بعد اختفاء موثق مجازر داريا..ناشطون ينقذون الذاكرة السورية/ محمد كساح
في العام 2014 وفي ظروف غامضة، اختفى أبو صياح البلاقسي، الذي يعتبره البعض الشاهد الملك الذي لا يقل أهمية عن “قيصر”، حيث وثق البلاقسي جميع من قتلوا على يد النظام السوري في مدينة داريا غربي العاصمة دمشق منذ الضحية الأولى عشية اندلاع الثورة السورية وحتى مغادرته المدينة ضمن ظروف غامضة واختفائه دون أي معلومات حول مصيره حتى اللحظة.
وتأتي أهمية ما شهده ووثقه الشاهد الأول في داريا من كونه دفن جميع الموتى بمن فيهم الشهداء وعناصر وضباط النظام وحتى العواينية الذين أعدموا على يد قوات المعارضة في ظل ادارتها للمدينة بين عامي 2012 و2016.
على أن أهم ما وثقه أبو صباح هم ضحايا مجزرة داريا الكبرى التي اقترفها النظام في آب/أغسطس 2012 وبلغ عدد قتلاها أكثر من 700 شهيد وثقهم الرجل بالصور والأسماء وكان مشرفا على حفر القبور الجماعية ودفنهم داخلها.
يقود الحديث عن أبو صياح إلى البحث في مصير الأرشيف الهائل الذي صنعه الناشطون الصحافيون في مدنهم الأصلية قبل عملية تهجيرهم نحو آخر جيب للمعارضة شمالي سوريا، وتشمل هذه المناطق دمشق وريفها إضافة الى درعا، وهي البلدان التي وقعت ضمن خطة التهجير الموسعة التي نفذها النظام بين عامي 2016 و2018 من جنوبي البلاد نحو القسم الشمالي.
أرشيف ضائع
يتمنى “أبو عبادة” لو بقي محافظاً على مخزون وفير من الصور والتسجيلات المرئية التي التقطها بين عامي 2012 و2014 أثناء عمله كناشط صحافي بين مدينتي داريا والمعضمية اللتين كانتا تخوضان حرباً غير متكافئة مع قوات النظام.
التقطت عدسة أبو عبادة مئات اللقطات التي لم يتسن نشرها إطلاقا بسبب عطب المعدات جراء تعرضها لشظايا ناجمة عن سقوط برميل متفجر من إحدى المروحيات. يقول لـ”المدن”: “صورت عشرات المقاتلين قادة وعناصر وكلهم قتلوا في المعارك.. تفاصيل الحياة اليومية في المدينتين خلال تلك الفترة كانت موجودة بين الصور والفيديوهات وقد ذهبت إلى غير رجعة”.
من بين اللقطات المهمة التي صورها الشاب، تفاصيل لمعارك جرت مع قوات النظام وسط داريا وتظهر، كما يقول، أحاديث ضباط النظام مع عناصرهم الذين كانوا محاصرين في تلك المعركة وكيف طلب أحد الضباط من المقاتلين المحاصربن تعاطي مادة الحشيش للتخلص من الخوف ومواصلة القتال. “لو بقيت موجودة لأمكن صنع فيلم تسجيلي مشوق من المادة الخام المصورة”.
تعد الحالات المشابهة والتي ضاع خلالها أرشيف مليء بآلاف الصور والتسجيلات المرئية كثيرة لا سيما في ريف دمشق وبالأخص خلال السنوات الأولى للثورة، ويعود ضياع هذه المواد إلى أن العديد من الناشطين كانت تنقصهم الخبرة الكافية -في تلك الفترة- في حفظ الصور التي يلتقطونها وتجنيبها التلف، في حين شكل الجانب التقني المتعلق بأدوات الحفظ مثل الفلاشات وكروت الذاكرة ومساحات التخزين الرقمي الخارجي (external hard disk) عائقا إضافيا، وفي بعض الحالات كانت فكرة الاحتفاظ بمواد مؤرشفة أصلا غير واردة في مخيلة البعض، فـ”المهم هو التصوير وبث الصور عبر وسائل الإعلام”.
بالنسبة لحوران، يبدو الأمر أفضل كون نشطاء المنطقة دخلوا ضمن تجمعات إعلامية ما جعل من عملية الأرشفة ثم إخراج الأرشيف خلال عملية التهجير تتم بشكل سهل ومنظم، ويقول أبو محمود الحوراني وهو الناطق باسم تجمع أحرار حوران لـ”المدن” إن التجمع تمكن من إخراج جميع الهاردات التي حفظ الأرشيف الخاص بالتجمع داخلها، ما يعني أن جهد قرابة الـ40 ناشطاً كانوا يعملون ضمن التجمع لم يذهب هباء.
أرشيف محفوظ
لا يمكن إصدار نسبة مئوية حول ما تبقى من أرشيف حوران لاسيما وأن عشرات المواطنين الصحافيين فضلوا البقاء عشية التهجير داخل درعا وأجروا عملية التسوية.
وفي هذا السياق، يتحدث أبو محمود الحوراني عن أرشيف لا يزال محفوظا داخل محافظة درعا إما لأن أصحابه لم يتمكنوا من إخراجه معهم خلال عملية التهجير أو بسبب بقائهم داخل المنطقة وإخفائهم لهذا الأرشيف، في حين لم يتسن الحصول على معلومات تؤكد استيلاء النظام السوري على الأرشيف الخاص بالنشطاء الذين خضعوا لعمليات التسوية أو حتى المعتقلين.
في وادي بردى التي شهدت معارك عنيفة أواخر العام 2017 انتهى باتفاق تهجير لمعارضي النظام نحو إدلب، تعرض جزء من الأرشيف الخاص بنشطاء المنطقة للتلف، لكن الهيئة الإعلامية لوادي بردى وهي الجهة التي كانت تغطي الأحداث تمكنت من إخراج ما تبقى من الأرشيف والذي يشكل نسبة كبيرة مقارنة بما ضاع منه.
ويقول أبو محمد البرداوي وهو مدير الهيئة لـ”المدن” إن التلف الذي أصاب جزءا من الأرشيف كان بسبب “قصف المكاتب والبيوت ولم يكن لدينا نسخة ثانية عنه خارج الأماكن التي تعرضت للقصف”. وأرسل البرداوي نسخة عن الأرشيف إلى مكتب توثيق الانتهاكات الخاص بسوريا في الأمم المتحدة.
إلى ذلك، حمى العمل الإعلامي المنظم الذي قاده تجمع ربيع ثورة الذي كان ينشط جنوب العاصمة أرشيف بلدات يلدا وببيلا وبيت سحم من الضياع، فقد كانت عملية إدخال المواد إلى الهاردات تتم بانتظام خوفا من قصف النظام أو أي طارئ أمني قد يطاول مكتب التجمع لاسيما من تنظيم داعش الذي كان يسيطر على مخيم اليرموك والحجر الأسود وكان يواظب على إرسال تهديدات لأعضاء التجمع.
أفكار ومشاريع
في إطار الحديث عن أرشيف المدن المهجرة يمكن تسليط الضوء على بعض الجهود التي يبذلها أبناء هذه المناطق لحفظ واستعادة الأرشيف من خلال مشاريع وأفكار فردية أو ترفدها مؤسسات إعلامية معارضة للنظام.
وتعد سلسلة الوثائقيات التي يصدرها “تلفزيون سوريا” في برنامج “حكاية صورة” أحد المشاريع المستخرجة من الأرشيف الواسع جدا للثورة السورية حيث يتم بث صور كانت متداولة بشكل مكثف بين الجمهور بالاستعانة مع أبطال الصورة أنفسهم أو أشخاص كانوا شهودا على الحدث الذي ترويه الصورة.
رواية مشهدية
وبينما كان مطر إسماعيل يشاهد تقريرا صحافياً عن قطاع غزة على إحدى وسائل الإعلام، راودته فكرة توثيق المجازر والأحداث الاستثنائية في الثورة السورية بلغة بصرية مختلفة عما يتم تداوله ثم تطورت الفكرة من توثيق مجازر النظام بشكل عام إلى الاعتماد على صور خالدة في التاريخ البصري للثورة.
بدأ إسماعيل في اعتماد مجموعة محددة من الصور يمكن من خلالها رواية جانب من مشهدية الثورة وفي لقاء غير رسمي مع إدارة البرامج في “تلفزيون سوريا” تم طرح الفكرة والاتفاق مع التلفزيون حول البرنامج.
يقول لـ”المدن”: “حاولنا تنويع الصور من ناحية الزمن بدءا من اندلاع الثورة وحتى أعوام متأخرة، والمواضيع مثل الحصار والكيماوي والحراك السلمي والاعتصامات النسائية وغيرها”.
يعتمد مطر إسماعيل في سلسلة وثائقياته على الأرشيف المتوفر عبر الإنترنت والأرشيف الخاص بعدد من المصورين والناشطين الصحافيين الذين يزودونه بصور وتسجيلات مرئية متعلقة بالصورة التي يتم الحديث عنها.
من جهة أخرى يحاول سوريون العمل على فكرة موسعة تشمل حفظ وتصنيف الأرشيف السوري بشكل عام مثل تامر تركماني الذي بدأ في العام 2014 بجمع صور لشهداء الثورة وتصميم لوحة صغيرة لتكريمهم.
تطورت الفكرة مع تامر بعد أن تمكن من جمع ما يزيد عن 50 ألف صورة لشهداء الثورة السورية لتشمل جمع وأرشفة مقالات صحافية وتسجيلات مرئية. يقول لـ”المدن”: “اليوم في جعبتي ما يقارب ربع مليون شهيد موثقين بالاسم”.
ويتابع: “قمت في فترة لاحقة بإحصاء وتوثيق المجازر التي قام بها النظام السوري وميليشياته وروسيا وإيران وداعش وبالفعل جمعت مئات المجازر ووثقتها بشكل جيد وحقوقي. وفي عام 2017 لاحظت أن العديد من ملفات الفيديو على موقع “يويتوب” يتم حذفها وأصبحت غير موجودة واختفت من الموقع بشكل تام”.
لدى تركماني أرشيف متجدد يضم حاليا أكثر من 130 ألف مقال صحافي صدرت عن سوريا خلال فترة الثورة مستخرجة من أكثر من 180 موقع إخباري وإعلامي.
كما يحضّر اليوم لـ”معرض كبير يعد الأول من نوعه عن سوريا تقوم فكرته على استعراض جرائم النظام السوري وحلفائه وعرض إحصائيات وصور ومجازر وأطفال”. ويسعى تركماني إلى إنقاذ أكبر عدد من الفيديوهات الخاصة بالثورة وحفظها بشكل بعيد عن الإنترنت عبر تخزينها في ذواكر خارجية وفرزها، ويضيف: “أصبح لدي اليوم مايزيد عن 2.5 مليون فيديو”.