هيفاء بيطار: لا حرية في سورية على الإطلاق خاصّة في مجال الكتابة والإبداع
غسان ناصر
ضيفة مركز حرمون للدراسات المعاصرة، في حوار هذا الأسبوع، هي الكاتبة والقاصة والروائية السورية وطبيبة العيون هيفاء باسيل بيطار، ابنة مدينة اللاذقية.
تخرّجت صاحبة «وجـوه من سورية» في كلية الطب البشري من جامعة تشرين في اللاذقية، عام 1982، وحصلت على الاختصاص بأمراض العين وجراحتها من جامعة دمشق عام 1986، ومارست عملها طبيبة في مشفى اللاذقية الحكومي سنوات طويلة. وهي تكتب المقالة الاجتماعية والأدبية والنقدية في عددٍ من الصحف والمجلات والدوريات السورية والعربية، ولها إنتاج قصصي وروائي غزير، وقد خصّصت عددًا من أعمالها القصصية والروائية للدفاع عن قضايا المرأة في سورية والوطن العربي.
ومنذ الأيام الأولى لاندلاع الثورة السورية، في منتصف آذار/ مارس 2011، وقفت مع الحرية والكرامة وحقّ الإنسان بالعيش دون خوف. وهي -بحسب النقّاد- “كاتبة تتمتع بأسلوب تطغى عليه روحُ التمرّد والجرأة في نسجها للقصص من واقعنا المعاصر”.
صاحبة «طفل التفاح» تمارس الطب بعين كاتبة، وتمارس الكتابة بموضوعية الطبيب، أعلنت أكثر من مرّة أنّ الأولوية بالنسبة إليها هي للكتابة، لذا، تُقدّمها على حياتها المهنية والشخصية. وتؤكد أن “لا ولاء لي إلّا للحقيقة، ورسالتي أن أكون شاهدة عصر.. بعد أن صار الزمن في سورية يقاس بعدد القتلى لا بالساعة!”، وأنّ الكتابة -كما تفهمها- هي “شرف الكلمة وشجاعة البوح بالمسكوت عنه”. وتقول: “أكتب عن بشر من لحم ودم، ماتوا أو عُطبوا أو تشردوا. من واجبي الأخلاقي والإنساني أن أكفّنهم بقصة”.
هنا نصّ حوارنا الذي أجريناه معها في مقرّ إقامتها المؤقّت في العاصمة الفرنسية باريس، عن الأدب والسياسة واستبداد الطغاة وفسادهم، وعن ثورة السوريين التي ترى أنها “خُطفت وشوّهت وانحرفت عن غايتها ومسارها”..
بداية، كيف تقدّم الإنسانة والطبيبة والكاتبة هيفاء بيطار نفسها لقرّائنا؟
أحبّ أن أقدّم حقيقتي أو روحي بصدق لقرّائي وللعالم كله، فأن أقول أنا طبيبة اختصاصية بطب العيون عملت ربع قرن في طب العيون وجراحتها لا يكفي، وأن أقول إنني كاتبة لديّ أكثر من خمسة وثلاثين عملًا أدبيًا لا يكفي. وأن أقول إنني أمٌّ لابنة هي كل حياتي لا يكفي. تعريف الإنسان لنفسه هو تعريفه لروحه، لذا أقدّم نفسي للقارئ بأنني إنسانة أملك عفوية غير مُخرّبة (مع أنّ التربية تعمل على تخريب عفوية الطفل)، وأعتبر الكتابة شرفًا وشهادة حقّ. أريد أن أكون “شاهدة على العصر”، وهذا ما أفعله أو أحاول فعله. العفوية غير المخرّبة هي بطانة الشجاعة والتحدي والانتشاء بقول الحقّ، رغم الخوف الأقرب للذعر.
ما آخر عمل أدبي صدر لك؟ وما هو عملك القادم؟
آخر عمل أدبي لي كان رواية «الشحاذة» وهي رواية كتبتها في باريس، إنها رواية الوجع السوري، رواية جرح نازف لا يزال مفتوحًا. حاليًا، أكتب رواية أيضًا موضوعها المأساة السورية لكن من زاوية مختلفة تمامًا. وأحبّ أن تكون مفاجأة للقرّاء.
سلطة وسطوة الأجهزة الأمنية
في بلدٍ الرقابة فيه مشدّدة، إلى أيّ مدًى كنتِ حرّةً في الكتابة، خاصّة أنّ كتاباتك تميّزت بالجرأة؟ ومن بعد الم تضعك هذه الجرأة في مواجهة مباشرة مع النظام الأمني الأسدي؟!
صدقًا، في سورية لا حرّية على الإطلاق خاصّة في مجال الكتابة والعمل الإبداعي، الرقابة الأدبية كارثة، لا أعرف من هؤلاء الذين يقيّمون جودة عمل أدبي في وزارة الإعلام واتحاد الكتّاب العرب في دمشق، أعطيك مثالًا: في بداياتي كنتُ أكتب قصصًا كثيرة أكثر من الرواية، ولم يكن من مجال أمامي للنشر سوى اتحاد الكتّاب العرب، وكذلك “دار الأهالي” لصاحبها الصديق الغالي حسين العودات (رحمه الله).
تقدّمت بمجموعة قصصية للاتحاد، وهي تضم أربع عشرة قصة قصيرة، بعنوان «صرخة»؛ فتم رفضها بحجة أنّ أكثر من سبع قصص جرأتها خطيرة! في العام نفسه 2003، تقدّم الناشر المبدع الراحل رياض الريّس بمشروع هو أن يكون عام 2003 (عام المرأة المبدعة)، وانهالت عليه الأعمال أكثر من 7000 عمل من كاتبات وباحثات في الوطن العربي، وتقدّمت بمجموعتي القصصية التي رفضها اتحاد الكتّاب العرب، ونالت الإعجاب الكبير لرياض الريّس وطبَعها بعد أن غيّر عنوانها من «صرخة» إلى «الساقطة». لتنال هذه المجموعة «الساقطة» -بعد منافسة مع 150 مخطوطًا- “جائزة أبي القاسم الشابي” في تونس.
مثال آخر: حين كتبتُ روايتي التي حقّقت نجاحًا كبيرًا وطُبعت تسع مرات «امرأة من طابقين» أيضًا رفضها اتحاد الكتّاب العرب! يومذاك، غضبت وطلبت أن أقرأ التقرير الخاصّ حول سبب رفضها، فامتنعوا عن تسليمي تقرير الرفض، لكن صديقة لي كانت موظفة في الاتحاد وتربطني بها صداقة أرسلت لي سرًا التقرير الذي كان السبب في رفضها، فكان غير ما توقعت (كسر تابوهات الجنس والدين والسياسة) وإنما لأن فيها صفحتين أحكي فيهما عن مدربات الفتوة (مادة التربية العسكرية) وكيف كنّ يذللن الطالبات وينادونهنّ: “يا حيوانة، يا بقرة”.. إلخ. ما عرفته -فيما بعد- أنّ مدربات الفتوة تابعات لمؤسسة الجيش، والجيش “خط أحمر”. وحين حذفت ما كتبته عن مدربات الفتوة، وافق اتحاد الكتّاب ووزارة الإعلام على الطباعة. ثم قفزت إلى الطباعة في أهمّ دور نشر في بيروت مثل “دار النهار”، و”دار الساقي”، و”الدار العربية للعلوم”، و”دار رياض الريس”.
يجب أن أذكر أنني كنت أكتب على مدى سنتين زاوية أسبوعية (ثقافية – اجتماعية) في جريدة “الثورة”، كنتُ أحبّ أن يكون لي منبر في جريدة في سورية، أخاطب من خلالها شعبي الحبيب، في الواقع كانت كل مقالاتي عن روايات أو مشكلات اجتماعية عديدة، لم يرفضوا لي إلّا مقالًا واحدًا كان موضوعه الأطباء الفاسدين المُرتشين الذين زوّروا تقارير طبية وأعفوا شبابًا من خدمة الجندية وقبضوا الملايين، يومها ضجت سورية بالفضيحة، وسُجن بعض هؤلاء الأطباء، وحين كتبت مقالًا عنهم رفضت جريدة “الثورة” نشره، لأنّ الأطباء الذين درسوا على حساب المؤسسة العسكرية “خط أحمر”، لأنهم تابعون للجيش العربي السوري الذي هو “خط أحمر”.
الصدام الحقيقي بيني وبين أجهزة الأمن (المخابرات) في سورية كان عند بداية الثورة السورية، التي انحرفت عن غايتها ومسارها، مع الأسف، كان من المستحيل أن تُنشر مقالاتي في صحف سورية، لذا اتجهت إلى لبنان، تحديدًا جريدتي “السفير” و”الحياة”، وكنتُ أكتب أسبوعيًا في “السفير”، وأكتب أيضًا بغزارة في “الحياة”، أحبّ أن أنبّه إلى أنني لست كاتبة سياسية إطلاقًا، بل كاتبة وجع الناس (وهذا شرف لي)، وبدأت الاستدعاءات الأمنية إلى جهاز أمن الدولة والأمن العسكري.. إلخ، (كان يفترض أن ندرس في المدرسة أنواع أجهزة المخابرات) بسبب مقالاتي! ما يُذهلني حقًا أنني لم أستطع على الإطلاق فهم عقلية الأجهزة الأمنية، مثلًا تم استدعائي إلى أمن الدولة مع منع من السفر، بسبب مقال نشرته في جريدة “الحياة” بعنوان «مُتهم حتى يثبت العكس»، وهو مقال طريف ساخر، أحكي فيه أنّ المواطن السوري يشعر دومًا أنه مُتهم وأنه مُطالب طول الوقت بتقديم براءة ذمة تجاه النظام وأنه مواطن صالح، هذه كانت فكرة المقال، ولا أعرف لماذا طاش صواب أجهزة الأمن بسبب هذا المقال، فاستدعوني إلى جهاز أمن الدولة وصدر قرار بمنعي من السفر، بينما لديّ مقال آخر خطير بعنوان «الشاحنة»، حكيت فيه عن شاحنة عملاقة محمّلة بجثث وبقايا جثث مكشوفة (أي غير مُغطاة بغطاء) جابت شوارع اللاذقية على مرأى من الأطفال والناس، وقالوا إنّ هذه جثث إرهابيين تسللوا من تركيا إلى منطقة كسب الساحلية. مقال (الشاحنة) كان قويًا وصادمًا وجريئًا جدًا، خاصّة أنّ سائق الشاحنة كان يصرخ عبر مكبر الصوت قائلًا: “وسّع طريق يا حيوان”. وتوقعت استدعائي بسبب كتابتي مقال «الشاحنة»، لكنهم لم يستدعوني! لا أعرف كيف تفكر الأجهزة الأمنية؟
مقال آخر نشرته، له مكانة عزيزة في نفسي، هو «يوم في سوريا» أحكي فيه بلغة أقرب للنثر الشعري عن يوم في اللاذقية عن الحزن والأسى وانكسار الروح، وانتشر هذا المقال في كل المواقع الإلكترونية، فتم استدعائي إلى أحد فروع الأمن بسببه، مع أنني لم أحكِ إلّا عن يوم في اللاذقية، كثيرون قالوا لي “بكينا حين قرأنا هذا المقال إنه نحن، إنه حياتنا”. وعلى الرغم من منعي من السفر مرارًا، ومن إجباري أن أكتب تعهدًا في أجهزة أمن الدولة بألّا أكتب في جريدة “الحياة” خاصّة، وأن أتوقف عن كتابة يسمونها (نشر الغسيل الوسخ) وهي العبارة الموحدة في كل أجهزة الأمن، فإني قرفت من الخوف، نعم أؤكد لكم أنني قرفت فعلًا من الخوف، لذا استمررت في كتابة المقالات مع أنني أحيانًا كنت لا أنام في الليل من الفزع، لا يوجد سوري داخل سورية إلّا وهو يتقصف رعبًا من سلطة وسطوة الأجهزة الأمنية، لكنني كنتُ أتحدى الخوف، كانت نشوة القرف من الخوف وإحساسي بكرامة روحي كافيتين لأكمل حياتي مؤمنة برسالتي: الكتابة شهادة عصر والكتابة شرف، وكان يكفيني أن يوقفني أناس لا أعرفهم في الشارع ليقولون لي: أنت تكتبين تمامًا عن حالنا ومشاعرنا، لكن اعذرينا لأننا نخاف أن نضع على منشوراتك/ كتاباتك في (فيسبوك) إشارة “أعجبني”.
آخر مرة تم استدعائي إلى الأمن العسكري ومنعي من السفر كانت منذ تسعة أشهر؛ لأنّ أحد السيئين، وهو يدّعي أنه فنان تشكيلي وكان يحضر حفل تكريم لي في مدينتي اللاذقية، وكان أن كلّف نفسه بطباعة أكثر من ثلاثين مقالًا من مقالاتي وتقديمها للأمن العسكري، وتعجبتُ أنّ العقيد أو العميد الذي كان يحقّق معي ويقلّب ببطء مثير للأعصاب مقالاتي بين يديه لم يستوقفه إلّا مقالي عن (الخوذ البيض)، وأخذ يسألني إن كنت في صفهم وأحبهم! قلت له: لا أفهم لماذا تناقشني في مقال كتبته منذ خمس سنوات، انظر الآن إلى طوابير السوريين في الشارع يقفون يومًا كاملًا من أجل الحصول على بضعة أرغفة خبز لا تؤكل، قال: أنا من أسأل. قلت في كلّ الأحوال لا يوجد إعلام محايد، قال ماذا تقصدين؟ قلت هل تسمح أن أكون صريحة: قال طبعًا تفضلي، أصلًا أنت شريكتنا في القرار! عجبي هل يتعمّد أن يدفعني للجنون؟ أي قرار؟ وكيف أكون أنا المتهمة شريكةً في القرار؟ وألححت على الضابط أن يقول لي ماذا يقصد أنني شريكة في القرار، فلم يرد. عندها قلت له: أثناء جحيم حلب، كانت الفضائية السورية وكل المحطات السورية تكتب بالأحمر العريض: “جحيم حلب”، أو “حلب تحت النار” صحيح؟ قال: صحيح. أكملت لكن المُراسل الخاصّ بنقل جحيم حلب كان يقول: “ابتسم أنت في حلب”. أحسستُ أنّ كلامي أغاظه لدرجة الانفجار، وفجأة ختم الحديث قائلًا: في كل الأحوال، واضح أنه تم تقديم تقرير كيدي بكِ وسنحاول رفع منع السفر عنكِ. سألته: هذا يعني أنكم تقبلون التقارير الكيدية؟ قال: هنا نحن من نسأل.
هل هناك خطوط حمر تتوقفين أمامها عند الشروع بكتابة نص جديد محطمة التابوهات، سواء في السياسة أو الدين أو الجنس؟
صدقًا، لا خطوط حمراء عندي ولا تابوهات، ساعدتني دراسة الطب في أن أفهمَ الإنسان روحًا وجسدًا، أي كتابة تراعي أو تعترف بخطوط حمراء ليست كتابة ولا إبداعًا على الإطلاق، هي ثرثرة وحكايات ميتة مملة كالخبز اليابس. شرط الكتابة الحقيقية هو الحرّية. وهذا شرط أساسي لا يمكن أبدًا التنازل عنه، أنا اخترقت في كل رواياتي وقصصي القصيرة الخطوط الحمر، من تابو الجنس إلى تابو الدين إلى تابو السياسة، يوم كتبت مقالًا عن (غرفة نعم) و(غرفة لا)، كنت أستحضر ذاكرتي عندما كنت طالبة في كلية الطب، وكيف كانوا يجمعون الطلاب كل فترة لتجديد البيعة للقائد المُفدى حافظ الأسد، وكيف كانت توجد غرفتان غرفة مكتوب عليها (غرفة نعم) وبابها مفتوح على مصراعيه، وغرفة مكتوب على بابها (غرفة لا) وبابها مقفل! يومها كتبتُ لماذا تُغلقون باب (غرفة لا) ولا أحد سيدخلها. طبعًا تم استدعائي إلى جهاز أمن الدولة، وقالوا لي انتبهي تجاوزت كثيرًا الخطوط الحمر. ألقيتُ منذ سنة في هولندا محاضرة بعنوان «أفقأ عين الخوف» وأنا أشعر بذلك تمامًا -وكما ذكرت سابقًا- قرفت الخوف، وأريد أن أقضي ما تبقى من حياتي متنعمة بإحساسي بالحرّية.
من يتذوق طعم الحرّية يعرف معنى الحياة، لا بهجة ولا معنى لشيء دون حرّية، وأقول لنفسي دومًا إن أرواح من ماتوا في سبيل الحرّية ليست أغلى من روحي، أنا مستعدة أن أدفع ثمن حرّيتي ومواقفي.
نساء قصصك ورواياتك يتمتّعن دومًا بالقوة. هل تعتبرين نفسَك كاتبة نسوية؟ وهل أنت مع مصطلح “الكتابة النسائية” أو “الأدب النسائي”؟
بشكلٍ عامّ، نساء قصصي يتمتعنّ بالقوة ومتمردات وقد عجنت أرواحهنّ بكثير من روحي المتمردة الشجاعة، لكن ثمّة نساء ضعيفات ومكسورات في قصصي، لأنه يهمني بالدرجة الأولى أن أعبّر عن واقع المرأة في سورية وفي العالم العربي بشكلٍ عامّ، لذا ليست كل نساء رواياتي وقصصي قويات، لكن ما يهمني كشف أعماق المرأة، المرأة في عالمنا العربي تخاف أن تعبّر عن حقيقة أفكارها ومشاعرها ورغباتها، لذا كتبت: “النساء يُدفن في الصمت”، حين تصمت لن يعرفك أحد.
في روايتي الأحب لقلبي والتي ترجمت إلى الفرنسية «امرأة من هذا العصر»، كسرت صمت النساء، إذ لجأت إلى حيلة أدبية ناجحة هي أن أجعل امرأة مصابة بسرطان الثدي خضعت لعملية استئصال ثدي وعليها تلقّي جرعات علاج كيمياوي كل مدة، في كل جلسة تلقّي جرعة العلاج الكيمياوي كانت تتذكر أحد الرجال الذين مروا في حياتها، للمرأة الحقّ أن تقرأ العالم وتقرأ الرجل من وجهة نظرها الحرّة، بلغتها الخاصّة ومشاعرها الخاصّة… كتب النقّاد عن الرواية الكثير، وقالوا: “هيفاء بيطار أشجع من كسرَ صمت النساء”. ولا أمانع إطلاقًا أن أعتبر كاتبة نسوية، ثمّة كتّاب رجال يبدعون في الغوص في مشاعر المرأة مثل البريطاني “دي اتش لورانس” مثلًا، والفرنسي جوستاف فلوبير في «مدام بوفاري». التصنيف غير مهم، المهم جودة العمل هل هو إبداعي أم لا.
الشعب السوري رُوّعَ من القهر
هل استطعتِ من خلال الكتابة أن تدخلي إلى نبض الناس؟ وهل أنتِ معنية بالتفاعل مع القضايا الصغيرة التي تمسّ حياة أبناء وبنات بلدك في الداخل السوري؟
لا توجد قضايا صغيرة، حياة الناس أصلًا تفاصيل لا يمكن اعتبارها صغيرة ولا كبيرة، هي الحياة، حين أكون جالسة في مقهى في اللاذقية، ويتدفق أطفال بعمر ثلاث سنوات إلى عشر سنوات جياع وحفاة وملابسهم متسخة يتسولون، فهذه ليست قضايا صغيرة، أن يقف أكثر من 80 بالمئة من الشعب السوري بانتظار رغيف الخبز أو مساعدات غذائية، هذه ليست قضايا صغيرة، عندما يخاف المواطن السوري أن يعبّر عن رأيه هذه ليست قضية صغيرة، في الحقيقة، الشعب السوري رُوّعَ من القهر، نسبة انتحار الشباب في تزايد فظيع، الغلاء الفاحش للأسعار، كورونا التي تنغل في المجتمع السوري كله، نزوح أكثر من ثلث الشعب السوري خارج سورية، الدمار الفظيع الذي حلّ بمدن وقرى بأكملها، هو جحيم سوري حقًّا، لكن في سورية كل شيء “انتصارات”! لذا أقول لكم لا توجد قضايا صغيرة، توجد مآس تجعل الإنسان يفقد عقله أو يغرق في اكتئاب لا قيامة منه. “عايشين من قلة الموت” و”نياله مات وارتاح”.. هذا ما يقوله السوريون. ثمّ الفحش في ثراء طبقة الفاسدين الذين يحتفلون بمناسبات شخصية بحفلات تكلف ملايين الدولارات، منظر تمثال الشوكولا من أفخر الأنواع ووزنه أكثر من 350 كغ في فندق “الفور سيزن” ليلة “عيد الميلاد”، هو جريمة، ووقاحة واحتقار للناس الجياع. إنّ مظاهر الثراء الفاحش هذه هي ما تدفع كثيرًا من الشبان المقهورين إلى الإجرام والسرقة والقتل، وراء كل عنف ظلمٌ، هذا ما أبدع الروائي الجزائري “ياسمينا خضرا” في شرحه في كل كتبه -وهو أكثر من أبدع في تحليل ظاهرة الإرهاب- مبينًا أنّ خلفية الإرهاب قائمة على الظلم.
ما انعكاس الحال السياسية على كتاباتك؟ وكيف انعكس وجودك في باريس على نتاجك الأدبي؟
في الواقع، أنا مرتاحة في باريس، لكنني لست سعيدة، لأنّ روحي في اللاذقية وسورية والأمكنة أرواح، أقول دومًا باريس لا تخصني، لا توجد علاقة عاطفية مع المكان، بالرغم من عظمة وسحر باريس، لكن حين أمشي في شوارعها الساحرة وأبنيتها العريقة، خاصّة منطقة “سان جيرمان” التي تفتنني، طوال الوقت أحس ببكاء صامت في روحي، ثمّة دموع روحية تتراكم داخلي مشكّلة بحيرة من الدموع.
الأمكنة أرواح، أنا روحي في اللاذقية، أموت بعيدة عنها، أشتاق حتى إلى ضجري منها، أشتاق إلى البحر اسميه “بحري”، هو شريكي ومُلهمي في كل الأفكار، كنت أكتب معظم مقالاتي وقصصي القصيرة في مقاه بَحرية بسيطة ساحرة، وكان المدى الأزرق يُلهمني، فأفرش أفكاري على الأزرق الواسع وأحلّق مع الفكر والمعنى، وكان هسيس الموج يوشوش في أذني بالأفكار. لكن الحياة في باريس سمحت لي بسقف حرّية عال جدًا في كتاباتي؛ لم أعد أرتعب من أن يأتيني اتصال من المخابرات (تفضلي اشربي عنا فنجان قهوة)، الحمد لله أني لم أكره القهوة. أخيرًا، وجدت نفسي أؤمن بالحقيقة الموجعة: “سوريا قربك عذاب وبعدك عذاب”. لكني سأعود إلى بحري وناسي البسطاء الأحبة. لأنّ سورية وطني ووطن كل السوريين. وأتمنى لو يعود كل السوريين وينعموا بالحرّية والكرامة والعيش الكريم وحرّية الرأي. آمنوا بأحلامكم تتحقّق.
أظهرتِ أنّ عددًا غير قليل من الأنواع الكتابية تناسبكِ (الرواية، القصة، المقالة الأدبية والنقدية) فهل تفكرين يومًا ما بكتابة الشعر؟
لم أفكّر يومًا بكتابة الشعر، بالرغم من أنني في روايتي «أفراح صغيرة، أفراح أخيرة» كانت لي محاولة ناجحة في كتابة الشعر. لكنني لست شاعرة. وأعترف أنني لا أقرأ شعرًا إلّا نادرًا، فأنا أفضل قراءة الرواية وكتب علم النفس والفلسفة.
الثورة السورية شكّلت مفترق طرق، سياسيًا وثقافيًا واجتماعيًا، كيف تقيّمين الثورة اليوم وقد دخلت عامها الحادي عشر من عمرها، وكيف تقرئين تأثيراتها على الحياة الثقافية السورية في الداخل والشتات؟
تعبير موجع جدًا (الثقافة السورية)، صارت الثقافة ترفًا في ظل الواقع السوري، أكثر من 80 بالمئة من الشعب السوري وجوده مهدور في طوابير الخبز والمساعدات الغذائية، (يحضرني الكتابان الرائعان لمصطفى حجازي: «سيكولوجية الإنسان المقهور»، و«سيكولوجية الإنسان المهدور»)، والسوري وجوده مقهور وحياته مهدورة في انتظار لقمة العيش، فأي ثقافة سيكون لها دور أمام هاجس رغيف الخبز!! إضافة إلى الغلاء الفاحش للكتب وعدم توفرها، وإن وجدت تكون مُقرصنة، صارت قرصنة الكتب أهم من دور النشر، بل تتحكّم فيها، وفي سورية لا يوجد سينما ولا مسرح بالمعنى الحقيقي للسينما والمسرح. كما لا يوجد نشاطات ثقافية حقيقية، ما يسمونه نشاطات ثقافية مثلًا في اتحاد الكتّاب العرب أو غيره، هي قراءات لقصص أو شعر لا يحضرها إلّا قلة تُعد على أصابع اليد الواحدة. ما لاحظته أن المستشارية الثقافية الإيرانية تُسهم في كثير من النشاطات الثقافية في سورية، بمشاركة شعراء وكتّاب إيرانيين في معظم هذه النشاطات! صدقًا لم أجد اهتمامًا جدّيًّا بالثقافة في سورية حتى قبل الثورة السورية بكثير، فمعظم المحاضرات كانت من نوع: (كيف نقول لا لأميركا) و(الغزو والتطبيع) إلخ. وهذه ليست ثقافة.
عامل مهم جدًا هو انعدام حرّية الرأي في سورية، إذ لا يستطيع الكاتب أن يكتب بحرّية، وإذا كتب يُمنع من السفر ويتم استدعاؤه إلى مقار الأجهزة الأمنية، وهناك يطلبون منه أن يكتب تعهدًا بألّا يكتب ما يكتب وقد يُسجن. النظام السوري يُعامل الكتّاب كتلاميذ مدرسة، عليهم أن يحفظوا المُقرر وإلّا! كل شيء في سورية تتبعه (وإلّا) فيكون الصمت أو التزلف هو الجواب.
الشارع الثائر
ثمّة من غلّبَ مصلحته وطموحاته الصغيرة على مصلحة الوطن والشعب والشارع الثائر ضد الظلم والطغيان، أدونيس مثالًا؟ فماذا تقولين له ولأمثاله؟
هناك كثير من الكتّاب والكاتبات غلّبوا مصالحهم الشخصية على مأساة شعبهم، يظنون أنّ بإمكانهم خداع الناس، وبعضهم طبعت لهم (دوريات ثقافية عربية) روايات قمة في الرداءة والنفاق، وسوّقت لهم وسائل الإعلام العربية ككتّاب مهمين، مع الأسف، الشللية والفساد الثقافي ينغل في الواقع الثقافي العربي، والعلاقات الشخصية تلعب دورًا مهمًا جدًا. وهؤلاء الذين خانوا الحقّ وخذلوا الشعب السوري، وتم الترويج والتطبيل والتزمير لرواياتهم، سوف ينطفئون بسرعة، لأنّ كلمة الحقّ هي الأبقى. أما الباطل فإلى زوال. صدقًا، السوريون (وغير السوريين) يعرفونهم ويحتقرونهم. واعذروني لن أقدّم أمثلة.
هل ترين أنّ الكاتبات والكتّاب السوريين استطاعوا تقديم قضيتهم على الصعيد العالمي، بخاصّة في أوروبا، بالشكل المطلوب؟
في الواقع، لم أطّلع على كتابات كل الكتّاب والكاتبات السوريين، ثمّة كتّاب سوريين أحترمهم جدًا، وأظن أنهم كتبوا بشرف ومصداقية عالية عن الألم السوري، مثل الأصدقاء والأحبة منير شحود، وفواز حداد، وممدوح عزام، أظن أن هؤلاء كانوا الأصدق وموهبتهم عالية وضميرهم حي في التعبير عن المأساة السورية، وقد قرأتُ كل كتبهم، وهم شرف سورية. وثمّة كتّاب وكاتبات كتبوا روايات، وهم سعداء أنهم كتبوا، لكن رواياتهم لم تقل شيئًا، إنما هي عبارة عن حكايات لا تلامس وجدان القارئ ولا تعبّر عن مأساة السوري، كتابات أشبه بالخبز اليابس، لا موقف واضحًا لهم من المأساة السورية، كتابة مثل ضربة على الحافر، ضربة على النافر. هذه الروايات لا قيمة لها على الإطلاق. وهناك مشكلة عند كثير من الكتّاب والكاتبات، وهي استسهال الكتابة، كأن كل من كتب صفحات وطبعها في كتابٍ يعتقد أنه قدّم إنجازًا عظيمًا للبشرية وليس فقط للسوريين، ومع الأسف هؤلاء كثرة. لكن الزمن سوف يغربل الروايات، وهؤلاء سيذهبون إلى النسيان، الناس لا يصدقونهم. هم ثرثارون وليسوا كتّابَ رواية، الرواية عالم متكامل، واقع يوازي واقع الحياة، حياة موازية لحياتنا، والرواية عليها أن تكون رائدة، وأن تتحلى بشجاعة قول الحقّ بضمير عال، وتسمية الأشياء بأسمائها. الرواية إن لم تقدّم حلًا لمآسي الناس، فعليها أن تحفّز على التفكير وتحرّض على أسئلة وجودية مهمة.
في الختام؛ بعد كلّ ما عاينته من أحداثٍ لا سيّما في العقد الأخير، نسأل: ما هي نظرتك اليوم إلى مفهوم الوطن والهوية؟
الأحداث لم تغيّر إطلاقًا مفهومَي للوطن والهوية، على العكس ازداد حبي لسورية ومسؤوليتي تجاهها وتجاه شعبي السوري الحبيب، الوطن ليس جغرافيا المكان الذي وُلدنا فيه فقط، أقول دومًا الأمكنة أرواح، أنا أشعر أنني سورية أينما كنت، لأنّ سورية هي وطني بمعنى ثمّة ارتباط روحي ووجداني وعاطفي مع سورية، وثمّة إحساس بالمسؤولية تجاهها، أنا لا أشعر أنني أحقّق ذاتي إلّا بالكتابة عن الأحبة السوريين المقهورين، أحس بحماسة كبيرة وإيمان عميق أنني يجب أن أقول الحقّ. الكاتب المخلص لوطنه يقول الحقّ، غاية الإنسان بشكلٍ عامّ الشهادة بالحقّ. قبل الثورة، كنت أشعر، حين أشتاق إلى سورية، بأنني أشتاق إلى ابنتي، شوقي إلى سورية كان يشبه شوقي لابنتي، أي أنها عاطفة راسخة قوية يستحيل أن يغيّرها أي ظرف. بعد الثورة السورية والجحيم السوري (خاصّة أن الثورة خُطفت وشوّهت وانحرفت عن مسارها)، صرت أشعر بأنّ سورية ابنة مريضة ومُعاقة، وبأن عليّ أن أحنو عليها وأحبّها أكثر. لم تعد اللاذقية عروس الساحل السوري، بل أرملته. الوطن بالنسبة إلي كالبصمة، كالوشم في الروح والذاكرة. وأنا سورية حتى نخاع عظامي.
يُشار إلى أن معظم أعمال الكاتبة الطبيبة هيفاء بيطار صدرت في أكثر من طبعة بين دمشق وبيروت. ولها أكثر من 12 مجموعة قصصية، أما الروايات فصدر لها: «يوميات مطلقة»، دار الأهالي، دمشق 1994؛ «قبو العباسيين»، دار الأهالي، دمشق 1995؛ «أفراح صغيرة ، أفراح أخيرة»، دار الأهالي، دمشق 1996؛ «نسر بجناح وحيد»، دار الحصاد، دمشق 1998؛ «امرأة من طابقين»، مكتبة بالميرا، اللاذقية 1999؛ «أيقونة بلا وجه»، دار نلسن، بيروت 2000؛ «امرأة من هذا العصر»، دار الساقي، بيروت 2004؛ «أبواب مواربة»، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت 2007، «هوى»، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت 2007، «نساء بأقفال»، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت 2007؛ «أفراح صغيرة.. أفراح أخيرة»، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت 2008؛ «امرأة في الخمسين»، دار الساقي، بيروت 2014. وكان أن حازت في العام 2002 “جائزة أبي القاسم الشابي” في تونس، عن مجموعتها القصصية «الساقطة».
مركز حرمون