صفحات الحوار

خضر عبد الكريم: طموحي بالتغيير والثورة أوصلني إلى السجن في جمهورية الرعب الأسدية

غسان ناصر

يستضيف مركز حرمون للدراسات المعاصرة، هذا الأسبوع، المعتقل السياسي السابق، الفنان التشكيلي السوري الكردي خضر عبد الكريم، المقيم حاليًا في مدينة بوتسدام القريبة من العاصمة الألمانية برلين.

ضيفنا، المؤمن بمقولة: “لا تنحنِ أمامَ الظلم؛ فتفقدَ حقك أولًا، ثم تفقد شرفك ثانيًا”، صمد سبع سنوات في شبابه، في سجون الأسد الأب الشهيرة بوحشيتها وإجرامها، ومن بينها سجن صيدنايا سيئ السمعة، وهو لا يزال يواصل صموده في الزمن السوري الدامي مسلحًا بإيمانه بسورية الغد المشرق، وبفنّه الذي يروي من خلاله للعالم أجمع عذابات السوريين وآلامهم، وهم يغذُّون السَّيرَ بأقدامهم (التي رسمها) متوغّلين بدروب الحرية والخلاص من الطغاة والقتلة.

هنا نص حوارنا معه..

نسألك بداية، من هو خضر عبد الكريم، وما الذي هداه إلى الرسم؟

اسمي التفصيلي، لضرورة الدلالة، خضر سليمان عبد الكريم خضر أغا الملّي، ولدت سنة 1967 في قرية “شيخ فاطمة” الواقعة بين مدينتي عامودا والحسكة، في ريف الجزيرة السورية، من أبٍ كردي، من عائلة خضر أغا الملي (أغوات أكبر قبيلة كردية) المنتشرة على امتداد جغرافية كردستان التاريخية. ومن أم عربية، هي ابنة الشيخ علي الزوبع، شيخ قبيلة الجبور العربية الكبيرة، والمنتشرة على امتداد جغرافية كل من سورية والعراق. وكان لهذا الانتماء، الريفي القبلي المزدوج، جوانب إيجابية. لكن الجانب السلبي كان هو الطاغي، والأكثر تأثيرًا في هذا الانتماء على حياتي ونشأتي وتطلعاتي. من أهم الإيجابيات، أنني كنت في صغري أتكلم اللغتين الكردية والعربية، عكس أبناء جيلي، من العرب والأكراد، الذين كانوا لا يتكلمون سوى لغتهم الأم فقط. أما السلبيات في هذا الانتماء، فبدأت تظهر بعد انتقالي من الريف إلى المدينة لإكمال دراستي في المرحلتين الإعدادية والثانوية، إذ تسبب لي انتمائي بقهر ووجع وعزلة كبيرة في المدرسة وفي الشارع وفي التجمعات الشبابية حينها، خاصة مع تزامن صعود حزب البعث، الذي كان من أهم الشعارات التي رفعها معاداة الإقطاع والرجعية، وكان المقصود بذلك الأغوات وشيوخ القبائل. طبعًا، كان الهدف الأول من هذه السياسة هو الاستيلاء على أراضي وممتلكات الأغوات والشيوخ تحت مسمّيات مختلفة، منها الإصلاح الزراعي والتأميم، وكوني أنتمي إلى الطرفين (أي الأغوات والشيوخ) فقد كان الموقف مني واضحًا دون أن يعبّر عنه أحد بالقول الصريح. كان يكفي ألّا يتعاملوا معي، وكان هذا واضحًا بالنسبة لي، لكنني حينها لم أكن أعلم السبب.

من جانب آخر، رافق الصعود البعثي الحامل لشعارات قومية عربية، تتلخص مجملها بشعار (أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة) استقطاب المؤيدين، وهذا رافقه أيضًا مدّ الفكر القومي الكردي، وانتشار الشيوعية والفكر الماركسي في الساحة السياسية السورية، بين العرب والكرد معًا. أما بالنسبة للأحزاب الكردية فقد كانت المنافسة في أوجها في الموضوعات الفكرية، وكان من أهمها الالتزام بالماركسية، أو تبني الفكر الماركسي والاهتداء به.

وعلى هذا الأساس، كان المتهم لا بل الخائن، من قِبل قسم كبير من الأحزاب الكردية آنذاك، هم الأغوات والشيوخ، وكأنهم هم من أبرموا اتفاقية “سايكس – بيكو”، وقاموا بتقسيم كردستان، وباعوا القضية الكردية! وأتذكر حينها صدور شريط كاسيت مسجل للمطرب الكردي المعروف “شفان برور”، يحتوي على أغنية ترجمتها الحرفية تقول ما يلي: “اضربوهم، اضربوهم يا إخوتي، اضربوهم، الخونة الأكبر الأغوات والشيوخ”. لهذه الأسباب وغيرها عشت في بداية حياتي، وتحديدًا في المرحلة الإعدادية، حالة من العزلة، وفي الوقت نفسه كنت أبحث في مكتبات المدينة عن كتب تعرّفني بالماركسية، كذلك كنت أبحث عن طريقة ما أتعلم فيها الرسم بشكلٍ أكاديمي، إلى أن شاهدت يافطة كتب عليها “مركز الفنون التشكيلية”، وكان قد أُسس حديثًا في مدينة الحسكة، فكنت ثاني طالب رسم يسجل في المركز. كان ذلك بداية طريقي في عوالم الرسم والفن، والخوض فيه، والتخلص من عزلتي التي كنت أعيشها، وأصبحت أقضي غالبية أوقاتي بين الرسم والقراءة دون أن أشعر بالوحدة، حتى حين صرت في المعتقل.

بيئتي.. المعلم الأول والأب الروحي

مَن مِن فنّاني بلدك والعالم أثّروا فيك وتراهم بمنزلة آباء ومعلّمين؟

البيئة التي كنت أعيش فيها كانت بمنزلة المعلم الأول والأب الروحي بالنسبة لي. في الفن كنت أعشق كل شيء من حولي، المساحات الشاسعة والبراري والبيادر والبيوت الطينية وأكداس القش والطرق الترابية، وزوابع الصيف وحركة الغيوم التي كان يتكون منها أشخاص في الليالي المقمرة، والجدران الكلسية المقشرة التي كانت توحي لي بأشكال حيوانات خرافية وشخوص تشبه شخصيات أسطورية. ولم تتسنّ لي الفرصة أن أعيش فترة بدايات تكويني الفني والإنساني بالاحتكاك المباشر مع الفنانين المحليين، أو حتى رؤية صور لأعمال فنانين عالميين، وكلّ ما استطعت مشاهدته من أعمال الفنانين كان عبر بعض الجرائد بالأبيض والأسود بتصوير رديء، أو في بعض أعداد مجلة “الحياة التشكيلية” التي تصدرها وزارة الثقافة في دمشق. وبسبب اعتقالي، وأنا في بداية مسيرتي الفنية (كنت حينها في التاسعة عشرة من عمري)، لم يكن لي، سواء من أبناء بلدي أو من العالم، فنانٌ يكون بمنزلة الأب الروحي لي أو المعلّم.

كثيرًا ما يتحدث المُبدعون عن التأثير الطاغي لفترات الاعتقال والسجن على حياتهم بشكلٍ كامل، إلى أيّ مدى أثّرت تجربة السجن لمدة سبع سنوات في سجون النظام الأسدي على توجّهاتك وأفكارك ورؤيتك لحياتك المُقبِلة؟

بالطبع، الاعتقال والسجن لهما تأثير كبير جدًا على حياة الإنسان، سواء كان مبدعًا أو إنسانًا عاديًا، وربما يستطيع المبدع أن يعبّر عن فكرة ومضمون الاعتقال والسجن، أكثر من الإنسان العادي، ولكن الإحساس بالغبن، وحجز الحرية، والعذابات، يتساوى فيها الإنسان العادي والمبدع، خاصة إذا كان هذا الاعتقال، بسبب أهداف سامية، أي من أجل الدفاع عن الحقوق والحريات، والكرامة الإنسانية. أما بالنسبة لي، فبينما كنتُ أتجهز كي أبدأ مرحلة جديدة في حياتي، والخوض في تجربةٍ لها علاقة بالفن والإبداع، تم اعتقالي، ولذلك أستطيع القول إنني خرجت من السجن كجسد، ولكن روحي ما زالت تعيش داخل السجن، وتعاني آلامها، وما زالت مخيلتي تستذكر تلك المرحلة بكل تفاصيلها، لذلك نشاهد الغالبية العظمى من أعمالي مستوحاة من مرحلة سنوات السجن، خاصة الجانب المؤذي والمؤلم منها.

من أعماله

عندما اشتغلت على مشروع “الأقدام”، كان الهدف منه أن أتحدّث من خلاله، عن قصص وحكايات عشرات الآلاف من السوريين، الذين عاشوا في غياهب المعتقلات والسجون في جمهورية الرعب والإرهاب الأسدية. السجين الطامح دومًا إلى الحرية يخطط لنفسه كيف سيعيش بعد خروجه من السجن، وأنا كنت أخطط وأفكر مثل أيّ سجين، لكن ما ميّز سجني، بالمعنى الإيجابي، هو أنني كنت مسجونًا، مع نخبة مهمة من السياسيين والمثقفين والشعراء والكتّاب السوريين، لذلك كنت أكرّس وقتي للاستفادة من تجاربهم وثقافتهم وأفكارهم، فكان لهم أثرٌ مهمٌ وكبير في تجربتي. وكان للسجن تأثير كبير على أفكاري، وتوجهاتي وحياتي، خاصة الإحساس الكبير بالظلم، دفعني إلى العمل مع المنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان منذ عام 2002 حتى الآن، وذلك لفضح وتوثيق انتهاكات النظام المجرم، بحق الشعب السوري. وكذلك كان للسجن تأثير مهم على غالبية مشاريعي الفنية السابقة واللاحقة، لكونها تعتمد في جزءٍ كبيرٍ منها على مرحلة السجن، وتهدف بشكلٍ موجز إلى تحقيق الحرية للإنسان وصون كرامته والحفاظ على حقوقه.

هل تشتاق فعلًا إلى جلسات السجن -كما عبّرت عن ذلك قبل أيام على جدار صفحتك في “فيسبوك”، إلى ماذا تشتاق تحديدًا؟

بالمعنى المجازي، نعم أشتاق لجلسات السجن. لكن في الواقع لا أحد يشتاق إلى العذابات والخوف والألم والشقاء، وأن تُحتجز حريته ويُحرم من رؤية أهله وأحبته. كان مقصد تعبيري وفكرتها الحقيقية، في ما يخص ما كتبته على جدار صفحتي في “فيسبوك”، هو أنني أشتاق إلى جلسات أولئك الرفاق والأصدقاء الذين تقاسمنا معًا كسرات الخبز اليابس في ذاك الزمن الصعب، وليس إلى السجن. نعم اشتقت إلى نقاشاتنا واختلافاتنا واتفاقنا، في كل الأمور، بالرغم من الاختلاف في العادات والبيئات والمنابت، وبالرغم من قسوة الظروف، كنا نتعايش ونتشارك في الآمال والأحلام والطموح، هذا كان جوهر فكرتي ومقصدي في الشوق، ولخصتها بشكلٍ مكثف، في المنشور (البوست) ففُهم، وكأنني اشتقت إلى السجن، ولكن مع الأسف، خاصة بعد الثورة أو الحرب السورية، هناك بعض الأصدقاء والرفاق، منهم من غادر الحياة (ربما في رحيلهم حكمة إلهية حتى يجنبهم الله رؤية المحرقة السورية) ومنهم من انقطعت بهم السبل في ظل الحرب المدمّرة، ومنهم من طاف في أصقاع الأرض بحثًا عن ملاذٍ آمنٍ للعيش، وأنا واحدٌ من هؤلاء.

ما مدى أثر السجون، الثورة، الحرب، اللجوء، المنفى، الغربة.. كل هذه المعاني والمعاناة على نتاجك الفني، وما انعكاسات كلّ تلك القسوة على مشروعك البصري الجمالي برمّته؟

يتأثر الفنّان بأيّ حدثٍ كان يجري من حوله، سواء أكان ذلك الحدث صغيرًا أو كبيرًا، وبطبيعة الحال، تتجلى تلك التأثيرات في نتاجه الفني، بقصد أو بغير قصد، فما بالك إذا كانت تلك الأحداث، أحداثًا كبيرة كالتي ذكرتها: السجن، الثورة، الحرب، اللجوء، المنفى، إلخ!!  بالنسبة لي، كان للسجن التأثير الأكبر في موضوعات عملي الفني، ومن ثم في مشروعي البصري الأول، وكنت أتقصد ذلك، ولكن دون الإعلان عنه، إنما كنت أترك مفاتيح من خلال بعض المفردات الخاصة لخلق تساؤلات لدى المتلقّي تحثه على البحث، بحيث يكتشف بمفرده عوالم اللوحة، والألم الذي في داخلها، وليكتشف أنّ ذاك الألم جزء حقيقي من حياتي، وحياة كثير من السوريين، ثم يكتشف أنّ تلك العذابات والآلام ما زالت تنحت في روحي وجسدي، لذلك تتجلى بأشكال وأساليب مختلفة على سطح اللوحة. السجن الذي بقيتُ فيه سبع سنوات من عمري، ما زال يرافقني، وكثيرًا ما أرى منامات أظهر فيها أنني ما زلت داخل السجن، لذا ستجد على الدوام السجن وتعبيراته موجودًا في عوالم لوحتي، ربما للوهلة الأولى لن يكتشفها المتلقّي، لكوني أجسدها بأسلوب خاص حتى لا تفقد اللوحة قيمتها الفنية.

من أعماله

إنّ أحلامي وطموحي بالتغيير والثورة أوصلاني إلى السجن، وفي الوقت نفسه، ثبّت السجن لديّ القناعة والإصرار والعزيمة بوجوب قيام الثورة على الظلم والاستبداد والطغيان. هنا أدّعي أنّ الثورة التي طالما حلمت بها، ولدت معي منذ ولادتي، ورافقتني منذ أن وعيت على الحياة، ولكنني كنت أنظر إليها برومانسية، لكونها ستقودنا إلى التغيير والمضي نحو مستقبل أفضل وأجمل، إلى أن انطلقت ثورة الحرية والكرمة سنة 2011، التي شاركت فيها بكل المعاني، فنيًا وميدانيًا وإعلاميًا.. إلخ، إلى أن تسلقها اللصوص وقطاع الطرق وشذاذ الآفاق، وخطفوها من أهلها أصحاب الحق، وتحوّلت الثورة إلى حرب شعواء ضد أبناء الثورة أنفسهم، وتكالبت عليها أنظمة الشر وقوى الظلام من كل حدب وصوب، بالتعاون والتنسيق مع نظام الإجرام الأسدي ومخابراته، وتلاها تكالب الدول الإقليمية والعربية بالتدخل المباشر، حتى أصبح أبناء الثورة الحقيقيين هم الهدف من قبل الجميع، فمنهم من مات تحت التعذيب، ومنهم من لا يزال في غياهب السجون وأقبية المعتقلات، ومنهم من تم تصفيته حتى وهو في الشتات، ومن استطاع أن ينجو بنفسه فقد كتب له عمرًا جديدًا، لذلك لم يكن لديّ خيار سوى الهروب واللجوء إلى مكان آمن، حيث أعيش الآن في ألمانيا مع أسرتي، فكان المنفى والغربة المستقر الأخير. وكل ذلك أخذ حيزًا كبيرًا في أعمالي، وكامل مشروعي البصري، لدرجة أنك حينما تنظر إلى تسلسل الأحداث وتطوّرها في مشروعي البصري، وهو تسلسل حقيقي وليس من خيالي، تجد وكأنك أمام خارطة عذابات مرسومة للشعب السوري عن قصد وسبق إصرار وترصد.

يقول بابلو بيكاسو: “الرسم طريقة أخرى لكتابة المذكرات“. فهل توافقه هذا الرأي؟ وهل تفكر في كتابة مذكراتك، بخاصة سنوات السجن في (سوريا الأسد)؟

ما قاله بيكاسو صحيح إلى حد كبير، وربما لذلك لم أفكر في كتابة مذكراتي، وهنا عليّ أن أعترف بأنني لا أمتلك أدواتي في الكتابة كما يجب، أو كما أمتلكها في الرسم، خاصة بعد هذا الحوار، حيث اكتشفت أنه ليس لديّ القدرة على الكتابة وأنا أتحدث عن نفسي، مثل قدرتي على الكتابة عند التحدث عن الآخرين أو أيّ حدث من حولي. وربما أتقاطع هنا مع مقولة بيكاسو، كونه ينتابني إحساس دائم بأنّ لوحاتي هي من أدون فيها مذكراتي تاركًا للمتلقّي أن يكتشف سيرتي في مخيلته بالطريقة التي يريدها، وإذا ما فكرت يومًا أن أكتب مذكراتي، فإني أعتقد أني سأعتمد حينها على أصدقاء يحترفون مهنة الكتابة ويمتلكون أدواتها. لكن بالضرورة أن ندون ما نتذكره من أحداث جسيمة مررْنا بها ومر بها شعبنا من ويلات، كي لا تُنسى وتذهب تلك الأحداث أدراج الرياح، هكذا تدوين مهم ليس لأجلنا فقط بل لأجل الأجيال القادمة حتى يتعرفوا عليها لعلهم حينها يتجنبون تكرارها، ولا يمرون بما مررنا نحن به من عثرات وأخطاء.

عن الوطن بين الفن والسياسة

لماذا الكتابة عن سجون الأسدَين (الأب والابن) مهمة وضرورية في هذه المرحلة من تاريخ سورية المعاصر؟

من أعتى وأكبر المصائب، التي مرت على سورية وشعبها في التاريخ المعاصر، حكم آل الأسد وعصابتهم، الذين عاثوا في الأرض فسادًا، فما فعله الأسد الأب وشقيقه رفعت في سورية، خلال وجودهم في هرم السلطة، من استعباد وقتل وتدمير ومجازر واعتقالات وإعدامات جماعية في السجون، وويلات بحق السوريين، لم يكن يعرف عنها العالم المتحضر سوى القشور، ربما باستثناء حكوماتهم، وحتى غالبية أبناء الشعب السوري لم يكونوا يعلمون ما كان يحدث، إلّا عندما كانت المافيا المخابراتية تريد إخبار السوريين، وذلك فقط لإرهابهم وتخويفهم، لكون سورية كانت أشبه بسجن كبير، لا بل مزرعة لآل الأسد ومافياتهم، خاصة أنهم كانوا قد صنفوا السوريين إلى فئات، وكل فئة لها تهمتها الجاهزة عند اللزوم، ولهذا السبب، كثيرون من الجيل الجديد من السوريين لم يكونوا يعرفون عن تلك المرحلة، وماذا جرى في تلك الحقبة السوداء. والآن في مرحلة المجرم الابن، عندما ثار الشعب السوري ليطالب بحقوقه وحريته وكرامته، تظافرت جهود رجالات مافيا الأب، وشبيحة ومرتزقة مافيا الابن، للحفاظ على حكم العصابة الحاكمة، ومارسوا جميع أشكال القتل والترهيب في الشوارع والبيوت والمعتقلات، لكن هذه المرة كان الوضع مختلفًا، بالأخص في ظل وجود “السوشل ميديا” وشبكات التواصل الاجتماعي، التي من خلالها تم فضح كل أشكال القتل والممارسات الإرهابية الأسدية، حيث كان يتم نقلها وفضحها، أولًا بأول، ومع ذلك كانت هناك نقاط مظلمة، لم يستطع الناشطون الوصول إليها، مثل السجون والمعتقلات، وما الذي كان يجري في داخلها، لولا شهادات بعض الذين نجوا من الموت وأصبحوا خارج سورية، وأيضًا صور قيصر (سيزر) الذي فضح جرائمهم، وفضح حجم الكارثة والجريمة المنظمة التي تقوم بها أجهزة المافيا المخابراتية التابعة للأسد الابن، وأصبح واضحًا للجميع الجرائم المرتكبة من قبلهم، وحجم الكارثة. والكتابة عن هذه الأهوال ضرورة حتى تصبح هذه الكتابات والشهادات كوثائق وإدانات، نطمح من خلالها تقديم جميع هؤلاء المجرمين، ومن ساعدهم في هذه الجرائم، إلى محاكمات دولية وملاحقة مرتكبيها، هذا من جانب. ومن جانب آخر، حتى إذا رحل الأسد وطغمته، لا يخطر ببال من يأتي إلى الحكم في سورية أن يمارس ما مارسه آل الأسد، لأنّ المحاسبة والعقاب سوف يكون بانتظارهم، وأيضًا لتكون صورة تاريخ الإجرام الأسدي ومعتقلاتهم في سورية واضحةً للأجيال القادمة، وليس كالتاريخ الذي قاموا بتزويره.

هل ما يجري في سورية من قتل واعتقالات وتشريد ودمار.. كان دافعًا قويًا لرسم لوحةٍ توثق الحدث، أم أنك من الذين يفضلون التريث لتقديم منجز بصري يؤرّخ لما حدث في بلادك من خراب عميم؟

لقد تريّثنا وتريث السوريون بما يكفي، لأنّ الدم الذي نتحدث عنه مسفوح، منذ أن استلم البعث زمام الحكم في سورية، خاصة بعد تسلّم الأسد الأب السلطة في سورية، حينها قام بتصفية جميع من عارضه وبتصفية عدد من الرجال ممن كان معه، لينفرد بالحكم والسلطة لنفسه ولعائلته وأفراد عصابته، الذين وقفوا إلى جانبه. ومنذ ذلك الوقت والدم السوري لم يجف، فلا أجد الجدوى من التريث لطالما هذا الدم يسيل منذ عقود، لكني لم أقم برسم أحداث متتالية في لحظتها، لأنني أرى أنّ هذا ليس من اختصاص الفنان، وتجسيد أحداث متتالية ومباشرة على اللوحة سيفقد العمل الفني قيمته، ويصبح ذاك العمل الفني آنيًا ولحظيًا، وبالتالي يكون المشروع الفني تسجيلي مؤقت، بينما ما أطمح إليه هو أن أقدم مشروع فني بصري متكامل أبحث من خلاله في قضايا إنسانية سامية، في مقدمتها قضية الإنسان السوري الذي سلبت منه إرادته منذ بداية الحكم الأسدي، وحينما قرّر وطالب بحقة نال الويلات من قبل سلطة الأسد والبعث وشبيحتهم، وأطمح أن يكون هذا المشروع ذا قيمة فنية وبصرية مهمة لا أن تكون مؤقتة ولحظية.

يتحدّث الكاتب البريطاني من أصول هندية، سلمان رشدي، عن “أوطان متخيّلة”، حين يصف العلاقة الجديدة التي يحاول أن يؤسّسها المبدع المنفي بالبلد الذي جاء منه. كيف يبدو وطنك المتخيّل؟ وكيف تتمنى أن تكون سورية الجديدة؟

الوطن ليس كمشة تراب أو كومة من الحجر كي نستعيض عنه بوطنٍ بديلٍ ومتخيّل. الوطن مفهوم واسع لا يمكن تلخيصه في التخيّل أو حصره في كلمات وجمل إنشائية، وحسب رأيي الوطن ذاكرة الإنسان وحياته وروحه وتاريخه، ومفهوم الوطن لا ينحصر في الجانب المعنوي والعاطفي والروحي أو التخيّلي، إنما يشمل الجوانب المادية أيضًا. لذلك اختلف مع رشدي في رؤيته، لكن يمكن للإنسان المبدع أن يتخيّل لنفسه موطنًا مؤقتًا، وليس وطنًا جديدًا، خاصة أنه ترك وطنه الأصلي مرغمًا، ويعيش في هذا الوطن إلى حين تزول الأسباب التي جعله يترك وطنه، حينها يعود إلى وطنه الحقيقي ليعيش فيه في الواقع، بدلًا أن يقضي حياته وهو يعيش في التخيّل.

أما كيف أتمنى أن تكون سورية الجديدة، فأمنيتي بهذا الخصوص بسيطة جدًا، ربما لا تتعدى أمنيات غالبية السوريين، بأن تكون سورية وطنًا للجميع، في ظلّ دولة القانون، وأن نعيش جميعًا بحرية وكرامة، نتساوى بالحقوق والواجبات ونعيش بطمأنينة وأمان، دون أن يتحكم في مصيرنا وحياتنا الأجهزة الأمنية المخابراتية، أو أيّ سلطة قمعية استبدادية كانت.

خضر عبد الكريم مع رئيس بلدية مدينة بوتسدام

قلتَ في حوار سابق: “حكايتي فنٌ معجون بالسياسة وعذاباتي“. فإلى أيّ مدى ترتبط هواجسك الفنية بحالتك النفسية؟

مشكلة الأكراد عمومًا، وأنا منهم، أننا ننغمس في السياسة رغمًا عنا، وأنا كفرد من هذا الشعب لم نتقصد ولم نختر أن نعمل في الحقل السياسي، وإنما السياسية مفروضة علينا، نتيجة ممارسات الأنظمة التي تقاسمت خارطة جغرافية كردستان بموجب اتفاقية “سايكس – بيكو”، وهذه الأنظمة، بسبب معرفتها هذه الحقيقة، حاولت وما زالت تحاول ممارسة جميع أشكال التمييز والعنصرية بحق هذا الشعب حتى تبعده عن المطالبة بحقه الذي استلب منه، فالكردي متّهم وخائنٌ وانفصاليّ، بالنسبة إلى جميع هذه الأنظمة التي تتقاسم جغرافية كردستان. والسياسة لم تكن مساري ولا اختياري ولا حلمي الذي تمنيته، وإنما غصت فيه بداية رغمًا عني، بسبب اعتقالي وموقفي من النظام آنذاك، وحينما عرفت وتعرفت ورأيت بأم عيني خفايا وجرائم النظام، لم يبقَ هناك جدوى للابتعاد عن السياسة، لأنّ الابتعاد بقناعتي يعني الجبن والخيانة بحق نفسك وشعبك.

«أقدام تجوب العالم».. حكايات الألم السوري

وجدت أعمالُك طريقَها سريعًا لدى الجمهور في ألمانيا، بعد إقامتك أول معرض يضمّ لوحاتك التي رسمتها بعد لجوئك إلى ألمانيا قبل ست سنوات. حدثنا عن شعورك وأنت تعود إلى عوالمك بين متلقّي فنّك بعيدًا عن سماء الحرب في بلدك الأمّ؟

أن تمشي وحيدًا في الصحراء، وفي ليلة حالكة الظلام دون بوصلة تدلّك على الاتجاهات، فهذا يعني أنك ضائع لا محالة، مهما كنت ذكيًا وعارفًا بتضاريس تلك الصحراء، وهكذا كانت بداية قدومي إلى ألمانيا، كيف لي أن أطرح نفسي كفنان تشكيلي، وأنا لا أمتلك لغتهم، ولا أعرف أحدًا في هذا البلد، فضلًا عن أن في ألمانيا أكثر من مئتي ألف فنان يعملون في جميع أشكال الفنون، بالأخص الفنون البصرية، وكنت أحتاج إلى دليل يقودني ويعرفني بهذه التفاصيل، ويدلني ليضعني في أول الطريق، ولولا مساعدة الآخرين لي لما استطعت أن أقدم أعمالي للجمهور الألماني، بخاصة إذا عرفنا أنّ هذا الجمهور يولي اهتمامًا كبيرًا للفنون عمومًا، والفنون البصرية على وجه الخصوص، ويمكنهم المعرفة والتفريق بين الأعمال الجادة والمتقنة، والأعمال السطحية البسيطة. جاء المعرض الأول بعد تعرفي على السيدة ميساء سلامة، وهي سورية تقيم في ألمانيا منذ أكثر من عقدين من الزمن، وتعمل كمنسقة للمعارض، فساعدتني في إقامة هذا المعرض في العاصمة الألمانية برلين.

من أعماله

قبل الحرب السورية، كنت أطمح دائمًا أن أجوب بأعمالي دول العالم، حتى يتعرف الناس في أصقاع الأرض على مأساة السوريين من خلال أعمالي، خاصة مشروعي الفني «الأقدام». وكوني كنت ممنوعًا من السفر كان من الصعوبة بمكان أن أحقق هذا الطموح، لذلك عندما أقمت أول معرض عن «الأقدام»، كان في غاليري “فري هاند” في دمشق سنة 2009، اسميته «أقدام تجوب العالم».

أما المرّة الوحيدة التي عرضت فيها أعمالي خارج سورية قبل عام 2011، فكانت عن طريق أصدقاء، وكان ذلك في عام 2010، حيث استطعت أن أرسل 30 لوحة من أعمالي إلى ماليزيا، وعرضت في قصر الثقافة في كوالالمبور، وبعد انتشار الخبر عن المعرض وصداه، كتب الشاعر المعروف سليمان العيسى (رحمه الله) قصيدة بعنوان «أقدام مجنونة»، وكان هذا العنوان هو عنوان معرضي «أقدام مجنونة»، ونشرها في مجلة “المعرفة” السورية، في العدد (588)، في أيلول/ سبتمبر 2012.

قصيدة “أقدام مجنونة”:

إلى الفنان خضر عبد الكريم

“وأقدامه المجنونة..

إبداعُك يا خضرُ اسفحهُ

عبر الأقدام المجنونة

من قال بأنّ روائِعنا

أبدًا في الأعلى مكنونة؟

إِخضب بالأقدامِ الصُّبحَا

اجعله ينزِفُ ألوانًا!

دنيانا لولاها سجنٌ

بِخُطانا عُرفت دنيانا”.

أما إذا تحدثت عن شعوري عن معرضي الأول الذي أقمته في ألمانيا، فيمكنني القول إنني أحسست بأنّ تلك الأقدام التي كنت أحاول أن أجوب بها العالم، كي تسرد حكايتنا نحن السوريين، وضعت أول موطئ قدم لنفسها في هذا العالم الرحب الكبير، لتسرد قصص وحكايات عذابات السوريين وعيشهم لعقود في سجن كبير يسمّى (سوريا الأسد).

هل ترى أنك وُفِّقت في إشراك المتلقّي داخل عوالم منجزك البصري؟ وهل تُفكر في جمهور معين وأنت ترسم؟

أعتقد أنني استطعت أن ألفت انتباه الجمهور المتلقّي إلى عوالم لوحتي التي أعمل عليها، وأن أخلق لديهم تساؤلات كثيرة، وأن أوصل إليهم رسالتي التي طالما عملت لأجلها، علمًا أنني عندما أعمل في منجزي البصري لا أفكر بأيّ جمهور كان، وإنما أتبع إحساسي ومشاعري وما يشغل فكري، وما تسعفني به ذاكرتي من الماضي، ولست مضطرًا إلى التفكير في جمهور محدد أثناء الرسم، لأنّ العمل الفني الإبداعي المتقن يجد لنفسه جمهوره. وطالما وجدت لوحتي طريقها إلى تشكيل جمهورها، هذا يعني أنني استطعت إشراك المتلقّي في عوالم منجزي البصري، خاصة حينما يشاهد الجمهور هذا المنجز الذي أقدمه ويحاول اكتشافه والاستدلال على مفاتيحه، وأعتقد بهذه الطريقة وبشكلٍ تراكمي يتشكّل جمهورًا لأيّ عمل بصري، لأنه مع الوقت اللوحة الفنية التشكيلية وطريقة عمل الفنان في منجزه الفني سوف يشكّل جهوره الخاص به، سواء من خلال فكرة اللوحة أو التكنيك أو الأسلوبية المرسوم بها.

برأيك، هل يجب أن يكون للفن دور سياسي؟ أم أنه وسيلة للاستمتاع بالحياة؟ وإلى أيّ مدى يستطيع الفن أن ينجو من كل هذا الدمار والموت؟

الفنّ أحد الركائز الأساسية لدعم الحق والعدالة والمعرفة. وإذا أصبح للفن دور سياسي، فسوف يتشوّه ولا يعود اسمه “فن” وإنما شيء آخر، لأنّ المهام المنوطة بالفن تختلف كليًا عن المهام المنوطة بالسياسة. لكن لا بدّ أن يكون للفن كلمته ورأيه في الأحداث السياسية، وأن يكون الفن لسان حال الفن. أما هل الفن وسيلة للاستمتاع بالحياة؟ فأقول إنّ هناك كثيرًا من النظريات حول هذا الموضوع، ومنها نظرية “الفن لأجل الفن”، وأنا شخصيًا لست مع هذه النظرية، ولكن أيضًا لست مع من يقول بأن يكون الفن في خدمة السياسة، أو أن يكون للفن دور سياسي. ومع الأسف، الفن لم ولن ينجو من هذا الدمار والقتل، وإذا ما نظرنا إلى أعمال الفنانين السوريين معارضين كانوا أو موالين، سوف نشاهد الكثير الكثير من آثار هذه الحرب والدمار والموت في لوحاتهم، لا بل هناك بعض الأعمال معجونة بكل هذا الخراب والدم والموت.

الثورة في مواجهة الاستبداد..

في خضمّ ما تعانيه سورية منذ خمسة عقود من الاستبداد والطغيان والفساد، برأيك ماذا تعني الثقافة والفنون الآن، خاصة بعد عقد من الزمن من عمر الثورة اليتيمة المختطفة، وماذا نريد كسوريين منهما فعلًا ونحن ننشد الخلاص؟

الثقافة والفنون لا تنحصر في مناصري الثورة والتغيير، فمثلما لأهل الثورة ثقافة وفنون، أيضًا لمناصري الاستبداد ثقافتهم وفنونهم، خاصة إذا علمنا أنّ الثقافة والفنون هما أنشطة اجتماعية تقوم بها مجموعات بشرية في مجتمع ما. أما بالنسبة إلى أبناء الثورة فهم يقومون بهذه الأنشطة الاجتماعية لإنتاج فكر ومعرفة مختلفة عن السائد، لأنّ علاقة النتاج الفني والثقافي لأبناء الثورة بثورتهم هي علاقة تبادلية، وبالضرورة ستقود إلى نتاجات معرفية وفكرية مختلفة عن نمط ونتاج ثقافة الاستبداد التي يتمسكون بها فقط لأجل الحفاظ على مصالحهم والبقاء فيما هم عليه. إنّ النتاج الثقافي والفني لأبناء الثورة يتجذر مع تجذر فكرة الثورة حتى تصبح ظواهر تاريخية يعتمدها الإنسان وينتجها، وهي أيضًا بدورها تنتج الجوانب الفكرية والمعرفية لدى الإنسان، أي إنّ العملية تبادلية، ويمكننا تصنيفها كحكم قيمة مثلها مثل العلم والمعرفة والجمال.

لا يمكن فصل المشهد الفني البصري السوري الحاضر لثورة الحرية والكرامة، عما مرّت به في السنوات العشر الماضية وعن حاضرها المأزوم؛ فكيف تصف حال المحترف التشكيلي السوري اليوم في ظل التمزّق بين من بقي في سورية ومن غادرها؟

أزمة المحترف التشكيلي السوري لم تبدأ في عام 2011، أي بسبب الثورة أو الحرب السورية، وإنما بدأت منذ الانقلاب البعثي على جميع القيم الأخلاقية والمجتمعية والإنسانية في عام 1963، والفنون عمومًا أصبحت مرتهنة بسلطة البعث ومنها الفن التشكيلي، بخاصة حينما أصبح تقييم العمل الفني التشكيلي مرتبطًا بمدى ولاء صاحب العمل لحزب البعث. لكن الأزمة الحقيقية في المحترف التشكيلي السوري بدأت بعد انقلاب الأسد الأب، واستلامه للسلطة وتشكّل النقابات البعثية السلطوية، ومنها نقابة الفنون التشكيلية، وتعيين عملاء الأجهزة الأمنية على رأس هذه النقابات، لترويض وإرهاب الفنانين، ولا أنكر أنّ عددًا من الفنانين أثبتوا جدارتهم وتميّزهم خارج إطار تلك الجعجعة البعثية المقيتة، وحتى ننصف الجميع أقول إنّ الفنانين الجادين والحقيقيين استمروا في معركتهم ضد الظلم والاستبداد، بغض النظر  أهناك ثورة في الواقع المعاش أم لا، لأنّ ثورة الفنان ومعركته تبدأ أولًا من على سطح لوحته، لكون اللوحة هي سلاحه الوحيد الذي يقاوم به، ولن تنتهي معركته بانتهاء لوحته، وإنما بانتهاء الظلم والطغيان، وقد استشعر كثير من الفنانين السوريين، منذ بداية الثورة، العنف المنهجي الذي طال جميع أفراد المجتمع السوري لأنهم طالبوا بحريتهم وكرامتهم، ولذلك الغالبية منهم اختاروا أن يقفوا بجانب الحق كلّ منهم بطريقته، فهناك من الفنانين من نأوا بأنفسهم بسبب خوفهم ورعبهم من بطش وهمجية النظام، ومنهم من اصطف إلى جانب النظام، وهذا الاصطفاف كان إما لسبب طائفي وإما لمصالح خاصة.

وهناك من الفنانين من هرب لينجو بنفسه، وأيضًا هناك فنانون آخرون لا يزالون يعيشون داخل المحرقة، وهم اليوم يرسمون لوحاتهم ويحترقون معها، وفي الغالب لم يستطيعوا أن يعلنوا مواقفهم، تاركين لوحاتهم الإجابة عن كل التساؤلات. أعتقد جازمًا أنّ الغالبية العظمى من الفنانين السوريين انحازوا إلى جانب الثورة السورية ووقفوا معها، وليس العكس. وحالة المحترف التشكيلي السوري كحالة سورية بأكملها في محرقة النظام وبين يدي عصاباته من جهة، وبين أيدي القوى المتدخلة في المحرقة السورية، تحترق داخل حريق الوطن الأم سورية.

لو قيّض لك البدء من جديد، فأيّ مسارٍ كنت ستختار؟ وهل تشعر بالرضى عمّا أنجزتَ حتى الآن؟

في الواقع، ليس جميع الناس مخيرين في اختيار مساراتهم الحياتية، والإنسان لا يختار دائمًا مسار حياته كما يريد ويحب، ربما يكون له حيزٌ أو مساحة بسيطة من الاختيار، لكن على الأغلب الظروف المحيطة، والعوامل الاجتماعية والسياسية، والمعيقات البيئية، كلها تتدخل لتحرف الإنسان عن المسار الذي يريد المضي فيه، بخاصة في العالم العربي والشرق الأوسط، وفي الوقت هناك الإصرار والتصميم وقوة الإرادة لدى البعض، ما يجعل الشخص قريبًا من اختياره ومن المسار الذي يريده. أما بالنسبة إليّ، فأعتقد أن الأمور لم تكن لتتغير كثيرًا، لأنّ مساري مرتبط بقضية شعبي الذي يتجاوز تعدادهم أربعين مليون نسمة، فحتى لو قمت بتغيير جميع مسارات حياتي، واخترت أفضل هذه الاختيارات التي أحلم بها بالمعنى الشخصي، فلن تكون النتيجة مرضية بالنسبة لي، ما دام هناك تهديد دائم لوجودنا كشعب.

أعتقد أنّ المعادلة معقدة أكثر مما نتصوّر، خاصة أنها ليست مرتبطة بأفراد بل بمصالح دول وأنظمة مستبدة، لا تعترف حتى بأبناء جلدتها مقابل مصالحها، لذلك لو قيّض لي البدء من جديد فسأختار المسار الذي مشيت فيه طوال مشوار حياتي الحالي، على الرغم من أنني لم أشعر بالرضا قطّ، لا بالمعنى السياسي ولا بالمعنى الفني. وبالنسبة للجانب السياسي، اعتبر أننا ما زلنا نراوح في مكاننا، وكل الذي قدمناه لم يحقق جزءًا بسيطًا من أحلامنا وسقف طموحاتنا. أما بالمعنى الفني، فعندما يشعر الفنان بالرضا يكون حينها قد وصل إلى نقطة النهاية، أي أنه توقف عن الإبداع، والإبداع -كما تعلمون- ليس له نهاية، ومهما يقدم الفنان من منتج إبداعي يشعر على الدوام بأنّه ما زال يستطيع تقديم الأفضل، وأنا أرى أنّه لا يزال لديّ القدرة والإمكانية على إنتاج العمل الفني، وأنني أستطيع إنجازه بشكل أفضل.

أخيرًا، ماذا تُخبرنا عن مشاريعك الفنية الراهنة والمستقبلية؟

عندما تندلع الحرب في أيّ بقعةٍ من بقاع الأرض، تأكد أنّ هذه الحرب سوف تجلب الخراب والدمار، وتحرق البشر والشجر والحجر، حينها لا صوت يعلو فوق صوت البارود. الحرب السورية ما زالت مستعرة منذ عشر سنوات، وفي حالة كهذه، لسنا نحن من نختار مشاريعنا، وإنما تلك الحرب الشعواء هي التي تحدد وجهة مشاريعنا، وتجعلنا نقف طويلًا، ونسأل كيف يمكننا إيقاف هذه الحرب المدمّرة للبلد بمن فيها، خاصة إذا طال أمدها أكثر من ذلك.

في الحروب، تكثر مشاهد القتل والعنف والدم، من قبل جميع البشر، ومن جميع الأعمار، الكلّ يرى هذه المشاهد كلٌّ بطريقته، وتشكّل هذه المشاهدات لدى الإنسان، خاصة الأطفال، عنفًا داخليًا انتقاميًا ثأريًا. كذلك تتسبب الحرب في وقف التعليم، وانتشار الأمية والفقر والجوع، وبذلك سيكون الجيل الذي ينشأ في ظل الحرب جيلًا عنيفًا وانتقاميًا رغمًا عنه، سواء أكان ذلك بسبب مشاهدتهم للعنف والدم والموت، أو بسبب فقدهم لعزيز أو لأحد أفراد الأسرة، بخاصة إذا شاهد الشخص الحادث بأم عينه. وقد يتحوّل هذا الطفل إلى مشروع قاتل يثأر لأهله، أو يتحوّل إلى إنسان عنيف بسبب مشاهداته، وهكذا سوف تتصاعد وتيرة العنف، وإنْ توقفت الحرب في يومٍ ما، وهناك دور سلبي بهذا الخصوص، لبعض القنوات الإعلامية وبعض المواقع في “السوشل ميديا”، إذ تقوم بدور مسيء، عن دراية أو غير دراية، بالأخص المواقع التابعة للأطراف المتنازعة، التي قامت وتقوم بنشر مشاهد العنف، بالإضافة إلى بثّ خطاب الكراهية والطائفية والإثنية، وزراعة الأحقاد والفتن ما بين مكوّنات المجتمع السوري، وهذا سوف يطيل من أمد الحرب والفوضى والاقتتال والعنف، لذلك كان لا بدّ من التفكير في ما بعد انتهاء الحرب، وما هو الفعل والجدوى الذي يمكن القيام به منذ الآن، لذا بدأتُ بمشروع فني بعنوان «جدلية الحب والحرب»، مفاده كيف نستطيع بالحبِّ مواجهة الحرب، ربما يبدو هذا المشروع رومانسيًا للوهلة الأولى، لكن إذا تكاتفت الجهود وتم الاشتغال عليه، منذ الآن، أفرادًا وجماعات ممن يؤمنون بالعمل المدني وبدور الإبداع في الارتقاء بالإنسان، انطلاقًا من فكرة بسيطة هي أنّ الإنسان يستطيع بالحب مواجهة أعتى الحروب والكوارث، عندها ربما نستطيع أن ننجو بخسائر أقل.

مضمون فكرتي ومشروعي يعتمد على كيف نزرع الحب والفرح، في دواخل الجيل الذي كبر في كنف الحرب، أي أن نتساعد في زرع الأمل والحبّ في قلوبهم، وذلك من خلال إقامة ورشات عمل وندوات ومعارض ومسرحيات وطباعة قصص وإصدار مجلات وإنشاء مواقع إلكترونية، جميعها تكون موجهة إليهم، لحثهم على الحبّ ولتخفيف آلامهم وعنفهم الداخلي، وهذا يحتاج إلى تكاتف الجهود من قبل جميع الأطراف في المجتمع، وأن تتبنى هذه الفكرة مؤسسات أو منظمات داعمة، مثل منظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسيف” وغيرها.

مركز حرمون

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى