وائل السواح: لا يهمّ الأسد الشرعية الدولية وخطابه بعد الانتخابات كان خطاب حرب
غسان ناصر
يستضيف مركز حرمون للدراسات المعاصرة، في هذه الفسحة الحوارية، الكاتب اليساري والباحث في قضايا المجتمع المدني وحقوق الإنسان، المعارض السوري وائل السواح، السجين السياسي السابق، والمدير التنفيذي لمنظمة “مع العدالة” في الولايات المتّحدة الأميركية. وعضو الأمانة العامّة لرابطة الكتّاب السوريين، وكان مديرًا لمنظمة “اليوم التالي”، وبهذه الصفة، أسهم في ترسيخ مفهوم “العدالة الانتقالية” في سورية، وأسّس وأدار “مجموعة العدالة الانتقالية” بين عامي 2014 و2016. وهو عضو في ندوة الشرق الأوسط للدراسات القانونية (Middle East Legal Studies Seminar) التابعة لجامعة يال الأميركية، وعضو في المجلس الاستشاري لبرنامج سورية في معهد الشرق الأوسط في واشنطن.
ضيفنا ابن مدينة حمص من مواليد عام 1955، اعتُقل عشر سنوات في سجني تدمر وصيدنايا، في أثناء حكم الدكتاتور حافظ الأسد، على خلفية انتسابه إلى “حزب العمل الشيوعي”، وأُطلق سراحه عام 1991. وهو من المشاركين في “ربيع دمشق” عام 2000، وأصدر كتابًا بعنوان «ربيع دمشق وخريفها». ومن إصداراته الأدبية: «لماذا مات يوسف النجار» (مجموعة قصصية)، و«الموت عند المساء» (مجموعة قصصية)، و«قالت إيمان» (رواية)، إضافة إلى كتابة عشرات الأوراق البحثية، ومشاركته في تأليف عدد من الكتب، منها «حكاية اسمها سوريا»، و Taking to the Streets: Activism, Uprisings and Democratization in the Arab World, بالإنكليزية، وLe Printemps arab: un premier bilan، بالفرنسية. وهو رئيس تحرير موقع “سيريان أبزرفر”، ومسؤول تحرير في موقع “الأوان”.
هنا نص حوارنا معه:
سنبدأ حوارنا معكم من حيث انتهى بشار الأسد. ما هي قراءتكم لخطابه الذي وجهه إلى الشعب السوري إثر إعلان “فوزه” في الانتخابات الرئاسية الوهميّة، التي وصفها البيان المشترك لوزراء خارجية الولايات المتّحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا بـ «الانتخابات الرئاسية المزوّرة»؟
ثبت أنّ بشار الأسد وداعميه كانوا أكثر معرفة منا بالعالم وبمدى جديته في إزاحته عن منصبه، ولذلك جاء خطابه خطابَ حربٍ لا خطاب سياسة. وهو يعرف أنّ الانتخابات التي خاضها لم تكن نزيهة، وأنّ الأرقام التي أذاعها رئيس مجلس شعبه ليست صحيحة، ولكنه يريد أن يقول “أنا لا آبه. أعرف كلّ ما تقولونه ولا أهتمّ”. لا يهمّ الأسد الشرعية، بل يسعى إلى القبول به كأمر واقع. يريد أن يعترف العالم بأنّ إسقاطه غير ممكن، وبأن لا بدّ من التعامل معه، أو من التعامل مع السوريين من خلاله، وبشكلٍ خاصّ في ما يتعلّق بإعادة الإعمار، وهو ما يبدو أمرًا ممكنًا الآن أكثر فأكثر.
الأسد سلك في خطابه مسلك زعيم العصابة الصغير
رسالة الأسد إلى المجموعة الدولية، بخاصّة الغربية، كانت واضحة عندما اعتبر أنّ الانتقادات الغربية المشكّكة في نزاهة الانتخابات الرئاسية التي تشهدها سورية قيمتها “صفر”. أيّ رسالة أراد أن يوصلها إلى الغرب وهو يمضي قدمًا في ولايته الرابعة الممتدّة سبع سنوات، دون التقيد بالقرارات الدولية، وفي مقدّمتها القرار 2254؟
سلك الأسد في خطابه مسلك زعيم العصابة الصغير الذي إذا انتصر، أو أعتقد أنّه انتصر، تصرّف بوحشية أكثر، على عكس القادة الكبار. ولكن لننتبه: لا أقول إنّ الأسد قد انتصر؛ إنّه يريد أن يوهم العالم بأنّه انتصر، فتصرّف كمافيوي صغير منتصر. ومن هنا جاء خطابه هجوميًا و”قليل الأدب” بالمعنى الشعبي لعبارة قلّة الأدب.
لو أنّ الأسد انتصر في معركته فعلًا؛ لما كان غاضبًا بهذا الشكل الذي ظهر فيه، دون أن يخفف “البوتوكس” من قباحة ذلك. والسؤال: إذا كان عدد من يحقّ لهم التصويت 18 مليونًا، صوّت بينهم 14 مليون، وحصد الأسد من هذه الأصوات 95.1%، فلماذا يكون الرجل غاضبًا وحانقًا ومتوتّرًا؟ الجواب ببساطة هو أنّه يعرف جيدًا أنّه لم ينتصر، وأنّه لا يحكم البلاد، بل إنه يعرف أنّه لم يعد ثمّة بلاد ليحكمها. ولذلك أراد أن يرسل رسائل في خطابه. أولاها للسوريين، مفادها أنّ الدولة قد استعادت هيبتها، وأنّها عقدت الانتخابات على الرغم من أنّ الجميع وقف في وجهها، وأنّه لن يتسامح بعد الآن مع من يقف في وجهه. وثاني الرسائل للغرب، مفادها أنّ الأمر قد حُسم، وأنّه قد خاض انتخابات “تعدّدية، ديمقراطية”، وأنّه أفسح المجال لمنافسيه ليناقشا برنامجيهما، ولكن الشعب اختاره بنسبة 95.1%، فهو الآن أمرٌ واقع، معترف به دوليًا في الأمم المتّحدة، ومن قبل حلفائه وداعميه، وبالتالي فإنّ عهد جنيف والمفاوضات والحلّ السياسي قد انتهى، وأنّ من يريد حلًّا يجب أن يتفاوض معه مباشرة. وثالث الرسائل للروس، يريد من خلالها أن يوهم الروس أنّه قد حصل على نسبة عالية من التأييد، وبالتالي فهو “جدير” بأن يبقى رئيسًا لسورية، وبأن يعامله الرئيس بوتين كرئيس، وليس كتابع.
ما مصير العملية السياسية بعد أن تجاوزها رأسُ النظام بانتخاباته غير الشرعية، من منظور قوى وأطياف الثورة والمعارضة ومنظمات المجتمع المدني السوري والولايات المتّحدة وقوى أوروبية كبرى، وبخاصة بعد تأكيد المبعوث الأممي إلى سورية غير بيدرسون، في 26 أيّار/ مايو 2021، أنّ “الأمم المتّحدة غير منخرطة في الانتخابات الرئاسية السورية”؟
هدف النظام المعلن من الانتخابات هو إظهار سورية كأنها دولة طبيعية، ولكن غايته الحقيقية هي تجاوز العملية السياسية برمّتها، وإقناع العالم بأنّ جنيف انتهى والمفاوضات مع المعارضة انتهت، ولم يعد للأمم المتّحدة دور تلعبه مع مبعوثها، وإن كان لها من دور فلا بدّ أن يكون عبره هو باعتباره “الرئيس المنتخب”. لا يبحث الأسد عن الاعتراف، بل عن القبول به كأمر واقع، وغايته أن يبقى في السلطة، وأن تبدأ مسيرة إعادة الإعمار ليعود إلى نهب البلاد من جديد، بعد أن جففها أول مرة.
قبل يوم من تاريخ الاقتراع (26 أيّار/ مايو)، ذكر وزير داخلية النظام اللواء محمد الرحمون أنّ عدد السوريين الذين يحقّ لهم الانتخاب داخل القُطر وخارجه يبلغ 18 مليونًا و107 آلاف و109 مواطنين، بعد حسم المحرومين من حقّ الانتخاب. ما صحة هذه الأرقام بتقديركم؟ ومن هم (المواطنون المحرمون من حقّ الانتخاب) وفق تصريحات المسؤول السوري؟ وهل يحقّ -قانونيًا ودستوريًا- منع أيّ مواطن سوري من المشاركة في هذا الاستحقاق؟
تطرّقت جهات عدة إلى هذا الأمر. أحسن الأرقام تقول إنّ عدد سكان سورية لا يمكن أن يزيد عن 26.5 مليون نسمة. بينهم ستة ملايين لاجئ في دول الجوار وأوروبا، وهؤلاء لم يصوّتوا باستثناءات نادرة (لبنان). وهنالك في إدلب وشمال سورية (درع الفرات ونبع السلام) نحو 4 ملايين نسمة، زد عليها نحو 3 ملايين أخرى تحت سلطة “الإدارة الذاتية” الكردية، وزد فوق الجميع أهالي درعا ومعظم أهالي السويداء، يبقَ لديك في أحسن الأحول 13.5 مليون سوري تحت سلطة الأسد، فإذا حذفت منهم من هم أقل من ثمانية عشر، تبقى لديك نحو 11 مليون شخص. نسبة الإقبال وفق ادّعاء النظام 78%، أي 8.5 مليون شخص. هذه أرقام وليست آراء. الرأي يكذب، ولكن الرقم صادق على طول الخط. أما ما يتعلّق بالحرمان من التصويت، فهذا خرق واضح لحقوق الإنسان ولقرارات الأمم المتّحدة التي تطالب بأن يشترك السوريون قاطبة في الداخل والخارج في الانتخابات، بغض النظر عن موقفهم السياسي. على أنّ الأسد لا يأبه لحقوق الإنسان ولا للأمم المتّحدة ولا حتى للدستور السوري، وليس مفاجئًا إذن أن نرى لبنانيين وفلسطينيين يصوتون في سفارات الأسد في العالم، حين تعذّر تصويت السوريين، أو أن نرى -كما قال لي أحد قادة المعارضة في الداخل السوري- سوريين يسافرون إلى لبنان، للإدلاء بأصواتهم في سفارة الأسد في بيروت.
الأسد منذ سنوات يريد أن يكون رئيسًا لشريحة صغيرة من السوريين، هي شريحة الموالين والمطبّلين والمزمرين، أو على الأقل للقابلين به على مضض. وهؤلاء أعطاهم حقّ الانتخاب (وأجبرهم عليه). أما السوريون الذين قالوا له كفى، والذين هربوا من بطشه، والمعتقلين والمغيبين والمهجّرين، فهؤلاء ليسوا من “رعيته”، وبالتالي فقد حرمهم الحقّ في التصويت.
عندما أراد الأسد الصلاة في عيد الفطر الأخير اختار داريّا، ويوم ذهب وزوجته للاقتراع اختار دوما، أما احتفاله بما اعتبره “نصرًا” فقد كان في حمص. أليس لاختياره هذه المناطق والمدن المنكوبة بسبب وحشية عسكره وأجهزته الأمنية، دلالات معينة؟ كيف تقرؤون ذلك بعين المثقّف الحقوقي؟
صحيح! الكبير إذا انتصر عبّر عن انتصاره بعبارات وأشكال متوازنة وبعفو. أما الصغير فحين “ينتصر” فيعبّر عن ذلك بسفاهة ووقاحة ووضاعة وانتقام رخيص. فكيف إذا لم يكن قد انتصر، ولكنّه يريد أن يمثّل دور المنتصر؟ ولا ننسَ أنّ الأسد قد أُذِلَّ في داريّا ودوما وحمص ودرعا، وأنّه لن ينسى مطلقًا هذا الإذلال، ولذلك تراه مستعدًّا للانتقام ممّن أذله في المكان ذاته. الأكيد على أيّ حال أنّ الأسد يعرف جيدًا أنّ الأرض التي وطئها لكي يدلي بصوته روتها دماء ضحاياه.
نعمل على تحقيق المساءلة بحقّ منتهكي حقوق الإنسان
أنتقل إلى الحديث معكم عن منظمة “مع العدالة”، نرجو منكم إعطاءنا لمحة موجزة عنها، وعن مجالات عملها في خدمة المعتقلين والمغيبين قسريًا وفي إطار المجتمع المدني في الداخل السوري والخارج؟
“مع العدالة” منظمة سورية مرخصة في الولايات المتّحدة، تعمل على تحقيق المساءلة بحقّ جميع من ارتكب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. ونحن نقوم بذلك من خلال المناصرة والتوثيق وجمع الأدلّة والتواصل مع الحكومات والهيئات القانونية في العالم التي من شأنها العمل على تحقيق العدالة في سورية. وقد قمنا حتى الآن بنشر ثلاثة كتب تتحدّث عن منتهكي حقوق الإنسان من قبل النظام، وهي كتاب «القائمة السوداء» الذي يتحدّث عن أكبر منتهكي حقوق الإنسان في المؤسّستين العسكرية والأمنية، إضافة إلى الميليشيات الطائفية المؤيدة للنظام. وقد جردنا فيه ثلاثة وتسعين مجرمًا من مجرمي النظام. أهمية هذا العمل تسهيل الوصول إلى المعلومات، من قبل الهيئات الدولية والوطنية التي تعمل الآن أو ستعمل مستقبلًا على تحقيق العدالة في سورية.
ثاني الكتب كان «رجال أعمال الأسد»، وهو ثبت بأسماء وأعمال رجال الأعمال السوريين الذين ساندوا الأسد، وأسهموا في تمويل حملاته الإجرامية ضدّ السوريين أو الذين ساعدوه في الالتفاف على العقوبات الدولية. وهذا الثبت يعتبر الآن أحد مصادر الاتحاد الأوروبي في اتخاذه لقرار فرض عقوبات على الأفراد والمؤسسات السورية التابعة أو المقربة للنظام. العمل الثالث كان عن أعضاء مجلس الشعب في انتخابات عام 2000، وكيف كانت الانتخابات مكافأة للأفراد الأكثر فسادًا ودموية الذين ساندوا الأسد في حربه على السوريين. إلى ذلك، نقوم في “مع العدالة” بالتواصل مع المسؤولين الحكوميين وقادة المنظمات الدولية، وقد شاركت المنظمة في عددٍ من الأحداث التي قامت على هامش اجتماعات الهيئة العامّة للأمم المتّحدة، وأيضًا في أحداث ومناسبات عدّة، في باريس ولاهاي وإسطنبول ولندن.
في ظلّ الواقع السوري الكارثي بعد عقد من ثورة الحرّيّة والكرامة، برأيكم ما مهمّة منظمات المجتمع المدني في الداخل السوري والخارج للمساهمة في إعادة تشكيل سورية الجديدة على أسس ديمقراطية لتكون دولة المواطنة والمؤسّسات؟
حين اندلعت الانتفاضة السورية، كان المجتمع المدني -وليس المعارضة السياسية- هو من قاد التظاهرات وأقام الاعتصامات ووضع البرامج الانتقالية. وحين انسحبت الحكومة من بعض المناطق السورية، كان المجتمع المدني هو من عوض غيابها في مجال الخدمات وفي مجال الحوكمة أحيانًا. صديقي الشهيد عمر عزيز، مثلًا، كان أول من نادى وعمل على تأسيس مجالس محلية في المناطق الخارجة عن سلطة الأسد. لم تكن المعارضة ولا المقاتلون من عمل على إدماج الشباب والمرأة في الثورة السورية، بل المجتمع المدني. والمجتمع المدني هو الذي أكّد -من دون أن يسمع له أحد- سلميّة الثورة ومدنيتها، وأن المواطنة معيار أساسي للعلاقة بين السوريين. وهو الذي عمل على تحديد معايير العمل في اليوم التالي لسقوط النظام وبداية المرحلة الانتقالية إلى الديمقراطية، فوضع تصوّراته لحكم القانون والعدالة الانتقالية وإصلاح القطاع الأمني وإصلاح النظم الانتخابية وكتابة الدستور وإصلاح القطاع الاقتصادي والعلاقات المجتمعية. ولكن سرعان ما غاب المجتمع المدني عن طاولة السياسيين وتجار الحرب وقادة الدول التي تسيّر أمور سورية. واليوم، يدمّر السياسيون والعسكر ذلك كلّه، في مناطق النظام والمناطق التي تسيطر عليها المنظمات الراديكالية الإسلامية كـ “النصرة” وغيرها. الطرفان يعتبران المجتمع المدني بدعة غريبة، ابتدعها الغرب الإمبريالي (النظام) أو الغرب الكافر (الإسلاميون).
لا بدّ للمجتمع المدني من أن يلعب دورًا في العملية السياسية، وهو مؤهل للتأثير في السوريين أكثر، لأنّه ليس طرفًا سياسيًا، وليس لديه طموح سياسي في استلام منصب أو اقتناص منصب. لذلك فهو الأقدر على أن يكون الضامن للحلّ السياسي والمراقب لتنفيذه، إن لم يكن رافعته الأساسية. وهو أقدر من غيره على إدماج كلّ فئات الشعب وكلّ طوائفه وقومياته، وهو الأكثر جرأة في إشراك المرأة وتمكينها، وفي إعطاء الشباب دورًا أكبر. ولكن، في بلدٍ مثل سورية يمرُّ بهذه المحنة الاستثنائية، لا يمكن أن يُطالَب المجتمع المدني بإيجاد المخرج! جميعنا يعلم اليوم أنّ الأزمة السورية صارت لعبة خارجية، ولا يمكن لحلّ دائم أن يأتي إلّا بتوافق سياسي بين الداخل والخارج. ولننتبه أنّه لا يوجد مجتمع مدني يعمل على مستوى الساحة السورية بأكملها، لأنّ قوى الأمر الواقع تمنع ذلك، لذلك ترانا نعمل في ظلّ الممكن، من دون أن نفرط بالناشطين المدنيين على الأرض.
إزاء المشهد الحالي في سورية: أربع مناطق نفوذ تحكمها سلطات أمر واقع على امتداد الجغرافيا السورية الممزّقة، مع وجود خمسة جيوش محتلّة على الأرض السورية، فضلًا عن عشرات الميليشيات المسلحة المرتبطة -تمويلًا وتسليحًا- بقوى إقليمية ودولية… إلى أيّ مدًى يؤثّر هذا الواقع في عمل منظمات المجتمع المدني، ونحن نعلم أنّ قوى الأمر الواقع في أكثر من منطقة تمنع عمل تلك المنظمات التي يغيب عنها توفّر الحماية الدولية؟
يعتقد السياسيون والعسكر اليوم أنّ الحلّ في أيديهم، وهم في أثناء ذلك ينزلقون يومًا بعد يوم في تبعيتهم لمرجعياتهم الإقليمية والدولية بشكلٍ محزن ومخزٍ. هم يعتقدون أنّ بإمكانهم التفاوض أو القتال والوصول إلى حلّ في جحيم الاستعصاء من دون استشارة السوريين أصحاب الشأن. والحال أنّ أيّ اتّفاق أو حلّ سيتم التوصل إليه لن يكون قابلًا للاستمرار، ما لم يكن السوريون موافقين عليه. والمدخل إلى السوريين -اليوم أكثر من أيّ وقت مضى- هو المجتمع المدنيّ الذي كان بين السوريين ومعهم، والذي لم يتاجر بهم ولم يجنّد أطفالهم ولم يتحدّث باسمهم في المحافل من دون ترخيص.
ونحن نعرف كيف ينظر النظام بخوف ورعب إلى المجتمع المدني، وكيف اعتقل الأسد ناشطي سورية المدنيين وقتلهم وعذبهم وهجّرهم، بينما كان تعامله مع المسلّحين والإرهابيين أكثر تساهلًا وتسامحًا. ونتذكر كيف غيّب تنظيمُ “جيش الإسلام” أربعة من ناشطي المجتمع المدني في دوما، وهجّر كثيرين، وقتل تنظيم “داعش”، واعتقل وعذّب المئات من الناشطين، وكذا فعلت “النصرة” وزميلاتها في شمال غرب سورية. واليوم، المجتمع المدني يعيش مرحلة سيئة، لأنّ الجميع يستقوي عليه ويطالبه بما لا يستطيع، من دون أن يعطيه المساحة الكافية ليعبر عن رأيه ويقول قوله في مجريات الأمور.
هل تُحمّلون منظمة الأمم المتحدة مسؤولية عدم توفير الحماية الإنسانية المطلوبة لطواقم تلك المنظمات المحلية والأجنبية العاملة في الأراضي السورية على تنوّع سلطات الأمر الواقع؟ وما السبل لخلق واقع أفضل يمكّن قوى المجتمع المدني من القيام بمهماتها؟
بالطبع، الأمم المتّحدة مسؤولة عن الفشل في التوصل إلى حلٍّ يُنهي مأساة السوريين ويحقّق لهم كرامتهم وحلمهم بنظام ديمقراطي حقيقي. ولكنّ الأمم المتّحدة ليست مؤسّسة أو شركة صغيرة متجانسة، فبينما تقوم المنظمات الإنسانية في الأمم المتّحدة بدور رائع في مساعدة السوريين ومناصرتهم، يقف مجلس الأمن حجر عثرة، بسبب المواقف المنحطة لموسكو وبيكين في المجلس. وتلعب السياسة دورًا في تشويه الدور النبيل للأمم المتّحدة. خذ مثلًا انتخاب سورية عضوًا في مجلس منظمة الصحة الدولية، مكافأة لها على تدمير المستشفيات وقتل الأطباء والممرضين والمسعفين وتهجير الكوادر الصحية!
منظمات حقوق الإنسان تعاني حالة تراجع في الدعم
كثير من الناشطين المدنيين على الأرض السورية تعرّضوا للقتل أو للاعتقال أو الإخفاء القسري، كما جرى لخليل معتوق على يد أجهزة أمن النظام، ورزان زيتونة وسميرة خليل ووائل حمادة وناظم حمادي في المناطق التي كان يسيطر عليها “جيش الإسلام” في الغوطة الشرقية في دمشق، وغيرهم من الناشطين المدنيين والحقوقيين في معتقلات سلطات الأمر الواقع. سؤالنا: ماذا بإمكان منظمة “مع العدالة” أن تفعل، إلى جانب المنظمات الحقوقية المدنية السورية والدولية، من أجل معرفة مصيرهم ومصير كلّ المعتقلين والمختفين قسريًا ومن أجل إنقاذ من بقي منهم على قيد الحياة حتى الآن؟
لا يمكن أن نطلب من منظمات المجتمع المدني أن تقوم بما عجزت عنه الحكومات وهيئات الأمم المتّحدة. فما دام كلّ طرف من الأطراف مدعومًا من رعاته وحماته، فسيستقوي على السوريين، ولن يفرج عن أيّ معلومات حقيقية عن ضحاياه. في مقدّمتهم طبعًا نظام الأسد الذي غيّب عشرات (وربما مئات) الآلاف، ولا نعرف عنهم شيئًا. ولكنّنا لن ننسى كلّ التنظيمات الإرهابية الأخرى التي أسهمت أيضًا في تغييب معارضيها أو من تخشى منهم أن يكشفوا زيف وصدق معارضتها (النصرة، جيش الإسلام، إلخ). ومع ذلك، تستطيع منظمات المجتمع المدني، ومنها “مع العدالة”، ممارسة الضغط وتذكير العالم بهول الكارثة. والحقيقة أنّه لولا منظمات المجتمع المدني لما عرف العالم أرقام وأسماء المغيبين قسرًا، ولما بقيت هذه المادّة موضوعة على الطاولة. كلّ الأطراف مستعدّة للتنازل عن المغيبين وتعتبرهم أرقامًا. نحن نتعامل مع المغيبين كأشخاص، كبشر، كأفراد لهم عائلاتهم وأولادهم وآباؤهم وأزواجهم. نتعامل مع طموحاتهم وآمالهم، ونتحدّث عن آلامهم وتضحياتهم، ونعمل المستحيل لإبقاء كلّ الأطراف على رؤوس أصابعهم حين يأتي الأمر لمناقشة قضية المعتقلين والمغيبين.
كيف ترى الأمم المتّحدة عمل منظمات المجتمع المدني والمراكز والمنظمات الحقوقية السورية داخل سورية وفي الخارج؟ وهل تقدّم لها أيّ دعم سياسي أو مالي لتواصل عملها في الساحة السورية؟
تقوم الأمم المتّحدة بتقديم مساعدات كبيرة للسوريين في المخيمات ومناطق النزوح، ولا ننسى أنّ معظم المساعدات التي يقدّمها المانحون الكبار تمرُّ عبر قنوات الأمم المتّحدة. في آذار/ مارس الماضي، تعهد المانحون الدوليون في المؤتمر السنوي الخامس الذي استضافه الاتحاد الأوروبي، بتقديم 6.4 مليار دولار كمساعدات إنسانية لمساعدة السوريين، وكان المأمول 10 مليارات دولار. وجمعت الأمم المتّحدة أكثر من 7 مليارات دولار، في عامي 2020 و2019. جزء كبير من هذه المساعدات يأتي من طريق المنظمات الإنسانية الدولية والسورية، وبهذا تلعب الأمم المتّحدة دورًا في دعم المجتمع المدني. ولكنّ المطلوب هو تقديم الدعم السياسي للمجتمع المدني وتمكينه وتعزيز دوره في الميادين الأخرى، إضافة إلى ميدان الإغاثة. منظمات حقوق الإنسان والتوثيق والمناصرة والضغط السياسي جميعها يعاني حالة تراجع في الدعم، وهذا يضعف دورها الاجتماعي والسياسي، ويعزّز بالمقابل دور الجماعات المسلّحة.
لا حلّ لسورية دون مصالحة مجتمعية حقيقية
بعد أن كثر الحديث عن مفهوم “العدالة الانتقالية” في الأدبيات السياسية السورية، نسألكم: ما هي العدالة الانتقالية؟ ومَن المعنيّ بآليات العدالة الانتقالية؟ وما الفارق بين مفهومي “العدالة الانتقالية” و”العدالة التصالحية” الذي مرره المبعوث الأممي غير بيدرسون في إحاطة قدّمها لمجلس الأمن في كانون الأول/ ديسمبر الماضي؟
في شهادة سابقة لي، نُشرت في مركز (حرمون)، قلت: “العدالة الانتقالية تتجاوز العدالة التقليدية وتمضي بعيدًا وراءها”. ليست العدالة الانتقالية هي العدالة المثالية. العدالة المثالية تقتضي تحميل المسؤولية لكلّ من ارتكب انتهاكًا لحقوق الإنسان، وهذا مستحيل في بلدٍ تعاظمت فيه الانتهاكات حتى بلغت مبلغ الجبال. وبسبب استحالة تحقيق العدالة الحقيقية، نأتي ببديل عنها يعوّض عن محاسبة الجميع بمحاسبة كبار المرتكبين ممن يقفون على رأس الهرم، ومن ثمّ بآليات أخرى كجبر الضرر وتخليد الذكرى. ولا يمكن لمسار حقيقي للعدالة الانتقالية أن يتم إلّا بعد انتقال سياسي حقيقي، فأيّ عدالة تتم في ظلّ الطغيان أو الحرب الأهلية أو الثورة هي عدالة منقوصة. وتختلف العدالة الانتقالية، عن المفهوم المتعارف عليه في الماضي بـ “العدالة الثورية”، في أنّها عدالة لا تبحث عن الثأر، إنّما عن إحقاق الحقيقة، فهي إذًا ليست انتقامًا في أيّ حال، لكنّها أيضًا لا تدير خدّها الأيسر حين تلطم على الأيمن. ولكن دعونا لا نخدع أنفسنا: لا يمكن أن تكون هنالك عدالة انتقالية من دون مصالحة مجتمعية واعتراف بالذنب ومغفرة. إذا أردنا محاسبة جميع منتهكي حقوق الإنسان في سورية، فإنّنا نحتاج إلى جيش من القضاة والمحامين، وملايين الشهود، وآلاف القاعات، إلخ، وهذا مستحيل. في رواندا، قُتل نحو مليون شخص على مدار ما يقرب من 100 يوم، وفق تقديرات منظمة “هيومان رايتس ووتش”. فأيّ نظام قضائي يمكن أن يقتصّ من القتلة ويعوّض الضحايا وعائلاتهم؟ ولذلك دعونا لا نحمّل العبارة التي وردت على لسان بيدرسون الكثير، لأنّنا في نهاية المطاف سنقبل بالمصالحة، إذ لا حلّ لسورية من دون مصالحة مجتمعية حقيقية. ومع ذلك لا يمكن لهذه المصالحة أن تتم إلّا بعد محاسبة كبار المجرمين.
في سورية، نجادل بأنّ مسار العدالة والمساءلة ليس في مصلحة الضحايا المفترضين في جانب الثورة والمعارضة والمدنيين الذين قتلتهم آلة النظام ودمّرت بيوتهم، وألقت بهم إلى البطالة والتشرد فحسب، بل إنّها أيضًا في مصلحة الشريحة الكبرى من آلة القمع ذاتها، بخاصّة تلك التي لم تكن مقتنعة بكلّ ما ارتكبته من جرائم وأفعال منكرة. إنّ العدالة الانتقالية هي في مصلحة الذين كانوا جزءًا من النظام، كما هي في مصلحة الضحايا المدنيين والمجتمع بأسره، فتحقيق هذه العدالة قمين بإعادة دمج هؤلاء الأفراد بمجتمعهم، واعترافهم بأفعالهم يساعدهم في إعادة احترامهم لنفسهم، وقبولهم بالعقوبة في حال وقوعها سيمكّنهم من التحرّر من العبء الهائل الذي سيحملونه إلى آخر العمر. وأخيرًا، إنّ مصالحة حقيقية مع المجتمع ستنهي عقودًا من القمع والاضطهاد والخوف.
يرى متابعون أنّ الصراع السياسي – الثقافي في سورية تحوّل إلى صراع على الهوية. كيف يمكن تجاوز ذلك؟ هل في بنية المجتمع السوري استعداد فكري ونفسي لكي يظهر هذا الصراع الهوياتي، أم أنّه فُرض من فوق نتيجة التدخلات الإقليمية والدولية. ما الأسباب برأيكم؟ وما العمل حيال صراع كهذا؟
يمكن القول بسهولة إنّه لا عيب في كثرة الهويات في وطن واحد. أعتقد أنّنا في سورية يجب أن نفخر في أنّنا إذا تركنا قرية إلى جارتها، سمعنا لهجة مختلفة ورأينا عادات مغايرة. هذه نقطة قوة وليست نقطة ضعف. ولكن دعونا نكف عن التباهي الكاذب. ثمّة حقائق لا جدوى من الهرب من التفكير فيها. لقد عانت بعض الطوائف وبعض القوميات في سورية اضطهادًا حقيقيًا في فترات سابقة على حكم الأسدين، وينبغي الاعتراف بذلك. يحبّ معظم السوريين أن يقولوا إنّنا كنا نعيش قبلًا في وئام مجتمعي تام. ليس هذا صحيحًا تمامًا. نعم، ثمّة تعايش في سورية مقبول إلى درجة كبيرة، ولكن علينا أن ننتقل من التعايش إلى العيش. يجب أن نحترم خصوصية الآخرين وعاداتهم وأديانهم وثقافاتهم ومميّزاتهم القومية إن وجدت، ولا بدّ أن يأتي ذلك طوعًا وعرفانًا وليس قسرًا أو منّةً.
روينا حكاية فارس الخوري آلاف المرّات، ونسينا أنّها كانت حالة يتيمة. وحكينا أنّنا نتزاور في الأعياد والأحزان، ونسينا كم فتى وفتاة قُتلوا لأنّهم تزوجوا من شخص من غير دينهم. إذن كان ثمّة في الأساس بعض الفراغات التي تمكّن الأسدان -كما تمكّنت بعض الدول الإقليمية- من الدخول منها لتعميق الشرخ المجتمعي في أوطاننا. ومع الأسف، بات حجم الانقسام المجتمعي مخيفًا أليمًا، وثمّة كراهية حقيقية بين المتطرّفين من كلّ الجماعات. ومع ذلك، هنالك في الوسط من لا يزال قابلًا للعيش المشترك وحلّ المشاكل. ولكنّهم لا يستطيعون فعل شيء من دون حلّ سياسي حقيقي يسمح لهم بالعمل من خلال مسارات متعدّدة، منها مسار العدالة الانتقالية ومسار المصالحة، والتركيز على مبدأ المواطنة ليكون هو الحاكم للعلاقات بين السوريين. سيتعيّن على الجميع تقديم تنازلات ومحاولة التلاقي في مناطق مقبولة من الجميع ولا تشكّل تهديدًا لأيّ مجموعة سورية. وعلى الأغلبية السورية أن تتحمّل دورها في حماية الأقليات، وكلّما كانت الأقلية أصغر وأضعف وأكثر هشاشة، كان دورنا أكبر في تقديم الدعم والحماية لها والمحافظة على تمايزها وتمّزها.
في أوائل القرن التاسع عشر، كانت نسبة المسيحيين في سورية 25%. الآن هي 5%. هذه خسارة كبيرة، كما كان هروب الجماعة اليهودية من سورية خسارةً. ولكن هل ننتظر الحلّ السياسي؟ لا بدّ من وجود نواة مدنية ديمقراطية علمانية صلبة، تعمل على المناصرة من أجل نشر مبدأ المواطنة وفكرة أنّ التنوّع والتعدّدية ثروة يجب المحافظة عليها وتنميتها.
أخيرًا، يبدو أنّنا أمام انسداد الأفق وهذا الخراب كما لو عدنا إلى درجة الصفر أو إلى ما هو قريب منها. السؤال: هل عندكم تصوّر لما ستؤول إليه الأوضاع في سورية على المديين القريب والبعيد؟
تحتاجون إلى نبيّ أو دجّال ليجيب عن هذا السؤال، وأنا لست أحدهما. وأخشى أن أكون متشائمًا قليلًا، إذ أقول لستُ أرى في المستقبل القريب صورة وردية للبلاد. أعتقد أنّ حالة الاستعصاء ستستمرّ زمنًا ربّما يكون سنوات. وحين يبدأ الحلّ سيكون توفيقيًا ولن يُرضي أيًّا من الأطراف. ولكنّه مع ذلك سيكون البداية الصحيحة. حين يبدأ الحلّ السياسي، ويرحل القتلة في نظام الأسد، ويُحاسَب كبار المسؤولين عن الجرائم من النظام و”المعارضة”؛ تبدأ حينذاك مرحلة إعادة البناء. ولا أتحدّث عن البناء المادّي فقط، بل البناء المجتمعي والثقافي والحضاري أيضًا. ولنتذكر أنّ سورية قد خسرت مئات ألوف الشباب والصبايا الذين وجدوا لأنفسهم حياة جديدة في ألمانيا وكندا وهولندا والسويد وتركيا. هذه الخسارة لها وجه إيجابي، فهؤلاء قد اكتسبوا خبرات وثقافة ولغات ومهارات لم تكن لتتوفر لهم في البلاد. وأنا واثق من أنّ بعضهم سيعود ومعه ما اكتسب. حتى أولئك الذين لن يعودوا سيكونون أيضًا عونًا للبلاد في المرحلة القادمة، بأموالهم وخبراتهم ونصائحهم. إلى ذلك هناك شريحة واسعة من رجال الأعمال الأثرياء والمهنيين (أطباء ومهندسين) في الولايات المتّحدة وأوروبا، ممن لا تزال أفئدتهم تهوي إلى البلاد. وهؤلاء ضرورة لا غنى عنها لإعادة بناء البلاد، اقتصاديًا واجتماعيًا وديمقراطيًا.
مركز حرمون