حرب المنصات أو «صناعة المحتوى» بدلاً من الإنتاج الثقافي/ محمد سامي الكيال
يمكن اعتبار انتشار مصطلح «صناعة المحتوى» حديثاً نسبياً، فعلى الرغم من أنه قد يشير إلى منظور احترافي مجرّد في العمل الإعلامي والثقافي، تماماً مثلما يعتبر الصحافيون والمحررون مقالاتهم وتحقيقاتهم «مواد صحافية»، إلا أنه تعمّم ليصبح رمزاً ذا دلالة مفتاحية، لأسلوب إنتاج وتلقي الثقافة بين مستخدمي الشبكات التواصلية الافتراضية، سواء كانوا محترفين أو غير محترفين.
من الدلالات الأساسية، التي يستبطنها هذا المصطلح، الطابع الوظيفي والأداتي للمنشورات القابلة للمشاركة في الفضاء الافتراضي، فالمحتوى الجيد هو ما يستقطب أكبر عدد من المشاهدات والتفاعلات، أو ما يُعبر عنه بمفردة أداتية أخرى، وهي «المرور» Traffic، أكثر من الاهتمام بمضامين المحتوى، أو حتى تصنيفه النوعي، فسواء كنا نتحدث عن السياسة أو المجتمع أو الصحة أو الاقتصاد أو صناعة الترفيه، فكل هذا في النهاية متساوٍ بكونه «محتوى».
وتوجد دورات تدريبة لتعليم الأسلوب الأفضل لصناعة المحتوى الناجح، بغض النظر عن ماهيته، وجلب Traffic أكبر، أو حتى شرائه.
اعتبار التلقي مجرد «مرور»، رغم اختلاف ما يمرّ عليه المتلقون، يذكّر بشكل كبير بتحديد الناقد الثقافي البريطاني ألان كيربي المبكر لطبيعة الإنتاج الثقافي على الإنترنت، بوصفه «حداثة زائفة»، يقوم فيها المتابعون بالنقر والتحميل والتعليق وإعادة التغريد، وليس القراءة أو الاستماع أو المشاهدة. ولا يكتمل العمل الثقافي إلا بالمشاركة الظرفية والسطحية للجمهور، ما يجعله منتجاً مؤقتاً وغير قابل لإعادة الإنتاج، ويسم نمط الإنتاج الثقافي المعاصر بأكمله بانعدام الذاكرة والعمق، ما دفع كيربي لاعتبار الحداثة الرقمية بأكملها بالغة السطحية والتفاهة.
الدلالة الأخرى لتعبير «صناعة المحتوى» هو نزع الأشكلة، فلفظة «محتوى»، بحيادها الوظيفي، ومساواتها للمضامين، تفترض إعادة قولبة كل موضوع، ليصبح سهل الانتشار، وأشبه بـ«الحديث الصغير» Small talk، حتى لو كان يناقش قضايا، مثل نظريات فيزياء الكم أو تاريخ محاكم التفتيش، أو مجازر رواندا، للحفاظ على حالة من التسلية السهلة لدى المتلقي، القادر على التنقل، بنقرات محدودة، مروراً بكل قضايا وإشكاليات العالم.
إلا أن وظيفية ولا إشكالية «المحتوى» لا تعنيان حياده الأيديولوجي، بل يعطيانه تحديداً أيديولوجياً شديد الصلابة، يضغط على صنّاع المحتوى بقوة، ويجعلهم معرّضين دوماً لحملات الاستياء الجماعي، والإلغاء الثقافي، وبعد أن كانت «الأحاديث الصغيرة» مصممة لتأمين تواصل ودي بين المتحدثين، صارت امتحاناً أيديولوجياً عسيراً، على جميع الفاعلين في المجال العام الخضوع له. فما المحددات الأيديولوجية والسياسية الأساسية لـ«صناعة المحتوى»؟ وكيف يتم ضمان التزام الصنّاع بها؟
عبء اللاموقف
قبل أن يمسي الإنتاج الثقافي مجرد «محتوى»، كانت للكتّاب والفنانين والإعلاميين رفاهية التعامل بحرية أكبر مع السياسة، سواء أبدوا موقفاً سياسياً واضحاً، وتحزبّوا لجهة أو أيديولوجيا معينة؛ أو تعالوا على الصراع السياسي في زمنهم، وعملوا بشكل تجريدي أو ذاتي. وكان المنتَج النهائي لعملهم يحوي دوماً موقفاً ورؤية ما، يعبّران عن منظوراتهم الأساسية، حول ما يعتبرونه أسئلتهم الأكثر أهمية. اليوم لا يبدو أن هنالك مجالاً كبيراً للأسئلة، فعلى صنّاع المحتوى أن يعكسوا «الوقائع» بشفافية، وكل ما يمكن اعتباره موقفهم أو انحيازهم الشخصي يخسرهم نقاطاً، لدى من يمرّ بهم من متابعين.
تُعرّف «الوقائع» هنا بوصفها مجموعة من البيانات الصادرة عن جهات موثوق بها، سواء كانت أخباراً من وسائل إعلامية مكرّسة؛ دراسات أكاديمية تُرتّب أولوية عرضها، على محركات بحث متخصصة مثل Google Scholar، بعدد الاستشهادات المقتبسة منها؛ قواعد وأخلاقيات لغوية، تصنّف بوصفها صوابية وخالية من التمييز. وبما أننا في عصر متخم بالوقائع، التي يمكن الوصول إليها بسهولة، فلا مبرر لتجاوزها من قبل أي صانع محتوى، خاصة أنها تدّعي بدورها، الخلو من الأيديولوجيا، والبراءة من أي انحياز، سوى للحقيقة والأخلاق. ولذلك لا يمكن لصانع المحتوى أن يكون سياسياً حقاً، حتى لو عالج مواضيع سياسية بشكل مباشر، لأن السياسة لم تعد جدلاً أو نزاعاً بين بدائل وخيارات متعددة، بقدر ما باتت موقفاً صحيحاً، يجب أن يستعرضه المرء بناءً على «الوقائع»، تحت تهديد النبذ بتهمة الشعبوية أو الجهل. وبالتالي فبقدر ما يجب على صانع المحتوى أن يكون لا سياساً، فهو معرّض لضغط السياسة الصحيحة، التي لا توجد مواقف مشروعة سواها، ويبقى تحت الرقابة دوماً، سواء الرقابة الصلبة لمنصات التواصل، التي يشارك أعماله عليها، والتي باتت تميل أكثر فأكثر لحظر المحتوى المخالف لـ«معايير المجتمع»، حتى لو كان تصريحات سياسية من رئيس الولايات المتحدة نفسه؛ أو رقابة المارين على المحتوى، الذين لم يعد نشاطهم مقتصراً على النقر والتعليق، بل تجاوزهما إلى «التبليغ»، أي إرسال تقارير إلى منصات التواصل حول مخالفات لمعايير المجتمع.
لا يدري الصانع أي جهة ستمارس سلطتها عليه، فالمخبرون كُثر، والأشخاص المستاؤون لجرح حساسياتهم في كل مكان، ولذلك فمن الطبيعي أن يدعي صنّاع المحتوى الأشهر عدم اهتمامهم بالسياسة، وتركيزهم على قضايا أخرى، خاصة أن الاهتمام نفسه لم يعد يصنع فرقاً، ما دامت السياسة، وخطابها الصحيح، محددان سلفاً. اللاموقف هنا يصبح أيديولوجيا متكاملة المعالم، تحدد كل شيء، من وجهة النظر حول الصراعات السياسية الكبرى، وحتى المفردات الأبسط، المتعلقة بالحياة اليومية.
إلا أن عالم صناعة المحتوى ليس سديماً غير محدد المعالم من المنصات المجانية، بل هو مجال لعمل جهات كثيرة بمصالح متعددة، سواء كانت مالية أو أيديولوجية؛ أو ممثلة لسياسات دول بأكملها، ويبدو أن مصير صناع المحتوى الأكثر شهرة أن يصبحوا جزءاً من منصة ما، ما يعطي للاموقفهم السياسي أبعاداً أكثر تعقيداً.
سياسة المنصات
يلقى صنّاع المحتوى اهتماماً متزايداً من أطراف متنفّذة، يمكن ملاحظته في المؤتمرات والورشات المتعددة، التي تنظّم لدعمهم، من قبل دول وشركات كبيرة. يُقدّم هؤلاء بوصفهم فاعلين اجتماعيين، ومشاركين في صياغة المستقبل، القائم على التطور التكنولوجي والانفتاح الثقافي، وأحياناً ممثلين لـ«المجتمع المدني».
لا يمكن فصل السياسي عن الاستثماري في هذا الاهتمام، لكن اللافت أن النشاطات الداعمة للصنّاع، حتى التي تنظمها أكثر الدول ديمقراطية، يغيب عنها أي تنوّع سياسي أو فكري، وربما كان التنوّع الوحيد المسموح به هو التنوّع الهوياتي، ضمن خطط «التمكين»، التي باتت أساسية لمعظم المؤسسات. وعندما يتم دعم مجموعة من البشر، غير قادرين، لأسباب بنيوية، على اتخاذ موقف سياسي مستقل، فمن البديهي أن الجهات الداعمة هي وحدها من يحتكر القدرة على الممارسة السياسية.
ربما كان نزع القدرة السياسية للمجتمع، واحتكارها من السلطات القائمة، سواء كانت استبدادية بشكل مباشر، أو تحكّماً بيروقراطياً/تكنوقراطياً، من أهم الظواهر في عصرنا، وعليه فإن المنصات الكبرى في الفضاء الافتراضي، المقرّبة من هذه السلطات، هي المستثمر السياسي للمحتوى، الذي كثيراً ما يؤخذ صنّاعه، مهما كان إنتاجهم مُفرّغاً من السياسة، وقريباً من «الأحاديث الصغيرة»، بجريرة المنصات التي يعملون فيها، ويتعرّضون لحملات استياء كبيرة، تنفّذها غالباً حشود مرتبطة بمنصات ذات انحيازات أخرى، والكل في هذا الشرط يدون مجرد واجهة لمنصاتهم.
ضد حملات الاستياء
لا تقتصر الأزمة على الشباب، الذين ينشرون مواد إعلامية مبسّطة على مواقع التواصل، فمنطق «صناعة المحتوى» انتقل إلى كل المجالات، بما فيها المجالات الأدبية والأكاديمية والفنية، ما يجعل الثقافة المعاصرة برمتها منزوعة الفعالية، ومعرّضة لضغوط ورقابة شديدة.
لم يكن الإنتاج الثقافي في ما مضى منفصلاً عن مصالح الجهات الداعمة، أو الممولة، إلا أنه عمل في شرط سياسي، تعددت به الجهات الفاعلة في الحيز العام، وشهد نزاعاً بين دعوات اجتماعية وأيديولوجية مختلفة، ما منح منتجي الثقافة هامشاً أكبر للحرية والتنويع. ومع تغيّر الشرط التاريخي، لا تبدو الدعوة للعودة للأنماط السابقة من الإنتاج الثقافي مجدية. رغم هذا يمكن التركيز دوماً على نقد منظمي حملات الاستياء الجماعي، والمشاركين فيها، من أطراف وأفراد يدّعون الوصاية على حقائق وأخلاقيات منزّهة عن الهوى، وعدم الارتباط بمصالح أي من المنصات والفئات، المحتكرة للسياسة في عصرنا. وهو نقد يقوم على عدة أسس: أولها تفكيك الادعاءات الأيديولوجية للدعوات الصوابية الحالية، وبيان كيفية اندراجها ضمن مركبات السلطة والمعرفة المهيمنة، وخدمتها لجهات، لا علاقة لها غالباً بقيم ومبادئ «نظيفة»؛ وثانيها الدفاع عن حرية الضمير والتعبير، وهما قيمتان محايثتان للفعل السياسي، تهديدهما تعالٍ عليه، وتحطيمٌ لشروط إمكانه؛ ما يوصل إلى الأساس الثالث للنقد، وهو التركيز على الحق بتعددية المواقف والانحيازات السياسية، وعدم إلزام أي أحد، باتخاذ مواقف معينة، باسم أخلاقيات أو قضايا عادلة.
ربما كان التركيز على هذا النقد الفعل الذي يمكّن من العودة لإنتاج ثقافي، يتمتع بتعددية وتنوّع حقيقيين، ويحرّر من سياسات المنصات المسيطرة.
القدس العربي