّة، يتحوّل هذا الإضعاف إلى حرمان، وتصبح أعدادٌ كبرى من الشعب خارج السياسة.

يلاحظ كريس هدجيز أنّ «الحركات الفاشيّة لا تبني أرضيّتَها الشعبيّة على الناشطين سياسيًّا، إنّما على غير الناشطين، أولئك «الخاسرون» الذين يشعرون، وهم غالبًا محقّون في ذلك، بأنّه لا صوت لهم أو دور في المنظومة السياسيّة». فحين لا يتبقّى للنقاش السياسي أيّ معنى بالنسبة إلى الشعب، يتجاوب مع الشعارات والرموز والإثارة. فبالنسبة إلى المعجبين بترامب مثلاً، الحقائقُ والبراهينُ تبدو غير ذات أهميّة.

بحسب تفسير توني جودت، حين تُختزل شبكة التفاعل الكثيفة بين الدولة والشعب إلى مجرّد سلْطة وطاعة، تصبح القوّةُ الوحيدة التي تربطنا في ما بيننا هي سلطة الدولة. التوتاليتاريّة التي كان يخشاها فون هايك، مهيّأة أكثر للنشوء حين تُختزل الحكوماتُ، التي خسرتْ سلطتَها المعنويّة المتأتّية من تقديمها الخدمات العامّة، إلى مجرّد «تملّقٍ للناس وتهديدٍ لهم وإجبارهم على طاعتها في نهاية الأمر».

شأنُها شأن الشيوعيّة، النيوليبراليّة هي الإله الذي سقط. لكنّ العقيدة المائتة لا تزال تمشي وإن مترنّحة، وواحد من الأسباب هو كونُها من دون مسمّى، أو بالأحرى أنّها كتلة من اللامسمّيات.

العقيدةُ الخفيّة التي تقول بـ«اليد الخفيّة»، يروّجها مؤيّدون هم أنفسُهم خفيّون. ببطءٍ شديد، بدأنا نكتشف أسماء بعضهم. نجد أنّ «معهد الشؤون الاقتصاديّة» Institute of Economic Affairs، الذي دافع بقوة في وسائل الإعلام ضدّ زيادة القيود على صناعة التبغ، ممولٌ بالسر من «شركة التبغ البريطانيّة الأميركيّة» منذ العام 1963. ونكتشف أنّ تشارلز وديفيد كوش، وهما اثنان من أغنى أغنياء العالم، أسّسا المعهدَ الذي أنشأ حركةَ «حزب الشاي»The Tea Party . ونجد أنّ تشارلز كوش صرّح خلال تأسيس أحد مراكزه الفكريّة قائلاً: «تفاديًا للنقد غير المرغوب به، لا يجوز الإعلان عن كيفية إدارة المنظّمة والسيطرة عليها على نطاق واسع».

عادةً ما تخفي الكلماتُ التي تستعملها النيوليبراليّة أكثرَ ممّا توضحه. فيبدو «السوق» وكأنّه نظام طبيعي يمكنه أن يؤثّر في حياتنا جميعًا بالتساوي، شأنه شأن نظام الجاذبيّة أو الضغط الجوّي. لكنّه في الواقع نظامٌ مشحونٌ بعلاقات السلطة. ما «يريده السوق» هو أقرب إلى: ما تريده الشركات وأسيادُها. أمّا «الاستثمار»، فهو يعني أمرين مختلفين تمامًا حسب قول سايِر. الأول هو تمويل الأنشطة المنتِجة والمفيدة اجتماعيًّا، والآخر هو شراء الأصول الموجودة من أجل استغلالها للحصول على ريوعٍ أو فوائدَ أو أرباحٍ من الأسهم أو من عوائد رأس المال. وهكذا فإنّ استعمالَ الكلمة ذاتِها للدلالة على أنشطة مختلفة «يموّه مصادرَ الثروة» ويدفعنا للخلط بين إنتاج الثروة والاستحواذ عليها.

قبل قرن، كان الذين ورثوا ثرواتهم يستهينون بحديثي الثراء، فسعى رجالُ الأعمال إلى نَيل الاعتراف الاجتماعي عن طريق انتحال شخصيّة من يعيش من ريوعه. لقد انقلبت هذه العلاقة في أيّامنا هذه: فالوارثون والذين يعيشون من الريع يعتمدون تقديمَ أنفسهم كرجال أعمال: تراهم يدّعون أنهم اكتسبوا مدخولَهم بالعمل علمًا أنهم لم يعملوا على اكتسابه. وإنّ هذه المجهولات والتشوّشات لا تلبث أن تتواشجَ مع تجهيل الاسم والمكان في الرأسماليّة الحديثة: نموذج الامتياز franchise الذي يحرص على ألّا يعلم العمّالُ لحساب مَن يكدّون، الشركات المسجلة وراء البحار، عن طريق شبكةٍ من أنظمةٍ سريّة وهي من التعقيد بحيث يستعصي حتى على أجهزة الشرطة اكتشافُ مالكيها والمنتفعين بها، الترتيبات الضريبيّة التي تضلّل الحكومات، والمنتجات الماليّة التي لا يفهمها أحد.

تجري حماية اللاتسمية في النيوليبراليّة بصرامة شديدة. فالمتأثرون بفون هايك وميزس وفريدمان يميلون إلى رفض المصطلح على أساس أنّه لا يستعمَل حاليًّا إلا من قبيل التعيير، وهم بهذا محقّون بعض الشيء. لكنهم بالمقابل لا يقدّمون لنا أيَّ بديل. فالبعض يصف نفسه بالليبرالي الكلاسيكي، أو بالليبرتاري أي المؤيّد لمبادئ الحرية، إلا أنّ هذه الأوصافَ مضلِّلة وتنطوي على طمسٍ للذات بشكل فاضحٍ لكونها تَعتبر أنه ليس هنالك من جديد في كتب «الطريق إلى العبوديّة»، و«البيروقراطيّة»، أو«الرأسماليّة والحرية» وهو المؤلَّف الكلاسيكي لفريدمان.

رغم هذا كلّه هنالك ما يدعو للإعجاب بالمشروع النيوليبرالي، أقلّه في مراحله الأولى. كان عبارةً عن فلسفة مميّزة ومبتكِرة أطلقتها شبكةٌ متماسكة من المفكّرين والناشطين وفق خطّة عملٍ واضحة، تميّزَ عملها بالصبر والإصرار، فغدا «الطريق إلى العبوديّة» هو الطريق إلى السلطة.

فشل اليسار

بالإضافة إلى ذلك، فإنّ انتصار النيوليبراليّة يعكس فشل اليسار. حين أدّى الاقتصاد القائم على نظريّة «حرية التجارة» أو «الحرية الاقتصادية» إلى كارثة عام 1929، ابتكر كينز نظريّة اقتصاديّة شاملة لتحلّ محلّها. وحين وصلت «إدارةُ الطلب» الكينزيّة إلى حائطٍ مسدود في سبعينيّات القرن الماضي، كان البديل جاهزًا. لكنْ حين انهارت النيوليبراليّة في العام 2008 لم يكن هنالك أيّ شيء… لهذا لا يزال الميّتُ الحيّ يمشي. فخلال 80 سنة، لم يستحدث اليسار أو الوسط أيَّ إطارٍ عامّ جديد في الفكر الاقتصادي.

إنّ كل استحضار للّورد كينز إنّما هو إقرارٌ بالفشل. وطرح حلول كينزيّة في القرن الحادي والعشرين يعني إهمالَ ثلاث مشاكل بادية للعيان. من الصعب تعبئة الناس حول أفكار باتت قديمة، العيوب التي ظهرت في نظريّة كينز في السبعينيّات لا تزال قائمة، والمشكل الثالث والأهمّ أنه ليس لهذه الحلول ما تقدّمُه في ما يخصّ معضلتنا الأخطر، وهي الأزمة البيئيّة. تعمل الكينزيّة من خلال تحفيز الطلب الاستهلاكي لتعزيز النمو الاقتصادي. على أنّ الطلب الاستهلاكي والنمو الاقتصادي يديران عجَلة التدمير البيئي. يعلّمنا تاريخ الكينزيّة والنيوليبراليّة أنّ الحلّ لا يكون في مجابهة نظامٍ منهار. يجب طرح البديل المتماسك. والمهمّة المركزيّة بالنسبة لحزب العمّال البريطاني والحزب الديموقراطي الأميركي، واليسار عامّة، هي تطوير «برنامج أبولو» اقتصادي كمحاولة واعية لتصميم نظام جديد يتماشى مع متطلّبات القرن الحادي والعشرين.

————————

«الأنجزة» والمقاومات الشعبيّة/ آرونداتي روي

«.Bel dan pa di zanmi»

«إذا رأيت نيابَ الليث بارزةً

فلا تظننّ أن الليثَ يبتسمُ»

الأصول

صُكّ المصطلح NGO «المنظمات غير الحكومية» في العام ٢٠٠٤، مع أن الظاهرة التي يصفها بدأت في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته بما هي عنصر في المشروع النيوليبرالي. ثمة خطر يواجه الحركات الشعبية هو أنجزة المقاومة.

يسهل تحوير ما سأقول إلى إدانة لكل الأنجيووز. ذلك خطل. في المياه العكرة للأنجيووزات المزيفة التي تتأسس لامتصاص المنح أو للتهرّب الضريبي (في ولايات مثل بيهار تُهدى الأنجيووز بما هي مهر العروس)، بالتأكيد توجد أنجيووز تمارس عملاً قيّمًا. لكن من الأهمية بمكان أن نشيح النظر عن العمل الإيجابي الذي تقوم به أنجيووز إفرادية، لننظر في ظاهرة الأنجيووز في إطارها السياسي الأوسع.

في الهند مثلاً، بدأ ازدهار الأنجيووز المموّلة في نهاية الثمانينيات والتسعينيات. تزامن ذلك مع فتح أسواق الهند أمام النيوليبرالية.

في ذلك الوقت، كانت الدولة الهندية، التزامًا منها بمقتضيات التعديلات الهيكلية، أخذت تنسحب من تمويل التنمية الريفية والزراعة والطاقة والنقل والصحة العامة. وبقدر ما كانت الدولة تستقيل من دورها التقليدي، كانت الأنجيووز تتقدّم للعمل في تلك القطاعات بالذات. والفارق طبعًا أنّ الأموال المتوافرة لها جزء صغير من الأموال المقتطعة من الإنفاق العام. فمعظم الأنجيووز الميسورة والكبيرة مموّلة ومرعيّة من مؤسسات الدعم والتنمية المموّلة بدورها من الدول الغربية والبنك الدولي والأمم المتحدة ومن بعض الشركات متعدّية الجنسيات. ومع أنها قد لا تكون بالضرورة هي تلك المؤسسات ذاتها، إلا أنها بالتأكيد جزء من التشكيلة السياسية العريضة التي تشرف على المشروع الليبرالي وتطالب بحسومات في الإنفاق الحكومي في المقام الأول.

لماذا تضطر تلك الأجهزة إلى تمويل الأنجيووز؟ هل هو الحماس التبشيري العتيق إياه؟ أم تراه الشعور بالذنب؟ إنه أكثر من ذلك بقليل.

تعطي الأنجيووز الانطباع بأنها تملأ الفراغ الذي تتركه دولةٌ منسحبة. وإنها كذلك ولكن بطريقة قليلة الأثر من الناحية مادية. تكمن مساهمتها الحقيقية أنها تبدّد الغضب السياسي وتتصدق بالمساعدة أو بالإحسان لما يجب أن يعود للشعب بما هو حق من حقوقه. إنها تعدّل نفسية الجمهور. وتحوّل الناس إلى ضحايا اتكاليين وتثلم نصل المقاومة السياسية. إن الأنجيووز نوع من الواقي من الصدمات بين الزعيم والجمهور، بين الإمبراطورية ورعاياها. لقد أمسوا الوسطاء والمترجمين والميسّرين للخطاب السائد. يؤدون دور «الرجل العاقل» في حرب ظالمة وغير عاقلة.

والأنجيووز في المدى البعيد مسؤولة تجاه مموّليها وليس تجاه الناس الذين تعمل بينهم. إنها ما يسمّيه علماء النبات «الدالّة على النوع». فكأنما كلما تفاقم الخراب الذي تحدثه النيوليبرالية تفاقم تفريخ الأنجيووز. وليس من مشهد أشدّ إيلامًا من مشهد الولايات المتحدة وهي تتجهّز لاجتياح بلد ما وتجهّز في الوقت ذاته الأنجيووز للدخول وتنظيف الخراب.

للتأكد من أن تمويلها مضمون وأن حكومات البلدان حيث تعمل تسمح لها بالعمل، على الأنجيووز أن تعمل – في بلد اجتاحته الحرب أو الفقر أو جائحة أوبئة – ضمن إطار سطحي منزوع إلى هذا الحد أو ذاك عن أي سياق سياسي أو تاريخي، وفي كل الأحوال، منزوع عن سياق تاريخي أو سياسي غير ملائم. ليس عن عبث أنّ «المنظور الأنجيووزي» يحظى بالمزيد من الاحترام.

إنّ تقارير الاستغاثة اللاسياسية (التي هي بالتالي، وفي الواقع، سياسية بامتياز) عن البلدان الفقيرة ومناطق القتال تصوّر البشر (ذوي البشرة الداكنة) والبلدان (الداكنة اللون) كأنهم ضحايا مرض أو وباء. هاكم هنديًّا إضافيًّا يشكو من سوء التغذية، وهذا إثيوبي إضافي جائع، وهذا مخيم أفغاني إضافي، وهذا سوداني أبتر إضافي… بحاجة إلى مساعدة الرجل الأبيض. تعزّز الأنجيووز من حيث لا تدري التنميط العنصري وتعيد التأكيد على إنجازات الحضارة الغربية وامتيازاتها وشفقتها (الحب القاسي) وقد خُصِم منها الشعور بالذنب على تاريخ من إبادة الشعوب والاستعمار والعبودية. إنّ الأنجيووز هم المبشّرون العلمانيون في العالم الحديث.

في نهاية المطاف، رأس المال المتوافر للأنجيووز يلعب، على نطاق أضيق ولكن بطريقة أكثر خفاء، الدور ذاته في السياسات البديلة كالذي يلعبه الرأسمال المضارِب الذي يتدفّق من وإلى اقتصاديات البلدان الفقيرة. يبدأ بالتحكم بالأجندة فيحوّل المجابهة إلى تفاوض. وينزع العنصر السياسي من المقاومة. ويتدخل في حركات الشعوب المحلية وقد كانت سابقًا تعتمد على نفسها بنفسها. وتملك الأنجيووز من الأرصدة ما يسمح باستخدام سكان محليين لكانوا لولا ذلك ناشطين في حركات مقاوِمة، لكنهم يشعرون الآن بأنهم يمارسون أعمالاً خيّرة مباشرة وخلّاقة (ويكسبون معيشتهم وهم يفعلون ذلك). إن الإحسان يوفر إشباعًا مباشرًا للمُحسنين، كما لمتلقّي الإحسان، لكن آثاره الجانبية قد تكون خطيرة.

إن المقاومة السياسية الحقيقية لا توفر طرقات مختصرة.

وإن أنجزة السياسة تهدد بتحويل المقاومة إلى مهمة مهذبة وعاقلة مدفوعة الأجر بدوام من التاسعة صباحًا إلى الخامسة بعد الظهر إضافةً إلى بعض المنافع المادية الموزّعة هنا وهناك.

تقع على عاتق المقاومة الحقيقية مترتبات فعلية. وهي لا تعمل لقاء أجر.

———————–

الحرية ضد العدالة والمساواة نقاش لأفكار فون هايك النيوليبراليّة/ فواز طرابلسي

صدرت هذه الدراسة العام ٢٠٠٠ في مجلة «النهج» بدمشق، العدد ٧٥، ونعيد نشرها لأنها من النصوص العربية القليلة التي تناقش أفكار فون هايك

ضيّع اليساريّون العرب مفهوم العدالة الاجتماعية في غَمرة إعجابهم بشعار دكتاتوريّة البروليتاريا وكثرة تكرارهم له دون أن يفقهوا فعلاً ما ينطوي عليه من مآسٍ. ومهما تكن الالتباسات التاريخيّة لهذا الشعار الأخير، فقد ظلّ مقرونًا فكرًا وممارسةً بالاستيلاء الانقلابي على السلطة وفرض السلطة الاستبداديّة لأقليّةٍ على أكثريّة.

وقد اقتضى الأمر عقودًا من الزمن إلى أن بادرت بعضُ الأحزاب الشيوعيّة الأوروبيّة إلى إسقاط دكتاتوريّة البروليتاريا من برامجها خلال المراجعات التي أفضت إلى ولادة «الشيوعيّة الأوروبيّة» وهي تيّار ما لبثت أن أدانته، بل خوّنتْه، أكثريّةُ الأحزاب الشيوعيّة المرتبطة بالاتّحاد السوفييتي ومَن لفّ لفّها من أحزابٍ وتنظيماتٍ ماركسيّة أو متمركِسة.

يجب استعادة المشروعيّة النظرية والعملية لمفهوم العدالة الاجتماعيّة وأيضًا لمفهوم تكافؤ الفرص بما هو صلةُ الوصل بين العدالة السياسيّة والقانونيّة من جهة والعدالةِ الاجتماعيّة من جهةٍ أخرى، أي التوزيع العادل للثروة والمدخول والخدمات العامة. وتزداد أهميةُ هذا الجهد، لأنّ الهجومَ على مفهوم العدالة الاجتماعيّة صار عملةً دارجةً في أدبيّات العولمة والليبراليّة الجديدة.

لا يحمل النظامُ العالمي الجديد المنّ والسلوى في أسواقه، على عكس ما توهّم ويتوهّمُ العديد من مروّجيه بين مثقّفي العالم الثالث- وكثيرٌ منهم من صنف اليساري السابق المرتدّ والنادم، الذي لا ينفكّ يقدّم أوراق اعتماده إلى أسياد العالم الجدد. إنّه يحمل ارتدادًا على كل ما اضطرت إليه الرأسماليّة من تنازلاتٍ وإصلاحاتٍ تحت وطأة نضالات الطبقات العاملة في بلدانها وإبّان فترة صعود المدّ الاشتراكي أو احتدام المزاحمة بين النظام السوفييتي والنظام الرأسمالي.

مع العولمة، تعود إلينا الرأسماليّة مصفّاةً مطهّرةً من كل ما خالطها من تطعيمٍ بسبب الصراع بين المعسكرَين وبين النظامَين:

الانتكاس من الإنتاج إلى الريعيّة والمضاربة والخدمات،

الرأسماليّة على حساب الديموقراطيّة

والحريّة في مواجهة المساواة.

وليس أدلَّ على ذلك الارتكاس من العودة إلى كتابات الليبراليين الكلاسيكيين المحافظين من أمثال الاقتصادي النمساوي فريدريش فون هايك (1899-1992)١ الذي أصرّ على الدوام على رفض أيّ تنازلٍ أو تعديلٍ في رأسماليّة السوق الحرّة. لا يأبه فون هايك للتصدّي إلى تفاصيل العولمة – إلغاء الحواجز الجمركيّة والخصخصة ورفع الدعم عن السلع الأساسيّة وتصفية الخدمات والضمانات الاجتماعيّة للدولة بل يذهب إلى الأساس الفكري، فكرة العدالة الاجتماعيّة ذاتها. وهذا ما يعبّر عنه بوضوح في محاضرةٍ له ألقاها عام 1976 وصدرت ترجمةٌ لها في نشرة «حرّيات» اللبنانيّة بعنوان «وهم العدالة الاجتماعيّة» (العدد 9، خريف 1997). النصّ جديرٌ بالاهتمام وبإثارة ما يستحقه من النقاش. فالكاتب، الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد عام 1973، هو بطريرك النيوليبراليّة بلا منازع، إن لم نقل إنّه نبيّها، الذي ألهم سياسات رونالد ريغان ومارغريت ثاتشر. ولعلّه معروفٌ أقلّ مما يجوز في بلادنا، فيما تقوم وتنتشر النوادي المسمّاة على اسمه ناشرةً أفكارَه في العالم أجمع.

اللاعقلانية والعفوية في خدمة حرية التجارة

في دفاعه عن حريّة التجارة، يرى فون هايك أنّ السوق ليست مجرّد ضرورةٍ اقتصاديّة وإنما هي أيضًا وقبل أيّ شيء آخر ضرورة معرفيّة، ذلك أنّ الأسواق هي حلقات توصيلٍ للمعلومات الاقتصاديّة المتفرّقة وفي مقدّمتها المعلومات عن الأسعار. من هنا فإنّ محاولاتِ الاشتراكيّين استبدالَ الأسواق أو السيطرةَ عليها تثير مشكلةً معرفيّةً لا محالة إضافةً إلى ما تثيره من مشكلاتٍ اقتصاديّة وسياسيّة. وقد تنبّأ فون هايك بفشل التخطيط الاشتراكي لأنّ الدولة الاشتراكيّة، في جهدها التخطيطي، سوف تُخفق في الحصول على المعلومات الاقتصاديّة، بخاصة منها المعلومات عن الأسعار، وهي المعلومات التي لا غنًى عنها لكلّ عملية تخطيط. وتكهّن أنّ تلك الدول سوف تُخفق في مهمّة التخطيط تحديدًا بسبب تغييبها الأسواق أو تحجيمها. فلا يلبث أن ينعكسَ هذا التغييب وذاك التحجيم سلبًا على التخطيط ذاته. واعتبر فون هايك أنّ غياب نظامٍ للتسعير يشكّل الخطأ القاتل للاشتراكيّة. من هنا كان يرى أنّ القرارات غير الممركزة والسوقَ الحرّة هما ما يلائم الاقتصادَ الحديثَ المركّب وشديد التعقيد.

وهذا ما قاد فون هايك إلى القول باستحالة الملاءمة بين مبدأ السوق ومبدأ تدخّل الدولة في الاقتصاد، مهما كان هذا التدخل جزئيًّا أو محدودًا، فما من حلّ وسط بين الاقتصاد الحرّ والاشتراكيّة. إذ لا يعقلُ وجودُ بلد يحمل مقدارًا محدودًا من الاشتراكيّة، ذلك أنّ هذه الأخيرة لن تلبث أن تمدّ أذرعتها لتشمل المجتمعَ كلَّه. من هنا كانت معارضةُ فون هايك لمقترحات جون ماينارد كينز عن تدخّل الدولة في الدورة الاقتصاديّة لتصحيح اختلالات السوق ولَجْم دوريّة وشموليّة الأزمات الرأسماليّة. ومن هنا أيضًا معارضتُه نظريّةَ اشتراكيّة السوق التي طرحها الاقتصادي المجَري أوسكار لانجه في امتداد الموجة الإصلاحيّة التي اجتاحت أوروبا الشرقيّة في الستينيّات.

في الثلاثينيّات، نشب سجالٌ حادّ بين فون هايك وكينز اعتبر الكثيرون أنّ فون هايك خرج منه مهزومًا شرّ هزيمة أمام الرجل الذي وُصِف بأنّه «منقذ الرأسماليّة». فانكفأ فون هايك أمام صعود الاشتراكيّة واكتساح الكينزيّة ودولة الرعاية والرأسماليّة الاجتماعيّة، معتصمًا بفلسفته المحافِظة، متمسّكًا بليبراليّة كلاسيكيّة لا تساوِم ولا تهادِن.

فلسفيًّا، ينتمي فون هايك إلى المدرسة الناقدة للّعقلانيّة. ناهض عصرَ التنوير الذي رأى فيه لحظةً مدمّرة من لحظات العقل البشري، وشدّد على أنّ من يتهدّد البشرية ليسوا اللاعقلانيين المهووسين الذين يعملون على تدمير العالم وإنما هم العقلانيون الذين يحاولون، عن سابق تصوّر وتصميم، هندسةَ العالم الحديث وفق منظومات عقلانيّة، فيقيّدون البشريّة بقيود من صُنعها ويُودون بها إلى التهكلة. ويضع فون هايك في خانة هذه العقلانية الإيديولوجيّات والأنظمة الفاشيّة والشيوعيّة على حدٍّ سواء.

ويُقيم فون هايك صلة مباشرة بين التخطيط الاقتصادي، بما هو أحد تجلّيات النزعة العقلانيّة لهندسة العالم، وبين التوتاليتاريّة فلا يعتبر التوتاليتاريّة انحرافًا في الاشتراكيّة بل يرى فيها عنصرًا من عناصرها المكوّنة. وهو يذهب هنا بالفكر الليبرالي إلى نهاياته المنطقية في التأكيد على أنّ أيّ تدخّل للدولة في الاقتصاد والتخطيط سوف يستتبع حكمًا، المركزيّةَ والأوامريّةَ، وهما على الصعيد السياسي صنوان للديكتاتوريّة والتوتاليتاريّة، لأنّ هذه وتلك تضعان سلطات استثنائية في يد القلّة وتقذفان بالأقل كفاءةً والأكثر فسادًا إلى فوق، إلى مركز القرار.

في وجه العقلانيّة، يضع فون هايك نظريةً تقول إنّ النظام المجتمعي إنّما هو نظامٌ قائمٌ على العفويّة التي هي نتاج نوازعَ واتّجاهاتٍ لا مقاصدَ فيها ولا تدبير. بمعنى آخر، يضع فون هايك «عفويّة» السوق في مواجهة عقلانيّة التخطيط الاقتصادي. وقد أولى عناية خاصّة لدراسة القانون وخلُص منها إلى أنّ القواعد القانونيّة والسلوكيّة إنّما تنبثق انبثاقًا عفويًّا في المجتمعات. فأبَان كيف أنّ القانون العُرفي ينبثق من معارف وعادات اختُزنتْ واختَمرتْ بفعل تاريخٍ طويل من التجربة والخطأ. وخلص إلى أنّ السوق، مثلُها مثلُ القانون، إنما هي «نظامٌ» عفوي، أي حصيلة العمل والممارسة الإنسانيّين، وليست صادرة بأيّ حال عن أيّ تصميمٍ إنساني.

يرى فون هايك إلى الأخلاق من منظار مبدأ العفويّة ذاتِه، فالأخلاق هي أيضًا مجرّدة من أيّ تصميم وقصد، أو هكذا يجب أن تكون. وهو بذلك من القائلين بالحياد الأخلاقي للسوق. فيتميّز في ذلك عن تيّارَين في الليبراليّة ذاتها. يقول الواحد إنّ الأخلاق القويمة هي التي تَنتج من السوق، مثال عليه المفكّر البريطاني المحافظ إدموند بيرك في قوله «إنّ قوانين التجارة هي قوانين الطبيعة وهي بالتالي قوانينُ الله». ويقول التيّار الآخر إنّ آليّات السوق تنجم عنها فوارقُ تتنافى مع ما يعتبره الكثيرون قيمًا أخلاقيّة مُجْمعًا عليها إنسانيًّا. وهذا ما يستدعي ترشيدًا إنسانيًّا واعيًا لتلك الآليّات غالبًا ما يكون عن طريق تدخّل الدولة في الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة.

يقف فون هايك في مواجهة كلا التيّارَين. لا ينفي أنّه يجب على الأفراد أن يسلكوا سلوكًا قويمًا وأخلاقيًّا، إلا أنّه يرى أنّ مثل هذا السلوك يقوم لذاته وليس لأيّ نفعٍ قد يؤدّيه للآخرين. فالنفع الذي قد يصيب الآخرين جرّاءَ السلوك الأخلاقي للأفراد لم يخطّط له هؤلاء الأفراد بل هم غافلون عن نتائجه معظمَ الأحيان. فتكون حصيلةُ أفعالهم حياديّةً من الناحية الأخلاقيّة لأنّها مجرّدة من المقاصد «فلا يمكن وصفُ النتيجة الإجماليّة بأنّها عادلة أو غير عادلة» على حدّ تعبيره. بعبارة أخرى، فإنّ الحياد الأخلاقي للسوق هو نظير الحياد الأخلاقي لسلوك الأفراد ونتائجِه في آن.

نقض العدالة الاجتماعيّة

يعيّن فون هايك الحرّيةَ الفرديّة بما هي القيمةُ الأساسُ في نظامه الفكري فيواجه بين الحرية من جهةٍ والعدالة والمساواة من جهةٍ أخرى، فالأولى هي مضمونُ الحضارة الغربيّة، التي يعرّفها حصرًا بأنّها تلك الحضارة التي نجمتْ عن ولادة ونمو الفرد ونمو الفرديّة، فيما تنتمي القيمتان الثانيتان العدالة والمساواة إلى صنف الغرائز البدائيّة الموروثة، بل هما ضربٌ من ضروب البربريّة. ولم يكن للحضارة أن تقوم أصلاً حسب رأيه إلا بعد أن تحرّرتْ من تلك الغرائز عبر الانتقال إلى السوق، حاضنةً الأفرادَ الأحرارَ.

وقد خَصّص فون هايك الجزء الثاني من ثلاثيّته «القانون والتشريع والحرّية» لنقض مفهوم العدالة الاجتماعيّة تحت عنوان «سراب العدالة الاجتماعيّة» (1976). وهو لم يكتفِ بنعته العدالةَ الاجتماعيّةَ على أنّها سرابٌ ووهْمٌ بل كال لها تهمًا من عيار أنّها «عبارة فارغة» و«مفهومٌ مشبوهٌ من الناحية الفكريّة». الاتّهام الاستخباراتي الأخير يثير الاستغراب. ذلك أنه يذكّر بالتّهم التي تَسوقها عادةً أجهزةُ الرقابة الأيديولوجيّة في الأنظمة التي يعتبر فون هايك نفسَه في طليعة مناهضيها.

ومهما يكن، فحين نتعمّق في قراءة نصّ فون هايك، نكتشف أنّ العدالة الاجتماعيّة، عبارةً ومفهومًا، ليست بلا معنى على الإطلاق طالما أنّ الكاتب ذاتَه يَنسب إليها عراقةً تاريخيّة تعود إلى طفولة البشريّة أي إلى المجتمعات «البدائيّة» لما قبل عشرة آلاف سنة من عمر البشرية. لماذا قبل عشرة آلاف سنة من عمر البشرية؟ لأنّه التاريخ الذي يعيّنه فون هايك لولادة مفاهيم وممارسات السوق والمنافسة الحرّة والمجتمع الحرّ والملكيّة الفرديّة وسواها من المفاهيم والممارسات التي مهّدت للرأسماليّة الحديثة. غنيٌّ عن القول إنّ مدى الدقّة التاريخيّة لهذا التعيين مشكوكٌ فيه إلى أبعد حدّ.

أين الوهمُ والسراب في مفهوم العدالة الاجتماعيّة؟

يقول فون هايك إنه قضى سحابة عقدٍ من الزمن يتبحّر في مفهوم العدالة الاجتماعيّة فتوصّل إلى أنّ العبارة التي ينعتها بأنّ «لا معنى لها»، لها معنًى واحدٌ على الأقل هو «العدالة التوزيعيّة»، على أنّ تلك العدالة التوزيعيّة هي أقرب في رأيه إلى الغريزة منها إلى المفهوم، تحدّرتْ إلينا من المجتمعات البدائيّة حيث كان البشرُ يعيشون في زمَرٍ صغيرةٍ تعتمد الصيدَ وتتقاسم الطعام، تتألّف كل زمرةٍ ممّا لا يزيد على خمسين فردًا يخضعون لنظام صارم ضمن الأراضي المشتركة المحميّة التي تسيطر عليها الزمرة.

«في تلك الزمرة الصائدة، والحديث هنا عن الذكور فحسب، كانت المطاردة الاجتماعيّةُ لطريدةٍ معيّنة، ماديّةً، مرئيّة بقيادة رئيس، تشكّل رمزًا لاستمراريّة الزمرة التي كانت توزّع حصصًا من الفريسة على أفرادها وفقًا لأهميّة كل واحدٍ منهم بالنسبة إلى بقاء الجماعة».

يؤكّد فون هايك إذًا على الأصل الغريزي الطبيعي للعدالة الاجتماعيّة، مختزلاً إيّاها إلى العدالة التوزيعيّة، وذلك تمييزًا لها من الأصل الثقافي الحضاري للسوق. ومع أنّ غرائز العدالة التوزيعيّة أسبقُ تاريخيًّا من السوق، إلّا أنّها لم تترك أيّ أثر في السوق أو الحضارة الإنسانيّة. ها هو يقول عن قيم ومشاعر ذلك المجتمع البدائي:

«والراجحُ جدًّا أنّ الكثير من المشاعر الأخلاقيّة التي اكتُسبت حينئذٍ [إبّان الحقبة البدائيّة] لم تنتقل من طريق الثقافة من خلال التعلّم والمحاكاة بل انقلبتْ إلى مشاعر فطريّة وانتقلت من خلال الوراثة».

ويخلُص فون هايك إلى أنّ الخروج من ذلك المجتمع البدائي المشاعي كان شرطُه مغادرة أعداد متزايدةٍ من البشر لتلك المبادئ في العدالة التوزيعيّة التي كانت سببًا في بقاء الجماعات القديمة موحّدةً ومتماسكة وبالتالي متخلّفة وبربريّة.

فليتصوّر القارئ هذه البهلوانيّة التاريخيّة: مشاعر بدائيّة تبقى على حالها، بما هي مشاعرُ فطريّة وتنتقل بالوراثة، فيما مشاعر أقلُّ بدائيّةً، وأحدثُ تاريخيًّا، تتحوّل فجأة إلى قيمٍ ثقافيّة! لماذا؟

الحريّة ضدّ العدالة والمساواة

لمزيدٍ من توضيح فكرة فون هايك، لا بدّ من هذه الملاحظات:

أولاً، إذ يشدّد فون هايك على الأصل الطبيعي للعدالة الاجتماعيّة، فهو يشذّ في ذلك عن العدد الأكبر من مبرّري اللاعدالة واللامساواة بين البشر، قديمهم والحديث. فهؤلاء يذهبون عادةً إلى أنّ التفاوت بين البشر أصلٌ طبيعي فيهم أو هو ناجمٌ عن مشيئة ربانيّة. في الفكر المحلي، يقول ميشال شيحا إن العدالةَ الاجتماعيّة مستحيلة بين البشر لأنهم ليسوا متساوين من حيث «طبيعتُهم» ذاتُها٢. وإذا كان شيحا يعزو اللامساواةَ إلى «الطبيعة» فإنّ هناك من يعزوها إلى الطبيعة والمشيئة الإلهية معًا. هذا هو مؤسس حزب الكتائب اللبناني الشيخ بيار الجميّل (توفي عام 1984)، يُنكر إمكانيّة تحقيق العدالة والمساواة على هذه الأرض الفانية، فيما يعلّلنا، على الأقلّ، بإمكانيّة تحقيقهما في الدنيا الآخرة.

ردًّا على سؤال عمّا إذا كانت الفروق الاجتماعيّة قد لعبتْ دورًا ما في تفجير الحرب الأهلية اللبنانية، عام 1975، يحسم رئيس حزب الكتائب البحث باقتضاب معبّر: «المساواة الاجتماعيّة ليست موجودة إلا في الجنّة»٣. كييبي دي ليانو جنرال انقلابي عيّنه الجنرال فرانكو حاكمًا على الأندلس إبّان الحرب الأهلية الإسبانيّة (١٩٣٦-١٩٣٩)، وفي ما عدا قسوته المشهورة ومجازره النموذجيّة الردعيّة، فللجنرال في مسألة المساواة بين البشر قولٌ مأثور:

«إنّ المساواة الاجتماعيّة كلمةٌ فارغة، انظروا إلى عمل الطبيعة وراقبوا ما خلقه الربّ، تجدوا أنّه لا يوجد شيئان متساويان. إنّ المساواة بين البشر أمرٌ محال»٤.

من جهةٍ أخرى، تشكّل الداروينيّةُ الاجتماعيّة أيْ محاولة تطبيق القوانين الطبيعيّة التي اكتشفها العالِم الطبيعي شارلز داروين على الاجتماع الإنساني الذروةَ التي بلغها الفكر اليميني الذي يعتبر آليّات السوق والمنافسةَ قيمًا اجتماعيّة وأخلاقيّة بذاتها. وفق هذا المذهب، تصير المنافسةُ الاقتصاديّة هي النظير البشري للصراع من أجل البقاء الذي هو القانون الأول في عالم الطبيعة، حسب داروين. فتتكرّس المنافسة بين البشر بما هي قانونٌ أسّ من قوانين الطبيعة لا مندوحةَ منه. ومثلما أنّ الطبيعة تؤمّن البقاء للأقوى من الأجناس الطبيعيّة، وتؤدّي إلى موت واندثار الأضعف، كذلك الأمر في الاجتماع الإنساني. «إنّ الطبيعة تمنح مكافآتِها للأقوى» يقول أحد أبرز دعاة هذا المذهب، الأميركي وليام غراهام صومر (١٨٤٠-١٩١٠) الذي يبني كلَّ مذهبه على إقامة التضادّ الكامل بين الحريّة والمساواة. ويعرّف صومر الحريّة على أنّها تَوافُر الأمان الذي يسمح للفرد بأن يتصرّف بمنتوج عمله بالطريقة التي يراها مناسبة، وإذا كان يُماهي بين الحريّة والعدالة، إلا أنّه يميّز تمييزًا قاطعًا بين العدالة والمساواة، فيرى أنّ العدالة إنّما تقوم على تنمية اللامساواة والفروقات بين البشر، لا العكس كما هو شائع، فيقول إنّ الملكيّة الفرديّة، وهي أبرز تجلٍّ من تجلّيات الحريّة الفرديّة عنده، تولّد الفوارقَ الاجتماعيّة على نحو مستمر. من هنا فإنّ السعيَ إلى تقليص تلك الفوارق الاجتماعيّة لا يؤدّي إلى تشجيع الأضعف والأسوأ بين أفراد المجتمع، أي إلى السعي لمعاكسة قوانين الطبيعة ذاتِها. وهكذا فإنّ صومر ودعاةَ الداروينيّة الاجتماعيّة لا يكتفون بالدفاع عن اللامساواة بين البشر وإنّما هم يدعون كذلك إلى تنمية اللامساواة بينهم، ويخلُص صومر في ذلك إلى المعادلة الآتية:

«الحريّة + اللامساواة = البقاء للأفضل»، لا «الحرية + المساواة = البقاء للأضعف والأسوأ» في الحالة الأولى، حالة تنمية اللامساواة، يندفع المجتمعُ إلى أمام ويجري تشجيع أفضل عناصره من الأفراد، أمّا في الحالة الثانية، حالة السعي إلى المساواة، فينحدر المجتمع وينحطّ ويجري تشجيع الأضعف، والأسوأ بين أعضائه.

ثانيًا، في نقده العدالةَ الاجتماعيّة بما هي عدالة توزيعيّة أي بما هي نظامٌ قيَمي من توزيع السلع والمنافع بين أفراد جماعة معيّنة يستبقي فون هايك من العدالة التوزيعيّة قاعدةً واحدة هي قاعدة «الأجر المماثل للعمل المماثل». إلا أنه يؤكّد أنّ «المنافسة الحرّة» قد تكفّلتْ بتطبيق تلك القاعدة وتحقيقها كما بين الذكور والإناث.

ثالثًا، يضع فون هايك في مواجهة العدالة الاجتماعيّة، الصادرة عن المجتمعات البدائيّة والمنتقلة إلينا بالفطرة والوراثة، مفهومَ السوق الذي يعتبره ركيزةَ الحضارة الحديثة. ويجري توطين المفهوم، كما العادة في التقليد الفكري الغربي، بالبحث عن أصولٍ له في الحضارة الإغريقيّة. واللعبة التي تفسّر عملَ السوق عند فون هايك هي لعبة «الكاتالاكتيّة» التي تَعني المقايضة والتبادل وتعني أيضًا «القبول ضمن الجماعة» و«تحويل العدوّ إلى صديق». غيرَ أنّ أكثر ما يثير اهتمام فون هايك في لعبة «الكاتالاكتيّة» هو مفردةُ «اللعبة» التي يتبنّى تعريفَها القاموسي بأنّها «مباراة تجري وفق قواعد يفترض أنْ تتوافرَ فيها المهارةُ والقوّة والحظّ». ولعبة السوق لعبةٌ لا تقيم كبيرَ وزنٍ للعدالة ولا لتلبية احتياجات أو استحقاقات الأفراد بل إلى العكس تمامًا مما تدفع إليه العدالة التوزيعيّة، أي أنها تدفع كلّ لاعب من اللاعبين إلى تقديم أكبر رهانٍ ممكن فيضاعف المبلغَ الذي قد يحظى منه بحصة غير أكيدة من دورات دولاب السوق. ومن خلال تلك الرهانات، ومضاعفة المبالغ التي يجنيها هؤلاء الأفراد، تندفع الموارد الاقتصاديّة إلى «تحقيق المساهمة الفضلى في هذا الرهان الذي يأخذ منه كلُّ واحد نصيبَه». فتزيد من الإنتاج الذي يسمح بتزايد عدد السكان ويسمح أخيرًا بتحقيق المجتمع المنفتح وحريّة الأفراد. هذا هو مجتمع الازدهار الجديدُ الذي «يرفض قبوله البرابرةُ غيرُ المتمدّنين في أوساطنا، هؤلاء الذين يسمّون أنفسهم «مُبعدين»، على رغم أنّهم لا يزالون يطالبون بمنافعه كلّها».

باختصار، يقسّم فون هايك البشرَ الحاليّين بين برابرةٍ جُدد، هم ورثة تقاليد بل قلْ غرائز العدالة التوزيعيّة، وبين متحضّرين، هم المنافحون عن مفهوم السوق، حاضنة الأفراد الأحرار، أي منتجة الفوارق والتمايزات الاجتماعيّة.

هل الرأسماليّة وليدةُ العفويّة؟

يقع فون هايك في تناقض بديهي منذ انطلاقة فكره، فإذا كانت العدالة التوزيعيّة هي أقدمُ غريزةٍ بشريّةٍ تنتقل بالوراثة والسّليقة إلينا، فحريّ به أن يؤيّدها بما هي أجلى تعبير عمّا يعتبره عفويّةَ النظام الاجتماعي. علمًا أنّ القول إنّ مشاعر وغرائز إنسانيّة تنتقل وراثيًّا بواسطة «الجينات» أمرٌ يحتاج إلى براهينَ علميّة عديدة ليصير مقنعًا أو حاسمًا. ولكن فلنفترضْ جدلاً أنّها تفعل ذلك، فكان الأحرى بفون هايك، وهو صاحب النظرية العفوية في سلوك البشر وقوانينهم، أن يكون بالتالي أكثر انحيازًا إلى تلك الغرائز منه إلى المركّبات الثقافيّة المولّدة والمصنوعة.

مهما يكن في تمرين فون هايك الباهت في الأنثروبولوجيا التاريخيّة، يبدو التاريخُ منقسمًا إلى حقبتين: حقبة الزمرة الصائدة زمن العدالة التوزيعيّة/ حقبة لعبة «الكاتالاكتيّة» أي حقبة السوق. سوف نضرب صفحًا عن خرافيّة المرجعيّة الإغريقيّة. فقد صار أمرًا مألوفًا في التقليد الغربي أن يُنسب إليها كلّ شيءٍ ولا شيء. ونضرب أيضًا صفحًا عن الاستهتار التاريخي: في مقابل شكلٍ من التنظيم الاجتماعي (الزمرة الصائدة أو القانصة) يضع مفكّرنا الاقتصادي لعبةً إغريقية! وبالطبع، لن نتوقّف أكثر من ذلك لنناقش هذا التحقيب بما هو تحقيب تاريخي اقتصادي جدي. نكتفي بالقول إنّه يغفل مسألةً مركزيّة. فإذا كانت فكرة العدالة الاجتماعيّة هي أقدم أفكار البشريّة، وإذا كانت تعود إلى فترةٍ تزيد على عشرة آلاف سنة، فكيف يفسّر لنا منظوماتٍ فكريّةً وحضاراتٍ بأكملها لاحقة عليها وأخصّ منها الديانات؟ والمعروف أنّ مرجعيّة الديانات قائمة كلّها على الوعد بالمساواة بين البشر. والديانات، إذا لم تكن دومًا قويّة من حيث فكرةُ الحريّة فإنّها تبشّر جميعًا بفكرة المساواة بشكلٍ أو بآخر، أكانت المساواة بين المؤمنين أم المساواة في الجنّة. والديانات هي بذلك أرقى تعبيرٍ عمّا يسمّيه ماركس «ترسّب المساواة عبر العصور». وهي تثير كلُّها السؤال الآتي: المساواة بين مَن ومَن؟ والمساواة أين؟ في جنة الشيخ بيار الجميّل السماوية أم على هذه الأرض الفانية؟

إذا عُدنا إلى التاريخ، يمكن تسجيل الملاحظات الآتية في وجه لا تاريخيّة تحقيب فون هايك للسوق الرأسماليّة.

أولاً، يتغافل فون هايك على نحو مذهل عن واقع الرأسماليّة الصناعيّة القائمةِ على المنافسة الحرّة والملكيّة الفرديّة، فهذه لم تكن قطّ وليدةً عفويّةً لآليّات السوق الحرّة. ولا هي قامت على مبدأ تمرّد الأفراد أو استقلاليّتهم، إنّما قامت على مزج تلك الآليّات مع دوافعَ وحوافزَ لا علاقةَ لها البتّةَ بآليّات السوق إنما بالأخلاق البروتستانتيّة: الامتناع عن الإشباع المباشر للحاجات، إعلاء قيمة العمل الشاقّ، الثقة والواجب العائلي.

ثانيًا، إنّ كلّ ثورة برجوازيّة في محاولاتها دفعَ الرأسماليّة إلى نهاياتها المنطقيّة، أطلقتْ أفكارًا ومفاهيمَ تجاوزت الرأسماليّة في تصوّرها للتنظيم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للمجتمع. وقد كانت تأكيدًا لأفكار ومفاهيم مرتبطة بفكرة المساواة. وهذا يعني بوضوحٍ أكبر أنّ الأفكار الحديثة عن العدالة الاجتماعيّة والمساواة ليست تكرارًا لأفكار «غريزيّة» سابقة وإنّما هي نتاجٌ ثقافي لعصر الأنوار ونتاجٌ اقتصادي اجتماعي قيَمي للثورة الصناعيّة والرأسماليّة نفسِها.

بيانُ الأمر بوضوح في الثورتين الإنكليزيّة (1640) والفرنسيّة الكبرى (1789) وقد حاولتْ كلتاهما الجمع بين مبدأَي الحريّة والمساواة. ارتكزت الأولى على قاعدةٍ شعبيّةٍ عبّرت عنها الدعواتُ البيوريتانيّة [الطهرانيّة] الجذريّة، شبْه الشيوعيّة، التي حمَلها دعاةُ المساواة السياسيّة والاقتراعِ الشعبي العامّ من أمثال «التسوويّين» Levellers ودُعاة النزعة التوزيعيّة، وكان المقصود بها آنذاك التوزيعَ المتساوي للأرض للذين يَفلحونها، أمثال «الحفّارون» Diggers. ولم يكن دعاةُ كلتا الدعوتين ينتمون إلى الزُّمَر الصاعدة، وإنّما كانوا ينتمون إلى حقبة تاريخيّة أرقى هي الحقبةُ الزراعيّة والحرَفيّة. ولقد تولّت ديكتاتوريّةُ كرومويل اضطهادَ هذين المذهبَين وتطهيرَ الثورة منهما لكي يستتبَّ للبرجوازيّة الحكمُ. وإذا كانت الجمهوريّة البريطانيّة ما لبثت أن سقطت بسرعةٍ واستُعيدت الملكيّة المقيّدة ثم الملكيّة الدستوريّة، فإنّ المطالبَ الأساسيّة لتلك الثورة، وفي مقدّمتها مطالب الديموقراطيّة، ما لبثت أن حملتها الحركاتُ العمّالية والشعبيّة: حقّ الاقتراع العامّ (في مقابل تقييده بقيود الملكيّة، الماليّة منها والعقاريّة) والأرض لمن يفلحُها، وتكافؤ الفرص، إلخ.

والأمر ذاتُه يقال عن الثورة الفرنسيّة الكبرى التي رفعت شعارَي الحريّة والمساواة معًا. لكنّها رفضت الاعترافَ بحقوق الجمهور الذي صنع الثورة وخصوصًا العمّال والحرفيّين في التنظيم النقابي، فانحصرت في قيادتها النخبةُ اليعقوبيّة وما أورثَها ذلك من فترةٍ إرهابيّة أدّت إلى سقوط الثورة برمّتها بعدَ لا أكثرَ من خمس سنوات على قيامها. ووفق المنطق ذاته، اقتضى الأمرُ في فرنسا لا أقلَّ من ثلاث ثورات شعبيّة كبرى في 1830 و1848 و1871 حتى يقوم النظامُ الجمهوري ويتوطّدَ وتتحوّل شعاراتُ الجمهوريّة إلى «حريّة، مساواة، أخوّة». وكانت إضافةُ هذا الشعار الثالث والأخير بمثابة التسوية بين دعاة الحريّة البرجوازيّين وبين دعاة المساواة المعبّرين عن الفئات الأكثر راديكاليّةً من الشعب.

فلا عَجبَ على الإطلاق أن تكون الثورات المسمّاةُ برجوازيّةً قد شكّلت تراثًا مشتركًا لكلٍّ من الديموقراطيّة البرجوازيّة من جهةٍ والاشتراكيّة والشيوعيّة من جهةٍ أخرى، لأنّها، بما هي ثورات، لم تكتفِ بالإجابة عن أسئلة الحاضر، حاضرِها، بل عبّرت عن نزوعٍ ألفيٍّ إلى حياةٍ أخرى واستشرفت إمكانَ مجتمعٍ آخرَ في المستقبل.

وبمعنى ما، كان إدموند بيرك، كبيرُ المفكّرين المحافظين البريطانيّين، محقًّا إذْ رفض اعتبارَ الثورة الفرنسيّة ثورةً في خدمة البرجوازيّة محذّرًا من أنّها سوف تحمل الضرر للتجارة والصناعة معًا. ذلك أنّه استشرف أنّ الثورة، في تصفيتها للمُلكيّة الإقطاعيّة، سوف تشجّع جميع المحرومين من المُلكيّة على إطاحة كلّ أشكال المُلكيّة بما فيها المُلكيّة الفرديّة الرأسمالية.

الكازينو محلّ السوق

للوهلة الأولى يبدو وكأنّ فون هايك، في مفهومه للكاتالاكتيّة، يكرّر مفهومًا معروفًا في الليبراليّة الكلاسيكيّة هو مفهوم «اليد الذهبيّة» لآدم سميث، تلك «اليد» التي تعمل على تعميم الازدهار من خلال السوق والمنافسة الحرّة. على أنّ الاستعارة التي يستخدمها فون هايك أكثرُ ملاءمة للاقتصاد العالمي الحالي، والحال أنّ فون هايك، حتى وهو يعود إلى آدم سميث، يتغافل عن المآل الرئيسي لنظام هذا الأخير. رأى آدم سميث أنّه في ظروفٍ من الحريّة الكاملة (الشفافيّة الكاملة للسوق والمنافسة المتكافئة بين العاملين فيها) تُنتج السوقُ المساواةَ الكاملةَ بين أفرادها، أي تعيد التوزيعَ التلقائي بين الشرائح الاجتماعيّة المختلفة فيعمّ الازدهارُ والرفاهُ للجميع. والحال أنّه لم يتبيّن فقط في التجربة التاريخيّة أنّ هذه السوقَ المثاليّةَ لا وجودَ لها لأنّ العاملين فيها يدخلونها وهم يتمتّعون بمواقعَ وقدرات ماديّة متفاوتة، وإنّما تبيّن أيضًا أنّ المنافسة، وإن بدأت على مقدارٍ ما من التكافؤ، لا تلبَث أن تؤولَ إلى الاحتكار أي إلى تحكّم القلّة المتزايد بالكثرة واقتطاع الأولى حصصًا متناميةً من السوق وأكلِ القوي للضعيف وما ينجم عنه بالضرورة من الفوارق الاجتماعيّة الشاسعة والتبايُنات.

اللافت في محاججة فون هايك أنّه يستبعد ما قصَدَه سميث من أنّ المنافسة في السوق تؤدّي إلى تعميم الازدهار والتوزيع العادل للعائدات على الجميع، أي أنّه يستبعد حقيقة أنّ الليبراليّة الكلاسيكيّة ذاتَها تزعم أنّها توفّر في نهاية المطاف، العدالةَ التوزيعيّة! وهذه الإطاحة بمآلِ فكر آدم سميث باتت الجامعَ المشتركَ بين جميع النيوليبراليّين. فتجدُه يستبدل سوق سميث بكازينو ألعاب المَيسر. وبينهما فوارقُ أساسيّة ليس أقلّها أنّ السوق التي يتحدّث عنها سميث هي سوق المنتجين بالدرجة الأولى فيما السوقُ التي يتصوّرها فون هايك هي أكثر فأكثر سوق المضاربات الريعيّة. وبديلاً من «اليد الذهبيّة» وهي صورة آدم سميث لآليّة السوق العجائبيّة التلقائية، لكنها قائمة على افتراض أنّ جميع المشاركين في السوق إنّما يعرفون أدنى تقلّب في الأسعار كما في العرض والطلب بديلاً من هذه «اليد الذهبيّة»، يقترح فون هايك دولاب الحظ الأعمى في الـ«يانصيب» أو قل دولاب «الروليت» الذي لا يقلّ عنه عمًى، في ألعاب الميسر والقمار. تخسر إذًا أنت لا تلعبُ، ذلك هو الشعار. ولكنْ لكي تلعب، عليك أن تمتلكَ ما يمكن المراهنةُ به.

وهذا هو المعنى الوحيد لأخذ فون هايك اللعبَ نموذجًا لترسيمته النيوليبراليّة القائمة على ثلاثيّة المهارة والقوّة والحظ. وهو القائل إنّ «السوق اللعبة»، أو لعبة السوق، تدفع كلّ لاعبٍ من اللاعبين إلى تقديم أكبر رهانٍ ممكنٍ فيضاعف المبلغَ الذي قد يحظى منه بحصّةٍ غيرِ أكيدة من دوَران دولاب السوق. ومن خلال تلك الرهانات، ومضاعفة المبالغ التي يجنيها هؤلاء الأفراد، تندفع المواردُ الاقتصاديّة إلى «تحقيق المساهمة الفضلى في هذا الرهان الذي يأخذ منه كلُّ واحدٍ نصيبَه».

بإيجاز، ما يبرّره فون هايك هو المضاربةُ الماليّة، حيث الرهاناتُ الكبيرةُ والخسائرُ أكبر لمَن يملك أن يخسرَ ليربح. فلكي تخسر، عليك أن تملك ما يمكن خسرانُه. هكذا، ففي العام 1994، ربح السيّد سورس مليار دولار في اليوم الواحد، وبعد ذلك بثلاث سنوات أعلن سورس نفسه خسارته مليارًا ونيّفًا من الدولارات في يومٍ واحد أيضًا. والطريف أنه علّق على ذلك بالقول إنّ خسارته إنّما تؤكّد وجود عدالة إلهيّة!

الأجرُ المتساوي للعمل المتساوي

نظنّنا بيّنا كيف أنّ إنتاج الأفراد الأحرار، الذي يعزوه فون هايك إلى عفويّة السوق، إنما هو نتيجة القصد والإرادة البشريّين. نعني القصد والإرادة اللّتين عبّرت عنهما الثورات، وهي الأكثر تقصّدًا وإرادويّة بين النشاطات.

الأمر ذاتُه ينطبق على مسألة الأجر المتساوي للعمل المتساوي، فالواقع أنّ الكاتب يجافي التجربةَ التاريخيّة أيّما مجافاة في ادّعائه أنّ القوانين العفويّة للسوق حقّقت الأجر المتساوي للعمل المتساوي. فكلّ شيء في التجربة التاريخية يثبت أنّ النضالات النقابية والنسويّة والسياسيّة هي التي فَرضت، على مرّ عقودٍ من الزمن، حتى لا نقول على امتداد القرون، تماثُلَ الأجور بين الذكور الذين يؤدّون عملاً متماثلاً كما فرضتْ التحسين التدريجي والمطّردَ لأجور الإناث بحيث باتت تساوي أجور الذكور في ميادين عملٍ محدودة وفي عددٍ محدود من الدول الصناعيّة المتقدّمة.

وليس سرًّا أنّ تحقيق التماثُل الأخير لا يزال غايةً ترتجى في القسم الأكبر من المجتمعات عبر العالم، وليس سرًّا البتّة أنّ الرأسماليّة كانت ولا تزال تقاوم فرْضَ الأجر المتساوي للعمل المتساوي وتتحايل عليه بألف طريقةٍ وطريقة. وهذا عكس ما يدّعيه فون هايك تمامًا، فالإناث ما زلن يشكّلن، في الغالبية الساحقة من الحالات، أيديَ عاملةً رخيصةً يلجأ إليها أربابُ العمل بانتظامٍ في بحثهم الدائم عن خفْض الأجور وأكلاف الإنتاج سعيًا وراءَ تعظيم الأرباح، وهو القانون الحديدي للرأسماليّة. وللتأكد من ذلك، ما علينا إلّا النظرُ في الاتجاهات الجديدة للعولمة، أعني تفريعَ الإنتاج بنقل العمليّات الإنتاجيّة المتطلّبة استخدامًا مكثفًا لليد العاملة إلى البلدان حيث العمالةُ الرخيصة. وفي تلك البلدان، يشكّل عمل النساء المنزلي «على القطعة» حيّزًا هامًّا من عمليّة التفريع هذه. حيث لا أجور ثابتة ولا تعويضات عائليّة ولا ضمانات اجتماعيّة ولا نقابات عمّاليّة ولا مَن يطالبون أو يُضرِبون. ما معنى ذلك؟ إنّه يعني أنّ السوق في ظلّ رأسماليّة المنافسة الحرّة الحاليّة، تميل، عفويًّا، للتفلّت الدائم من تحقيق تماثُل الأجور بين الذكور أنفسهم وهي تميل تأكيدًا إلى التفلّت الدائم من تحقيق تماثُل الأجور بين الذكور والإناث.

بعبارة أخرى إنّ العامل الذي فرَضَ التماثل في الأجور للأعمال المتساوية ليس هو الآليّة العفويّة للسوق والمنافسة الحرّة بين الأفراد وإنما هو التدخّل الواعي والعملي للبشر أنفسهم. أي أنّ تلك المساواةَ قد فرضتْها، حيث هي تحقّقت، عواملُ وضغوطٌ جاءت من خارج حَومة السوق بل جاءت بالضدّ من منطق السوق و«المنافسة الحرّة» فأمْلت تعديلاتٍ أساسيّةً على منطق هذه وتلك.

عودة إلى المعرفة

في عودةٍ إلى مسألة المعرفة، يبدو لنا أنّ الوهمَ ليس كامنًا في مطلب العدالة الاجتماعيّة وإنّما كلّ الوهم، والتوهيم، هو في الادّعاء بأنّ السوقَ تؤمّن، بالسليقة، التكافؤَ في توزيع المعلومات والمعارف، حسبما يدّعي فون هايك. فمنذ أن انهار التصوّرُ المبسّط للسوق كما هو عند آدم سميث، والسوق شبكة من الآليّات بالغة التعقيد يكتنفُها المزيد والمزيد من الغموض. لن نخوض هنا في تحليل كارل ماركس اللامع لصنَميّة السلعة. ذلك أنّ تبريرَ فون هايك لرأسماليّة السوق يقع أصلاً ما دون مستوى التحليل الجادّ لآليّات السوق. ففي مطلع «نظريّته» يؤكّد أنّ نقطة الضعف القاتلة في الاشتراكيّة هي أنّ التخطيطَ يَحول دون التوصّل إلى معلومات اقتصاديّة دقيقة، وخصوصًا المعلومات عن الأسعار والعرض والطلب. نسارع إلى القول إنّ فون هايك قد أصاب هنا في تعيينه الاستباقي لإحدى مشكلات التخطيط المركزي الاشتراكي، وإحداها فقط، على أنّه فون هايك لا يلبث في دفاعه عن السوق، أن يغادر موقفه النقدي المعرفي هذا إذ يأخذ في تمجيد تلك السوق بما هي آليّة سحريّة عمياء، يوزّع «دولابها» حصصًا «غير أكيدة» و«غير متوقّعة» على اللاعبين الذين «يراهنون» فيها. وهو يغفل بالطبع أنّ تلك السوقَ تعود على أكثرية اللاعبين المراهنين بالخسائر الصافية!

ومهما يكن كيف يوفّق فون هايك بين نقده للاشتراكيّة، من الموقع المعرفي للاشتراكية وبين تبريره السحري للسوق الرأسماليّة. الحال أنّه لا يسعى إلى التوفيق.

هنا تنعقد اللاعقلانيّة مع توسّل العفويّة وأخيرًا وليس آخرًا مع تمجيد الحظّ والمصادفة إلى توليد تصويرٍ سحري صرْف لعمل السوق: إنه السّحر في وجه المعرفة.

فلماذا نكلّف أنفسنا مشقّة تذكير فون هايك، وخصوصًا أتباعه ومريديه المعاصرين، بأنّنا نعيش زمن التكنولوجية المتقدّمة وثورةَ المعلوماتيّة وما يرافقهما ويميّزهما من تعاظم احتكار المعارف في الوقت الذي يتمّ فيه تعاظم استهلاكها!

نكتفي بالقول إنّ للكازينو العالميّ الذي يضعه فون هايك محلَّ السوق الليبراليّة التقليديّة، لغتَه الخاصّة، وهي أكثر اللغات انغلاقًا وغربةً عن بني البشر لا يكاد يُجيدها إلّا بضعةُ آلافٍ في أصقاع الأرض الأربعة. أفكّر فقط بلغة حركات الأيدي الصمّاء التي بها يتخاطب العاملون في البورصات العالميّة. فإذا كان هذا البُكم والصممُ هما مستقبل المعرفة في العالم المتعولم فعلى المعرفة السلام!

———————————–

أخلاقيات السوق النيوليبرالية وحقوق الإنسان/ جيسّيكا وايت

في العام ١٩٩٢، سُئل ميلتون فريدمان، العالم الاقتصادي في «مدرسة شيكاغو»، عن الهدف الأصلي من «جمعية مون بيلرين» التي تأسست في العام ١٩٤٧، فأجاب: «لا شك في أن هدفها الأصلي كان الترويج لفلسفة كلاسيكية ليبرالية، أي اقتصاد حر، ومجمتع حر، اجتماعيًّا ومدنيًّا وفي مجال حقوق الإنسان». يبدو هذا الطرح لحقوق الإنسان خارج السياق وهو الصادر عن مفكّر وصف نظامَ الجنرال بينوشيه الاستبدادي في تشيلي على أنه معجزة اقتصادية وسياسية. فالرأي الغالب أنّ التأكيد النيوليبرالي على الأسواق المتنافسة وعلى التقشّف يتعارض بداهةً مع حقوق الإنسان.

على الرغم من ذلك، فإن كتابي الجديد «أخلاقيات السوق: حقوق الإنسان وصعود النيوليبرالية» يقدّم الحجة على أن موقف فريدمان يستحق أن يؤخذ على محمل الجد. يتتبّع الكتاب موقع حقوق الإنسان، المُتغافَل عنه، في الجهود النيوليبرالية لتحدّي الاشتراكية والديموقراطية الاجتماعية والتحرر من الاستعمار ابتداءً من أواسط القرن العشرين، ويسعى لتفسير لماذا صارت حقوق الإنسان الأيديولوجية المسيطرة في حقبةٍ اتّسمت بانهيار الطوباويات الثورية وسيادة الاعتقاد بأنه «لا يوجد بديل»، وفق عبارة مارغريت ثاتشر المقتضبة.

في محاولةٍ لفهم لماذا تبيَّن أنّ النيوليبرالية وحقوق الإنسان متوافقتان واحدتهما مع الأخرى إلى أبعد حدّ، لا بد من تحدّي النظرة الشائعة التي تقول إن النيوليبرالية مذهب عقلاني اقتصادي محض وحيادي أخلاقيًّا. أخذتُ عنوان كتاب «أخلاقيات السوق» عن النيوليبرالي النمساوي فريدريش هايك، مؤسس «جمعية مون بيلرين» وهو الذي حاجج بأنّ نظام السوق التنافسية يتطلّب إطارًا أخلاقيًّا يكرّس تراكم الثروة واللامساواة، ويروّج للمسؤولية الفردية والعائلية، ويضمن الخضوع للنتائج الموضوعية لمسار السوق على حساب السعي المتعمّد إلى أهدافٍ محددة جماعيًّا.

نهل هايك من النظرية الاجتماعية للمفكرَين الإسكتلنديَّين آدم سميث وآدم فورغسون، اللذين افترضا أن التاريخ الإنساني يمرّ بمراحل متعاقبة – من الصيّاد إلى الراعي إلى المُزارع إلى التاجر – فحاجج بأن تطوّر المجتمعات السوقية يتطلّب التخلّي عن مشاعر الولاء الشخصي والالتزامات المساواتية الأكثر ملاءمة للوجود القبَلي. في سردية هايك ذات المنطلق العنصري، تشكل المطالبات بإعادة التوزيع انتكاسات حضارية تهدد الأسس الأخلاقية للسوق التنافسي.

إن واحدة من حججي الرئيسة على امتداد الكتاب هي أن النيوليبرالية مذهب أخلاقي وسياسي بذاتها وليست مجرد مذهب اقتصادي. وقد نسب الليبراليون الأوائل إلى السوق سلسلة من الفضائل المعادية للسياسة: التصدي للسلطة وتبديد قواها، تيسير التعاون المجتمعي، تسوية النزاعات سلميًّا، وتأمين الحرية الفردية والحقوق الفردية. وصوّروا المجتمع التجاري أو «المجتمع المدني» على أنه فضاء من العلاقات الطوعية تتوخّى المنفعة المتبادلة في مواجهة العنف والقسر والنزاع وهي في محاجتهم من أمراض السياسة، والسياسة الجماهيرية خصوصًا. وإذا تمكن المفكرون النيوليبراليون وناشطو حقوق الإنسان من أن يجدوا قضية مشتركة تجمعهم، كما أعتقد أن هذا هو الحال، فأبرز سبب لذلك هو أنّ نيوليبراليي القرن العشرين كانوا أقلّ انشغالاً بالنطاق الاقتصادي الضيّق مما توحي به الكتاباتُ الحالية عنهم.

حقوق الإنسان والسوق الحرة

وإني أبيّن على امتداد الكتاب أن المفكرين النيوليبراليين يتّهمون المحاولات التي بُذلت في القرن العشرين لتأمين حقوق راسخة في الرفاه الاجتماعي وتقرير المصير الوطني بأنها تهديدات لنظام السوق ولـ«الحضارة» ذاتها. ثم أبيّن أيضًا أن النيوليبراليين قد طوّروا روايتهم الخاصة عن حقوق الإنسان على اعتبارها دعائم أخلاقية وقانونية لنظام السوق الحرة.

فقد رأى النيوليبراليون إلى حقوق الإنسان وإلى الأسواق التنافسية على أنها تتشارك في بنية واحدة. في كتابه السجالي واسع الانتشار «الطريق الى العبودية»، حاجج هايك بأن «أفكار العام ١٧٨٩- الحرية، المساواة، الأخوّة – إن هي إلا مُثُلٌ تجارية بامتياز لا غرض لها غير تأمين بعض المنافع لأفراد». ويعتقد النيوليبراليون بأن السوق التنافسية سمحت بوجود الحقوق الفردية، لكنّ اشتغال السوق يعتمد أيضًا على حكم القانون والاعتراف بحقوق الإنسان. وحقوق الإنسان، بالنسبة للنيوليبراليين، موجودة لا لحماية الفرد وإنما للحفاظ على نظام السوق وعلى تراتب الهويات الموروثة في وجه التحدي السياسي.

وقد تجلّت النظرة النيوليبرالية إلى حقوق الإنسان في أنقى أشكالها فترة صعود النيوليبرالية، في إنكار مارغريت ثاتشر أنّ «خدمات الدولة حق مطلق» المتزامن مع مناصرتها «الحق في اللامساواة»، وفي دفاع رونالد ريغان عن «الكرامة الإنسانية» بما هي «المثال الذي يتوّج الحضارة الغربية».

ومع ذلك، لم يقتصر إرث حقوق الإنسان الليبرالي على شخصيات من اليمين. إني أتقدم بحجة تقول إن الخلفية النيوليبرالية قد تلقي الضوء على ما يبدو أنه لغز سياسات حقوق الانسان في أواخر القرن العشرين، في استخدامها المميّز للمناصرة الدولية من أجل الحد من سلطة الدولة، وسلطة الدولة بعد الكولونيالية خصوصًا، وهو اللغز الذي يبدو أنه «ظهَر من لا مكان» حسب تعبير صموئيل موين في «الطوبى الأخيرة» The Last Utopia. وقد أبنتُ أنّ منظمات من مثل «منظمة العفو الدولية» و«هيومن رايتس ووتش» و«أطباء بلا حدود» قد استلهموا صيغة عن الحقوق طوّرها النيوليبراليون منذ الأربعينيات. وبالنسبة «للمنظمات غير الحكومية» (الأنجيووز) أيضًا، ولّد التحرر من الاستعمار حاجةً إلى مقاييس جديدة لردع وضبط الدول بعد الكولونيالية.

وعلى الرغم من أنّ الأنجيووز العاملة في مجال حقوق الإنسان برزت في إطار اقتلاع حمايات الرعاية الاجتماعية والخدمات العامة، فتلك المشاغل نادرًا ما دخلت في إطار مناصرتها السابقة. وإني أحاجج أنّ منظمات حقوق الإنسان الدولية والأنجيووز الإنسانية قد تبنّت الثنائية النيوليبرالية المركزية بين المجتمع التجاري أو «المجتمع المدني» – المفهوم على أنه نطاق الحرية، والتفاعل الطوعي والسلطة الخاصة الموزعة التي تحدّ من سلطة الدولة المركزية – من جهة والسياسة – المفهومة بما هي عنف وقسر ونزاع، من جهة أخرى. وقد دافعت تلك المنظمات عن فضائل العداء للسياسة التي ينسبها النيوليبراليون إلى السوق: لجم السلطة السياسية، ترويض العنف وتيسير نشوء هامش من الحرية الفردية.

إن هذا التوجه جعل من الأنجيووز العاملة في مجال حقوق الإنسان منظمات متردّدة وغير مؤهلة لتحدي الآثار البنيوية والموضوعية لآليات السوق. ومع أنه يفترض بكبريات الأنجيووز العاملة في حقل حقوق الإنسان أن تتحاشى اللجوء إلى القسر، فقد كانت على استعداد تامّ لاستدعاء الجبروت العسكرية لأعتى الدول كي تتدخّل، باسم تأمين حقوق الإنسان، من أجل فرض أخلاقيات السوق على امتداد الكرة الأرضية.

ما أسمّيه «حقوق الإنسان النيوليبرالية» ليس الشكلَ الوحيدَ لحقوق الإنسان الذي عرفه التاريخ. ومع ذلك، أزعم أنّ مساهمة النيوليبرالية في حقوق الإنسان أوسع نفوذًا بكثير مما يودّ أنصارها المعاصرون الاعتراف به، وهذا لا يقتصر على أوساط اليمين السياسي أو على الذين في أروقة السلطة.

في غياب التعاطي مع هذا النفوذ، فإن الحركات والنضالات الاجتماعية التي تستخدم لغة حقوق الإنسان من أجل مقاومة النيوليبرالية قد تجد نفسها في وضع تعزّز فيه قبضةَ النيوليبرالية بدل العكس.

——————————–

مُبيدو الكوكب/ إدواردو غاليانو

 ترجمه وقدّم له أسامة إسبر

يجمع إدواردو غاليانو في تناغمٍ نادرٍ بين الدقة التوثيقية والخيال الأدبي الرفيع، حتى أنه يمكن القول إنّ لغته الأدبية مجبولة بالتاريخ، فهو في كتبه كلها ينطلق من أساس توثيقي صلب نحو آفاق التعبير الأدبي المفتوحة، شاحنًا لغته بروح شعرية قلّ مثيلها في الأدب المعاصر.

تصبّ روافدُ أخرى كثيرةٌ لتغذية أهمية غاليانو، منها موقفه اليساري النبيل في الوجود، فقد أعلن مرةً مازحًا أنه من مؤسّسي الماركسية السحرية. وبرغم أنها مزحة إلا أنها تشي بما يضيء تجربتَه في الكتابة، ومواقفَه في الحياة، فكتاباته تحتفي دومًا بالمهمّشين والمنسيين والغفل والفقراء والفلاحين والعمّال والمشردين وأبناء الشوارع والعاهرات والسجناء والمنفيين والمظلومين والنساء المسحوقات وكلّ من يعيش على هامش الحياة المعاصرة، والذين هم هناك بسبب الاستيلاء على الثروة من قِبل قلّةٍ تتكرّر في كلّ البلدان، تنهب كل شيء وتدمّر كل شيء في طريقها، حتى المستقبل البشري.

من جهةٍ أخرى، يروي غاليانو قصص هؤلاء بأسلوب أدبي فريد خاص به تغيب فيه الحدودُ بين الأجناس الأدبية وتُنسج في نصّ جامع شامل. يجمع النص بين الفكرة والاستعارة، بين المعلومات الإحصائية والجمل القصصية السردية، بين الأرقام والصور الشعرية، وبين السرد القصصي والحوارات المسرحية، وكلها متآلفة ومتناسجة وتوحي بالحرية وبالعمق وبالقدرة على التعبير عن واقعٍ هاربٍ ومفكّكٍ ومظلمٍ ويظلّ بحاجة إلى الاستقصاء.

وفي هذه النصوص التي اخترناها هنا يتحدث غاليانو كيف أنّ القلّة من الأغنياء، أصحاب الشركات الكبرى وخدمها من السياسيين الفاسدين، تدمّر كوكبنا وتسمّم هواءه وتتحالف مع الحكومات وقابضي أثمان الدمار، وكيف يحوّل الشمالُ الجنوبَ إلى مكبّ لنفاياته.

توفي إدواردو غاليانو عام 2015 تاركًا خلفه كتبًا لن يتوقف القرّاء عن العودة إليها على الدوام، لأنها تمتلك قوة قول الحقيقة وبكل جرأة، كما أنها تتمرّد على القيود والحدود الأدبية التي وضعها «ضباطُ جمارك الأدب» كما سمّاهم، والذين هم امتداد للسلطة التي تعرقل الحياة الحرة في الواقع.

جرائم ضد البشر والطبيعة

تُرتكب الجرائمُ ضد البشر وضد الطبيعة. وكما يتمتع أسياد الحرب بالحصانة، يتمتع بها أيضًا توائمهم، الأسياد الشرهون للصناعة، الذين يفترسون الطبيعة على الأرض وفي السماء ينهشون طبقة الأوزون.

إن الشركات الأكثر نجاحًا في العالم هي الشركات التي تُسهم أكثر في هلاكه، والدول التي تقرّر مصير الكوكب هي التي تسهم أكثر في تدميره.

كوكب اللاعودة

تغمر العالمَ والهواءَ الذي نتنفّسه طوفاناتٌ وافرةٌ وغزيرةٌ من التلوث وسيولٌ من الكلمات: تقارير الخبراء

والخطب والتصريحات الحكومية

والمعاهدات الدولية الوقورة التي لا يلتزم بها أحد، وتعبيراتٌ أخرى عن القلق الرسمي على البيئة. وتقوم لغةُ القوة بإبعاد اللوم عن المجتمع الاستهلاكي وعمّن يفرضون النزعة الاستهلاكية باسم التطوّر.

وتستطيع الشركات العملاقة، التي تُمْرض الكوكب باسم الحرية ثم تبيع له الدواء والعزاء، أن تفعل ما تشاء، بينما يغلّف خبراءُ البيئة، الذين يتكاثرون كالأرانب، جميعَ المشكلات في بلاستيك الوسائد الهوائية للغموض. إن الحالة الصحية للعالم مقرفة، وثمّة لغة رسمية تُستخدم للتبرئة، وعبارة «نحن جميعًا مسؤولون» كذبة يروّج لها التكنوقراطيون ويكررها السياسيون، وتعني أن لا أحد مسؤول. ويطلق الكلامُ المداهن تحذيراته: «إنها تضحية يقوم بها الجميع»، لكن هذا يعني «نيكوا» أولئك الذين «يُناكون» دومًا.

تدفعُ البشرية كلها ثمن دمار الكوكب الأرضي وتلويث جوّه وتسميم مياهه واضطراب مناخه، وتدهور سلعه الأرضية التي تهبُها لنا الطبيعة. وتحت مساحيق الكلمات تعترف الإحصاءاتُ المخبّأة بالحقيقة وتشير الأرقام القليلة إليها: إن ربع البشرية يرتكب ثلاثة أرباع الجرائم ضد الطبيعة، ذلك أنّ كل مواطن في الشمال يستهلك أكثر بعشر مرات من الطاقة، وأكثر بتسع عشرة مرة من الألمنيوم وأكثر بأربع عشرة مرة من الورق، وأكثر بثلاث عشرة مرة من الحديد والفولاذ ممّا يستهلكه مواطن في الجنوب. وكمية الكربون التي يبعثها مواطن أميركي شمالي في الجو أعلى باثنتين وعشرين مرة من الكمية التي يبعثها الهندي، وأعلى بثلاث عشرة مرة من التي يبعثها البرازيلي. يمكن أن ندعو هذا «انتحارًا عالميًّا»، لكن من يرتكبون هذا الجرم اليومي هم الأفراد المزدهرون ذاتهم من أبناء البشر، الذين يعيشون في بلدان غنية أو يتخيلون هذا، ومواطنو بلدان وأبناء طبقات اجتماعية يعثرون على هويتهم في التباهي والنفايات.

يواجه التبنّي واسع الانتشار لنماذج كهذه من الاستهلاك عائقًا بسيطًا: يحتاج الأمر إلى عشرة كواكب بحجم كوكبنا للبلدان الفقيرة كي تستهلك بقدر ما تستهلك الغنية، كما أفاد تقرير دقيق يحتوي على الكثير من الوثائق، بعنوان «تقرير برونتلاند» الذي قُدم إلى اللجنة العالمية للبيئة والتنمية عام ١٩٨٧.

تحبّ شركات النفط العملاقة وشركات معاوني الساحر للطاقة النووية والتكنولوجيا الحيوية، والشركات الكبرى التي تصنّع الأسلحة وشركات الفولاذ والألمنيوم وشركات صناعة السيارات والمبيدات والمواد البلاستيكية وألف منتج آخر، أن تذرفَ دموع التماسيح على معاناة الطبيعة. وتَظهر هذه الشركات، الأكثر إلحاقًا للدمار بالكوكب، بين تلك ذات الأرباح المرتفعة.

———————————————————————————

لغة الخبراء الدوليين

في تقييم الإسهامات التي تمّت من خلال إعادة صياغة المشاريع القائمة حاليًّا، سنركّز تحليلنا على ثلاثة أسئلة جوهرية: الأول والثاني والثالث.

وكما يمكن الاستنتاج من تجربة تلك البلدان النامية حيث اتُّخذت بعض الإجراءات التي هي موضوع دراستنا ووُضعت قيد التنفيذ، يتطابق السؤال الأول في عدة نقاط مع السؤال الثالث، وواحدة أو أخرى من هذه النقاط تبدو وكأنها جوهريًّا متصلة بالسؤال الثاني، بحيث يمكننا القول بثقة إنّ الأسئلة الثلاثة مرتبطة بعضها ببعض.

الأول…

———————————————————————————

تُنفق هذه الشركات أيضًا أكثرَ من غيرها على إعلانات تُحوّل التلوث، سحريًّا، إلى فعل خير وأعمال معروف مبدئية لسياسيين يقررون مصائر البلدان أو العالم. وحين شرح الرئيس الأميركي السابق جورج بوش [الأب]لماذا رفضت الولايات المتحدة توقيع اتفاقية التنوّع البيولوجي في قمة ريو عام ١٩٩٢، كان في غاية الوضوح: «من المهم أن نحمي حقوقنا، وحقوق أعمالنا». وسواء وقّع أم لم يوقّع فالأمر سيّان، لأنّ معاهدات دولية كهذه أقل قيمة من شيك بلا رصيد.

كان الهدف من انعقاد قمة ريو إنقاذ الكوكب من الهلاك، ولكن لم تلتزم أيّ من القوى العظمى باستثناء ألمانيا (التي فعلت ذلك بفتور) بالاتفاقيات الموقّعة، خوفًا من أن تفقد شركاتُها قدرتَها التنافسية، ومن ألا يفوز سياسيوها الحاكمون بالانتخابات. وكانت القوى الكبرى التي أبدت التزامًا أقلّ هي الأقوى، والتي فضح اعترافُ بوش أهدافَها الجوهرية بجلاء. ودفعتْ الشركات العملاقة للصناعات الكيميائية وصناعة النفط والسيارات (والتي كانت الموضوع المحوري لقمة ريو) جزءًا كبيرًا من تكاليف المؤتمر. تستطيع قول ما تشاء عن آل كابوني لكنّك لا تستطيع إنكار أنه كان سيدًا: كان العجوز الطيب آل يرسل دومًا أكاليل ورود إلى جنازات ضحاياه.

بعد خمس سنوات، دعت الأممُ المتحدة إلى عقد اجتماع آخر لتقييم نتائج قمة ريو. وفي تلك السنوات الخمس القصيرة جُرّد الجلدُ الأخضر للكوكب من نباتاته الاستوائية في منطقةٍ أكبر بمرتين ونصف من إيطاليا، وأمحلت أراضٍ خصبة بحجم ألمانيا وانقرض ما يقارب مئتين وخمسين ألف نوع من الحيوانات،

———————————————————————————

مورغان

ليس لهم أطراف صناعية ولا يضعون عصائب على أعينهم، لكن القراصنة البيولوجيين يتجوّلون في أدغال الأمازون وأراضٍ استوائية أخرى شاقّين طريقهم بالسفن والطائرات والسيارات، يسرقون البذور، يضعون عليها براءات اختراع، ويحوّلونها بنجاح إلى منتجات تجارية.

دانت أربعمئة قرية للسكان الأصليين في الأمازون مؤخرًا الاستيلاءَ على نبتة مقدسة تُدْعى الأياهواسكا، التي قالوا عنها إنها:«المكافئ لدينا لخبز القربان المسيحي».

في المكتب الأميركي لتسجيل الاختراعات وضعت شركةُ النباتات الطبية الدولية براءةَ اختراعها على الأياهواسكا لصناعة دواء نفسي ولمعالجة أمراض القلب. منذ ذلك الوقت فصاعدًا صارت الأياهواسكا ملكية خاصة.

———————————————————————————

وازداد تلوّث الهواء، وصار ١،٣ بليون إنسان من دون سكن ملائم أو طعام، فيما يموت يوميًّا خمسة وعشرون ألف شخص بسبب تلوث مياه الشرب بسموم كيميائية أو نفايات صناعية. ومنذ فترة قصيرة أعلن ٢٥٠٠ عالم من بلدان مختلفة (دعتهم أيضًا الأممُ المتحدة إلى اجتماع) أن الكوكب الأرضي سيواجه في المستقبل القريب أكبر تغيرات مناخية سبق أن حدثت في العشرة آلاف سنة الأخيرة، أما الذين سيعانون من هذا العقاب أكثر من غيرهم فهم كالمعتاد الفقراء، لأنه محكوم على الفقراء والبلدان الفقيرة بأن يكفّروا عن ذنوب الآخرين. شهد عالمُ الاقتصاد لورنس سمُرز على هذه الحقيقة في نهاية ١٩٩١. اقترح سمُرز، الحاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة «هارفارد» والذي يحتل منصبًا رفيعًا في إدارة البنك الدولي، في وثيقة داخلية سُرّبت بالخطأ، أن يشجّع البنك الدولي على هجرة الصناعات التي تسبّب تلوثًا والنفايات السامة «إلى بلدان أقل تطورًا»، لأسباب اقتصادية منطقية تتعلق بـ«المزايا النسبية» التي تتمتع بها هذه البلدان. وتبيّنَ أن هذه المزايا ثلاث: أجور تافهة، ومساحات شاسعة حيث لا يزال يوجد مجال للتلوث، ونسبة أمراض سرطانية منخفضة بين الفقراء الذين يمتلكون ميزة الموت باكرًا لأسباب أخرى. أدى نشر الوثيقة إلى فضيحة مدوّية: إن أمورًا كهذه يجب أن تُفعل لا أن تُقال. خطَّ سمُرز بوقاحة على الورق ما كان يفعله العالم عمليًّا لوقت طويل. ذلك أنّ الجنوب يعمل كسلة قمامة للشمال، والمصانع الاكثر تلويثا للبيئة تهاجر إلى الجنوب، والجنوب هو المكب حيث يصبّ معظم الخراء الصناعي والنووي الذي يتبرّزه الشمال.

أفتى القديس أمبروز، الكاهن وطبيب الكنيسة، منذ ستة عشر قرنًا، بمنع الربا بين المسيحيين لكنه أجازه ضد البرابرة. يحدث الأمر نفسه الآن مع كل التلوث المهلك. ما هو سيئ في الشمال جيد في الجنوب، وما يُعتبر مخالفًا للقانون في الشمال مُرحّب به في الجنوب. وفي الجنوب تقع مملكة الحصانة الشاسعة، ولا يوجد ضوابط أو عراقيل قانونية، وإذا ما وُجدت فليس من الصعب أبدًا معرفة ثمنها. كما أن تواطؤ الحكومات المحلية نادرًا ما يحصل مجانًا، ثم هناك تكاليف القيام بحملات إعلانية ضدّ المدافعين عن الطبيعة والكرامة البشرية، وتصويرهم كمدافعين عن التخلّف يعملون على إخافة المستثمرين الأجانب وتخريب التنمية الاقتصادية.

في نهاية عام ١٩٨٤ تسرّب أربعون طنًّا من الغاز القاتل من معمل للمبيدات تديره الشركة الكيميائية «يونيون كاربيد» في مدينة بهوبال في الهند. انتَشر الغاز في أحياء الصفيح وقتل ستة آلاف وستمئة شخص وألحق الأذى بسبعين ألفًا توفي كثيرون منهم بعد وقت قصير أو شُوِّهوا طيلة حياتهم. لم تتقيّد «يونيون كاربيد» بأي من القواعد الأمنية ولم تطبّق معايير السلامة التي تطبّقها في الولايات المتحدة. وفي أميركا اللاتينية، تبيع شركة «يونيون كاربيد» و«دو كيميكال»، مثلها مثل الشركات الأخرى العملاقة للصناعات الكيميائية العالمية، كثيرًا من المنتجات التي تُعتبر مخالفة للقانون في بلادها. وفي غواتيمالا، مثلاً، يرشّ الطيران مزارع القطن بالمبيدات التي لا يمكن بيعها في الولايات المتحدة أو أوروبا. ترشح هذه السموم عبر السلسلة الغذائية إلى كل شيء، من العسل إلى الأسماك حتى تصل إلى أفواه الأطفال الرضّع. وفي مطلع عام ١٩٧٤ كشفت دراسة أجرتها مؤسسة الغذاء الأميركية اللاتينية أنّ حليب كثير من الأمهات الغواتيماليات يحتوي على نسبة من المبيدات أعلى بمئتي مرة من الحدّ الذي يُعتبر خطيرًا. وكانت شركة «باير»، ثاني أكبر منتج في العالم للمبيدات الزراعية، تتمتّع بالحصانة منذ الأيام التي انضمّت فيها إلى كونسورتيوم «آي. جي. فاربن» واستخدمت عمالاً من دون راتب من معسكر الاعتقال النازي في « أوشفيتز».

———————————————————————————

خرائط

إن الخريطة البيئية في الولايات المتحدة خريطة عنصرية أيضًا، ذلك أن المصانع الأكثر تلويثًا والمكبات الأكثر خطرًا تتموضع في جيوب الفقر حيث يعيش السود والسكان الأصليون والأميركيون اللاتينيون. وتعيش الجماعة السوداء في «كينيدي هايتس» في هيوستن بولاية تكساس على أرض دمّرتها نفايات شركة «غلف أويل». إنّ سكّان كونفينت، وهي بلدة في لويزيانا حيث تعمل أربعة من أكثر المصانع تلوثًا في البلاد، كلهم سود تقريبًا. وكان معظم الذين تم إدخالهم إلى غرفة العناية المشددة في العام ١٩٩٣ من السود، بعد أن أمطرت شركة «جينرال كيميكال» الحمض على الجزء الشمالي من ريتشموند في خليج سان فرانسيسكو. وأكدت دراسة أجرتها كنيسة المسيح المتحدة في العام ١٩٨٧ أنّ غالبية السكان الذين يعيشون قرب مكبّات نفايات خطيرة هم أميركيون سود أو أميركيون لاتينيون.

تستقبل محميات السكان الأصليين النفايات النووية مقابل النقود والوعد بالوظائف.

———————————————————————————

مطلع عام ١٩٩٤ صار ناشط بيئي من الأوروغواي صاحبَ أسهمٍ في شركة «باير» ليومٍ واحد. تمكّن خورخي باريرو بفضل تضامن الأصدقاء الألمان من رفع صوته في اجتماع سنوي لأصحاب الأسهم أنعم عليه بالبيرة والسجق والخردل والأسبرين. سأل باريرو لماذا باعت الشركة موادّ كيميائيّةً سامّةً في الأوروغواي حُظرت في ألمانيا واعتبرت «منظمةُ الصحة العالمية» ثلاثًا منها «خطيرةً جدًّا» وخمسًا أخرى «عالية الخطورة». جاء الرد المعتاد. في كل مرة يثير فيها أحدٌ مسألة بيع سموم في الجنوب محظورة في الشمال، يقدّم المدراء التنفيذيون في «باير» وشركات كيميائية عالمية أخرى الجوابَ نفسه: إن شركاتهم لا تخالف أيّ قوانين في البلدان التي تعمل فيها. وربما كان هذا صحيحًا على المستوى التقني، وبالإضافة إلى ذلك، يقولون إن منتجاتهم ليست خطيرة. بيد أنهم لا يفسرون أبدًا لغز لماذا لا يمكن أن يستمتع أبناء بلدهم ببلاسم الطبيعة هذه. كان الإنتاج يصل إلى حدّه الأعلى بأدنى التكاليف وله أسواق مفتوحة تؤمّن أرباحًا عالية. وما تبقّى غير مهم. وفتح كثيرٌ من الصناعات الأميركية حوانيت َفي الجانب المكسيكي من الحدود قبل وقت طويل من توقيع البلدين لاتفاقية تجارة حرّة. وحوّلت هذه الصناعات المنطقةَ الحدودية إلى حظيرة خنازير كبيرة. وكان كلّ ما فعلته الاتفاقية أنها سهّلت الاستفادة من أجور العمالة المكسيكية المتدنية جدًّا وأطلقت حرية تسميم مياه المكسيك وأرضها وهوائها. وكي نعبّر عن الأمر بلغة شعراء الواقعية الرأسمالية: أتاحت الاتفاقية المزيد من الفرص لاستخدام موارد لها ميزة نسبية. وقبل أربع سنوات من الاتفاقية، كانت المياه قرب مصنع «فورد» في نويفو لاريدو ومصنع «جنرال موتورز» في ماتاموروس تحتوي على موادّ درجةُ سمّيتها أعلى بألف مرة من الحد الأعلى المسموح به في الجانب الآخر من الحدود. وفي جوار مصنع «دو بونت»، أيضًا في مانتاموروس، بلغ التلوث حدًّا اقتضى إجلاء السكان بسببه.

ينتشر التقدم عبر العالم. ولم يعُد الألمنيوم الياباني يُصنع في اليابان بل في أستراليا وروسيا والبرازيل حيث الطاقة والعمالة رخيصتان ومعاناة البيئة تحصل في صمت. ولتقديم الكهرباء لصناعة الألمنيوم، غَمرت البرازيلُ مساحات واسعةً من الغابة الاستوائية بالمياه. وليس هناك إحصائيات تستطيع تحديد الكلفة البيئية لتلك التضحية. في النهاية، هذا عادي: عانت النباتات والأزهار الاستوائية من تضحيات كثيرة، وكانت تُشوّه يومًا بعد يوم، وعامًا بعد عام، في خدمة شركات الأخشاب والماشية والتعدين. إن دمارًا منظمًا كهذا يجعل

———————————————————————————

تطوّر

جسرٌ دون نهر.

واجهةٌ طويلةٌ دون بناء.

مرشاشٌ على مرجٍ بلاستيكي.

مصعدٌ إلى لا مكان.

طريقٌ سريعٌ إلى الأمكنة التي دمّرها الطريق السريع.

صورةٌ على شاشة التلفزيون لتلفزيون يُظْهر تلفزيونًا آخر فيه أيضًا تلفزيون آخر.

———————————————————————————

«رئتي الأرض» أكثر تعرّضًا للخطر بكثير. ولم تكن النار الهائلة التي نشبت عام 1998 ودمّرت غابات هنود اليانومامي في روريما البرازيليّة العملَ الشيطاني لإل نينو فحسب. إن الوفيات تغذّي الحصانة، وترغمنا الوفيات على قبول أيّ أوامر يُمْليها التقسيم العالمي للعمل، كالشخص الذي قفز من الطابق العاشر كي يطيع قانون الجاذبية.

تزرع كولومبيا أزهارَ الزنبق لهولندا والورود لألمانيا. ترسل الشركات الهولندية بصل الزنبق فيما ترسل الشركات الألمانية شتول الورد إلى مزارع كبيرة في سهول السافانا في بوغوتا. حين تصبح الأزهار جاهزة تأخذ هولندا الزنابق وألمانيا الورود وتحصل كولومبيا على أجور منخفضة وأراض مخرّبة ومياه مسمّمة. وبفضل هذه الترتيبات الخاصة بالأزهار للحقبة الصناعية، تجفّ أعشاب السافانا وتغور، بينما يُقْصف العمال، ومعظمهم من النساء والأطفال، بالمبيدات الزراعية والسماد الكيميائية.

تتعاون البلدان الغنية الأعضاء في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية» على تطوير الجنوب اقتصاديًّا بإرسال نفاياتها الإشعاعية وتعبيرات أخرى سامّة عن اللطف. إنّ هذه البلدان نفسها التي تحظر استيراد المواد الملوّثة تغدقها بكرم على البلدان الفقيرة. وكما تصدّر المبيدات الحشرية ومبيدات الأعشاب الممنوعة في الوطن، تصدّر أيضًا النفايات الخطيرة إلى الجنوب تحت مسمّيات أخرى. حظر «ميثاقُ بازل» شحناتٍ كهذه في العام ١٩٩٢، لكنّ الشحنات اليوم أكبر مما كانت عليه من قبل وتأتي تحت قناع «مساعدات إنسانية» أو «إسهامات في مشاريع تنمية»، كما اكتشفت منظمةُ «السلام الأخضر» في عدة مناسبات، أو تأتي كمواد مهرّبة مخبّأة داخل جبال من النفايات الصناعية القانونية. يحظر القانون الأرجنتيني دخول النفايات الخطيرة، لكن لحلّ هذه المشكلة الصغيرة كل ما تحتاج إليه هو شهادة تثبت أنها غير مؤذية صادرة في البلاد التي تريد التخلص من النفايات. في نهاية العام ١٩٩٦،

———————————————————————————

تعليم

زرتُ جامعة صغيرة تقع قرب جامعة ستانفورد تعلّم الطاعة. كان الطلاب كلابًا من كل السلالات والألوان والأحجام يتمّ تعليمها التوقف عن كونها كلابًا. حين تنبح الكلاب، تعاقبها المدرّسةُ عاصرةً خطومها بيدها وضاغطةً على أطواقها المصنوعة من رؤوس مدبّبة من الفولاذ الحاد حتى تتألم. لكن حين تظل هادئة، تُكافئ الأستاذةُ صمتَ الكلاب بالطعام. هكذا تُعَلّم الكلاب كيف تنسى النباح.

———————————————————————————

نجح علماء البيئة البرازيليون في منع استيراد بطاريات السيارات المستعملة من الولايات المتحدة التي تدفّقت إلى البلاد لسنوات باسم «مادة قابلة للتدوير». كانت الولايات المتحدة تصدر البطاريات المستعملة والبرازيل تدفع للحصول عليها.

مدفوعين بدمار أراضيهم وتسميم أنهارهم وبحيراتهم، يتجوّل ٢٥ مليون شخص باحثين عن مكان لهم في العالم. فبحسب التنبؤات الأكثر مصداقية، سيصبح التدهور البيئي في الأعوام المقبلة العامل الرئيسي الذي يسبّب النزوح من بلدان الجنوب. وتظنّ البلدان التي تبتسم بشكل ظريف أمام الكاميرا (الأبطال السعداء لمعجزة اقتصادية واحدة أو أخرى) أنها دفعت الضريبة، وعبرت القطب وتمر في حقبة نجاح غير أنها تدفع مسبقًا ثمن قفزتها العظيمة إلى التحديث: ففي تايوان ثلث محصول الأرزّ غير صالح للاستهلاك لأنه مسموم بالزئبق والزرنيخ والكامديوم، وفي كوريا الجنوبية ثلث مياه الأنهار فقط صالح للشرب. ولم يعُد هناك أسماك صالحة للأكل في نصف أنهار الصين. في رسالة كتبها طفل من تشيلي وهو يرسم صورة بلاده: «السفن تغادر محمّلة بالأشجار، السفن تعود محملة بالسيارات».

———————————————————————————

إطلالة على الغسق في نهاية القرن

إنّ الأرض التي تدفننا أو تردعنا مسمومة.

لا يوجد هواء، ليس هناك إلا اليأس.

لا يوجد نسيم، ليس هناك إلا الروائح النتنة.

لا مطر سوى المطر الحمضي.

لا يوجد حدائق، هناك مرائب فقط.

ليس هناك شركاء، لا يوجد إلا شراكات.

هناك شركات بدلاً من الأوطان

وهناك مستهلكون بدلاً من المواطنين

وهناك تكتّلات بدلاً من المدن.

لا يوجد بشر، هناك جماهير فقط.

لا يوجد علاقات إلا العلاقات العامة.

لا يوجد رؤى، هناك تلفزيونات فقط.

إذا أردتَ مديح زهرة قل: «تبدو بلاستيكية».

———————————————————————————

أصبحت تشيلي اليوم طريقًا سريعةً طويلةً تحفُّ بها المولات والأراضي القاحلة والغابات الصناعية حيث لا يغرّد أي طير، وتبدو الأشجار كالجنود في صف نظامي وفي حالة انتباه، وهي تسير إلى السوق العالمي.

أنهى القرن العشرون، الفنّان المنهك، أيامَه برسم حيواتٍ ساكنة. إنّ إبادة الكوكب لا تستثني أحدًا، وحتى الشمال المنتصر، الذي يسهم بالقسم الأكبر من الكارثة، يصفر وينظر إلى الجهة الأخرى في ساعة الحقيقة. وبالسرعة التي نمضي بها، لن يمرّ وقت طويل قبل أن نعلّق جميعًا لافتات في أقسام التوليد في الولايات المتحدة: انتبهوا أيها الأطفال: نحذّركم هنا من أنّ فرصة إصابتكم بالسرطان أعلى بمرتين من أجدادكم. وتقوم الشركة اليابانية «ديدو هوكوسان» مسبقًا ببيع الهواء في علب، وسعر دقيقتين من الأوكسجين عشرة دولارات، وتؤكد الكتابة المرفقة: هذا هو المولّد الكهربائي الذي يعيد شحن الكائنات البشرية.

———————————————————————————

برّيّة زرقاء

لا تغيّم السماء هنا أبدًا، ولا يتساقط المطر. وفي هذا البحر لا يَغرق أحدٌ، ولا تحدث سرقات على شاطئه. لا يوجد قناديل بحر تلسع ولا قنافذ شوكية ولا بعوض مزعج. يخضع الهواء والماء لمناخ لا تتنوع فيه درجة الحرارة أبدًا، ولهذا يبقيان نزلات البرد والأنفلونزا بعيدة. تحسد الأعماقُ القذرة للمرفأ مياهَنا الشفافة، ويسخر هواؤنا النظيف من السمّ الذي يتنفّسه سكان المدن.

أسعارنا ليست عالية. كلفة البطاقة ثلاثون دولارًا للشخص الواحد، لكن يجب أن تدفع مبلغًا إضافيًّا للكراسي والمظلات. يقول الإعلان على الإنترنت: «سيكرهك أولادك إذا لم تأخذهم…»

إن البرّيّة الزرقاء (وايلد بلو)، شاطئ يوكوهاما المحاط بالزجاج، هو فخر الصناعة اليابانية، حيث الأمواج بعلوّ المحركات التي تصنعها، وتشرق الشمس الإلكترونية وتغرب حين تشاء الشركات، ويُقدم للزبائن شروقات شمس استوائية مدهشة وغروبات وردية خلف أشجار نخيل متمايلة.

قال أحد الزوار: «إنه اصطناعي، لهذا نحبه».

———————————————————————————

أنباء

على ساحل لاغونا، في جنوب كاليفورنيا، خرج ظبيٌ من الغابة في ١٩٩٤ وعدا في الشارع، فصدمته سيارة. قفز فوق سياج، وكسر نافذة مطبخ ودخل منها، ثم كسر نافذة أخرى وخرج إلى شرفة طابق ثاني ورمى نفسه منها، واندفع داخلاً إلى فندق وكطلقة ملطخة بلون الدم الأحمر انطلق عابرًا المالكين المندهشين لمطاعم واجهة الشاطئ، قبل أن يرمي نفسه في البحر. اصطاده رجال الشرطة في الماء ورفعوه إلى الشاطئ، حيث نفق وهو ينزف بغزارة.

قال رجال الشرطة: «كان مجنونًا».

بعد سنة في سان دييغو (في جنوب كاليفورنيا أيضًا) سرقَ محاربٌ قديمٌ دبّابة من ترسانة وسحق وهو يقودها أربعين سيارة، وألحق الضرر بعدة جسور، وفيما كانت تطارده سيارات الشرطة سحق في طريقه كلَّ ما عبره. حين علقَ في منحدر شاهق تسلّق رجال الشرطة الدبّابة وفتحوا الباب وجندلوا الجندي السابق بالرصاص. تابع مشاهدو التلفزيون الحادثة كلها في بث حي ومباشر.

قال رجال الشرطة: «كان مجنونًا».

———————————————————————————

—————————-

من الليبرالية إلى النيو ليبرالية/ جيل دوستالر

تقرّ الليبرالية الاقتصادية بثابتة: الدفاع عن اقتصاد السوق هو ضمان الحرية الفردية والنجاعة الجماعية. لكنّ هذا التيار الفكري أشدّ تعقيدا ممّا يبدو عليه. واليوم وقد أصابته الأزمة المالية إصابة مباشرة، هل يقدر على المقاومة؟

***

لكلمة “ليبرالية” مدلولات متعددة، وهي حاملة لشحنة ثقيلة مثيرة للجدل(1). فالبعض يتباهى بالانتساب إليها فيما تستعمل لشيطنة آخرين. بل يمكن أن تعني في نقطة وصولها –بعد عبور المحيط- عكس ما كانت تعنيه في نقطة انطلاقها. وهكذا نلاحظ أن كلمة “ليبرالي” في أوروبا تعني عادة من يناصر العمل الحرّ ضدّ تدخّل الدولة في الاقتصاد، فيما نجدها في كندا الانجليزية والولايات المتحدة الأمريكية، نعتا لمن يناصر تدخل الدولة ومن يحمل فكر” كينز”، بل حتى من هو اشتراكي ديمقراطيّ.

{{الليبرالية الكلاسيكية}}

جريا على المألوف في ما يتعلق بالنظريات والتيارات الفكرية، فإنّ الأسماء تظهر غالبا بعد ظهور المسمّيات بزمن طويل. فلفظة “ليبرالية” ظهرت للمرّة الأولى سنة 1818 بقلم “مان دي بيران” عندما استعملها لوصف نظرية الليبراليين الفرنسيين. أمّا كلمة “ليبراليّ”فهي أقدم ظهورا: فاستعمالها في نعت مناصر الحريات السياسية يعود إلى القرن السابع عشر. وتنطبق كلمة الليبرالية على أبعاد مختلفة من الحقيقة الإنسانية والحقيقة الاجتماعية؛ فهي تعني التسامح تجاه أفعال الآخر وأفكاره، واحترام استقلاليته وحريته الشخصية، وهكذا يمكن نعت هذه الليبرالية بأنّها فردية أو أخلاقية. وفي معنى ثان فإنّ الليبرالية تنطبق على المجال السياسيّ، إذ ظهرت معارضةً لشمولية الأنظمة الملكية المدّعية للحقّ الإلهيّ، وبذلك فإنّها تتماهى بالديمقراطية(2). وهناك معنى ثالث لليبرالية وهو اقتصاديّ، وفيه تعرّف الليبرالية نفسها بحرّية العمل وحرّية التبادل وحرّية المؤسسة والتحديد الصارم لتدخّلات الحكومة في الاقتصاد. وفي لحظة التحوّل المجتمعيّ من الإقطاعية إلى الرأسمالية، كانت الأبعاد الثلاثة لليبرالية متلاحمة. ويمكن اعتبار “جون لوك” في بريطانيا و”فولتير” في فرنسا نموذجين للأشخاص الحازمين في ليبراليتهم بأبعادها الثلاثة. ولكن، مع “فرانسوا كسناي” والفيزيوقراطيين في موفّى القرن 18 بدأنا نلاحظ انفضاض الترابط بين هذه الأبعاد. فقد كان كيسناي ورفاقه من المناصرين الحازمين لملكية الحقّ الإلهي، وكانوا أنبياء – بشكل لا يقلّ حزما – لمبدإ “دعه يعمل”، بل كانوا أوّل من استعمل هذا التعبير. تتكئ الليبرالية الاقتصادية على تصوّر مخصوص للعلاقات بين الاقتصاديّ والاجتماعيّ وسير الاقتصاد، سيرا أملاه الاقتصاد السياسي الكلاسيكيّ الذي أسّسه وطوّره أشخاص منهم “آدم سميث”، و”جون بابتيست صاي”، و”دافيد ريكاردو”. وهؤلاء المفكّرون المفتونون بالفيزياء النيوتنية كانوا يسعون إلى تشييد فيزياء اجتماعية يكون فيها قانون الجاذبية العالمية نموذجا لفرضية عقلانية الفرد، “الإنسان الاقتصاديّ homo oeconomicus” الذي تحرّكه أنانيته ومصلحته الشخصية. وهاهو آدم سميث في كتابه المؤسّس للفكر الاقتصادي الليبرالي “أبحاث حول طبيعة وأسباب ثراء الأمم”(1776)، يوضّح بحكايته الرمزية الشهيرة عن اليد الخفيّة فكرةً من أهمّ الأفكار التأسيسية لليبرالية؛ فكلّ فرد يحسّ – وهو يتابع مصالحه الاقتصادية دونما اعتبار لمصالح منافسيه- وكأنّما تقوده يدٌ خفيّة إلى “تحقيق غاية لم تكن ضمن نواياه…فمع انكبابه على مصالحه الخاصّة، فإنّه يعمل بشكل شديد الفعالية من أجل مصلحة المجتمع، كما لو كانت خدمة المجتمع هي دافعه الأساسيّ”. ولا بدّ أن نضيف هنا أنّ آدم سميث، مؤلّف كتاب” نظرية المشاعر الأخلاقية”، قد ترك بعمله وبآثار عمله نظرية أكثر دقّة من أخلافه، وخاصّة أولئك الذين هم، اليوم، يصرّحون بالانتساب إليه. والأمر نفسه يقال عن “ليون والراس” وهو الذي بحث عن ترجمة حكاية اليد الخفيّة ترجمة رياضية في نموذج التوازن العامّ. وعند “والراس”، وهو يعرّف نفسه بكونه اشتراكيا، فإنّ التوازن العامّ لا يولّد بالضرورة العدالة الاجتماعية.

{{“كينز” والليبرالية الجديدة}}

كان “جون مينارد كينز” يعرّف نفسه بكونه ليبراليا، بل كان عضوا نشيطا بالحزب الليبرالي الإنجليزي في أغلب فترات حياته(3)، لكنّ ليبراليته كانت تتمثّل في دفاع مستميت عن الحرية الفردية، وخاصّة في المجال الأخلاقيّ، والديمقراطية السياسية. ولم يكن مؤمنا بمبدإ “دعه يعمل”. ففي كتابه” نهاية دعه يعمل”(1926) كتب يقول” إنّه ليس صحيحا على الإطلاق أنّ للأفراد “حرّية طبيعية” في ممارسة نشاطاتهم الاقتصادية[…]إنّه ليس من الصواب أن نستنتج من مبادئ الاقتصاد السياسيّ أنّ المصلحة الفردية المتيقّظة تعمل في خدمة الصالح العامّ”. من نافل القول أنّ كينز لم يكن الأوّل ولا الوحيد في التشكيك بمبدإ “دعه يعمل”، فقد شنّ الناطقون باسم تيّارات اشتراكية مختلفة، وبعض المفكّرين المسيحيين، واقتصاديو المدرسة التاريخية الألمانية والمؤسساتيون الأمريكان، صراعا ضدّ الليبرالية الاقتصادية، وذلك منذ القرن التاسع عشر. فقد اعتبر “جون ستيوارت ميل” أنّ الحرية الاقتصادية لا ترقى إلى مكانة الحرية الفردية والسياسية، وأنّها يمكن أن تترك مكانها، تبعا لذلك، إلى الاشتراكية. و”ستيوارت ميل” هو رائد تيار فكريّ سيشهد تطوّرا في نهاية القرن التاسع عشر في صلب الحزب الليبرالي البريطاني، وفيه سينخرط كينز: الليبرالية الجديدة. ويعتبر الليبراليون الجدد أنّ الليبرالية الكلاسيكية قد أكملت دورها، وأنّ الرأسمالية قد أصبحت تنتج شرورا خطيرة؛ الأزمات، البطالة، الفقر، لاتكافؤا غير مقبول في الدخل..وأنّه صار لزاما على الدولة أن تتدخّل لمعالجة هذه الشرور، وهذا لا يحدث إلا بتدخّلية فعّالة. ويصف كينز الليبرالية الجديدة، التي يسمّيها أحيانا الليبرالية الاجتماعية أو الاشتراكية الليبرالية، بكونها “طريقا ثالثا” بين الليبرالية والاشتراكية. وفي كتابه” النظرية العامة للعمالة والفائدة والنقد”[1936] وهو بلا أدنى شكّ من أشدّ الكتب تأثيرا إلى جانب كتاب سميث”ثراء الأمم”، قدّم كينز أساسا نظريّا للتدخّلية، هو عقلنةً دولة الرفاه اقتصاديا. ويمرّ هذا الأساس النظريّ عبر نقد راديكاليّ للاقتصاد التقليدي ولفكرة التعديل الذاتيّ للاقتصاد من قبل السوق. والرسالة الأولى لـ” النظرية العامة” أنّه لا وجود لأيّة آلية في الاقتصاديات الرأسمالية تضمن –عفويا – التشغيل الكامل. فاستمرار البطالة، وتواصل الفجوات غير المقبولة بين مستويات الدخل والثروات، من الخصائص البنيوية للاقتصاديات الرأسمالية، وهذه لا يمكن معالجتها إلا بتدخّل حيويّ من الدولة. فالثورة الكينزية أعادت السياسيّ والأهداف الاجتماعيّة إلى الصفّ الأوّل مقارنة بما هو اقتصاديّ. وفيما دعا كينز في ختام كتابه إلى” القتل الرحيم للنظام الريعيّ” euthanasie du rentierوإلى توسيع الاستثمار في المجتمع، فإنّ نسخة من “الكينزية”، أكثر اعتدالا، ستفرض نفسها في أغلب الاقتصاديات في الأعوام الثلاثين التي ستتلو الحرب. وسيقبل أغلب الاقتصاديين، شأنهم في لك شأن أصحاب القرار والرأي العامّ، بأنّ الحقّ في الشغل، والحقّ في دخل لائق، والحقّ في التغطية الاجتماعية، هي حقوق لا بدّ من أن تضمنها السلطات العمومية، وأنّ سياسات حيوية من تدخّلات الدولة في الاقتصاد يمكن أن تسمح بتحقيق هذه الأهداف. لكنّ هذا لم يتضمّن بالضرورة تغييرات بنيوية هامّة في الاقتصاديات.

{{على حدود الليبرالية}}

على غرار كلمة”ليبرالية” فإنّ عبارة”نيو- ليبرالية ” لا تخلو من غموض. وخلافا لما قد يتصوّر البعض، فإنّ هذه العبارة قديمة الاستعمال. نجدها بقلم “لامارتين” في 1841مرادفا لليبرالية. وبعدئذ، استعملت أحيانا كمرادف لليبرالية الجديدة، كما نجد عند “ولتر ليبمان” مثلا، ولكنها تستعمل اليوم لتوصيف العودة إلى شكل مجذّر من الليبرالية الاقتصادية هو نقيض الكينزية أو التدخّلية؛ وهذا الشكل من الليبرالية هو تيّار أيديولوجي وسياسيّ يستند إلى خليط من التيارات النظرية من أبرزها النقدانية Monétarisme، والمدرسة النمساوية، واقتصاد العرض، والاقتصاد الكلاسيكي الجديد، والفوضوية الرأسمالية. لقد أخذ “فريدريش فون حايك” على عاتقه، انطلاقا من كونه خصما وناقدا عنيدا لـ”كينز”، أن يقدّم لليبرالية أسسا جديدة؛ أيديولوجية، وسياسية واقتصادية(4). فقام بتحديث العبارة الرمزية لـ”سميث” عن اليد الخفيّة برؤيته للمجتمع وللسوق باعتبارهما “نظامين عفويين” ناتجين عن عمل إنسانيّ خال من التخطيط المسبق. وابتداء من 1944في كتابه” طريق العبودية” أكّد أنّ أيّ شكل من أشكال تدخّل الدولة في الاقتصاد، خاصّة إذا سعى إلى تحقيق خرافة العدالة الاجتماعية، لا يمكن أن يؤدّي إلا إلى نتائج مغايرة تماما لتلك المتوقّعة، وبالتالي تعبيد الطريق أمام الحكم الشموليّ. ويرى أنّ أزمة السبعينات والثمانينات لم تكن سوى ثمرة السياسات الكينزية في تدخّلية الدولة، وأنّ البطالة هي العلاج الضروريّ لاستعادة التوازنات التي أضرّت بها تلكم السياسات. أمّا “ملتون فريدمان”Milton Friedman، فهو الناطق الرسميّ الأوسع شهرة والأشدّ نجاعة للنيوليبرالية، وهو المنظّر الأساسيّ لتيّار “النقدانية”، ويضع مقاومة التضخّم المالي أولويته المطلقة قبل مقاومة البطالة. وفي ثوب نبيّ السوق (دعه يعمل..) في مختلف مجالات النشاط الاقتصادي، يطرح ميلتون فريدمان بديلا عن تدخّلية الدولة الكينزية يتمثّل في فكّ ارتباط الدولة نهائيّا بالاقتصاد، والخصخصة ورفع القيود، وإضعاف النفوذ النقابيّ، وكلّ القيود التي تؤثّر على سوق الشغل مثل التأمين ضدّ البطالة، والأجر الأدنى المضمون. فهذه القيود هي المسؤولة عن المستوى المرتفع لما يسمّيه فريدمان” النسبة الطبيعية للبطالة”. وقد خلف نقدانية فريدمان في الثمانينات، “الاقتصاد الكلاسيكيّ الجديد”، في إشارة ضمنيّة إلى الاقتصاد الكلاسيكيّ الذي هاجمه كينز. فبدفع فكرة عقلانية “الإنسان الاقتصادي” homo oeconomicus إلى أقصاها، تضع هذه المدرسة افتراضا مفاده أنّ الأسواق جميعها في توازن دائم، وأنّ الأفراد يستعملون بعقلانية كلّ المعلومات المتاحة لهم. وهكذا يمكن لهم أن يتوقّعوا، بالأخصّ، تأثيرات كلّ السياسات الاقتصادية، والتي هي بالتأكيد سياسات فاشلة. فبالنسبة للاقتصاد الكلاسيكيّ الجديد، فإنّ كلّ بطالة هي إراديّة وناتجة عن اختيار من العمّال. وعلى الحدّ الأقصى من النيولبرالية نجد تيّارات مثل اقتصاد العرض، والفوضية الرأسمالية. فالتيّار الأوّل يستلهم من “الاقتصاد الريغاني” reaganomique[نسبة إلى الرئيس الأمريكي ريغان- المترجم]، فيدعو إلى تقليص ضرائب الأفراد الأكثر ثراء، وإلى حذف كلّ برامج الحماية الاجتماعية التي تصلح لحماية الكسالى والمنحرفين. أمّا التيّار الثاني أي الفوضوية الرأسمالية، المسمّى أيضا “التحرّراتي” libertarien، فإنّه يقترح الحذف النهائيّ والتامّ للدولة، وخصخصة الوظائف التي محّضها لها “آدم سميث” أي الجيش والشرطة والقضاء. تتقاسم هذه التيارات الفكرية عددا من القناعات التي تشكّل دعامة أيديولوجية لسياسات رفع القيود وتفكيك دولة الرفاه، وهي سياسات مطبّقة منذ الثمانينات في بعض الدول، مصحوبة بإزالة القيود المالية في المستوى العالميّ. والنيولبرالية يمكن أن تتماشى مع نظام شموليّ، لكنّ فريدمان وفون حايك ادّعيا، استنادا إلى المثال الشيليّ، أنه في مثل هذه الحالات الاستثنائية، يمكن أن تكون الدكتاتورية أمرا ضروريا لإقامة الحرية الاقتصادية. كما يمكن للنيولبرالية، في المستوى القيم الأخلاقية، أن تتماشى مع نهضة النزعة المحافظة والأصولية الدينية، مثلما لاحظناه في الولايات المتحدة الأمريكية. لقد أدّت السياسات النيولبرالية إلى طريق مسدود، وولّدت انعطافا أيديولوجيا جديدا. وحقنُ الاقتصاديات بكميات مهولة من السيولة النقدية وإنقاذ المؤسسات المالية المهدّدة، لم يحُولا دون أزمة مالية ذات حجم لا يقلّ عن حجم أزمة 1929. مما جعل عديد السياسيين المعروفين بكونهم من أنصار النيوليبرالية يتحولون فجأة إلى أنصار “إعادة تأسيس الرأسمالية”، وإخضاع التمويلات إلى المؤسسات، وتقنين المضاربات، بل حتى تأميم الشركات. ليس هذا عودة حرفية إلى أفكار “كينز”، وإنما إلى نوع من التدخّلية ذي بال. إنّ التنبّؤ بالمستقبل بكلّ يقينية أمر مستحيل، وهذه إحدى رسائل كينز، لكنّ كلّ شيء يؤكّد أنّ هيمنة الأيديولوجية النيوليبرالية قد أفلَتْ.

{{الهوامش:}} انظر للتوسّع في الموضوع؛ G.Dostaler ; Néolibéralisme, Keynésianisme et traditions libérales. La Pensée, N 323,2000 لكنّ حايك، وآخرين، يرفض أن يماهي الليبرالية، وهي عنده القيمة الأسمى، بالديمقراطية التي تسعى على أن تتحول إلى دكتاتورية الأغلبية والطبقات المتوسطة. ويستند في ذلك إلى أطروحات “توكفيل”. للتعمّق حول كينز، انظر: G.Dostaler , Keynes et ses combats, albin Michel 2009 انظر G.Dostaler , Le liberalisme de Hayek, la découverte, coll »Reperes »2001 العنوان الأصليّ للمقال: Du libéralisme au néolibéralisme الكاتب: جيل دولستار Gilles Dostaler أستاذ الاقتصاد بجامعة الكيباك، من مؤلفاته: الفكر السياسي منذ كينز، ليبرالية حايك، الرأسمالية ورعشة الموت

المصدر: مجلة ” الملفات الكبرى للعلوم الإنسانية” العدد 14، مارس/ماي2009، وهو عدد خاص بعنوان” الأيديولوجيات: عودة الشعلة. Les grands dossiers des Sciences Humaines, N14,Mars-avril-mai2009 Idéologies ; le retour de flamme,

Gilles Dostaler

الآوان

=====================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى