تقصي رحلة الكبتاغون من محمية الأسد الحصينة في اللاذقية إلى موانئ العالم
يكشف هذا التحقيق الاستقصائي حول السفينة “نوكا” عن شبكة إجرامية لتهريب الكبتاغون على صلات بعائلة الأسد وعصابة في ليبيا وشركات وهمية مسجَّلة في لندن.
بقلم: أحمد عيد عاشور وسامح اللبودي وماهر الشاعري من “مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد” (OCCRP)، بالتعاون مع سيسيليا أنيسي من “مشروع التقارير الاستقصائية في إيطاليا” (IRPI Media)
في مساء الثاني من كانون الأول/ ديسمبر 2018، أبحرت السفينة نوكا من ميناء اللاذقية السوري، متجهة إلى شرق ليبيا.
كانت سفينة الشحن، ظاهرياً، محمَّلة ببضائع أرسلها اثنان من العملاء خارج دمشق وضواحيها، غير أن حمولتها الحقيقية لم تظهر في أي دفاتر رسمية.
ففي وسط التوابل والقهوة والنشارة، وفي حاويات شحن مزدوجة، كانت هناك حمولة قيمتها أكثر من 100 مليون دولار من الحشيش والكبتاغون، وهو منشّط صناعي واسع الانتشار في أجزاء من الشرق الأوسط.
وبمجرد تجاوزها قبرص، أوقفت السفينة “نوكا” نظام تحديد الهوية الآلي فيها. ولكن بعد ورود معلومات سرية، وبمساعدة من طائرة تابعة للوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل (فرونتكس)، اعترضَ حرسُ السواحل اليوناني، في الخامس من كانون الأول، السفينةَ التي ترفع العلم السوري، بعد مرورها بمحاذاة جزيرة كريت. وبعد تفتيشها قام الحرس بالتحفظ على شحنة المخدرات وألقى القبضَ على طاقمها المكوّن من 11 فرداً.
في ذلك الوقت، كانت حمولة نوكا هي أكبر كمية على الإطلاق من مخدّر الكبتاغون تصادرها اليونان، وثاني أكبر كمية تصادرها من الحشيش خلال 25 سنة على الأقل، ما يدل على ازدهار تجارة المخدرات بحرياً في حوض البحر الأبيض المتوسط منذ اندلاع الفوضى التي أعقبت انتفاضات الربيع العربي في 2011.
في أواخر عام 2018 داهمت السلطات اليونانية سفينة شحن تحمل ما قيمته أكثر من 100 مليون دولار من الحشيش ومخدّر الكبتاغون، المشابه لعقار الأمفيتامين المعروف باسم “سبيد”، في إشارة إلى تنامي تجارة المخدرات في البحر الأبيض المتوسط نتيجة الحرب الأهلية السورية. يكشف تحقيق حول السفينة “نوكا” عن شبكة إجرامية مرتبطة بالشحنة، على صلات بعائلة الأسد وعصابة في ليبيا وشركات وهمية مسجَّلة في لندن.
مصطلح “الكبتاغون” هو الاسم الذائع لمخدّر يتركّب من هيدروكلوريد الفينيثيلين، الذي أنتِج في ألمانيا الغربية في ستينيات القرن العشرين كعلاج لاضطراب نقص الانتباه والخُدار (النوم القهري) والاكتئاب. وعقب حظره في الثمانينات، اكتسبت أقراصه المزيفة شعبية في الشرق الأوسط، وخصوصاً في دول الخليج كالمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر؛ وأخيراً ظهر في أوساط المقاتلين والمدنيين في سوريا.
عادة ما تنحرف أقراص الكبتاغون المُنتَجة اليوم بشكل غير قانوني عن الصيغة والوصفة الأصلية، فتجمع بين الأمفيتامين ومواد مثل الكافيين والثيوفيلين والباراسيتامول. لكن هذه الأقراص ما زالت تُصمَّم لتماثل الشكل الأصلي. فشعار C المزدوَج المطبوع على كل قرصٍ منها هو ما أكسَب الكبتاغون اسمه الرمزي “أبو هلالين”.
على مدار العقد الماضي صارت سوريا المورِّد الرئيس للكبتاغون في المنطقة. فعلى مدى السنوات القليلة الماضية ضُبط عدد كبير من شحنات الكبتاغون الآتية من ميناء اللاذقية، وذلك في موانئ ليبية وإيطالية ويونانية ورومانية. وأكبر كمية تم ضبطها كانت في ميناء ساليرنو، بالقرب من مدينة نابولي الإيطالية، في تموز/ يوليو 2020، وكانت تحوي 14 طناً من الكبتاغون، بقيمة تُقدَّر بمليار يورو.
ومع نمو هذه التجارة، تزايدت المزاعم بتورّط شخصيات وميليشيات مرتبطة بالنظام السوري بشكل وثيق.
اليوم من خلال فحص سجلات المحاكم اليونانية والإيطالية والليبية وبيانات تسجيل الشركات وبيانات تتبُّع السفن، ومن خلال مقابلات مع مسؤولي وخبراء تنفيذ القانون، قام كلٌّ من “مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد” (OCCRP) بالتعاون مع “مشروع التقارير الاستقصائية في إيطاليا” (IRPI Media) بالكشف عن تفاصيل لم يسبق تناولها من قبل، حول شبكة إجرامية سورية وشركات وهمية مرتبطة بالسفينة نوكا وتجارة الكبتاغون الأوسع نطاقاً.
يقود كثير من الخيوط المتتبَّعة إلى اللاذقية، وهي مدينة ساحلية في شرق البحر الأبيض المتوسط تقبع تحت سيطرة النظام السوري طوال سنوات الصراع السوري، وتسيطر عليها الفرقة الرابعة سيئة السمعة، التابعة للجيش السوري، وهي من الوحدات التي يديرها ماهر الأسد شقيق الرئيس السوري بشار الأسد.
ووجد الصحافيون أن مالك السفينة نوكا، وهو سوري يُدعى طاهر عبدالكريم كيالي ويقيم اليوم في اللاذقية، قد أُدين في إيطاليا عام 2015 بتهمة سرقة يخوت فاخرة وتهريبها.
لدى الكيالي أيضاً صلات بمُضَر الأسد، ابن عم بشار الأسد، وتدير شركته مرسى ومنتجعاً سياحياً في اللاذقية، وفيه يُدير الكيالي “الكافيتيريا”، أو المطعم.
تكشف أيضاً سجلّات محكمة إستئناف بنغازي الكويفية التابعة لدائرة الجنايات عن قضية ذات صلة عن تفاصيل مستفيضة حول عمليات للعصابة الممتدة من سوريا إلى ليبيا، التي يُزعَم أنها كانت ستتسلّم شحنة نوكا. وقد حُكِم على أربعة أعضاء مزعومين في العصابة بالإعدام رمياً بالرصاص بسبب دورهم في شحنة نوكا وشحنات أخرى موجَّهة إلى ليبيا.
الكيالي: مهرِّب مُدان
عاش مالك السفينة نوكا، طاهر الكيالي، الذي يبلغ من العمر 60 سنة، في تورين في إيطاليا مع زوجته الإيطالية وابنيهما قبل أن ينتقل عام 2015 إلى اللاذقية. وحين كان في إيطاليا أُدين الكيالي في قضيتين جنائيتين منفصلتَين.
ووفقاً لتقرير صادر عام 2007 من وكالة “أدنكرونوس للأنباء”، فإن الشرطة الإيطالية ألقت القبض عليه بتهمة قيادة عصابة تهرِّب السيارات الفخمة المسروقة من ميناء روتردام في هولندا إلى دول أخرى منها الإمارات العربية المتحدة واليابان.
وأُدين عام 2010 بتهمة المشاركة في جماعة إجرامية واستلام بضائع مسروقة وبيعها؛ ولكن صدَر عفو عنه في وقت لاحق.
وعام 2013 ظهرت قضية أكثر خطورة، حين أصدر قاضٍ في مدينة بيزارو على الساحل الأدرياتي لإيطاليا، مذكرة باعتقاله. جاء هذا بعدما كشفت عملية للشرطة كيف قامت عصابة دولية بتهريب يخوت فاخرة مسروقة عبر حوض البحر الأبيض المتوسط.
ويُظهِر حكم بالإدانة يتكوّن من 163 صفحة، حصل “مشروع التقارير الاستقصائية في إيطاليا” على نسخة منه، أن الكيالي وسورياً آخر أمَرَا بسرقة اليخوت عبر وكلاء إيطاليين رتّبوا عمليات السرقة في الموانئ الإيطالية، ثم قاما بقيادة القوارب واليخوت المسروقة ونقلها إلى دول مثل كرواتيا أو مصر أو اليونان.
وأشارت الشرطة الإيطالية إلى الكيالي بصفته زعيم هذه العصابة واتهمته بالسرقة وتداوُل بضائع مسروقة. وفي كانون الثاني/ يناير 2015 حُكم عليه غيابياً بالسجن لمدة ستة أعوام ونصف العام.
لكن حينها كان الكيالي قد انتقل إلى اللاذقية، ولم يُقبض عليه قط.
قال الكيالي، الذي تواصلنا معه عبر البريد الإلكتروني، إن “الاتهام (الإيطالي) للأسف صحيح”، لكنّه قال إن التهم أعطت فكرة خاطئة عما حدث بالفعل. الكيالي -الذي وصف إيطاليا بـ”بلده الثاني وبلد عائلتي وأولادي”- قال إنه بالنسبة إلى قضية السيارات الفاخرة المسروقة، فكل ما حدث “ببساطة” هو أنه اشترى سيارة “بي إم دبليو إكس 6” من صاحبها عام 2011، الذي بعد ذلك قال لشركة التأمين إنها سرقت منه.
أما في حالة اليخوت المسروقة، فقال إن القضية نتجت أيضاً عن سوء فهم. واستطرد: “لكي لا أستفيض بالشرح…في إيطاليا هناك من يعمل على الحصول على اليخوت بالطريقة ذاتها للسيارات ويسافر بها إلى الشرق الأوسط بأوراق تعتبر صحيحة لدينا ولكم في إيطاليا غير قانونية”.
في ما بعد، أسس الكيالي، الذي ينكر تماماً أيّ علاقة له بالاتجار في المخدرات- شركات صورية خارج سوريا واصل عمله من خلالها.
وفي الرابع من آذار/ مارس 2017، سجل الكيالي شركة تحت اسم “نبتونس أوفرسيز المحدودة”، تقع في 27 شارع غلوستر لندن – المملكة المتحدة، وهو عنوان وهمي لمبنى سكني من أربع طبقات تستخدمه مئات الشركات الوهمية عنواناً لها.
وفي العام ذاته، أسس شركة أخرى في اللاذقية، هي شركة “نبتونوس المحدودة المسؤولية”، التي تُعرف نفسها بأنها وكالة بحرية لتقديم خدمات إدارة السفن وتوفير متطلبات الدعم والإمداد اللوجستية لها. وفقاً لسلطات ميناء اللاذقية، فإن الشركة مملوكة لطاهر الكيالي وشريك آخر يُدعَى ياسر حكمت الشريف. لكن لم يتمكن الصحافيون من الحصول على أيّ معلومات أخرى عن الشريف.
في الثالث من تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، استخدم الكيالي شركته في سوريا لشراء السفينة نوكا من شركة مقرها لبنان، هي شركة “خدمات البحر الآمن ذات المسؤولية المحدودة” (Medlevante Overseas LTD)، التي أصبحت المالك المُسجَل للسفينة في نيسان/ أبريل 2018.
قال الكيالي إنه أجّر السفينة لشركة تُدعى “لاميرا”، التي قامت بدورها بتشغيل مسار شحن يمتد من ميناء اللاذقية إلى ميناء بنغازي وغيره من موانئ البحر المتوسط يُسمى “خط لاميرا”.
من الذي يدير خط لاميرا؟ )اضغط هنا)
عملت السفينة نوكا في تشغيل ما يُسمى “خط لاميرا”، وهو عبارة عن طريق بحري يمتد من ميناء اللاذقية إلى بقية موانئ منطقة شرق المتوسط. بدأ الخط العمل قبل أربعة أشهر من اعتراض حرس السواحل اليوناني للسفينة، ويبدو أنه توقف بعد تلك الواقعة بفترة قصيرة.
لكن مَن المسؤول تحديداً عن إدارة هذا الطريق البحري؟ هذا سؤال صعب للغاية. إذ لم يتمكن الصحافيون من إيجاد أيّ شركة مُسجلة في سوريا أو لبنان تحمل اسم “شركة لاميرا”.
في الواقع وبخلاف المنشور الترويجي لوزارة النقل السورية على موقع “فايسبوك” في كانون الأول 2018، الذي أظهر صورة قالت الوزارة إنها لـِ”باخرة نوكا التابعة لخطوط لاميرا في ميناء بنغازي بتاريخ 8 تشرين الثاني 2018″، تكاد لا توجد أيّ دلائل رسمية على وجود هذا الخط من الأساس.
وفي آب/ أغسطس 2018، نشرت جريدة “الأخبار” اللبنانية- المُقربة من “حزب الله”، حليف النظام السوري- مقالاً قصيراً عن إطلاق شركة “نبتونس” في اللاذقية لخط لاميرا البحري بين اللاذقية ومرسين وطرابلس وبنغازي والاسكندريه بالاتجاهين ليكون من ركائز جسر المنافع الاقتصادي.
لكنّ الكيالي أخبر “مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد” أن شركته- نبتنوس ونس- أَجّرَت السفينة نوكا لشركة “لاميرا” من أجل العمل في الخط. مُضيفاً أنه “من البدهي أن تقوم شركاتي بالإعلان عن خط لاميرا لجذب العملاء… !”.
لكنه في آخر تواصل معه، رفض الإجابة عن اسم الجهة التي تملك الشركة المسؤولة عن تشغيل الخط.
قدمت وثيقة صادرة عن محكمة يونانية مزيداً من التفاصيل، فقد جاء فيها أن السفينة نوكا كانت تديرها شركة “لي-مارين” المحدودة (Li-Marine Inc)، وهي شركة لها مقران في بيروت واللاذقية، واسمها في اللغة العربية مُشابه كثيراً لاسم “لاميرا”.
لكن الخيوط تنتهي هنا. أخبر مدير مكتب “لي-مارين”، “مشروعَ الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد” أن مهمتهم كانت تتمثل حصراً في إجراء تفتيش فنيّ لِهيكل السفينة وغرفة المُحرك بطلبٍ من شركة “نبتونس”.
وشدّد متحدث باسم “لي-مارين” في بيروت على ضرورة أن يفرق الصحافيون “بين لاميرا ولي-مارين التابعة لنا”، ولديها عقد مع شركة نيبتونوس المالكة والمشغلة للسفينة.
وقال إن السفينة كانت مؤجرة لشركة “لاميرا لبنانية الجنسية وهي المسؤولة عن الشحن”، مشدداً على أن ذلك “ينفي تورط الشركة المالكة والمشغلة (نيبتونوس)”، بينما يؤكد “تورط شركة لاميرا باعتبارها المسؤولة عن شحن الحاويات وتصديرها” وعندما طلب الصحافيون من “مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد” الاطلاع على صورة من العقد، وأسماء مصدري البضائع وعناوينهم وجَّههم المتحدث إلى حساب البريد الإلكتروني لِشركة “نبتونس”.
وجاء في وثائق المحكمة اليونانية أن الشحنات الرسمية التي حملتها السفينة نوكا أرسلتها شركة “دعبول والمفتي”، التي تقع خارج دمشق، ومحمد هاني عابدين في دمشق، الذي ستحكم عليه محكمة استئناف بنغازي الكويفية بالإعدام لاحقاً لدوره في شحنة السفينة نوكا، وغير ذلك من عمليات التهريب المزعومة. يدير دعبول والمفتي شركة لتصنيع المنتجات الكيماوية، بما في ذلك المنظفات التي استخدمت في شحنة السفينة نوكا لإخفاء رائحة المخدرات.
وفقاً للكيالي، قامت السفينة برحلتي شحن من اللاذقية إلى بنغازي بعد تأجيرها، وأوقفها حرس السواحل اليوناني في الرحلة الثانية، ليجدوا على متنها مواد محظورة- في إشارة إلى كمية المخدرات القياسية- كانت “موجودة داخل أرضية الحاويات، لا هيكل السفينة أو حمولتها”.
وأضاف: “تعاونا بشكل كامل مع السلطات البحرية اليونانية واستطعنا أخيراً الحصول على براءة الطاقم والباخرة والبضائع ولكن بعدها تكبدنا خسائر فادحة”.
وتابع: “ستعود السفينة، إن شاء الله، إلى وطنها مثلما عاد الطاقم قبل فترة. وبالنسبة إلى البضائع، فقد أبلغنا المالكين أن عليهم أخذها وشحنها إلى حيث يريدون”.
ثم تمنى الكيالي أن يحالف الحظ فريق “مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد” في “كشف وفضح المجرمين الحقيقيين وكل من يساعدهم بعملياتهم المشبوهة”.
حصن عائلة الأسد
أدى تنامي تجارة الكبتاغون إلى زيادة الشكوك حول تورط النظام. إذ تُعرف اللاذقية -التي انطلقت منها السفينة نوكا وحيث يدير الكيالي شركاته- بأنها إقطاعية الأسد الحصينة. وتحولت خلال السنوات الأخيرة أيضاً إلى مصنع كبير لمعظم الكبتاغون الموجود في العالم.
جرت العادة على إنتاج الكبتاغون بصورة غير قانونية في أوروبا الشرقية وتركيا ولبنان، لكن الإنتاج ازداد في لبنان بعد حرب عام 2006 بين إسرائيل و”حزب الله”، مع سعي الأخير إلى إعادة ملء خزائنه التي استنزفتها الحرب. أصبح سهل البقاع المتاخم للحدود السورية -الذي يُعد أيضاً موقعاً لزراعة القنّب بصورة غير شرعية- مركزاً صناعياً رئيسياً لإنتاج الكبتاغون.
مثّلت الحرب الأهلية السورية منعطفاً في الإنتاج مع تزايد الطلب على الكبتاغون بين المقاتلين والمدنيين. ليتحول بذلك الإنتاج تدريجاً إلى سوريا، حيث استغل المُصنعون الفوضى الناجمة عن الحرب وتوافر الهياكل الأساسية اللازمة للإنتاج والنقل بالفعل، من قبيل الطرق التشغيلية الفعالة وكذلك الكهرباء والمياه الجارية. إذ كانت سوريا ثاني أكبر مورد للأدوية في المنطقة قبل اندلاع الحرب.
بحلول عام 2013، أظهرت أنماط المصادرة أن سوريا أصبحت “عاصمة الكبتاغون الجديدة في العالم”، وفقاً لمقال نُشر عام 2016 في “مجلة الشؤون الدولية”، الصادرة عن جامعة كولومبيا. ومع تدهور الزراعة والنفط والصناعة، أصبحت صادرات المخدرات الآن من بين أهم مصادر العملات الأجنبية في سوريا.
وعلى رغم ندرة البيانات الموثوقة، هناك مؤشرات على أن تجارة الكبتاغون قد تكون الآن من بين أكثر القطاعات الاقتصادية ربحية في سوريا. على سبيل المثال، صادرت الشرطة الإيطالية في ميناء ساليرنو 14 طناً من الكبتاغون، بقيمة مليار يورو الصيف الماضي، أي أكثر من إجمالي الصادرات الرسمية السورية التي بلغت نحو 700 مليون دولار عام 2019.
ومن خلال تحليل شحنات المخدرات الخمس التي غادرت الموانئ السورية بين حزيران/ يونيو 2019 وآب 2020، وصودرت في اليونان وإيطاليا والإمارات والسعودية ورومانيا، قدّر “برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للتطوير البحري”، وهو مؤسسة بحثية مقرها لندن، أن تهريب المخدرات من الموانئ السورية قد يُدِرّ نحو 16 مليار دولار سنوياً.
وتختلف أسعار الأقراص المخدرة بشكل كبير بناء على الجودة والموقع الجغرافي، إذ تشير تقارير إلى انخفاض أسعارها في سوريا لتبلغ بضعة دولارات فقط، حتى قبل الأزمة المالية الحالية، فيما يرتفع السعر ليصل إلى 25 دولاراً للقرص الواحد في الخليج. بينما بلغت تقديرات السلطات الإيطالية من مصادرة شحنة المخدرات في ميناء ساليرنو نحو 12 يورو للقرص الواحد.
وقال عدنان الحاج عمر، الذي قاد الفريق البحثي، لـ”مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد” إن حجم المداهمات، وحقيقة التجاهل الكامل من الإعلام السوري الرسمي لها، يشير إلى وجود شبكة منظمة لتهريب المخدرات وراء تلك العمليات، لديها تأثير ونفوذ على مؤسسات الدولة وهيئات صنع القرار. وأضاف أن تصدير الكبتاغون بتلك السلاسة يحتاج إلى “وكلاء تصدير، وتخليص جمركي، ومكاتب شحن” من أجل تزوير الوثائق اللازمة، ما يشير أيضاً إلى تواطؤ رسمي.
ولم ترد هيئة الجمارك السورية، المسؤولة رسمياً عن مراقبة الصادرات والواردات البحرية وتخزين البضائع ونقلها، على طلب تعليقها على ما ورد.
وتوصل باحثون آخرون إلى استنتاجات مماثلة. فقد أشار تقرير “مجلة الشؤون الدولية” إلى رد الفعل السريع على زيادة جهود وكالات مكافحة التهريب من خلال القدرة على تغيير طرق التهريب بسرعة. على سبيل المثال، عام 2015، بعدما شنّت قوات حرس الحدود التركية حملة كبيرة لمكافحة التهريب، شهدت الطرق البرية البديلة عبر الأردن ولبنان، نشاطاً ملحوظاً في حركة مرور شحنات المخدرات. ويشير التقرير إلى وجود تنسيق مركزي مسؤول عن غالبية عمليات تهريب الكبتاغون، أو وجود تنسيق بين المؤسسات المعنية، ما يعني أيضاً تورّط حكومة الأسد.
واستشهد الباحثون أيضاً بحقيقة أن معظم عمليات تهريب الكبتاغون مصدرها اللاذقية. وتعتبر المناطق الساحلية في سوريا هي المركز التاريخي للأقلية العلوية في البلاد، والتي تنحدر منها عائلة الأسد، وكانت مركزاً رئيسياً لدعم الموالين لنظام الأسد خلال الحرب. وتقع بلدة القرداحة، مسقط رأس عائلة الأسد، على بعد أقل من 30 كيلومتراً من اللاذقية.
وترتبط مدينة اللاذقية بشكل خاص بشقيق بشار الأسد الأصغر، ماهر الأسد، قائد الفرقة الرابعة المُدرعة التابعة للجيش السوري.
وقال صحافي محلي فضل عدم ذكر اسمه لـ”مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد”: “لا شيء يغادر المنطقة والميناء من دون موافقة قوات ماهر الأسد”، مضيفاً أن تجارة الكبتاغون “تمثّل مصدراً هائلاً للدخل من أجل تمويلهم وتمويل الميليشيات التي تعمل لمصلحتهم وتحت إمرَتهم”.
مداهمات الكبتاغون الكبرى
تشرين الأول/ أكتوبر 2015: اعتقال أحد أفراد العائلة المالكة السعودية في مطار بيروت إثر محاولته تهريب طنّين من الكبتاغون على طائرته الخاصة.
كانون الأول/ ديسمبر 2018: أوقف خفر السواحل اليوناني السفينة نوكا، بعد مغادرتها ميناء اللاذقية متوجهة إلى ليبيا، وعلى متنها ما تزيد قيمته عن 100 مليون دولار من الحشيش والكبتاغون.
يوليو/تموز 2019: اليونان تصادر شحنة ضخمة من الكبتاغون آتية من سوريا، تفوق قيمتها السوقية نصف مليار يورو. وبلغت حمولة الحاويات الثلاث التي صودرت 5 أطنان وربع الطن من الأقراص.
شباط/ فبراير 2020: صادر مسؤولو ميناء جبل علي في دبي 35 مليون قرص من الكبتاغون، تزِن أكثر من 5 أطنان، وكانت مخبأة في أسلاك كهربائية.
تموز/ يوليو 2020: عثرت شرطة ميناء ساليرنو في إيطاليا على أكثر من 14 طناً من الكبتاغون، بلغت قيمتها السوقية نحو مليار يورو، مخبأة داخل لفات ورق الصناعات.
كانون الثاني/ يناير 2021: صادرت السلطات المصرية أكثر من ثمانية ملايين قرص من الكبتاغون وثمانية أطنان من الحشيش داخل حاوية في ميناء بورسعيد، عند المدخل الشمالي لقناة السويس.
آذار/ مارس 2021: صادرت جمارك دبي نحو ثلاثة ملايين قرص من الكبتاغون، في ميناء جبل علي مجدداً، مخبأة في حاوية شحن.
آذار 2021: صادرت السلطات الماليزية، نتيجة التعاون مع المملكة العربية السعودية، 94.8 مليون قرص من الكبتاغون، تفوق قيمتها السوقية مليار يورو وتزن 16 طناً.
نيسان/ أبريل 2021: صادرت المملكة العربية السعودية أكثر من 3 ملايين ونصف المليون قرص، مخبأة في شحنات رمان آتية من لبنان. ورداً على ذلك، فرضت السعودية حظراً على استيراد المنتجات اللبنانية.
أيار/ مايو 2021: صادرت تركيا ما يزيد عن الطن من أقراص الكبتاغون مخبأة في 11 حاوية في ميناء الإسكندرون جنوب البلاد.
الصلات الليبية
بينما تُنقل كميّات من الكبتاغون براً عبر الأردن والعراق، البلدَين المجاورَين، وصولاً إلى دول الخليج الغنية بالنفط، من الشائع أيضاً استخدام المسارات البحرية عبر الساحل السوري بسبب قدرة المهربين على تجنّب نقاط التفتيش والمعابر الحدودية، ما يسمح لهم بنقل كميّات أكبر من المخدرات بمخاطر أقل.
وأصبحت ليبيا على نحو متزايد محوراً رئيساً على هذا الطريق، حيث تُنقل منها المخدرات إلى دولتي تشاد ومصر المجاورتين، أو من ليبيا إلى الخليج مباشرة، وفقاً لباحثين.
يبدو أن الصلة بين سوريا وليبيا قد نمت منذ عام 2014، عندما شن اللواء الليبي المنشق خليفة حفتر حملة “عملية الكرامة”، من أجل تخليص بنغازي من القوات الإسلامية، وتمكّن خلال ذلك من السيطرة على جزء كبير من شرق ليبيا. إذ وجد حفتر ونظام الأسد نفسيهما على الجانب ذاته من الانقسام الجيوسياسي الإقليمي، فكلاهما مدعوم من روسيا، وكلاهما يقاتل القوات المدعومة من تركيا.
في أيار/ مايو 2020، اتهم فتحي باشاغا، وزيرُ الداخلية في حكومة طرابلس المعترف بها من الأمم المتحدة والمدعومة من تركيا، نظامَ الأسد وحفتر بالانتفاع من خط تجارة المخدرات الممتد من سوريا إلى ليبيا.
وتُظهِر وثيقة حصل عليها “مشروعُ الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد”، من إحدى قضايا محاكم بنغازي تتعلق بشحنة نوكا، كيفية عمل هذه التجارة. فتكشف الوثيقة على وجه التحديد عن عمليات لعصابة يُقال إن زعيمها هو محمود عبد الإله محمود الدَجّ، وهو سوري- ليبي حكمت عليه المحكمة غيابياً بالإعدام رمياً بالرصاص.
في 21 تموز/ يوليو 2019، أصدرت محكمة استئناف بنغازي الكويفية حكماً يتهم الدَجّ- وهو اليوم في سوريا- ومساعديه بالتورط في شحنة نوكا، إضافة إلى ثلاث شحنات أخرى ضُبطَت في ليبيا، إحداها في ميناء الخُمس قرب طرابلس غرب البلاد، وواحدة في ميناء بنغازي، والثالثة في ميناء طبرق شرق البلاد.
تم الكشف عن العصابة بعدما داهمت مديرية جمارك بنغازي مستودعاً كان الدَجّ قد استأجره في بوعطني، وهي منطقة سكنية وصناعية شرق بنغازي، وقامت المديرية بضبط “كمية كبيرة من الحشيش” مخبأة تحت أرضيات مزيفة للحاويات، تماماً كالمخدرات المخزنة في السفينة نوكا.
وفقاً لسجلات المحاكم، أرسلت الشحنة من طريق محمد هاني عابدين المقيم في دمشق- وهو الشخص نفسه الذي قالت السلطات اليونانية إنه أحد مستلمي شحنة السفينة نوكا- إلى شركة في بنغازي تسمّى شركة شرق ليبيا، التي تسلمت الشحنة وكانت مسؤولة عن تخليصها جمركياً نيابة عن الدَجّ.
وهناك أيضاً مزاعم عن أن الدَجّ قد وظف رجلَين في سوريا مساعدين له، وهما محمد محمود سعد وهاشم عادل عجّان.
لاستلام الحمولة قامت شركة يمتلكها الدَجّ، تُسمّى شركة “الطير لنقل وشحن البضائع الدولية”، باستئجار مستودع بوعطني، ودفعت إيجاراً شهرياً بمقدار 8 آلاف دينار ليبي، نحو 5700 دولار، لمدة سنة كاملة مقدماً، وفقاً للوثيقة الليبية التي تضمّنت حُكم المحكمة. وعادة ما كان الدَجّ نفسه يصل إلى ليبيا قبل يومين من وصول الشحنة، ثم يغادرها بعد تخليص الحاويات جمركياً.
وتقول أوراق المحكمة إن الدَجّ طلب من أحد ممثلي شركة شرق ليبيا أن يقدم رشوة إلى ضباط الجمارك لكي يتم تخليص الشحنات التي تصل إلى بنغازي بسرعة ومن دون أن تخضع للتفتيش.
حصلت الشركة الليبية على وعد منه بحصولها على مبلغ 5500 دينار ليبي- ما يزيد قليلاً على 3900 دولار- مقابل كل حاوية 40 قدَماً يتمّ تخليصها جمركياً، وعلى 3500 دينار مقابل كل حاوية 20 قدماً. وقال وكيل التخليص المحلي الذي تتعامل معه شركة شرق ليبيا أمام المحكمة إنه تلقى دفعة من المحاسب في مستودع الدَجّ.
وبعد استلام التجار “بضائعهم القانونية”، ومنها البسكويت والعصائر، تُنقَل الحاويات التي تم تفريغها إلى داخل المستودع، وتُزال الأرضية المزيفة وتستخرَج المخدرات المهربة.
وقال سعد وعجّان للمحققين إنهما قاما بالعمل لمصلحة الدَجّ، وتلقّيا مبلغ 10 آلاف دولار لكل واحد منهما مقابل كل حاوية. وأضافا أنهما جمعا المخدرات في بطانيات، ووُضعت تلك البطانيات في صناديق من الكرتون ، ثم شُحنَت في شاحنة تبريد قادها الدَجّ إلى جهة غير معروفة، وَفق ما قالاه.
ووفق مسؤول في المحكمة، ما زال سعد وعجّان في السجن، وكلاهما حُكم عليه بالإعدام رمياً بالرصاص.
وفي رسالة إلكترونية إلى “مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد” أنكر متحدث رسمي باسم “الطير للنقل وشحن البضائع الدولية” في دمشق أن يكون للشركة أي صلة بشحنة السفينة نوكا، وزعم أن المستودع في الواقع تمتلكه شركة “نيوتونس الملاحية في ليبيا”… وقد واصلت شركة الطير العمل في ليبيا على رغم الحكم القضائي، ولا تزال تروج لعمليات الشحن البحرية بين سوريا وليبيا على صفحتها على “فايسبوك”.
تجارة مزدهرة
مع تدهور الاقتصاد السوري والليبي، ومع سيطرة الميليشيات والجماعات المسلحة على أجزاء من البلدين، فليس هناك سبب للاعتقاد أن تجارة الكبتاغون ستتراجع في المستقبل القريب. وفي إحدى عمليات المداهمة الأخيرة، عُثر على أكثر من 5.3 مليون قرص في المملكة العربية السعودية تم إخفاؤها في شحنة رمان.
وقال د. محمد عبد الرحمن الفيتوري، المستشار الإعلامي لوزارة الداخلية في تصريح لـ”مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد”، إنه لا يتوقع أن يتراجع التهريب إلى البلاد، حتى بعد تشكيل حكومة وحدة جديدة بموجب اتفاق سلام بين حفتر وحكومة طرابلس. بل إن مسائل بسيطة من قبيل “تركيب أجهزة فحص شعاعي في الموانئ الليبية للكشف على الممنوعات” ستكون صعبة على حكومة موقتة، وفق ما قال.
أما بالنسبة إلى الكيالي، فلم يمسه أي سوء، نسبياً، بسبب صلاته بالسفينة نوكا، ويبدو أنه يستفيد من ارتباطاته بعائلة الأسد.
فما زال يدير مطعماً في منتجع مارينا باللاذقية، من خلال تعاقد سنوي، فيما يرسو يخته الخاص الذي يصل طوله إلى 16 متراً في نادٍ ساحليّ قريب.
هذا المنتجع تمتلكه “الشركة السورية للاستثمار والتطوير”، التي يمتلك نصف أسهمها مضر الأسد، وهو ابن عم الرئيس السوري بشار الأسد.
ومع أن رفعت الأسد، والد مضر، قد اختار المنفى بعد فشل محاولة الانقلاب على أخيه حافظ الأسد، الرئيس السابق، عام 1984، لا يبدو أن هناك أحقاداً أو ضغائن بين مضر والنظام الحالي.
وعند سؤاله عن علاقته بمضر، قال الكيالي لـ”مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد” إنه “صديق تشرفني صداقته منذ زمن”، ولكنه أنكر وجود علاقات بينهما. وقد حاول “مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد” الوصول إلى مضر الأسد للتعليق من خلال شركته الدمشقية. لكن موظفين في شركته رفضوا استلام الرسالة التي وصلت عبر خدمات البريد السريع DHL.
وحين سئل عن ماهر الأسد، شقيق الرئيس السوري الذي تسيطر الفرقة الرابعة من الجيش السوري بقيادته على مدينة اللاذقية، قال الكيالي إن ليست له معرفة شخصية به “برغم أنني كنت سأتشرف بذلك”.
ساهم ستيليوس أورفانيدس من “مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد” OCCRP وإيفاجيليا كيراكلاكي في كتابة التقرير.
درج