قصة

مسموم بالغذاء الأرضي/ سيغيتاس بارولسكيس

ترجمة عدنان المبارك

يقترب ( عيد الموتى) “1”. كلا ، أنا أقترب منه . وراء أي شيء أنا أطارد. أنا مسرع لدرجة الخروج من الجلد ، وأشعر ، أحيانا، بدوي في صدغيّ. بحنجرة مشدودة بالأهواء بالتوق الى حياة أسرع فأسرع ، ومن أريد أن أسبق ؟ هل أردت الهروب مما يسمى بالتفاهة ، من الكينونة ؟ أن ألتقي بأسلافي ، أجلس معهم الى طاولة بيضاء ، في الجنة ؟ لا أريد لقاء أسلافي ، لا أريد أن يزوروني. إنهم باردون وغير لطفاء ، إنهم مفزعون ولأنهم غير موجودين بطريقة نهائية لايمكن الرجوع عنها ولا تلين أيضا. في ذات الوقت هم يملأون اللاوعي بكامل تعاستهم وخيبتهم ، بعقدهم ، بذنوبهم، بأجسامهم المتفسخة.

إذن البقاء هو الأحسن، وهو صلب ملموس وغير تجاوزي ، رقيق لكنه لايطاق قليلا ، ومن كل الصنابير ينقط ، ومن كل الزوايا كما أحوال تأنيب الضمير التي تلتهم الأجسام الصغيرة للصراصر المسحوقة . الصراصر هي عندي مقززة مثل الموت . أنا أقتلها وأسحقها بقدميّ، أدعكها بجريدة مطوّية بهيئة أنبوب أو بغلاف كتاب ، وكما أرى ، الصرصار يفلت ، حينها أسحقه ، ببساطة، بأصابعي، وأتجشأ . لا أستطيع أن أكون قاتلا مأجورا ، فلو كنته لتقيأت في كل مرة على الضحية.

أنا ممثل الجنس البشري أي منظومة الفانين أو الذين يموتون ببطء، هؤلاء الذين ينضج الموت ببطء فيهم. والصراصر تنتمي الى منظومة المدمَّّرين . هي تختلف فيما بينها: بعضها ذو شكل مطال وبرونزي قاتم ، وثان قصير ممتليء ذو قفا أسود، وهناك ثالث أيضا : يكاد أن يكون شفافا يميل قليلا الى الصفرة ، وهذا يترك السقف وينشر أجنحته، إن هذه الصراصر هي ملائكة كون المجاري . ولسلوكها شتى السبل : تعدو ، تسرع ، تتحرك مفكرة بمجساتها ، تتأمل أو أنها تزحف ببساطة في مكان ما بلا عجلة ، وتقوم بتفتيش ممتلكاتها. إنها منظومة . لكن بدون حضارة ، بمعنى مرة و بلا معنى في أخرى ، وفقا لقوانين الطبيعة اللامبالية. إن خط حياتها يرسم دائرة أو ينتظم في حلزون ، إنها لا تخالط الأرض فهي لاتملك مقابرا. هل يقتل الناس المؤمنون بتناسخ الأرواح ، الصراصر أي من هم أسلافهم الخارجين بلا إنقطاع من كل الشروخ؟ يوم أمس دفعت إيجار السكن . عجوز ما من صنف لا يحب ، كان يتنفس بصعوبة في أذني وبإلحاح. في الصف الى قسم دفع النقود كنا نحن الإثنين فقط ، ولكن هذا كان عليه أن يلتصق بي . دفعني وبحث بكل الطرق عن فرصة للإتصال بي. الظاهر أني أشعر بالوحدة وهو لم يفلح في التصرف بشكل آخر غير هذا ، إنه يخاف من أن يشيخ وحيدا. كأن ذلك لم يكف ، فها قد أخذ يفوق في أذني مباشرة وبفترات توقف أمدها خمس ثوان ، شخر وسال لعابه. خشيت من أنه بعد لحظة سينفجر و يرّش كل هذا القسم من المصرف بعصيدة رطبة وفاسدة. لم يكن راضيا من أن كلفة الحياة هي بهذا القدر. انا غير راض ايضا. ولكن كل شيء لا يزال أمامي : المرض ، المهانة ، النسيان ، لذلك عليّ أن أكون غير راض بصورة حكيمة. ولكن بالنسبة له ينتهي كل شيء ، لذلك يغص من الحنق وأن عليه أن يطعم جثة الدولة. الشيخوخة التي تهمس في الأذن بخطر العجز ، ألسن الجليد التي تلحس سواعدا تخضها الرعشات . هل أنا أشعر بتفوقي عليه؟ هل الفارق في العمر يعمل لصالحي ؟ كلا ، نحن لا نختلف بشيء ، يارب. ما يفرّقنا هو بصمات الأصابع وقطعة بائسة من الجلد ، وبطاقة الهوية الشخصية جوازنا الكوني للسفر. حتى أني أعترف به كآخر مثل هذا ، غريب كل الغربة عليّ. وحين أقول أعترف به يعني هذا أنني أحترمه، لكني أحترمه لإعتبار واحد لاغير وهو عمانوئيل كانت ونظريته عن اللزوميات . لو لم يكن كانت ( جلت ببصري فلربما يقف في الركن شبحه النبيل ) لما إحترمته. وبهذا فقط أختلف عن الصرصار . وبهذه الصورة المؤلمة والغبية تصل إليّ حقيقة كم نحن الإثنان ، أنا وهذا العجوز الأدرد، لانشبه رولان”2″ المحتضر ببطولة في ممر رونكيفو ، وليس مع رولان سأتدافع بل مع هذا العجوز الأدرد المتنفس بصعوبة و الفوّاق ، في الصف الى بوابات الأبدية في مقبرة ما في (كارفييلشكي ) أو أخرى تشبهها. كلا ، أنا لا أخاف على الجسد ، فمنذ زمن بعيد عرفت بأن جسدي سيختفي طالما أنني لم اسمح بتحنيطه.

يقترب ( عيد الموتى ) وأنا لا أقدر على الحركة ، تخلصت من كل شيء كان في البطن ، أنا عار وعاجز مثل الخريف . ربما قد تسممت بغذاء ، بغذاء مجمّد كان ينبغي إستهلاكه قبل …

لن أذهب الى المقبرة ولن أغرز الشموع في جسم الإستخفاف الرباني ، في الأرض التي بردت وتصلبت مثل لحم طري. في الطفولة جذبتني هشاشة الحياة والأضواء الصغيرة المتلامعة على القبور . حشود الناس الجارية ذهابا وإيابا ، وليس معلوما لأي غرض ، في ممرات المقبرة الضيقة ، إنها ظلال مظلمة بدون وجوه وحدود لا تتبين إلا في ضوء ألف شمعة ، منتصبة ومبحلقة في قبور غريبة كما لو أنها إختارت الوصول الأجمل ، والأبدية المزيّنة بالصورة الأجمل أيضا ، والأنسب هو ( مستر ) ميت أو ( مس ) ميتة. وهو شيء حسن وفظيع أن لا أكون موجودا آنذاك.

أصبح المنظر الآن لايطاق :الكعكات المدوّرة الكبيرة للمقبرة تشتعل في ليتوانيا كلها . أي شيء يريدون الإحتفاء به ؟ عرس آدم وحواء ؟ كلا . يريدون الإحتفاء برعبهم ، رعبي . تسمّمنا بالأرض ، يريدون الإحتفاء بتحوّلنا الى غذاء للأرض غير مسموح بإستهلاكه قبل …

أنا قادر على أن لا أهاب الموت ، ولكن لماذا عليّ أن أحرص عليه ، أن احرص على قبيلة الأموات طالما أني أفلح في الحرص على الأحياء وحتى على حيّ واحد ، على نصف حيّ. ليس الأموات عادلين أزاء الأحياء ، فهم يطعمونهم الخوف ، ومثل الطفيليات يعيشون على ذكريات الأحياء وشوقهم وحزنهم ، يغصّون ثم يشربون ألم الأحياء. أنا أخاف من الشيخوخة ومداها الذي هو جسم متوحد ومتصرصر ليس مهما لديه هل سيكون الموت مدّجنا هادئا وحكيما أم شهوانيا ووحشيا وساديا.

أنظر الى الطاولة لكني لا أقدر على مسك حدودها ، لا أرى الضوءالذي قد يكشفها ، ولربما العكس . قد تسيل الطاولة مع الضوء الذي يتسرب من الستائر. لا أعرف إرتفاعها ولا عرضها ، أراقبها وأنا شبه مستلق تحت اللحاف الذي تصل حاشيته الى ما تحت الحنك. لا أرى سطح الطاولة في هذا الفضاء المميت لكني أرى جوهرها ، ارى طاوليتها رغم أني لا أعرف كيف هو تعريفها. أرى ايضا جوهر الأشياء الأخرى ، ويبدو أنني قادر على التفاهم معها بالأفكار أو بنبض ما للنيورونات. في لحظة واحدة خيّل لي بأني أنا أيضا مجرد شيء بين الأشياء الأخرى ، عدد في نظام الأعداد ، حرف في حبل حروف الأبجدية. هذا شيء فظيع وجاذب أيضا إلا أن الإنفعالات قد تحولت الى أشياء ، إنها في الجانب ، أرى جوهرها ولكنني لا أشعر بها ولا أستجيب لها. أخذت أفهم بأنني فطيرة اللحم التي تسمّمت بها.

الصوت أفسد كل شيء . صوت طيّار أمريكي ، مشارك في حرب الفيتنام ، مازلت في حال لاأميّز فيها هل الصوت ينبعث من جهاز التلفزيون أم ينداح في داخل رأسي . إنه يروي عن الغارات ، عن الطائرات التي قادها فوق الأدغال ، عن المزايا والنواقص ، يروي عن آلاف القنابل التي أسقطت على الأرض إلا انه يّرّكز على القضايا التقنية ، والأمر معدوم الأهمية تماما إذا كانت القنابل قد مزقت أجسام الناس الأحياء . الأمر الأهم : هل نفذ المهمة بصورة جيّدة أو غير جيّدة تماما ، وهل كان هروبه من مطاردات العدو وتجنب نيران المدفعية المضادة سهلا أم صعبا . ولا كلمة واحدة هناك عن الهدف الحيّ للغارات و لا ظلا من الشك في أنه كان يملك الحق في القتل.

ليس الأحياء أفضل ولو قليلا من الموتى، فهم يعتاشون على مجدهم ونقودهم ، ولا يتعظون بأخطائهم ويكذبون على حسابهم ويأخذون منهم ما يحتاجونه فقط وما يمكن إستغلاله وبيعه.

أشعر بأن على بطني العارية يزحف مخلوق ما من الأحياء ، وعلى الفور أستعيد وعيي كاملا. اللامبالاة البشرية أزاء الآخرين ، أزاء الأشكال الأخرى من الحياة على الأرض ، هي مقززة . المفروض أن أكون ممتنا للصرصار الذي قد يكون هو الوحيد القادر على إخراجي من الحالة الإنتقالية ، من حالة الحشر بين الأحياء والأموات . وأنا شعرت بالإشمئزاز منه. وغرائز جسمي الذي كافح ، كما يبدو ، المرض ، قد بصقت على أخلاقيات الوجود، والصرصار أنهى المرحلة التالية من تجوال الروح في دورات الولادات والموت.

1999

هوامش المترجم :

* يعتبر بارولسكيس (1965) Sigitas Parulskis من أبرز شعراء ليتوانيا للفترة التي إستعادت فيها البلاد إستقلالها وسيادتها في منعطف العقدين الثامن والتاسع من القرن الأخير. ونهج هذا الشاعر بالغ الوضوح : طرح تجربته الفردية التي تنضح بالميلانخوليا والفراغ والوحدة المستقطبة . وكما يقول إنها جرثومة المحدوديات البشرية ، ومبعثها حالة الهشاشة والموت. فكل فعل بشري ، وبضمنه الإبداع الفني ، محكوم بالفناء والقحولة ولأن الإنسان والعالم ينتميان ، على السواء ، إلى المنطقة الأرضية التي أصابتها عدوى الفناء ، إنها منطقة العقر المحرومة ، في الجوهر، من القدسي. وهذا الشاعر الذي لم يخبر بعد مراحل ما بعد الشباب يجد أن وحدة الكائن البشري يعمّقها إنعدام الإتصال مع المطلق ، فالرب لا يدخل في علاقة حقيقية مع الإنسان ، كذلك فهو لايبحث عن إتصال حقيقي مع الرب ، كما أنه لايتحسس بالعالم ولا بوجوده عبر الدين. وهاجس الموت يخيّم على كل أشعار بارولسكيس وهو حفازه الشعري وما يوفر له كل حجة ومبرر كي ينداح الموت في كل الأشياء والمحيطات . إنه المنتصر الدائم ، وإنتصاراته بالغة السهولة ولأن الحياة بالغة الهشاشة بدءا بإلتهام القط للفأر، ويبوسة شجيرة لم تعط ثمارها بعد أو نزول فأس على جذع شجرة حيّة. وهناك من شبّه أشعار الليتواني بلوحات جيروم بوش الكابوسية. وفي هذه الرقصة مع الموت مر ّ الشاعر بمرحلة الفزع والتمرد والتقزز ودخل الأخرى : الرضوخ للمصير بل التعايش مع الموت . والى جانب الدواوين الشعرية كتب بارولسكيس العديد من المسرحيات . وقد نال على ديوانه (الموتى ) من عام 1994 أرفع جائزة أدبية في بلاده. كذلك نقلت أعماله الشعرية والدراماتورغية الى الكثير من اللغات.

“1” ويسمى أيضا عيد جميع القديسين ويصادف الأول من تشرين الثاني / نوفمبر.

“2” بطل إحدى قصص الفروسية من النصف الثاني من القرن الحادي عشر . والقصة من صنف الأغاني المعتمدة على أسطورة عن أحد فرسان الملك شارلمان.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى