أقصى درجات العزلة في “آلام حارس المرمى…” لبيتر هاندكه/ إبراهيم العريس
على خطى “غريب” كامو وصولا إلى جائزة نوبل الأدبية
لعل تلك اللحظة في حياة حارس المرمى، أيّ حارس مرمى في أي فريق لكرة القدم، لحظة ضربة الجزاء، تعتبر واحدة من أقصى درجات العزلة بالنسبة إلى كائن إنساني، بل ربما هي تفوق في صعوبتها لحظة الموت، أو هذا في الأقل ما يُقترح علينا منذ العنوان القاسي الذي تحمله واحدة من أشهر روايات الكاتب النمساوي بيتر هاندكه، الفائز بجائزة نوبل للآداب في عام 2019: “آلام حارس المرمى في لحظة ضربة الجزاء” وهي روايته التي ذكرت بشكل خاص في حيثيات فوزه، وكذلك الرواية التي اشتغل عليها عام 1971 مع السينمائي الألماني فيم فندرز، فحولاها معاً إلى واحد من أقوى أفلام النهضة السينمائية الألمانية.
كتاب عن حراس المرمى
وفي اعتقادنا أن هذه الرواية هي نفسها التي أوحت إلى الصحافي الإنجليزي جوناثان ويلسون بكتاب فريد من نوعه عنوانه “اللا منتمي: تاريخ حارس المرمى” (2012)، الكتاب الذي ذكر مؤلفه في ثناياه ما لا يقل عن ثلاثة مشاهير في عالم الأدب والدين كانوا حراس مرمى ذات لحظة من شبابهم: البابا جان بول الثاني، وفلاديمير نابوكوف، وألبير كامو. لكن غاية ويلسون لم تكن التحدث عن هؤلاء بل عن حراسة المرمى بشكل عام وكونها من أكثر المهن جحوداً وصعوبة، فإذا فاز الفريق نسب الفوز إلى المهاجمين وإلى أبرز اللاعبين في ساحة الملعب، أما إذا هُزم ذلك الفريق فإن ذلك غالباً ما يكون ذنب حارس المرمى. ثم إن حارس المرمى بحسب ويلسون يكون عادة الأقل شهرة بين أعضاء الفريق. وإذ ينصرف الكاتب إلى رواية العديد من الطرائف والأحداث لا يفوته أن يشير إلى أن الحارس عادة ما يكون أقل أعضاء الفريق خوضاً للعب وأكثرهم “تمتعاً” بما يكفيه من الوقت كي يتأمل ويفكر. لكنه يتساءل: هل تراه يفكر حقاً؟ وإذا فكر لماذا يصر على ذلك الدور الجحود الذي يلعبه؟
من الأدب إلى الواقع
من الواضح أن ويلسون ما كان من شأنه أن يضع هذا الكتاب لو أنه لم يقرأ رواية بيتر هاندكه، أو لو أنه لم يشاهد فيلم فندرز/ هاندكه في الأقل. فالرواية، حتى وإن لم تكن المباريات أساسها تنطلق منها بالتأكيد، لتتابع حياة الشخصية المحورية التي كانت في الأساس شخصية حارس مرمى في فريق محترف نمساوي يدعى جوزف بلوخ، يحدث له ذات مباراة أن يكون في وقفته المعتادة خلال مباراة حين يعتقد أن ضربة الكرة التي وجهت إلى مرماه هي ضربة “أوف – سايد” لن تحتسب، فيترك الكرة تمر من دون أن يردعها. فلا يكون منه حين يدرك أنها ضربة صحيحة وبالتالي هدف يحتسب في مرماه، إلا أن يترك المباراة قبل انتهائها. وهو انطلاقاً من تلك اللحظة يبدأ بالتنقل بين حي وحي ومدينة ومدينة من دون أن يكون له هدف محدد من ذلك. من الواضح أن كل ما يسعى إليه إنما هو الهروب من تلك “الضربة القاضية”. وسيكون أول مكان يقصده صالة للسينما يدخل إليها بعد أن يتبادل بعض العبارات مع بائعة التذاكر، التي سنعرف أنها تدعى غلوريا. وبعد انتهاء عرض الفيلم ودوام غلوريا يتبعها جوزف في حافلة حتى تصل إلى بيتها في الضاحية. وهو إذ يمضي الليل معها ينهي تلك العلاقة بينهما بخنقها ما إن يطلع الصباح.
جريمة مجانية
هي جريمة تذكر طبعاً بالجريمة المجانية التي يرتكبها ميرسو بطل رواية “الغريب” لألبير كامو، والتي يبدو واضحاً أن هاندكه إنما أراد أن يكتب في روايته ما يعادلها. المهم بعد قتله غلوريا يعود جوزف إلى تجواله بين المدن والقرى من جديد، وها هو ذا الآن في الحافلة التي تأخذه من مكان إلى مكان في الضاحية. وذات لحظة يشعر أنه قد وصل إلى نهاية تطوافه، إذ ها هو ذا يترك الحافلة قرب نزل في قرية تقع قرب الحدود المجرية. وبالقرب من النزل يتصفح صحف الصباح، فإذا بها تركز على حادثتين مهمتين، الجريمة التي ارتكبها في حق غلوريا إضافة إلى اختفاء طالب مدرسة مراهق. إثر ذلك يلتقي جوزف صديقته هيرتا غابلر ليمضي حياة عادية بعد ذلك اللقاء. حياة مصنوعة من اللا شيء ومن الفراغ، الذي يبدو معه حتى كأنه قد نسي ذلك الهدف الذي قلب وجوده رأساً على عقب كما نسي الجريمة التي ارتكبها. يبدو جوزف الآن وقد فرغ ذهنه من أي شيء ولم يعد يهمه سوى التجوال وقراءة الصحف. ويتبين له بسرعة أن مقتل الطالب المراهق كان مجرد حادثة عرضية. أما الرسم الذي وزعته الشرطة لـ”القاتل” المفترض لبائعة التذاكر في الصالة السينمائية، فلم يكن من شأنه إلا أن يستثير ضحكة مجلجلة من جوزف، الذي لا يتعرف في الرسم إلى أي ملمح من ملامحه.
مصاعب مهنة
وهنا مرة أخرى وقد راح شيء من الطمأنينة يداعبه، سرعان ما نجد جوزف في الصالة السينمائية يشاهد فيلماً جديداً. وهو بعد ذلك يتوجه إلى حانة حيث يدخل في خناقة مجانية هي الأخرى مع مجموعة من رواد الحانة… وفي الخارج يجد نفسه تحت وابل من المطر لا ينقذه منه بل حتى من الرواد الذين يشتبك معهم سوى ذاك الذي يعتبر “مجنون القرية”. وإثر ذلك سيجد نفسه وبصورة تلقائية متوجهاً نحو ملعب لكرة القدم ليكون مجرد متفرج على مباراة عادية، وخلال المباراة يدخل هو وجاره في المقعد في حديث مستفيض عن صعوبة أن يكون المرء حارس مرمى.
روايات قصيرة إنما مكثفة
كعادته لم يتجاوز بيتر هاندكه في حكايته هذه المئة والخمسين صفحة، وهو الذي اعتاد دائماً أن تكون رواياته مجرد قصص طويلة. لكن تلك الصفحات أتت مكثفة إلى حد مدهش، ناهيك بأن الرواية، وحتى من قبل أن يدخل المخرج فيم فندرز على خط تحويلها فيلماً سينمائياً، تميزت في رأي النقاد بأسلوب سينمائي بدت معه كأن هاندكه كتبها في الأصل كسيناريو للشاشة الكبيرة. وكان من المنطقي والحال كذلك أن يشترك الكاتب النمساوي مع المخرج الألماني في الاشتغال السينمائي عليها، إلى درجة أن كثراً من النقاد تحدثوا عن تدخل هاندكه حتى في الإخراج. والحقيقة أن هذا التدخل هو الذي دفع هاندكه نحو العمل السينمائي أكثر وأكثر، فنجده يشترك بعد ذلك مع فندرز نفسه في كتابة سيناريوهات يجمع بين المبدعين فيها حسّ مشترك بالضياع، ينسبانه إلى شخصيات الأفلام، وأسلوب غالباً ما يقوم على “أفلام الطريق”، ناهيك بإعجاب لديهما مشترك بالسينما الأميركية بل حتى بالحياة الأميركية. ودون أن ننسى هنا أن بيتر هاندكه أقدم هو الآخر على إخراج غير شريط واحد، لعل أهمها كان فيلم “المرأة العسراوية” الذي شارك به في المسابقة الرسمية لدورة عام 1978 من مهرجان “كان” السينمائي.
سجال سياسي حادّ
بيتر هاندكه من مواليد النمسا عام 1942. وبعد دراسته الحقوق بدأ يخوض الكتابة، حين بدأ من عام 1966 راح يصدر رواياته تباعاً حتى كان نجاحه الكبير الأول مع “آلام حارس المرمى في لحظة ضربة الجزاء” في عام 1970. ولم يتوقف بعد ذلك عن إصدار الروايات وكتابة المسرحيات تباعاً، لا سيما متأثراً في بعضها بموت أمه انتحاراً. وعدا تلك النصوص الإبداعية أصدر بدءاً من عام 1977 وحتى عام 1990 يومياته في خمسة مجلدات هي الأضخم بالنسبة إلى كل مجلد بين نصوصه جميعاً، إذا استثنينا رباعيته التالية “عودة بطيئة”. ولئن كان هاندكه قد أعلن دائماً أنه غير مهتم بالسياسة، فإنه أثار لغطاً كبيراً في السنوات السابقة لحصوله على جائزة نوبل من خلال وقوفه إلى جانب السلطات الصربية متهماً الغرب بتدمير يوغوسلافيا؛ بل حتى شارك في تأبين جلاد بلغراد سلوبودان ميلوزيفيتش!