قصائد مختارة للشاعر عبد العزيز المنصوري
الطّريق طويل
ينظرون إلى السّاعة
كلّ أمام خوفه
إنّه موتُ لحظة، موتُ إنسان
ماذا تُصبح السّاعات
التي ترحل عنّا؟
إنها تُخَلّف عَرقاً
وعُثّاً
إلى أين يمضي الذي يمرّ
بعد أن يكون قد أفرغ كأسه؟
لا أحد سلّم عليه بحرارة!
في مكانه سيجلس شخصٌ آخر
الرّأس قاعةٌ مُغطّاةُ الجدرانِ باللبَد
للكاتب تقلّباته النّفسيّة
لقد أضاع مركبَه
ولم يَعثر على مجاذيفه.
******
يُفارقنا الزمن
مع هبوط الليل
تاركاً خلفه حلماً
مأهولاً بالوطاويط
في مدينة البُرنز
المنسحبة إلى حدائقها
يلتمع الصّمت
مرآةً، ظَهْرها بلا طِلاء
يترك تعبيراً لا يُقرأ
مشدوداً إلى الباب بدبّوس
الجوّالون يَحلّون غوامضه
كلّما أصبح القمر في المحاق
لا للإزعاج مهما يكن المبرّر
المسجّل الآلي
يُجيب مخبراً بغيابٍ على الطّرف الآخر
ويُحيل على التيليتيكس
لحظةٌ لقول “صباح الخير”
لحظةٌ لقول “شُكراً”
وللتّظاهر بأن هذا
يومٌ جديد.
******
رياح تهبّ
على حيوات وجيزة
كانت لها أحلام
طُمِرتْ في غالب الأحيان
رياح متسكّعة
مَشحونة بِشدّة
تُفرّق الناس تُعنّف الصّخور
الأزهار الخفيفة جِدّاً
تفقد بَتلاتها
ولتعثرَ عليها من جديد
تتأكسد في احتكاكها بالهواء
إنّها تتطاير سجينةً
في سماء الصّخب الصّافية
إنّها تنمو وتعلو
إذ ترغب في العودة
إلى سطح الأرض.
******
الانعزال غريزة قديمة
لكن حتّى إن حاقتْ بالمرء الظّلمة
فإنّ ذبالة شمعة، صغيرةً
تُغدق عليه سُيول الأمل
نتعلّم أن نقرأ الأحكام
على شفاه الصمت.
نسمع الأصوات بصورة أحسن
إذ يحلّ الليل
نسمع قلباً يدقّ.
إنها المدينة وقد اعتراها الخوف
ظِلٌّ يحتل الأرصفة
يمنع الحلم من المرور
إنها المدينة، كلُّها، في عزلة
القلوب تجتمع وتتآزر
لتخلق توازناً
حين ترتعد الأرض.
******
الزّمن يُشعل ناراً كبيرة
مُستعملاً خشباً أخضر
يتصاعد منه دُخان كثير
مُسربَلاً بالضّوء
إنه يتحكّم في اندفاعه
فيكون، مرّة،جدولاً سريعَ النّضوب،
وأخرى، سيلاً جارفاً
قطرةَ ندىً ثمينة
الزّمن يكبر معك
الزّمن يعتني بكلّ شيء
إنّها الحياة تبدأ
والحياة تستمرّ
وهو يتجدّد
ماتحاً من ينابيع ضارّة
من ينابيع المساحات الحارقة
التي استولى عليها الأفق.
******
أيّة مهارة عالية ستُوجّه يدك
بين العوسج
من أجل أن تقطف العِنبيّة
التي تُوقِف الآلام؟!
هنالك جرحى يُجيلون، فيما حولهم،
نظرةً قويّة
ومِنهم من يَدلق
مِلءَ بئر من الكَرب
نرغب في مَلء صندوقٍ بالقمامة
واستغلال لحظةٍ تصحو فيها السماء
لإفراغه في مكان ما
وإغلاق الباب في وجه الكابوس
الخوف يرافقك…
ولِتدفّئَ سريرك
حين لا يأتي النوم
سيكون الحلمُ دائم الحضور.
******
كلّ شيء ينبغي أن يُكتب مجدداً
الغضب المقدّس والابتسامة المقدّسة
اللذان يأتيان مع النّهار
اللذان ينامان في الفِناء
كلّ شيء يجب تدميره
وإعادةُ إنشائه
شتاتُ المترادفات
انتظاماتُ الجِناسات
كلُّها تمضي كلّها تأتي
الأشْتِيَة وبناتُ عمومتها
تولد وتموت، كبيرةً وصغيرةً
وبلا قيمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ترجمة الشذرات والقصائد: مبارك وساط
1- العنوان الأصلي لأعمال ع. المنصوري الكاملة:
À peine un souffle
-Virgule Éditions,2016 –
عبد العزيز المنصوري: شاعر من زماننا/ مبارك وساط
منْ يقرأ بالصّدفة شعراً لعبد العزيز المنصوري، من دون أن يكون قد عرف هذا الاسم، سيتساءل ببعض الاستغراب عمّا يجعل شاعراً من مستواه مجهولاً لِمحبّي الشّعر الجميل. فأعمال هذا الشاعر الفرانكوفوني المتميّز، الكاملة، صدرتْ في سنة 2016 بالمغرب، ويبدو أنّ تداول الكتاب الذي يضمّها انحصر في نطاق ضيّق، وعلى أيّ حال فهو لم يترك الصّدى الذي يستحقّه.
قبل صدور الأعمال الكاملة لعبد العزيز المنصوري (1940، سَلا- 2001، الدّار البيضاء)، تحت عنوان نترجمه كالآتي: “نَفَس بالكاد”1، لم يكن سهلاً العثور على كتابات له، فمن أجل ذلك كان ينبغي النّبش في أرشيف مجلة “سُوفْل”- أنفاس- التي كانت قد صدرتْ سنة 1966 (ومُنعت سنة 1973)، أو في أعدد من المجلّتين المغربيتين الفرانكوفونيتين: “أنْتِغْرال” و”كلمة” (وكلتاهما توقفت عن الصدور من قديم). والأعمال الكاملة التي صدرت لشاعرنا، سنة 2016، عن دار”فيرغول إديسيون” في طنجة، جمعها ونظّم محتوياتها وقدّم لها الشاعر المغربي الفرنكوفوني مصطفى النّيسابوري، ساعدتْه في جمعها جوسلين اللعبي وزوجها عبد اللطيف.
كان عبد العزيز المنصوري يَنشر شِعراً في “سوفلْ” في وقت ما، وبعد انقطاع، سينشر في مجلّاتٍ اخرى. وكان ميّالاً إلى العزلة، يفضّل الظلّ على أضواء الإعلام، كما لم يكن ميّالاً للحديث في شؤون الأدب، ولم يكتب قَطّ في الصّحافة ولم يُعطِ أيّ فرصة لأن يُجرَى معه حوار.
وقد كان لحرب 1967 أثرٌ عميق في نفسه. فبعدها، كفّ عن الإسهام شِعريّاً في “سُوفْل”، وتخلّى عن وظيفته البسيطة وتوجّه صوب ليبيا في تاكسي كبير، رفقة مغاربة آخرين، وهناك اشتغل شهوراً، وكان يُرسل قسطاً وافراً من أجرته لعائلته التي لم تكن ميسورة الحال [أغلب المعلومات الواردة في هذا التقديم مستقاة من مقدّمة النيسابوري لأعمال ع. المنصوري، التي سنورد، أدناه، شذرات مُترجمة منها]. ثمّ شَعر ع. المنصوري أن ظروف عيشه في ليبيا لا تُطاق، فتوجّه إلى بيروت، حيث تعرّف إلى عدد من الشّعراء، خصوصاً شعراء مجلّة “مواقف” التي كان يُشرف عليها أدونيس. وبعد عودته من لبنان، سيترجم ع. المنصوري إلى الفرنسية عدداً من القصائد لشعراء مشارقة ومختارات من “المواقف والمخاطبات” للنّفّري.
أمّا أعمال ع. المنصوري الكاملة1، التي يتضمنها كتاب “نَفسٌ بالكاد”، فهي مجموعات ثلاث، لم يُرتّبها النيسابوري حسب التوالي الزمني لتشكّلها، وتحمل العناوين التالية: “كتاب الماء”، “قصائد مُشَتّتة”، و”زيلاشة: قصائد صغيرة تمّ الوصلُ بين أطرافها”.
فيما يلي: شذرات من مقدمة مصطفى النيسابوري لِـ”نَفَسٌ بالكاد”:
“ليس الحديثُ عن حياة وأعمال عبد العزيز المنصوري بالأمر السّهل. فهو لم يكن بالمعروف فعلاً، وكان يتمسّك بعزلة صارمة إزاء العالَم الخارجيّ… إذا استثنينا، طبعاً، العلاقات التي كان يحافظ عليها، على المستوى الاجتماعيّ، بارتباط مع العمل الذي يقوم به في سائر الأيّام. (…) ورغم ما كان قد اعْتبره متتبّعو مَساره، في وقت معيّن، بأنّه انطواء على الذّات مِن قِبله، فقد كان يُبرهن، باستمرار، على أنّه لا يفقد أبداً ارتباطه الخاصّ بالأدب، فقد كان يقرأ كثيراً جِدّاً…
وهو لم يكنْ ميّالاً إلى الخوض في الحديث عن حياته الشّخصية، ولا عن نشاطه في مجال الكتابة. وكان يحلو له، في رفقة أصدقائه المُقرّبين، ألّا يتحدّث سوى عن الأمور البسيطة وعن مشكلات الحياة اليوميّة، مشيراً أحياناً إلى الحِمْية التي كانت قد فُرِضتْ عليه فيما يخصّ الغذاء…”.
“مع هذا، ورغم الارتباط الشّديد لكتاباته بذاته (…)، فإنّ عبد العزيز المنصوري بقي راسخ الانتماء إلى الذّاكرة الثّقافيّة لجيلٍ بأكمله. (…) لقد تعرّفتُ إلى عبد العزيز المنصوري في سنة 1966، غِبّ مساهمته الأولى في مجلّة “سُوفْل” (معنى الاسم بالعربيّة: أنفاس). في اليوم الذي التقيته خلاله لأوّل مرّة، وجدتُ أمامي شابّاً بشوشاً، باسماً، حيويّاً في هيئته لكن من دون نٌزوع إلى التّباهي. وكان يتكلّم بصوت هادئ، وكان على الخصوص يُحسن الإصغاء إلى ما كان يقوله مسيّرو المجلّة الآخرون الذين كانوا حاضرين يومها. وعلى العموم، فهذه اللقاءات كانت تَجري في الرّباط، في مقرّ المجلّة، في نطاق أشغالِ تَهيّئ الأعداد المرتقبة، وكان يَحضرها بانتظام. كان يشتغل إذّاك في الإدارة المركزيّة لإحدى الوزارات ويسكن في البيت الذي وُلِد فيه، في أحد الأحياء العتيقة في مدينة سَلا، رفقة عائلته. ومثل أغلب الشّبان المغاربة العُزّاب الذين كانوا يعيشون في مثل ظروفه، فقد كان يشعر بضرورة أن يساهم في المصاريف اليومية لوالديه…”.
“منذ صيف 1971، كان المغرب يمرّ بفترات خطيرة. ففي خضمّ الأحداث التي كانت تهزّ البلاد خلال تلك السّنوات الكالحة، وفي سنة 1972 تحديداً، تمّ اعتقالُ شَبعة (محمّد شبعة: فنّان تشكيلي مغربي)، الذي كان شاعرنا قد أصبح يشتغل في محترفه للفنون التّخطيطيّة، وأُلقي به في السّجن بتهمة “المسّ بأمن الدّولة”… وسيُفْرَج عن الفنّان التّشكيليّ بعد سنة من اعتقاله، لكنّ أنشطة المحترف لن تعود إلى الوجود مجدّداً. وعاد عبد العزيز المنصوري إلى بيت عائلته بسلا. وسيبقى فيه فترة يُعيد فيها تأمّل أموره بِرَويّة، ثم قفل إلى الدّار البيضاء ليقيم فيها بشكل نهائي هذه المرّة، بعد أن التحق بوكالة تَواصلٍ مهمّة في المدينة (كان يُقال “وكالة إشهار” في تلك الأيام). وتزوّج، عاقداً العزم على أنْ يعيش حياةً منضبطة، كما في الحقبة التي كان يشتغل خلالها في الوظيفة العموميّة. وكان سعيداً في تلك الأيام باقتنائه لـ”كتاب الأغاني” للأصبهاني. (…)
وقد التقيتُه في الدّار البيضاء خلال التّسعينيّات، بالصّدفة، وتحديداً في الشّارع الذي كان يقطن به بِحيّ غُوتْييه، فيما كنتُ ماضياً لزيارة واحد من معارفنا المشتركين كان يسكن في الحيّ نفسه. كان ع. المنصوري نفس الرّجل الطّلق المُحيّا والودود الذي عهدته في السّنوات المنصرمة، فقد احتفظ بأسارير الشباب وبالبساطة الأنيقة التي كان عليها أثناء لقائنا الأول بالرباط”.
“وفيما كان منشغلاً بإدخال تعديلات على “قصائد صغيرة تمّ الوصل بين أطرافها”، أصيب فجأة بتوعّك وشعرتْ عائلته بقلق شديد. وأُدخل الشّاعر المستشفى، لكنّه، رغم حالته ورغم نصائح طبيب أمراض القلب الذي كان يعالجه، بقي على توتّره الذّهني، يعيش حُمّى انتظارٍ ما، ودُوارَ قلق ملازم. وقد عاد إلى بيته، وفيما ساد الظّن بأنّه استعاد عافيته، انتابته أزمة جديدة أيّاماً بعد ذلك… وقد توفّي في السّابع من دجنبر من سنة 2001…”.
المدن