المخرج والناقد والمؤرخ البريطاني مارك كازنز -آراء شخصية، أفضل عشرة أفلام بنظره
مارك كازنز في كان: السينما لم تمت مع الجائحة/ هوفيك حبشيان
المخرج والناقد والمؤرخ البريطاني يقدم فيلمه الجديد لجيل لم يتعرف إلى ماضي الفن السابع
Mark Cousins
“قصة الفيلم: جيل جديد” أحدث أعمال المخرج والناقد والمؤرخ البريطاني مارك كازنز (من إيرلندا الشمالية)، شق طريقه إلى مهرجان كان السينمائي أمس الأول ضمن قسم “عروض خاصة”. هذا شريط عن فن السينما والإمعان فيه إلى أبعد حد، الفن الأكثر شعبية في العالم الذي توقف طوال أكثر من عام بسبب الجائحة، ويعود إليه كازنز ليرى ماذا تغير فيه. بدأ كازنز مغامرة “قصة فيلم: رحلة” في العام 2011. يومها اقترح عملاً ملحمياً من 15 ساعة عُرض في التلفزيون البريطاني، يعيد قراءة تاريخ السينما وأفلامها البارزة من منظور غير تلك التي اعتدنا عليه، آخذاً في الاعتبار الأقليات ومسألة الجندرية والأسماء المهمشة والأفلام التي يجهلها الجمهور العريض. قراءة مختلفة عن السائد تنتشل من النسيان لحظات سينمائية يعتبرها كازنز ذات شأن كبير في اكتشافه السينمائي. كثر اعتبروا “قصة فيلم: جيل جديد” حينها “رسالة حب إلى السينما”، علماً أنه كان مقتبساً من كتاب وضعه المخرج في العام 2004. واليوم في زمن عودة كان وعودة الجمهور إلى الصالات بعد توقف، يعود كازنز، عاشق السينما الأبدي، في تحديث لعمله الأصلي الذي أشهره في العالم، مسلطاً الضوء على المَشاهد السينمائية الأقوى التي صنعت العقد الماضي، أي من 2010 إلى 2021، وصولاً إلى الجائحة. يعود ليطمئننا: السينما لا تزال حية.
لائحة مقترحة
بأسلوبه المعتاد الذي يعتمد على التعليق الصوتي لإيصال المعلومة، يقترح كازنز بداية لائحة بالأفلام الحديثة التي دفعت بالسينما إلى الأمام، قاصداً بها أعمال تقدمية أسهمت في تطوير عقليات الناس. في رأيه أن هناك كثيراً من هذه الأفلام مثل “مونلايت” للأميركي باري جنكينز أو “قبر الروعة” للتايلاندي أبيشاتبونغ فيراسيتاكول. من خلال عدد من النماذج يؤكد كازنز أن السينما وسعت آفاقها في السنوات الماضية، وانفتحت على العديد من المواضيع الجديدة، ويعود هذا إلى جهود عدد من السينمائيين الذي أبدوا انفتاحاً أكثر من الأجيال السابقة.
خلافاً لـ “قصة فيلم: رحلة” إذ كان يتناول الأفلام الكلاسيكية التي مر عليها الزمن وتخمرت في المخيلة الجماعية، يتعامل كازنز هنا مع الحاضر، حاضر لا نملك حياله أي بُعد أو مسافة وهو يعرف ذلك، إلا أن هذا لا يمنعه من طرح نظريات وتحليل الواقع السينمائي الحالي انطلاقاً من قناعاته السياسية ودعمه المطلق للمرأة وميله للعمل على الذاكرة. يقول، على سبيل المثال، إن السينما الحديثة أعطت الأجساد طابعاً جنسياً، وإن “ماد ماكس” هو أفضل فيلم حركة في العقد الماضي. ينكب أيضاً على الجوانب المتعلقة بالشكل في الأفلام. لا ينسى تحليل حركات الكاميرا ومعانيها في الكادر، متحدثاً في بعض الأحيان من قلبه لا من عقله، كما الحال عندما يدعي أن المشاهدين هرعوا إلى الصالات بعد الجائحة.
الاستماع إلى كازنز وهو يتحدث عن السينما، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، أحد أجمل الأشياء التي يمكن أن يحدث في حياة المهتم بالأفلام، وهناك فصل قليل بين وجوده كإنسان وشغفه بالشاشة. أحدهما يكمل الآخر. يتذكر كازنز عندما كان صبياً في بلفاست، حادثة معينة غيرت حياته إلى الأبد. كان في سن الـ 12 يستعد لمشاهدة فيلم “ذي اكزورسيست” لوليم فردكين، وهو فيلم عن الشيطان. يقول “تربيتُ كاثوليكياً جداً. كان لدينا شريط فيديو للفيلم. عمتي أدخلته في جهاز الفيديو. أخذت المياه المباركة… أتعرف المياه المباركة؟ المياه المباركة في التقليد الكاثوليكي، وراحت ترش جهاز الفيديو بالمياه المباركة. هذا الشيء كان مرعباً جداً: الشيطان كان في الفيلم في نظرها، إذاً باركته.
فقلت في نفسي “إذا السينما بهذه القوة حد أنه عليك مباركتها، فربما كل مرة رأينا فيها فيلماً علينا رش الشاشة بالمياه المباركة. هذه المقاربة للسينما كشيء مقدس كانت جد مهمة في حياتي”.
السينما والعزلة
يرى كازنز أن الذين يحبون السينما غالباً ما يعانون من وحدة معينة في طفولتهم أو يغردون خارج السرب. يقول “إنهم كالناس الذين يحبون موسيقى ديفيد بووي مثلاً. هناك شيء يشعرك بالبُعد عن الناس، تمضي كثيراً من الوقت في غرفة نومك، والناس الذين يحبون السينما هم غالباً هذا النوع من الأشخاص. السينما تأخذهم من يدهم وتقول لهم دعوني أريكم العالم. هناك نوع من وحدة مرتبطة بالسينيفيلية، وكأن عليك أن “تخرج عن صمتك” كسينيفيلي، كأن هناك شيئاً عليك أن تشعر بالعار بسببه فعليك أن تقول: أشعر بفخر بحبي للسينما. فرنسوا تروفو قال: على الفيلم العظيم أن يقول لنا شيئاً عن الحياة وعن السينما. وأنا أؤمن بهذا نوعاً ما. أشاهد أفلاماً جيدة جداً وواقعية جداً. ربما الشيء الوحيد الذي يفتقر إليه بعض الأفلام هو عدم اهتمامها الكامل بفن السينما أو بشكل السينما في ذاته، لكن أوافق تروفو بأن على السينما أن تحاول قول شيء عن الأفلام وعن الحياة كذلك”.
يعترف كازنز أنه اكتشف إيران قبل أن يذهب إلى إيران، ورأى الهند قبل أن يذهب إلى الهند. هذا كله بفضل الأفلام. يقول إن “السينما بارعة في تصوير أشياء كالمناظر. بارعة في أن تُريك كيف أن الحب يمكن أن يكون مراً وحلواً، لكن أعتقد أن السينما ليست عظيمة في تصوير الحرب مثلاً. نشأتُ خلال الحرب وفي بضع حروب أخرى، وهناك شيء في الحرب يغمرك، تشعر كأنك ستغرق عندما تكون في حرب. والسينما آمنة أكثر مما يلزم لتعطيك شعور الحرب الكاملة. لا تشعر حرفياً أنك في خطر. السينما عظيمة في نقل بعض الانفعالات. لكن أسوأ التجارب في الحياة، لا أعتقد أن السينما عظيمة فيها”.
خلافاً لما يدعيه بعضهم، السينما في نظر كازنز لا تحتضر، فهي فن شاب، إنها شكل فني حديث مقارنةً بالأوبرا والرواية والفن التشكيلي، ولا تزال في مراهقتها، ولا نزال نكتشف احتمالاتها الكثيرة. على هذه الادعاءات، يملك كازنز جواباً جاهزاً يقوله بكل هدوء، “أولئك الذين يقولون إن السينما تموت أو ماتت هم نقاد ذكور في عمر معين عاشوا الستينيات، وهم يحنون إلى ماضيهم فقط”
—————————–
مانيفستو: مارك كازنز
لماذا “مانيفستو”؟
“مانيفستو” سلسلة #سينمائية جديدة في حبّ الفنّ السابع.
فنّ السينماتوغراف كما يسمّيه دعاة التمسّك بالأصول والعودة إلى الينبوع.
فنّ الشاشة كما يراه البلاغيون.
فنّ الأشياء والشخوص التي يحوّلها لقاء الضوء والعتمة “حقيقة”في نظر المدقّقين.
فنّ جامع لكلّ الفنون ليغدو خلاصة لها بحسب المؤرخين.
لن نختلف على التسمية.
فالسينما كلّ هذا، وأكثر.
المهم أن نتّفق أن هذا الفنّ الذي أصبح الأكثر شعبيةً بين الفنون منذ ولادته في نهاية القرن التاسع عشر، جزء من ذاكرة الشعوب التي واكبت تطوّره.
فنّ وثّق حروبنا وانتصاراتنا. آمالنا وأحزاننا. عظمتنا وانحطاطنا. حكاياتنا وحكايات ناسٍ، بيننا وبينهم عالم، لا بل عوالم.
المهم أن نتّفق أن اعادة الاعتبار إلى هذا الفنّ، والاحتفاء به، والاستمتاع بمنجزاته، وفكّ ألغازه، ما هي الا اعادة اعتبار لهذه الذاكرة الفردية والجماعية.
لذلك، أردناها صوتاً وصورةً.
***
“مانيفستو” أو الرحلة السينمائية، كما أرتأينا تسميته.
فأيّ سينيفيلي ينظر إلى المسافة الزمنية التي قطعها على الشاشة في حياته، فيلماً بعد فيلم، لا بد أن يجد نفسه وقد قام برحلة. رحلة قد يتذكّر متى بدأت ولكن لا يعلم متى تنتهي. يتهيأ له ان السينما وفّرت له أجمل الرحلات وأروعها، عبر التجربة الإنسانية الفريدة، وعبر الحكايات الموزّعة في أنحاء العالم، وعبر التاريخ المتراكم فوق أكتافنا.
لا يوجد فنّ يضمن هذا الاحساس بالانتقال من مكان إلى آخر وأنت جالس في كرسيك.
لا يوجد فنّ يقرّب المسافات بين البشر داخل صالة على اختلاف طبائعم وأذواقهم وخلفياتهم الثقافية وتجاربهم.
لا يوجد فنّ يقترح هذا القدر من التجوال داخل الذات البشرية والطبيعة الآدمية.
***
“مانيفستو” مشروع سينمائي قائم في ذاته تَوَلَّد من الرغبة في مواكبة العصر.
مواكبة الثورة التكنولوجية الرقمية التي ساهمت إلى حدّ بعيد في تتفيه المضمون الإعلامي.
هذه الثورة، على سلبياتها الكثيرة، سهّلت الوصول إلى أكبر عدد، ووفّرت منبراً وقدّمت منصّة عرض لطالما احتكرتها التلفزيونات وتحكّمت بها شروط أصحاب القرار.
***
“مانيفستو” تنطلق من حلم ينمو فينا منذ زمن طويل: الحديث عن السينما بلغة تليق بها.
بلغة تليق بحبّنا لها، بلغة تليق بتاريخها ومنجزها ولحظاتها الأبهى.
بلغة ترتقي إلى عظمة الوقت الذي صرفناه في اكتشافنا للسينما.
بلغة تقدّر لحظاتنا “الضائعة” في الصالات المظلمة.
الأهم، بلغة بعيدة سنوات ضوئية من النموذج الاستهلاكي المكرَّس في السمعي – البصري: شبّاك تذاكر، أرقام، ترايلر، نجوم، جوائز، سجّادة حمراء، الخ.
أي، كلّ هذه اللغة البائدة التي بدا واضحاً ان التلفزيونات في العالم العربي (وبمقدار أقل بكثير في العالم الغربي) لا تعرف سواها في تناول السينما.
لا يعنينا أيٌّ من هذا كله.
نفهم “ضرورة” هذه اللغة في عملية دوران الماكينة الإعلامية الترويجية، لكننا ضد تسطيح السينما واختزالها برقم أو فستان أو جائزة. ضد استبدال الصحافة السينمائية بالصحافة الترويجية.
لذلك، فإن “مانيفستو” بديل متواضع للتناول البائد للسينما في وسائل السمعي – البصري العربية.
***
“مانيفستو” تولّدت من الحاجة إلى الحديث عن السينما بلغتها، أي بلغة الصورة والصوت.
الكلمة المكتوبة في الكثير من الأحيان “مقصّرة” في حقّ الصورة.
لا توفيها حقّها بالكامل. تقف عاجزة.
للكلمة حدود يصطدم بها الناقد مراراً.
الحديث عن فنّ الصورة بالصورة يفتح آفاقاً أخرى، أبواباً كانت مغلقة في الكتابة.
انها الكتابة العصرية، حبرها الضوء ولغتها المونتاج.
***
لا نخفي ان لـ”مانيفستو” موديلاً لا تخشى السير على خطاه: السلسلة السينمائية، “سينما سينمات” التي عُرضت على القناة الفرنسية الثانية من ١٩٨٢ إلى ١٩٩١.
هذا البرنامج الاسبوعي الذي أنجزه ميشال بوجو وكلود فنتورا وآن أندرو، بات مدرسة في كيفية تناول السينما: نمط سينيفيلي بسيط خالٍ من الاستعراض والتعقيد.
***
“مانيفستو” هي محاولة للإفلات من القيود والشروط.
انها محاولة للبحث عن فضاء من الحرية والاستقلالية.
لا “فورما” نهائية، ولا نموذج معلَّب.
الموضوع، وحده الموضوع، يفرض الشكل والمعالجة والاسلوب واللغة والمدّة الزمنية.
لا قيود انتاجية، لا ضغوط من مموّل مسعور.
“مانيفستو” لا تذعن لابتزاز “الجمهور عايز كدة”.
***
“مانيفستو” تُطرَح بلغات عدة: إنكليزي، فرنسي، عربي. تتوجّه إلى جمهور متنوّع، هنا، وهناك، الآن وغداً.
تُسقِط الحواجز على اختلاف أشكالها بين مشاهدي السينما. تخاطبهم باعتبارهم جزءاً من دولة واحدة، دولة السينما، تلك التي ننتمي اليها، ونشعر اننا مواطنون فيها، مقيمين وعابرين، ونحمل جواز سفرها.
***
“مانيفستو” لا تطمح إلى ان تكون مجلّة سينمائية إخبارية تواكب الحدث.
همّنا توثيقي، وموقعنا خارج الموضة والمادة الرائجة وهوس التعليق على كلّ جديد.
ليس التحليل والمقاربة النقدية ما يحفزّنا دائماً، بل حكايات وطرائف تبث الغبطة في قلب السينيفيلي الأكول.
الأفلام التي أحببناها وصاغت ذائقتنا السينمائية هي النبع الذي سنرتوي منه مرةً بعد مرة.
***
لـ”مانيفستو” مواقف واضحة، خصوصاً من القضية المطروحة بقوّة حالياً.
قضية تنوع وسائل المشاهدة.
أيّ وسيلةٍ هي المثلى؟
بالنسبة الينا، لا يوجد طيف من الشكّ بأن المشاهدة في صالة تأتي في المرتبة الأولى.
هي المشاهدة التي ينبغي عدم التفريط بها.
كلّ أنواع المشاهدات الأخرى ثانوية.
مارك كازنز يشرح جيداً لكلّ لبيب، الأسباب التي تجعل المشاهدة داخل صالة غير قابلة للاستبدال. وغير قابلة للموت.
قبله فرنسوا تروفو أعلن: “الفرق بين الفيديو والصالة مثل الفرق بين كتاب نطالعه وكتاب نستشيره”.
***
“مانيفستو” نصيرة السينمات الفقيرة المحمولة على الظهر.
ولكن نحن مع السينما الفقيرة متى قالت شيئاً (والقول ليس سياسياً فحسب).
متى حلّقت في فضاء السينما قبل أي شيء آخر.
الشعارات لم تعد مغرية.
ومثلما نحبّ السينمات المستقلّة التي تُنجَز بفضل جهود شخصية ومبادرات فردية، كذلك قلوبنا تهتف للسينما الهوليوودية والسينما التجارية. وسائر أنواع السينمات الشعبية والنخبوية، المعترف بها والمهمّشة، الكلاسيكية منها والطليعية، المنتشرة بكثرة والمتداولة “تحت المعطف”.
ثمّ هوليوود، لمَن يعرف تاريخها جيداً، ليست أحدث أفلام السوبر أبطال. أو آخر جزء لـ”حرب النجوم”. أو ريميك لـ”مولد نجمة”.
هوليوود هي جون واين وغاري كوبر وبيتر فوندا وروبرت ميتشوم وجيمس ستيورات.
هوليوود تعني ريتا هايورث وغريتّا غاربو وكاثرين هببرن وليز تايلور وكيم نوفاك.
انها هيتشكوك وولز وسبيلبرغ وهوكس وتشيمينو.
دعونا نرفع الظلم عن مسألة يشوبها الكثير من سوء الفهم.
***
“مانيفستو” لا تسعى خلف المشاهير، بل خلف الموهبة.
الموهبة لا تعني بالضرورة شهرة.
الشهرة لا تعني بالضرورة موهبة.
***
“مانيفستو” لا تنسى السينما الوثائقية ولا تتجاهل الفيلم القصير.
كلتاهما ضحية الاعلام الذي لا يجد فيهما أي مادة للإثارة والتوظيف.
ثم، السينما، من حيث المبدأ، ولدت قصيرة ووثائقية.
أقلّه ان نعيد الاعتبار إلى الأصل.
هذا، عدا انهما ينطويان على أفكار مجنونة وجريئة غائبة في الكثير من الأفلام الروائية الطويلة.
***
الحلقة الأولى التي بين أيديكم رمزية، احتفالية، تكريمية.
انها القبلة التي أردنا طبعها على جبين السينما والتذكير ببعض ما نحبّ فيها.
أردنا اعطاء الكلام للمخرج والسينيفيلي والمؤرخ البريطاني الكبير مارك كازنز.
مارك كازنز أرّخ للسينما في فيلمه الوثائقي، “قصّة الفيلم”، من وجهة نظر مغايرة.
مارك كازنز حكّاء لامع، يتنفّس سينما، لا ينقصه الشغف ولا تغيب عن باله معلومة.
قابل كبار السينمائيين في العالم، من مارتن سكورسيزي إلى عباس كيارستمي.
مارك كازنز كاتم أسرار السينما، لا يمانع تسليمها لك اذا عرفتَ كيفية استدراجه.
انه مرجع نعتز به و”عرّاب” يسعدنا الافتتاح بكلامه الذي يدفعك إلى الركض في إتجاه أقرب سينما.
كلّ واحد منّا يجد شيئاً من ذاته في مارك كازنز.
هذا الذي كرّس حياته للحكي عن السينما.
مَن أنسب منه لاطلاق “مانيسفتو”؟
————————————–
مارك كازنز: اليكم أفلامي العشرة المفضّلة/ فيك حبشيان
“في رأيي، المواطن كاين ليس أفضل فيلم لأورسون وَلز”، يقول مارك كازنز وهو يلقي بجسده الضخم على كنبة الردهة في فندق “ألكترا بالاس” المطلّ على بحر تيسالونيك. تصريح “خطير” نظراً للمكانة المرموقة التي يحتلّها الفيلم في تاريخ السينما، ودفعت تصويتات النقّاد المتكررة منذ نصف قرن إلى تثبيت العرش الذي هو عليه. هذا الرأي السريع لواحد من أبرز متذوقي السينما في العالم الذي أنجز وثائقياً من ١٥ ساعة عن تاريخ الشاشة بعنوان “حكاية الفيلم”، يحملنا إلى حديث يقطع الأنفاس طوال ساعة من الزمن عن السينما وعشقها ومشاهدتها الأكولة. في كلّ مرة كنت أذكّره بفيلم يحبه، كان يرمي بظهره في الكنبة ويصيح: “واو، واو، واو، يا له من فيلم”. وليس هناك أفضل من كازنز لنبش أفلام سقطت سهواً من الذاكرة السينيفيلية الشعبية وإعادة تقويمها في ظلّ الراهن معيداً لها الاعتبار. أو حتى إعادة النظر في المسلّمات: “العراب” تحفة، لكن هناك أرفع منه قيمة. و”فرتيغو”: أعشقه، لكنني أفضّل “مارني”.
الياباني ياسوجيرو أوزو مخرجه المفضّل، و”المرأة الحشرة” لشويه إيمّامورا هو العمل الذي لا يضع فوقه أيّ عمل آخر. يقول: “أوزو كئيب وسوداوي. لكن الرقّة التي يغلّف بها أفلامه سواء بصرياً أو عاطفياً أو روحياً، تمدّك بانطباع بأنه مخرج تكعيبي، والبعض يرى أنّ الحوارات لديه تأتي على الطريقة التي يرسم بها بيكاسو الإناء”.
يروي كازنز البالغ من العمر ٥١ عاماً انه عندما كان صغيراً، كانّ النقاد الذين يتابعهم قلة. أحبّ “الجميع” الأميركية بولين كايل وأمثالها، وهو لم ينجذب إليها كثيراً. دونالد ريتشي (كاتب أميركي متخصص بالسينما اليابانية) اضطلع بدور مهم في تثقيفه سينمائياً. في الصحف، يقول، “لم يكن من الممكن العثور على الكثير من المقالات النقدية القيمة”. ثم اكتشف فرنسوا تروفو وكتابه “أفلام حياتي”، والطريقة التي قدّم فيها “جوني غيتار” لنيكولاس راي. استوقفته راديكالية تروفو: “إذا لم يعجبك هذا الفيلم، فلا تشاهد أيّ فيلم آخر”. استوقفه شغفه بالسينما وسؤاله: “هل الحياة أهمّ من السينما؟”. سؤال وجد عليه كازنز الجواب: “نعم، الحياة أهم، ولكن مجرد التجرؤ على سؤال كهذا أجده مشوّقاً”.
يقول كازنز عن بداية علاقته بالسينما: “ما لاحظته، حتى عندما كنت أشاهد الأفلام في صغري، هو أنّ الشكل يهمّني بقدر اهتمامي بالمضمون. كانوا يسألونني عمَّ يتحدّث الفيلم؟ فأردّ أنه في الحقيقة، لستُ متأكداً من الحكاية. فالشكل واستخدام الفضاء كانا يصفعانني في وجهي. عندما تشاهد فيلماً يكون الشكل فيه بجودة المضمون، تشعرُ أنّك تشاهد فيلمين. كلّ فيلم لأوزو فيلمان. وما يثيرني في الموضوع هو أنّ عقلك على غرار أعصابك، يحاول الاستمالة إلى الفيلمين، وهذا يجعل العمل أفضل. تحاول معرفة ما مصدر هذه المشاعر. الأمر أشبه أن تشعر بالجوع”.
في الآتي، الأفلام العشرة المفضلة لدى كازنز عبر تاريخ السينما.
١ – “أصوات بعيدة، حيوات راكدة” لتيرينس دايفيس:
Distant Voices, Still Lives – Trailer
من التيمات الأساسية التي لاحظتُ اهتمامي بها: كيف يضمّد الإنسان جراحه. أحياناً، ليس بالضرورة أن يفرّط الإنسان بنفسه. الفيلم هو عن هذا النهوض. إنها حكاية شاب والده عدائي، لكن من خلال الأغنيات والسينما يدخل في يوتوبيا، فيتحقق خلاصه. دايفيس استمدّ الحكاية من طفولته التي كانت مؤلمة جداً، لكنه حوّلها إلى متتاليات بصرية في منتهى الروعة، فاستخدم تقنيات السينما ليضفي بعض الكمال على سيرة كانت مهمة بالنسبة إليه. ليس في الفيلم أيّ لقطات أرشيفية أو كاميرا محمولة على الكتف. المواقف حقيقية، لذا يمكن ربطها بسينما وثائقية ما. شاهدته في حينه، وآنذاك لم أكن قد شاهدتُ بعد أياً من أفلامه السابقة. منذ مشاهدتي الأولى، تراءى لي أنه الطريقة المثلى للنظر إلى الخلف، إلى الحرب التي مرّت. باستثناء فيلمه “انجيل النيون”، أحببتُ كلّ أفلام دايفيس. له نَفَس اوبيرالي على طريقة فيسكونتي، يأتي من إيمانه بأن الأشكال والألوان السينمائية هي سبيله لإجراء توازن مع المأساة.
———————————–
٢ – “الجيش الامبرطوري العاري يواصل زحفه” لكازو هارا:
THE EMPEROR’S NAKED ARMY MARCHES ON
هذا فيلم وثائقيّ حربيّ بطله شابٌ شارك في الحرب العالمية الثانية، وبعد نهايتها لم يعلم هو ورفاقه أنها انتهت. وعندما يختفي أحد رفاقه، يحاول معرفة سبب الاختفاء، فيكتشف أنه تحوّل كانيبالياً (من أكلة لحوم البشر). إلا أنّ الجنرلات يرفضون الإقرار بهذه الحقيقة. من وجهتَي النظر الأخلاقية والمعنوية، هذا الفيلم يوفر أقسى أنواع المشاهدات، فيرينا أنّ اليابانيين ساعدوا بعضهم البعض في أقسى الظروف خلال الحرب، وهي حالٌ كان يجب أن توثّق كي لا تسقط من الذاكرة. ببساطة: تحفة سينمائية صادمة، خصوصاً أنها تنتمي إلى الوثائقي وكلّ ما نراه حقيقياً. ثمة مشهدٌ يقاتل فيه شابٌ رجلاً مسناً. مشهد مزعجٌ جداً يخضّك. السؤال الذي نطرحه على أنفسنا: هل يستحقّ القيام بهذا كله، فقط لأنّ العسكر ينكرون جرائمهم؟ طالما كنت من هواة السينما اليابانية، حتى عندما اكتشفتُ هذا الفيلم. إنها السينما المفضّلة لدي. أعتقد أنّ اليابانيين أنجزوا أفضل الأفلام الوثائقية في العالم. المسألة بهذه البساطة. أوزو هو على الأرجح السينمائي الأعزّ على قلبي. الأفلام اليابانية لا تحظى بمعرفة كافية في الغرب، ولم تكن معروفة البتة حتى نهاية الأربعينات عندما بدأ مهرجان فينيسيا عرضها. حتى ذلك الحين، ظلّت هذه السينما مجهولة تقريباً. التقيتُ كنزو اوكوزاكي الشخصية التي يستند إليها الفيلم وأجريتُ معه حديثاً. أعرفُ أفلام هارا الأخرى وأقدّرها.
—————————————-
٣ – “باحثات الذهب لعام ١٩٣٣” لمرفين لوروا:
The Gold Diggers
آوه، أعشقه. ينطوي على عناصر من “أصوات بعيدة، حيوات راكدة”. في الحكاية كثير من الأسى. إنها عن رجل يعود من الحرب العالمية الثانية، وإنما مرفين لوروا اختار الميوزيكال ليقارب الحكاية. ثمة عروض الفتيات الراقصة اللواتي تبدين كفكرة تجريدية وهن شبيهات بنبتة السحلبية. أغنية “رجلي المنسي” تبلغ بالفيلم ذروته: سيدة تغني، جنود يمشون المشية العسكرية، سفن تبحر على الشاشة. إنّه خليطٌ من المضمون الاجتماعي والشكل السينمائي الطليعي. عندما يقترن هذا بذاك، توقّع شيئاً يتفوق على كلّ التوقعات. الجمال المقترن بالحقيقة باهر. شاهدتُ هذا الفيلم عبر شاشة التلفزيون عندما كنت صبياً. ترعرعتُ خلال الحرب في بلفاست، وهذا ما كان يحدّ من عدد المشاهدين الذين كانوا يرتادون السينما. التلفزيون كان نافذة لاكتشاف الروائع. كان والديَّ يخلدان إلى النوم، فأجلسُ في العتمة لوحدي وأشاهد تلك الأفلام. أحياناً، كنت أصرخ: “واو، ما هذا؟”. بعض الأفلام لم أكن أفهم عمّا تتحدث، مثل الفيلم الـ”نوار” الذي يتضمن مَشاهد جنسية. كنت لا أزال يافعاً.
—————————————
٤ – “ذاك الذي صُفع” لفيكتور سيوستروم:
Victor Sjöström
He Who Gets Slapped
هذا فيلم دادائي سريالي عن حق. جريء بصرياً وصامت. إنه عكس الواقعية ونقيض الوثائقي. لون شيني يضطلع بالدور الرئيسي. الفيلم يشبه السيرك، إلا أنني لم أشاهده منذ زمن طويل، وكنت اكتشفته بالـ”دي في دي” قبل سنوات. من النادر أن تحظى بفرصة مشاهدة فيلم هوليوودي صامت لسيوستروم. بصراحة، لا قصة في الفيلم كونه ينطوي على مَشاهد فانتازماغورية. أشبهه بـ”أمبرطورية اينلاند” لديفيد لينتش.
———————————–
٥ – “المرأة الحشرة” لشويه إيمّامورا:
Insect Woman Trailer
هل شاهدتَ “نيويورك نيويورك” لسكورسيزي؟ هذا الفيلم يشبهه. فيه كثير من المعارك. أعتقد أنّ هذا أفضل فيلم أنجزه إيمّامورا وهو ربما أفضل فيلم شاهدتُه في حياتي. المشهدية عريضة، التكوين رائع. نتابع معاناة امرأة وثمة مشهد نراها فيه ترضع والدها من صدرها. عليها ممارسة الدعارة والصراع من أجل الحصول على ما تحتاج إليه، وفي النهاية تنتصر. لا يوجد فيلم في العالم بأسره يضاهي هذا الفيلم على صعيد التكوين. مرة أخرى، على غرار فيلم تيرينس دايفيس، يجتمع هنا أسوأ الأشياء في الحياة وأفضلها. فيما أحدثكَ عن هذه الأفلام، انتبهتُ إلى أنها تنطوي على مآسٍ. شاهدته على شاشة كبيرة عندما كنتُ في السابعة والعشرين. كنتُ ملماً قبل ذلك بالأفلام الأسلوبية وكنت شاهدتُ أفلاماً هوليوودية، لكنها كانت تفتقر الحقيقة.
——————————————
٦ – “جانّ ديلمان” لشانتال أكيرمان:
Jeanne Dielman – Veal Cutlets
إليك فيلمٌ عن الزمن. نشعرُ به عندما تكون جانّ في المطبخ وتقطع الخضر قطعاً صغيرة. البعض يجده مملاً، ومن ناحيتي أجد أنّه يُعرّض المُشاهد إلى نوع من تنويم مغناطيسي. لستُ من هواة السينما المونتاجية، حيث كلّ شيء يسير بإيقاع سريع. تروقني اللقطات التي تملك قدرة القبض على الأنفاس. أكيرمان كانت بارعة في هذا المجال، تركيزها دائماً على ما يحصل خارج إطار الصورة. غيرها برع في ذلك كبيلا تار أو تاركوفسكي. وكون أكيرمان امرأة، فهذا يعنيني أكثر. لسبب ما، أفضّل أفلاماً بتوقيع نسائي. لأكيرمان أيضاً مقاربة مشوقة للحدود والأجناس. يا لها من سينمائية عظيمة!
———————————–
٧ – “الأمّ والعاهرة” لجان أوستاش:
Jean Eustache
The Mother and the Whore
يا إلهي، يا له من فيلم! ثلاث ساعات من الكلام! هذا فيلم تشعر فيه فعلاً ماذا يعني أن يحتضر الحبّ. ولكنك كمُشاهد تشعر بأمان، ذلك أنّ ما تراه مجرد فيلم. عندما تشاهده، تنتابك رغبة بالوجود في تلك المقاهي الباريسية برفقة هؤلاء الناس الجميلين. هذا فيلم ايروسي ومأسوي في آن. تشعر برغبة في أن تكون قريباً جداً من كلّ هؤلاء، ولكن لا تريد الشعور بالألم الذي يغلفهم. جان أوستاش كان معلماً في إشاعة هذا الجوّ. أخبرني أحد مَن كان على معرفة به أنه كان يطفئ سيجارته على ذراعه. كان رجلاً صعباً. ولكن هذا الرجل المعذّب وصف عالماً في منتهى الروعة والأسى. طبعاً، هناك حضور جان بيار ليو. الثقافة الفرنسية تتحمّل هذه الأفلام، لأن الفرنسيين يمتلكون تراثاً فلسفياً، ولديهم تقليداً عريقاً في خطاب المقاهي وفي الحياة العامة. أتذكّر أنه كان هناك شخصان في السينما عندما شاهدته في ادنبرة. تبيّن لاحقاً أنّ المُشاهد الآخر صديقٌ لي، فذهبنا لاحتساء بيرة معاً وتواصل الحديث ليشمل فرنسواز لوبران، احدى شخصيات الفيلم. هذا فيلم عليك مشاهدته عندما تكون يافعاً.
————————————-
٨ – “الفيلق الروسي” لألكسندر سوكوروف:
In One Breath | Alexander Sokurov’s Russian Ark
سوكوروف يقول أن لا تحف في السينما، لكنه أنجز تحفاً سينمائية. هكذا هي العقلية الروسية. سوكوروف يميني مقتنع وهذا لا ينقص من أهميته. استعمال الصوت في هذا الفيلم مبهر. عند المشاهدة، تحتاج إلى لصق أذنيك بالشاشة لتستمع إلى همسات التاريخ. سوكوروف مهتم بالتقاط روح روسيا العظيمة. إنها تجليّات الفكرة القومية. طبعاً، يفعل هذا كله بأناقة وروعة شديدين، حدّ أنّه يصعب عليّ انتقاء فيلم من أفلامه وتفضيله على آخر. في سينماه حسّ اللاوعي الجمعي. وفيها أيضاً مبدأ الوحدة، وهذا له بالغ التأثير في داخلي. لا أؤمن به بالضرورة ولكن أتأثر بمفعوله. المشهدية عند سوكوروف سطوتها عالية على العين، فيكفي أن ترى“أمّ وابن” مثلاً، لتخال ألسنة النار تمتد إليك من أسفل الشاشة. إنه شيء في منتهى الروعة. هل شاهدتَ “مايكينغ أوف” هذا الفيلم؟ في نهاية اللقطة، عندما يقول “اقطعْ”، سوكوروف ينهار، والناس من حوله يبدأون في البكاء من شدة الصعوبة في تنفيذ الفيلم- اللقطة.
—————————————-
٩ – “لايت سليبر” لبول شرايدر:
Light Sleeper
هذا أفضل فيلم لشرايدر، أرفع شأناً من “سائق التاكسي” و”الثور الهائج” (كتب لهما السيناريو). كثير من أفلام شرايدر تتحدث عن ناس يراقبون الحياة التي من حولهم. هنا، لدينا إحساس أن ترايفيس (بطل فيلم “سائق التاكسي”) يقود السيارة وويلَم دافو يجلس في المقعد الخلفي. الفكرة لامعة جداً. لا أعرف لماذا يمسّني الفيلم إلى هذا الحدّ. إنه عن شخص في منتصف العمر، يراقب كيف تمضي الحياة وتتفلّت منه، والسؤال الذي يتكرّر: لمَ البقاء على قيد الحياة؟ طبعاً، الفيلم مصنوع بشكل باهر. هل سبق أن قابلتَ شرايدر؟ يا إلهي، إنه أكثر الناس ثقافة وفكراً التقيتهم في حياتي. رجلٌ محبط ونرى هذا في أفلامه. فيلم بديع.
————————————
١٠ – “لمسة شرّ” لأورسون وَلز:
Touch of Evil Opening Shot
المرة الأولى ذهبتُ فيها إلى لوس أنجليس، نزلتُ إلى فينيسيا. كوني “نرداً”، زرتُ الشارع الذي صُوّرت فيه اللقطة الافتتاحية لـ”لمسة شرّ”. شاهدتُه عندما كنت صبياً كالعادة بعد منتصف الليل. علاقتي بهذا الفيلم شخصية جداً. جعلني أشعر بالثمالة ومنذ ذلك الوقت ما زلت مخموراً. كلما شعرتُ أنني في خطر، وجدتُني أدندن نوتات البيانو الذي تعزفه مارلين ديتريتش، وكان هذا يساعدني دائماً لتخطي الأزمات. يا له من اكشتاف عظيم. شعرتُ كأنني ألمس قطعة من المخمل. بعد سنوات عدتُ وشاهدته، وتسنّى لي أن أفعل ذلك مع جانيت لي. هناك ميلانكوليا رهيبة. بصراحة، أجده أهم من “المواطن كاين” لناحية التوازن بين الشكل والمضمون، مع أنني أحبّ “المواطن كاين” أيضاً.