التحدي… غابرييل غارسيا ماركيز عن كتابة قصصه الأولى
ترجمة رهام درويش
لم أتخيل يوماً أن تُنشر قصتي الأولى في “فين دي سيمانا”، الملحق الأدبي لصحيفة الإسبكتادور في بوغوتا بعد تسعة أشهر على إنهائي للمدرسة الثانوية، إذ كانت أصعب جهات النشر وأكثرها إثارة للاهتمام. وبعد اثنين وأربعين يوماً، نُشرت قصتي الثانية. لم يفاجئني شيء بقدر الملاحظة الافتتاحية التي كتبها محرر الملحق إدواردو زالاميا بوردا (الذي كان يكتب باسم أوليسيس)، وقد كان أبرع نقاد كولومبيا في حينه، وأكثرهم تيقظاً لظهور التوجهات الجديدة.
حدث كل هذا على نحو غير متوقع لدرجة تصعّب عليّ استذكار الأحداث. في فبراير شباط عام 1947، التحقتُ بكلية الحقوق في جامعة بوغوتا الوطنية، وذلك بحسب الاتفاق مع والديّ. كنتُ أُقيم في قلب المدينة، في نزُل في شارع فلوريان الذي كان قد استوطن معظمه طلابٌ مثلي من ساحل الأطلسي. في أوقات فراغي بعد الظهر، وبدلاً من العمل حتى أتمكن من توفير مصروفي، كنتُ أقرأ في غرفتي أو في أحد المقاهي التي سمحت بذلك. كنتُ أحصل على الكتب بالصدفة والحظ، بل اعتمد ذلك على الصدف أكثر من حظي، فقد أعارني إياها أصدقائي القادرين على شراء الكتب ومنحوني مدة محدودة حتى أعيدها. ولكن، وبخلاف الكتب التي كنتُ أقرأها في المدرسة في زيباكويرا والتي لم تكن لتصلح سوى لضمّ رفات الكُتّاب، كانت هذه الكتب طازجة كخبز أُخرج لتوّه من الفرن، طُبعت في بيونس أيريس وبترجمات حديثة من بعد توقف أعمال النشر الذي تسببت به الحرب العالمية الثانية. بهذه الطريقة، اكتشفتُ ولحسن حظي كتّاباً معروفين مثل خورخي لويس بورخيس، ديفيد هربرت لورانس، ألدوس هكسلي، غراهام غرين، غلبرت كيث تشيسترتون، ويليام إيرش، كاثرين مانسفيلد، وغيرهم الكثيرين.
في الغالب، كانت تُعرض هذه الكتب في نوافذ المتاجر التي يصعب الوصول إليها، لكن نسخاً منها عادة ما تواجدت في مقاهي الطلاب التي كانت مراكز ترويج ثقافي نشيطة، خصوصاً للطلاب الآتين من الأقاليم. كان العديد من هؤلاء الطلاب يحجزون طاولاتهم سنة بعد سنة، وكانوا يستلمون البريد والحوالات النقدية في المقاهي كذلك. كان للخدمات التي قدمها أصحاب المقاهي وموظفيهم الكبار دوراً أساسياً في الحفاظ على عدد لا بأس به من الوظائف الجامعية، إضافة إلى أن عدداً من العاملين في البلاد يُرجعون الفضل في توظيفهم إلى الصّلات التي كونوها في مقاهيهم أكثر من مدربيهم الذين لم يكادوا يرونهم.
كان مقهى إل مولينو مكاني المفضل، وهو المكان الذي تردد عليه الشعراء الكبار، ولم يبعد أكثر من مئتي متر عن النّزل الذي كنت أقيم فيه، على زاوية شارعي خيمينيز دي كيسادا وكاريرا سبتيما. لم يكن يُسمح للطلبة بحجز الطاولات في إل مولينو، لكننا كنا متأكدين من أن ما سنتعلّمه من الحوارات الأدبية التي استرقنا السّمع إليها فيما جلسنا قرب الطاولات المجاورة سيكون أكثر قيمة مما نتعلمه من الكتب الدراسية. كان مقهى ضخماً، أنيقاً ذا طراز إسباني، وكانت جدرانه قد زُيّنت بلوحات الرسام سانتياغو مارتينيز دلغادو، بمشاهد من معركة دون كيشوتة ضد طواحين الهواء.
بالرغم من عدم وجود زاوية محجوزة لي، كنتُ دائماً ما أقنع الندل بتقريبي ما استطاعوا إلى السيد ليون دي غريف، الذي كان ملتحياً فظاً وساحراً في آن، إذ يوشك على افتتاح صالونه الأدبي في ساعة الغسق، بصحبة عدد من أشهر كتاب ذلك الزمان، قبل أن يُنهي يومه بلعبة شطرنج برفقة طلابه قبل منتصف الليل، وهم غارقين في المشاريب الرخيصة. لم يتبقَ سوى عدد قليل جداً من ألمع أسماء الفن والأدب في البلاد ممن لم يجلسوا على تلك الطاولة مرة على الأقل، فيما تسمّرنا نحن على طاولتنا حتى لا نفوّت أي كلمة. بالرغم من أنهم اعتادوا الحديث عن النساء والدسائس السياسية أكثر مما تحدثوا عن أعمالهم وفنونهم، لطالما أتوا على ذكر أمور جديدة بالنسبة لنا.
كان أكثرنا انتباهاً من ساحل الأطلسي، فلم تجمعنا مؤامرات الكاريبي ضد شعب الكاتشاكو الذي عاش في سلاسل الجبال بقدر ما وحّدتنا محتويات الكتب. في أحد الأيام، قام خورخي ألفارو إسبينوزا، وهو طالب الحقوق الذي علّمني قراءة الكتاب المقدس ودفعني لحفظ أسماء رِفاق أيوب، قام بوضع مجلد مذهل على الطاولة أمامي وأعلن بسلطة تحاكي سلطة الكهَنة: “هذا الإنجيل الآخر”.
كان ذلك بالطبع كتاب “يوليسيس” للكاتب جيمس جويس، والذي قرأتُ كلّ جزء منه بنهم حتى نفد صبري. كانت تلك جسارة سابقة لأوانها. بعد سنوات، وكبالغ مطيع، كلّفت نفسي بمهمة قراءتها مرة ثانية وبشكل أكثر جدية لم يسفر فقط عن اكتشاف عالَم عبقري لم أتوقع وجوده في داخلي من قبل، إنما مدّني بمساعدة تقنية لا تقدر بثمن من حيث تحرير اللغة ومواكبة الوقت والبُنية في كتبي.
كان دومينغو مانويل فيغا أحد رفاق السكن في النّزل، وهو طالب الطب الذي أصبح صديقي منذ أيام الطفولة في بلدة سكوري، وكان يشاركني نهم القراءة. في إحدى الليالي، جاء فيغا وبرفقته ثلاثة كتب قام بشرائها للتوّ، فأعارني واحداً باختيار عشوائي كما جرت العادة، بهدف مساعدتي على النوم. لكن الأثر هذه المرة جاء معاكساً، فلم أنعم بسكينة النوم بعد تلك الليلة. كانت رواية “المسخ” لفرانز كافكا، بترجمة لوسادا في بيونيس أيريس، وقد أسّست لاتجاه جديد في حياتي منذ السطر الأول الذي يُعرف اليوم بصفته أداة عظيمة في الأدب العالمي: “بينما استيقظ غريغور سامسا من كوابيسه في إحدى الصباحات، وجد أنه تحوّل إلى حشرة عملاقة”.
كانت تلك كتباً غامضة لم تكن تحولات أحداثها الخطيرة مختلفة فحسب، إنما مناقضة لكل شيء كنتُ قد تعلمته حتى ذلك الحين. فقد علّمتني أنه ما كان ضرورياً تقديم الحقائق، بل أن كتابة المؤلف لشيء ما تكفي لاعتباره حقيقة، حتى من دون أن يقدم دليلاً سوى قوة موهبته وسلطة صوته. كان الأمر بمثابة شهرزاد مرة أخرى، وإن لم يكن ذلك في عالم ألف ليلة وليلة الخاص بها، حيث كان كل شيء ممكناً، ولكن في عالم لا يمكن إصلاحه، في عالم ضاع فيه كل شيء بالفعل.
عندما أنهيتُ قراءة “المسخ”، شعرت بحنين لا يُقاوم للعيش في ذلك النعيم العجيب. في اليوم التالي، كنت أجلس مقابل آلة الطباعة المحمولة التي كان دومينغو مانويل فيغا قد سمح لي باستعارتها، محاوِلاً كتابة شيء يشبه حكاية كافكا عن الموظف الحكومي المسكين الذي تحول إلى صرصور هائل الحجم. لم أذهب إلى الجامعة في الأيام التالية خشية أن تنكسر التعويذة. كنتُ مستمراً في الكتابة تتصبب مني قطرات عرق من حسدٍ، حتى نشر إدواردو زالاميا بوردا مقالة كئيبة في رثاء قلة الأسماء البارزة ضمن جيل الكتّاب الكولومبيين الجدد، وحقيقة أنه عجز عن العثور على أي شيء مستقبلي بوسعه تحسين ذاك الوضع. لا أعرف بأي حقّ شعرتُ بالتحدي، باسم جيلي أو بسبب الاستفزاز الذي أثارته فيّ تلك المقالة، لكنني عدتُ لكتابة القصة مجدداً في محاولة لإثبات عدم صحة رأيه. فقمتُ بتطوير حبكة الجثة الواعية من رواية “المسخ”، وأعفيتُ القصة من الأسرار المزيفة والتحيزات الوجودية.
لكنني كنتُ لا أزال غير متأكد من القصة لدرجة أنني لم أجرؤ على إخبار أي من رفاق طاولتي في إل مولينو عنها، ولا حتى زميلي في كلية الحقوق غونزالو مالارينو، الذي كان القارئ الوحيد لأعمال النثر التي كنتُ أكتبها لأخفف عن نفسي عبء ضجر الصفوف الدراسية. كنتُ أعيد قراءة القصة وأغير تفاصيلها حتى أصابني الإرهاق، وفي النهاية، كتبتُ ملاحظة شخصية لإدواردو زالاميا الذي لم أكن قد التقيتُ به مسبقاً، ملاحظة لم أعد أتذكر أيّ كلمة منها. وضعتُ كل شيء في مغلف وأوصلته إلى مكتب الاستقبال في صحيفة الإسبكتادور. سمح لي موظف الاستقبال بالصعود إلى الطابق الثاني حتى أتمكن من تسليم الرسالة إلى زالاميا بشكل شخصي، لكن الفكرة أصابتني بالشلل ودفعتني لترك المغلف على مكتب الموظف والهرب سريعاً.
حدث ذلك في يوم ثلاثاء، ولم أكترث بأي مخاوف مسبقة بخصوص مصير قصتي. كنتُ متأكداً أنه في حال تم السماح بنشرها، فإن ذلك لم يكن ليحدث في أي وقت قريب. وفي خلال أسبوعين، كنتُ أمشي هائماً من مقهى إلى آخر لأُسكّن القلق الذي أصابني في ظهيرة كل سبت، حتى الثالث عشر من سبتمبر أيلول، عندما ذهبتُ إلى مقهى إل مولينو واصطدمتُ بعنوان قصّتي مطبوعاً بالخط العريض في صحيفة الإسبكتادور التي كانت قد صدرت لتوّها: “الإذعان الثالث”.
في ردّ فعل أوليّ، كان هناك إدراك مروّع بعدم امتلاكي للخمسة سنتات اللازمة لشراء الصحيفة. كان هذا أوضح مثال على مدى فقري، لأنني، وبالإضافة إلى عجزي عن شراء الصحيفة، لم أكن قادراً على شراء أي من أساسيات الحياة التي يكلف الكثير منها خمسة سنتات، مثل عربة المواصلات، والهاتف العمومي، وفنجان القهوة، أو تلميع حذاء. انطلقتُ مسرعاً نحو الشارع دون أن أحتمي بشيء في وجه رذاذ المطر الهادئ، ولم أجد أي شخص أعرفه بما يكفي لأستدين منه الخمسة سنتات في أيّ من المقاهي المجاورة. حتى في النّزل لم أجد أي أحد في تلك الساعة الهادئة من السبت سوى مالكة العقار، وهو بمثابة عدم عثوري على أي أحد، لأنني كنتُ متأخراً عن سداد ما يعادل خمسة سنتات لسبعئمة وعشرين مرة، مقابل أٌجرة شهرين. عندما خرجتُ مجدداً جاهزاً لأي شيء، صادفتُ رجلاً أرسَلته العناية الإلهية مغادراً سيارة الأجرة حاملاً عدد صحيفة الإسبكتادور في يده، وطلبتُ منه أن يعطيني إياها مباشرة.
وهكذا، قرأتُ أول قصة منشورة لي، مرفقةً برسمة لهرنان ميرينو، وهو الرسام المعتمد للصحيفة. قرأتُ القصة دفعة واحدة في حين كنتُ أختبئ في غرفتي وقلبي يخفق بقوة. اكتشفتُ في كل سطر القوة الساحقة للنشر، فقد تابعتُ تحوّل ما بنيته بالكثير من الحب والألم إلى تقليد متواضع لعبقري عالمي شعرتُ وكأنه حوار ذاتي مُبهم وركيك، بالكاد دعمته ثلاث أو أربع جمل على سبيل المواساة. مرّت قرابة العشرين سنة قبل أن أتجرأ على قراءة تلك القصة مرة ثانية، وفي حينها، كان حكمي وبالرغم من شغفي المتزايد، أقل تسامحاً.
كان انهمار الأصدقاء الذين غزوا غرفتي حاملين نسخاً من الصحيفة الأمر الأصعب، فقد غمروني بالمديح والثناء لقصة كنتُ متأكداً أنهم لم يفهموها. شعر بعضٌ من رفاق دراستي في الجامعة بالتقدير للقصة، فيما شعر آخرون بالحيرة تجاهها، فيما لم يُكمل البقية من العقلاء القراءة بعد السطر الرابع. لكن غونزالو مالارينو الذي لم أكن لأشكك في حكمه الأدبي، عبّر عن إعجابه بها بلا تحفظ.
كانت أعظم صعوباتي مع حكم خورخي ألفارو إسبينوزا، الذي كانت شفرته النقدية حادة حتى فيما يتعدى دائرتنا المباشرة. كانت لديّ مشاعر مختلطة، كنت أرغب في رؤيته مباشرة لأتخلص من شعور الشك إلى الأبد، بينما كنتُ أرتعب من فكرة مقابلته. اختفى حتى يوم الثلاثاء، وهو ما كان أمراً غير عاديّ بالنسبة لقارئ نَهِم مثله. وعندما عاد إلى مقهى إل مولينو، بدأ يحدثني لا عن القصة، إنما عن وقاحتي، فقال وهو يحدق بيّ بعينيه الخضراوان كعيني أفعى الكوبرا: “أفترض أنك تدرك مقدار المصاعب التي ورطتَ نفسك فيها، أنتَ الآن في واجهة الكُتّاب البارزين، وعليكَ القيام بالكثير حتى تستحق تلك المكانة”.
كان رأيه الوحيد القادر على التأثير فيّ بالإضافة إلى رأي أوليسيس، وهو ما أصابني بالرّعب. ولكن قبل أن يكمل حديثه، قررتُ استباقه بقول ما كنتُ ولا زلتُ أعتبره الحقيقة، بأن “تلك القصة كانت محض هراء”.
كان ردّه متزناً راسخاً فأخبرني بأنه غير قادر على قول هذا بعد، إذ لم يكن لديه المتسع من الوقت لأكثر من الاطلاع عليها دون قراءتها كاملة. ثم شرح أنه حتى وإن كانت بالسوء الذي تحدثتُ عنه أنا، فإنها بالضرورة ليست سيئة بما يكفي للتضحية بالفرصة الذهبية التي كانت الحياة قد قدمتها لي. فقال: “على أية حال، أصبحت هذه القصة جزءاً من الماضي، ما يهم الآن هو القصة التالية”.
كنت مذهولاً وأحمق بما يكفي للبحث عن أراء مضادة، حتى فهمتُ أن ما من نصيحة سمعتها ستكون بذكاء ما قدمه له. قام بتفسير فكرته الراسخة أن عليك نسخ القصة أولاً قبل الأسلوب، فيما اعتمد كل منهما على الآخر في شكل خدمات لا غنى عنها. كانت تلك العصى السحرية التي ميّزت الأعمال الكلاسيكية. كذلك أمضى بعض الوقت في شرح رأيه الذي كرره مراراً، أنني كنت في حاجة للتعمق في قراءة أعمال الإغريق، وليس فقط هوميروس، وهي الملحمة الوحيدة التي كنتُ قد قرأت نظراً لكونها متطلباً دراسياً. وعدته بأن أفعل وكنت أرغبُ في سماع أسماء أخرى، لكنه غيّر الموضوع بدلاً عن ذلك وبدأ بالحديث عن “المزيفون” لأندريه جيد، التي كان قد قرأها في نهاية الأسبوع ذاك. لم أتجرأ يوماً بما يكفي لأخبره بأن حوارنا ذاك كان قد حددّ لي مسيرة ما تبقى من حياتي. لم أنم في تلك الليلة التي قضيتها في كتابة الملاحظات لقصتي القادمة، التي لم يكن فيها شيء من صعوبات سابقتها.
أشكّ أن انبهار من تحدثوا معي عن القصة لم يكن بسببها هي، هذا إن قرأوها، وإن فعلوا فأنا متأكد أنهم لم يفهموها، بل كان انبهارهم بسبب الضجة غير الاعتيادية التي صاحبت نشرها على صفحات صحيفة هامة. ففي المقام الأول، أدركتُ أن عيبيّ الكبيرين كانا أكبر عيبين على الإطلاق: ركاكة كتابتي وجهلي بالقلب الآدمي، وقد كان هذان العيبان جليّان في قصتي الأولى، التي كانت تأملاً نظرياً مرتبكاً لم يزده سوءاً سوى سوء استخدامي للمشاعر المصطنعة.
باحثاً في ذاكرتي عن مواقف من الحياة الحقيقية من أجل القصة الثانية، تذكرتُ أن امرأة من أجمل النساء اللاتي رأيتُ في طفولتي كانت قد أخبرتني بأمنيتها لو كان باستطاعتها أن تعيش داخل القط الوسيم الذي كانت تداعبه في حجرها. عندما سألتُها عن السبب أجابتني: “لأنه أجمل مني”. منحني ذلك نقطة انطلاق قصتي الثانية وعنواناً جذاباً: “إيفا تتقمص قطتها”. أما البقية فكما القصة الأولى، كان مبتكراً من لاشيء، ولهذا السبب، وكما نقول في هذه الأيام، فقد حملتْ في طياتها بذور فشلها.
نُشرت هذه القصة مصاحبةً بذات الجلبة التي حصلت عليها سابقتها، وذلك يوم السبت الخامس والعشرين من أكتوبر 1947، إلى جانب رسم بريشة أنريكي غراو، النجم اللامع في سماء الكاريبي. صُعقتُ عندما وجدتُ أن أصدقاءً تقبلوا الأمر كحدث روتيني وكأنني كاتب معروف. في حين أنني عانيتُ بسبب الأخطاء وملأتني الشكوك بقدرتي على النجاح، لكنني عملتُ إلى إبقاء الأمل حياً.
جاءت اللحظة الهامة بعد عدة أيام، عندما كتب إدواردو زالاميا ملاحظة في عموده اليومي باسمه المستعار أوليسيس، ملاحظة خاطبتْ الأمر مباشرة: “لاحظ قرّاء فين دي سيمانا، الملحق الأدبي للصحيفة ظهور موهبة جديدة أصيلة بشخصية صارمة”، وأضاف: “يمكن لأي شيء أن يحدث في المخيلة، لكن معرفة السبيل لإظهار ذلك بطبيعية وبساطة ودون جلبة ليس بالأمر الذي يمكن لكل الفتية في العشرينيات من عمرهم ممن لا زالوا في طورتأسيس علاقاتهم بالحروف تحقيقه”. ثم ختم ملاحظته دون تردد: “في غارسيا ماركيز، نرى كاتباً جديدا بارزاً يولد”.
تسببتْ الملاحظة بصدمة من السعادة لي، وكيف لا! لكن وفي الوقت ذاته، أزعجني أن زالاميا لم يترك لنفسه سبيلاً للتراجع. الآن وقد قال ما قال، كنتُ مجبراً على تفسير كرمه بصفته خطاب يتوجه به إلى ضميري حتى بقية حياتي.
بالرغم من تغيّبي المزمن وجهلي بالقضاء، نجحتُ في نهاية السنة الأولى، وهي الأسهل، من دراسة الحقوق، وذلك بفضل المذاكرة الحثيثة التي قمتُ بها في آخر لحظة، إضافة إلى خدعتي القديمة لمواجهة الأسئلة الصعبة، بالتملص الذكي. في الحقيقة، لم أكن على طبيعتي ولم أكن أعرف كيف كنت سأستمر في تلمّس طريقي حتى نهاية الطريق المسدود. لم أفهم من القانون شيئاً كما فعلتُ مع أي من المواضيع الأخرى التي درستها في المدرسة، وكنتُ أشعر أنني بلغت من العمر ما يكفي لأتخذ قراراتي الخاصة. باختصار، بعد ستة عشر شهراً من النجاة الإعجازية، لم أكتسب سوى مجموعة من أفضل الأصدقاء لبقية حياتي.
كان اهتمامي الضئيل بالقانون في أضعف مستوياته بعد ملاحظة أوليسيس. في الجامعة، بدأ بعض الطلبة بمناداتي بالأستاذ، وكانوا يعرفونني بالكاتب. تصادف ذلك مع اعتزامي تعلم كيفية بناء قصة مقنعة ومدهشة وبلا ثغرات. كنتُ أقتدي بعدد من الأمثلة المثالية والبعيدة، مثل قصة “الملك أوديب” لسوفوكليس، الذي يتحقق بطله من مقتل والده حتى يكتشف أنه هو نفسه القاتل. أو قصة “مخلب القرد” لويليام جاكوبس، وهي القصة المثالية التي لا يحصل فيها سوى الحوادث غير المتوقعة. أو قصة “كرة الشحم” لموباسان، وغيرهم الكثير من كبار المذنبين، عسى أن يبقيهم الله في مملكته المقدسة.
كنتُ منغسماً في ذلك في إحدى أمسيات الأحد عندما حدث لي ما يستحق أن أرويه. كنت قد أمضيتُ جلّ يومي تقريباً في التنفيس عن غضبي ككاتب بصحبة غونزالو مالارينو في منزله في شارع تشيلي، وفي أثناء عودتي إلى النزل وعلى متن آخر عربة مواصلات، انضمّ إلينا كائن إله الغابة الحقيقي في محطة تشابينيرو. صدقوني، كان كائن إله الغابة الخرافي من لحم ودم. لاحظتُ عندها أن أحداً من بقية الركاب القلائل في العربة التي انطلقت قرابة منتصف الليل لم يتفاجئ لرؤيته، ما جعلني أفكر فيما إذا كان أحد الأشخاص الذين يرتدون الأزياء التنكرية أثناء بيع المتفرقات في أيام الأحد في حدائق الأطفال. لكن الواقع أقنعني بأن عليّ التخلي عن شكوكي، فقرونه وجلده كانا بريّان كما لو كان ماعزاً، وعندما مرّ بقربي، كان بوسعي أن أشمّ رائحة جلده. بأخلاقيات رب أسرة محترم، ترجّل من العربة قبل محطة كالي 26، وهو الشارع الذي تقع فيه المقبرة، قبل أن يختفي بين أشجار الحديقة.
بعد نصف ليلة من تقلبي المستمر، سألني دومينغو مانويل فيغا عمّا إذا كنتُ بخير، فأخبرتُه وأنا في نعس شديد: “لا شيء سوى أن إله الغابة ركب العربة.” كان في حالة يقظة كاملة عندما سألني عما إذا كنتُ أتحدثُ عن كابوس رأيته بسبب سوء الهضم الذي يحدث عادة في أيام الأحد، ثم قال أنه يعتقد أنها فكرة مدهشة إذا ما كانت موضوعاً لقصتي القادمة. في الصباح التالي، لم أعرف إذا ما كنتُ قد شاهدتُ إله الغابة على العربة أو إذا كان ذلك من ضمن هلوسات يوم الأحد. بدأتُ بالاعتراف لنفسي أنني كنت قد غفوت وقد أرهقني التعب في نهاية اليوم، وربما شاهدتُ حلماً شديد الوضوح حتى عجزتُ عن التمييز بينه وبين الحقيقة. ولكن، في النهاية، لم يكن الأمر الأساسي بالنسبة لي هو ما إذا كان إله الغابة حقيقياً، إنما أنني عشتُ التجربة كما لو كان كذلك. ولذات السبب، سواءٌ كان الأمر حقيقياً أو مجرد حلم، لم يكن مشروعاً أن أعتبره سحراً خيالياً، ففي الواقع، كان تجربة حياتية مذهلة.
في اليوم التالي، كتبتُ القصة في جلسة واحدة، ثم وضعتُها تحت وسادتي وقرأتها مراراً وتكراراً لليالٍ عدة قبل الخلود إلى النوم وفور استيقاظي في الصباح. كانت القصّة وصفاً حرفياً ومجرّداً لواقعة العربة، تماماً كما حدثت، أما من ناحية الأسلوب، فكانت ببراءة إعلان عن عمّاد في صفحة المجتمع. أخيراً، وبرغم الشكوك الجديدة التي كانت تطاردني، قررتُ إخضاع القصة لاختبار النشر الذي لا يخطئ، ولكن ليس في الإسبكتادور، إنما في الملحق الأدبي لصحيفة إل تييمبو هذه المرة. ربما كانت هذه طريقتي في مواجهة حكم شخص غير إدواردو زالاميا، حتى لا أوّرطه في مغامرة ما من سبب ليشارك فيها. أرسلتُ قصتي برفقة صديق من النزل، بالإضافة إلى رسالة لدون خايمي بوسادا، وهو المحرر الجديد واليافع لملحق إل تييمبو الأدبي. لكن لم تُنشر القصة ولم يُجب أحد على رسالتي.
تسبب نشري لأعمال تقترب من ناجحة في الإسبكتادور بمشكلات أرضية مسلية لي، فقد بدأ أصدقائي المتعثرين بإيقافي في الشارع طلباً للنقود التي بوسعها أن تنقذهم، حيث أنهم لم يصدقوا أن كاتباً مشهوراً لم يحصل على مبالغ نقدية كبيرة لقاء قصصه. القليلون فقط صدقوني عندما أخبرتهم بالحقيقة وبأنني لم أحصل على أي سنت مقابل القصص، ولم أتوقع الحصول على أي شيء، لأن هذا ما اعتادت عليه الصحافة في البلاد. خيبة أمل أكبر أصابت والدي عندما أدرك أنني لن أتمكن من تحمل مسؤولية نفقاتي في وقت كان فيه ثلاثة من أبنائه الأحد عشر في المدرسة. كانت العائلة ترسل إليّ 30 بيزو في الشهر، كلّفني منها النزل 18 مقابل إقامتي فقط، دون خدمات الطعام، هذا غير المصروفات غير المتوقعة التي كنت أضطر بسببها لإنفاق المزيد من المال.
لأ أعرف كيف اعتدتُ على خطّ رسومات غير واعية على حواف الصحف والمناديل الورقية في المطاعم وطاولات الرخام في المقاهي. لكن شخصاً أعرفه بشكل عابر في مقهى إل مولينو ممن كان له تأثير كاف في وزارة جعلته يحصل على وظيفة كرسّام فيها دون أن يكون له أي فكرة عن الرسم، اقترح عليّ القيام بعمله وأن نتقاسم مرتبّه بالمقابل. كنتُ في تلك المرّة أقرب ما أكون للفساد، لكنني لم أكن قريباً جداً لدرجة أني ندمت.
نمَى اهتمامي بالموسيقى في ذلك الوقت أيضاً، في وقت كانت فيه أغنيات الكاريبي المشهورة، والتي رضعتها مع حليب أمي، تحظى بالاهتمام في بوغوتا. كان البرنامج الإذاعي ذو الجمهور الأكبر هو “الساعة الساحلية” من تقديم دون باسكوال دليفيكيو، والذي كان بمثابة سفير الموسيقى من ساحل الأطلسي. كان البرنامج يُبثّ في صباحات الأحد وحصل على شعبية كبيرة دفعت بالطلبة من منطقة الكاريبي لزيارة مكاتب الإذاعة للرقص حتى الظهر. تسبب البرنامج بشعبية طاغية لموسيقانا في المناطق الداخلية للبلاد، والمناطق النائية في وقت لاحق، حتى أن هذا منح الطلاب من الساحل وسيلة للشعور بالتقدم الاجتماعي في بوغوتا.
تمثل العائق الوحيد الذي واجهه طلاب الكاريبي في العاصمة في شبح الزيجات القسرية. لا أعرف ما هي السوابق الشريرة التي دفعت بالاعتقاد الساحلي أن فتيات بوغوتا كنّ متساهلات مع أبناء الساحل، فكنّ ينصبنَ لنا الفخاخ في السرر حتى نضطر للزواج منهن. ولم يفعلنَ ذلك بسبب الحب، إنما بسبب آمالهن في الحياة قرب نافذة تطل على البحر. لم أكن لأصدق ذلك. على العكس، فإن أثقل ذكريات حياتي كانت في بيت بغاء خبيث في ضواحي بوغوتا، حيث كنا نتجه لنتخلص من نوبات السكر الكئيبة. في أكثر بيوت الدعارة دناءة، كدتُ أفقد الحياة الصغيرة التي كانت تسكنني عندما ظهرت امرأة عارية كنتُ برفقتها في الممر، وكانت تصرخ مدعيةً أنني سرقت 12 بيزو من جارور ملابسها. فضربني اثنين من البلطجية بشدة، ولم يكتفوا بأن أفرغوا جيوبي من الـ2 بيزو اللتان كانتا في حوزتي بعد الجولة الحميمة التي دمرتني، فجرّدوني من كل شيء بما في ذلك حذائي، بحثاً عن النقود المسروقة في كل إنش. كانا قد قررا عدم قتلي والاكتفاء بتسليمي للشرطة قبل أن تتذكر المرأة بأنها كانت قد غيّرت المكان الذي أخفت فيه نقودها في اليوم السابق، وقد وجدَتها في المكان الجديد دون أن يمسّها أحد.
بعد وقت قصير على تلك الحادثة، اتخذتُ قراراً بعدم إضاعة المزيد من الوقت في كلية الحقوق، لكنني لم أمتلك الشجاعة لمواجهة والديّ بذلك. أخبراني أنهما كانا في غاية الرضا لحصولي على شهادة الثانوية وإنهاء السنة الأولى من كلية الحقوق بنجاح، ولذلك فقد أرسلا لي أخف وأحدث آلة طباعة في السوق كهدية حملها لي شقيقي لويس إنريكي، الذي أتى إلى بوغوتا بحثاً عن وظيفة جيدة في فبراير شباط 1948.
كانت تلك أول آلة طباعة امتلكتها، وكانت كذلك الأقل حظاً، لأنني وفي ذات اليوم رهنتها مقابل 12 بيزو بهدف استكمال حفلة ترحيب برفقة شقيقي وأصدقائي من النزل. في اليوم التالي، وبرفقة الصداع توجهتُ إلى مكتب الرهن لأتأكد من أن آلة الطباعة كانت لا تزال موجودة هناك وأن أختامها بخير، ولأتأكد من أنها ستبقى في حالة جيدة حتى تمطر عليّ النقود التي ستمكنني من فكّ رهنها من السماء. كان لدينا فرصة لا بأس بها بسبب ما دفعه لي صديقي الرسام المزيف، لكننا في اللحظة الأخيرة تراجعنا عن فكّ رهنها.
في كل مرة مررنا أنا وشقيقي قرب مكتب الرهن معاً أو كلاً على حدى، كنا نتأكد من وجود الآلة الطابعة هناك، كانت ملفوفة كالجوهرة في ورق السوليفان مع ربطة من قماش الأورغاندي، ضمن أرفف من الأجهزة المنزلية المحاطة بالعناية. بعد شهر، لم تنجح حسابات مبهجة كنا قد أجريناها تحت وطأة نشوة السّكر، لكن الآلة كانت آمنة في مكانها، وكان يمكن الإبقاء عليها هناك طالما كنا نقوم بدفع الفائدة الربع سنوية.
نُشرت في “ذا نيويوركر” في ٢٩ سبتمبر ٢٠٠٣.
مجلة رمان