المشرق على طريق السقوط في البربرية/ برهان غليون
يعيش المشرق اليوم حالة من الفوضى المعممة والمنفتحة على مزيد من النزاعات والانفجارات والانهيارات على مستوى نظم الحكم القائمة منذ نصف قرن أو أكثر وأحيانا على مستوى وجود الدولة ذاتها. وتبرز هذه الحالة الأسس الواهية التي قامت عليها الحياة السياسية والقانونية في مجتمعات المشرق والشرق الأوسط عموما، كما تعكس الأسس التي لا تقل هشاشة والتي يقوم عليها نظام العلاقات بين الدول، وهو ما نسميه النظام الإقليمي الذي يشكل هو نفسه جزءا من النظام العالمي للدول.
وهذه الهشاشة هي التي تفسر ما تشهده المنطقة منذ عقود من حروب إقليمية لم تهدأ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ونزاعات داخلية زعزعت في العقد الأخير الاستقرار الداخلي والأمن والسلام الأهليين وهددت وجود الدولة ذاته في أكثر من قطر. يعتقد بعض من الباحثين وجمهور الرأي العام أن ثورات الربيع العربي هي التي زرعت الفوضى والخراب في المنطقة لما أحدثته من فوضى وخراب داخل الأقطار التي اكتسحتها. وهذا ما يدافع عنه ويشكو منه كل من وقف ضد هذه الثورات، سواء لأنه اعتبرها مؤامرة دولية أو حسابات سياسية خاطئة ارتكبتها المعارضات العربية، بينما يدافع آخرون بالعكس من ذلك عن فرضية مناقضة تفيد بأن فوضى العلاقات الإقليمية والدولية واختلال توازنات القوة فيها هي التي حرمت ثورات الربيع العربي من الوصول إلى أهدافها، سواء كانت هذه الفوضى الإقليمية ناجمة عن مؤامرة تقف وراءها قوى دولية غربية، كما تقول نظرية الفوضى الخلاقة أو أطماع الدول الصاعدة الإقليمية وحلفاؤها الدوليون.
الواضح اليوم في نظري من تطور الأحداث أنه لا يمكن الفصل بين الأمرين، وأن هناك علاقة جدلية بين هشاشة البنيات السياسية للدولة المشرقية وضعف مؤسساتها وقطيعة نخبها الحاكمة عن شعوبها، والضعف السياسي أيضا لهذه الشعوب من جهة، وهشاشة البنيات الجوسياسية الإقليمية التي تنظم العلاقات بين دول المنطقة من جهة ثانية. فلا يوجد شك في أن أثر ثورات الربيع العربية لم يقتصر على تفاعلات القوى داخل الدولة الواحدة، ولكنه تجاوز ذلك إلى قلب التوازنات الجيوسياسية في المنطقة أو التهديد بقلبها. وألهب بسبب ذلك نزاعاتها الكامنة، وعمق القائم من هذه النزاعات بمقدار ما أنتج من المخاوف والتهديدات لبعض الدول وما خلق من الفرص لبعضها الآخر وشجعها على التقدم والسعي لحسم نزاعاتها المؤجلة أو التاريخية. وهذا ما أثار شهية القوى الدولية واستدعى التدخلات الخارجية واضعا جميع القوى المتنافسة والمتربصة بعضها ببعض وجها لوجه أمام تحدي النزاع على الهيمنة وتقاسم النفوذ بأكثر أشكاله وضوحا.
لكن، في المقابل، ما كان من الممكن للصراعات الإقليمية والدولية المتفجرة على هامش الثورات العربية إلا أن تنعكس على هذه الثورات وتحرفها عن مسارها، أو تحول بلدانها إلى مسارح لتصفية الحسابات وتحقيق المكاسب الجيوسياسية أو إدخال المنطقة في أزمة شاملة وربما امتناع حلها لأجل طويل، لتعدد اللاعبين وعجزهم جميعا عن التقدم والحسم أو عن الانسحاب وتكبد الخسارة. من هنا تكاد جميع نزاعات المنطقة تدخل في حالة استعصاء. لكن، بعكس ما كان سائدا منذ عقود، لم يعد الأمر يتعلق بأزمات حادة مستمرة وإنما بأزمات ملتهبة على جميع الجبهات. ويفرض هذا الوضع على الجميع المراوحة في المكان في انتظار تحولات مفاجئة أو مواقف قوية من هذا الطرف أو ذاك تعدل الحسابات أو تقلب المعادلة.
باختصار، مثلما فجرت الثورات النزاعات الكامنة الإقليمية والدولية فقد ساهمت هذه النزاعات بدورها في تحويل الاحتجاجات الشعبية الداخلية إلى مواجهات استراتيجية وجيوستراتيجية لم تقتصر على المنطقة وحدها، وإنما تجاوزتها لتستخدم في إعادة صياغة التوازنات الدولية ذاتها. لكن هذه الأزمة الشاملة الملتهبة لم تنجم عن اندلاع الثورات، حتى لو أن اندلاعها سرع في انفجارها. إنها ثمرة تقاطع مسارين تاريخيين سلبيين: التطور التاريخي الإشكالي للنظام الاقليمي المشرقي أو الشرق أوسطي، والتطور الذي لا يقل عنه إشكالية للدولة القطرية أو الدولة الحديثة. وأعني بالتطور الأول هنا حرمان المنطقة من أي إطار قانوني يضبط العلاقات بين الدول، وبالتالي انعدام قاعدة السلام والأمن الوطني لهذه الدول جميعا تقريبا من جهة، والثاني إجهاض دولة القانون والمواطنة وتطور نظم حكم تعكس إلى حد أو آخر إرادة مواطنيها وتحدد شروط ممارسة السلطة وانتقالها من طرف آخر من جهة ثانية. وهو ما تحدثت عنه في مقال سابق في “العربي الجديد” حول معضلة بناء الدولة في المشرق.
فبالرغم من التحولات الاجتماعية والثقافية والإيديولوجية العميقة التي شهدتها قطاعات واسعة من الرأي العام وجمهور المنطقة بما في ذلك قطاعات شعبية حديثة، على امتداد القرن الماضي، والتنامي الملحوظ في كل الأقطار لمطالب المشاركة السياسية، بقيت الدولة جهازا غريبا مفروضا من الخارج، ولم تستطع أن تتفاعل مع تطلعات الكرامة والحرية للجمهور الذي آمن بها وتحمس لها، ولا أن تتوطن وتوطن نفسها داخل النسيج الاجتماعي وتصبح جزءا منه ومركز تفاعلاته والتواصل بين أفراده. لقد بقيت جسما غريبا ودخيلا على مجتمعاتها، تسعى في معظم الأحيان، بالعكس مما كان منتظرا منها، إلى حل عرى هذه المجتمعات وتفكيكها وإحلال الكراهية بدل الألفة بين عناصرها. وهذا هو معنى الفصل القاطع بين نخبة حاكمين تحولت إلى طائفة تتوارث المناصب والامتيازات ومحكومين مدانين بالطاعة والاتباع من دون رأي ولا سؤال، وهو أيضا معنى الاستمرار بل التمسك بالتمييز في هذه الشعوب بين أقليات وأكثريات، وطوائف وعشائر، وهويات مناطقية محلية، وريفيين وحضريين، من أجل ضمان استمرار تفوق الطبقة الحاكمة واستقرارها. ولذلك، ما كان لهذا الاستقرار والاستمرار أن يتحققا إلا بالاعتماد المتزايد على استخدام العنف بكل أشكاله الرمزية والسياسية والمادية.
ويكاد حكم الاستثناء يكون الحالة الطبيعية لدى معظم هذه الدول سواء أعلن بشكل رسمي، كما يشير إليه التمديد الآلي لقانون الطوارئ أم لا. وبالمقابل، لا شك أن غياب التشكل السياسي والقانوني للدولة، واستمرارها بوصفها مجرد قوة ضبط وردع وقهر خارجية، قد قلل من فرص نشوء نظام إقليمي قانوني يضبط العلاقات بين دولها من خلال الاتفاقات والمعاهدات التي تحدد حقوق الدول وواجباتها تجاه بعضها البعض وتجاه مواطنيها أيضا. فبقي التناحر بين الدول وتدخلاتها المتبادلة في شؤون بعضها البعض، واستهتارها بمصير مواطنيها وعدم التردد في معاملتهم معاملة الشعوب المحتلة أو قهرهم وتشريدهم عقابا لهم تقليدا سائدا. هكذا قام البناء السياسي والجيوسياسي في الإقليم كله على قاعدة توازن القوى، وأصبح موقع أي عنصر ودوره فيه مرهون بحجم القوة التي يمتلكها والتي يمكن أن تترجم بقدرته على إنزال الأذى وحرمان الآخر من حقوقه أو أمنه وبث الخوف في قلوب الأفراد والفئات والدول. وهذا ما يجعل من الدول الصغيرة والضعيفة أو الفاشلة، كما هي حال معظم دول المنطقة، ضحية سهلة لأطماع العديد من الدول الإقليمية والخارجية.
بالتأكيد، لم يساعد تحرر الدولة من إرادة شعوبها وتحولها إلى قوة مستقلة مندرجة في توازنات القوة الإقليمية والدولية، وتابعة لها على نشوء دول منضبطة قانونيا ومؤسساتيا، ومن ثم على توفير استخدام العنف المفرط على الساحة الوطنية. كما لم تساعد فوضى العلاقات بين الدول في الإقليم، وغياب أي معاهدات رسمية تحد من التدخلات المتقاطعة والمتناقضة، على تطور مفهوم “الدولة الأمة” واستقراره ونضجه. والنتيجة أن الفوضى الإقليمية تغذي الفوضى السياسية داخل الدول والفوضى السياسية التي وصلت ذروتها بعد ثورات الربيع العربي تغذي بشكل أكبر الفوضى الإقليمية، وتدفع أكثر من ذلك بعلاقات التوتر والتنافر والتنازع التي كانت دائما سمتها الرئيسية للتحول إلى نزاعات سافرة وحرب إقليمية متعددة الأبعاد والاقطاب. فنحن نعيش في المشرق اليوم حروبا عديدة ومتقاطعة في الوقت نفسه. لا تقوم هذه النزاعات في الفراغ ولا تنبع من بنية ثابتة أصلية أو حادثة أو من ثقافة مدنية أو دينية، وإنما من فشل الدولة في التحول إلى جزء لا يتجزأ من مجتمعاتها ومركز تنظيم علاقاتها القانونية والسياسية وترتيب أوضاعها وبالتالي الإطار الأول لتنظيم وجودها من الداخل وتعزيز تفاعلاتها الداخلية، وبمقدار ما فشلت في أن تكون دولة مجتمعها وبقيت خارجية في المبدأ وآليات الحكم والغايات النهائية تحولت هي نفسها إلى موضوع رهان بين الأطراف الاجتماعية المختلفة التي تتنازع السيطرة عليها وامتلاكها كأداة سيطرة ونفود لإخضاع الأطراف الأخرى.
تكاد جميع النزاعات الداخلية المتفجرة على السيطرة على الدولة تكون متمفصلة على النزاعات الخارجية، وتصبح أكثر فأكثر رهينة المواجهات الاستراتيجية.
ولا يمكن عزل هذا الفشل عن البيئة الإقليمية والدولية التي رافقت ولادة الدولة وواكبت تحولات موازين القوى داخلها، وحددت لها قدراتها الاستراتيجية ومواردها وفرص نموها وتنمية شروط الحياة في مجتمعاتها. وليس هناك حالة نموذجية للتحقق من هذا الارتباط الوثيق بين مصير الدولة المشرقية ووضع النظام الإقليمي والنظام الدولي والصراعات التي تميز تطورهما معا أكثر من حالة المشرق والشرق الأوسط عموما في هذه الحقبة التي نعيشها. فتكاد جميع النزاعات الداخلية المتفجرة على السيطرة على الدولة تكون متمفصلة على النزاعات الخارجية، وتصبح أكثر فأكثر رهينة المواجهات الاستراتيجية (على المواقع الإقليمية) والجيوستراتيجية (على الهيمنة العالمية) ولا تستمر إلا بسبب توظيفها فيها، حتى لو أنها بدأت بالأصل بديناميكيات محلية. وأفضل مثال على تقاطع هذه الحروب الحالة السورية التي تكاد تستعصي على الحل: حربا تحررية وحروبا مذهبية، وعشائرية، وقومية، وحروب سيطرة إقليمية، وحروب تعديل للتوازنات بين الكتل الدولية. ولا يغير من هذا الوضع اتخاذ أكثر هذه الحروب شكل حروب بالوكالة.
وراء هذا التطور التاريخي المأساوي للمنطقة عامل رئيس واحد هو إقامة العلاقات داخل المجتمعات وبين الدول على مبدأ القوة وإعطائه الأسبقية على مبدأ الشرعية سواء تعلق الأمر بسلطة الدولة أو بالسعي إلى الهيمنة الإقليمية. ويعني الاستناد إلى مبدأ القوة أن رهان الحاكمين للاحتفاظ بحكمهم يكمن في تعزيز كل ما يساهم في الاستثمار في تعظيم القوة المادية وتقويض أو استبعاد كل ما من شأنه أن يساهم في الدفع نحو قيام سلطة شرعية. ومن هنا لا يولي الحاكمون في هذه المنطقة إزاء شعوبهم ولا إزاء الدول المجاورة، أي أهمية أو قيمة للقانون وسلطة القانون السياسي الذي يعني اليوم قانون المواطنة من دون تمييز، ولا للمواثيق والقوانين الدولية أو حتى للأعراف والتقاليد السياسية المتبعة منذ أقدم العصور، وهذا ما يقوض أي أمل ببزوغ الحرية كناظم للعلاقات الاجتماعية وإرساء أسس سلام مستدام على مستوى العلاقات الإقليمية. هذه هي الأرضية التي تفسر التنافس على الارتقاء كل يوم أكثر في معارج صناعة العنف، وحلم التفوق الأكبر في وسائل استخدام القوة بما فيها إنتاج القنبلة النووية. وهذه هي الشروط ذاتها التي تشجع على تخليد الحرب وتعيق تشكل الأمم، بل تشجع على تفكك الناجز تاريخيا منها، وتدفع إلى احتدام النزاعات الطائفية والمذهبية والأقوامية والأهلية المتعددة، وفي إثرها الخراب والفوضى. فإقامة العلاقات، داخل الدولة وخارجها، على أساس القوة، وإلغاء سلطة القانون، لا يعني سوى أمر واحد هو العودة إلى البربرية أو الحالة البدائية وتقويض أسس الحياة المدنية.
تلفزيون سوريا