“تاريخ العصامية والجربعة”: الفضيلة مفهوماً سياسياً/ شادي لويس
“تاريخ العصامية والجربعة”: الفضيلة مفهوماً سياسياً تاريخ المصريين يتمحور حول التخلص من الفقر ووصمته، عبر الترقي الطبقي، وفي قلبه الجيش والوظيفة الميري
“ولدت الجربعة من داخل رحلة العصامية المصرية ونقيضاً لها، ومن ثقافة البؤس ومواريث القهر التي سبقتها، تقوى الجربعة وتتعزز على حساب العصامية وقيمها، بإضعاف المؤسسات والعلاقات التي أنبتتها وأرستها كالتعليم والميرى والجيش والاتصال المتجدد بالأفكار الحديثة… الجربعة حزمة من التصورات الفردية والجماعية التي تعمل على إنتاج وإعادة إنتاج نفسها نفسياً وسلوكياً، في اختصار يتوخى التجريد قدر الإمكان، الجربعة هي الاستهانة بسلامة واتساق المنطق الأخلاقي بشكل يحرم صاحبه من الدرجة المطلوبة من احترام النفس واحترام الآخر واحترام المعاني عموماً، فتنحط تفاعلاته مع الوجود لحدود تجعل الخوف بتجلياته المختلفة ملازماً لكل العلاقات، الخوف من أو الخوف على كعناوين رئيسية حاكمة للاجتماع الإنساني المشترك”.
يكتب محمد نعيم مقدمة كتابه الأول، “تاريخ العصامية والجربعة”(*)، بالدارجة المصرية، “من دون دوافع عميقة للكتابة لها” كما يقول، وإن كان يتساءل لماذا سيشعر البعض بالابتذال أو الاعتداء أو عدم التقدير؟ ملمحاً إلى تعمد فقدان الهيبة، في المسافة بين المكتوب والمنطوق، ربما بغية حث القارئ على التشكيك معه في “السلطة الرمزية والمعنوية التي تصنعها القواعد من دون أن نفهم الأصل العقلاني للخطأ أو الصواب”. يعود نعيم ليكتب فصول كتابه بالفصحى، “ولمَ لا!”، يمهد ذلك التفاوت اللغوي لتفاوتات أخرى، فالكاتب لا يعدنا بتاريخ بمعناه المنهجي، بل ما يطلق عليه هو “ملاحظات طويلة وخاصة” عن التاريخ الاجتماعي في مصر والصعود الطبقي فيها، في القرنين الماضيين، ملاحظات تهيمن عليها أحياناً لهجة التأنيب حين يتعلق الأمر بالممارسات الاستهلاكية للطبقة الوسطى وأمركتها المبكرة، قبل أن تتحول إلى تحليل منهجي للسياسات الاجتماعية للناصرية مشفوع بالمراجع، وبين هذا وذاك تقع أحياناً أقل في غواية التعميمات البلاغية، والتي مع تعجلها تظل مُلهِمة في معظم الأحيان، وهي تتنقل بين لهجة خفيفة تهكمية حيناً، واستطرادات مسهبة بلغة وأفكار شديدة التكثيف والعمق أحياناً أخرى.
ينطلق الكتاب من قناعة بأن الاجتماع المشترك في مصر أصبح على المحك، بفعل الاعتداء المتواصل على ما تبقى من قيم الجمهورية التي ولدت مبتسرة ومؤجلة منذ لحظة التأسيس. وفي هذا تحدوه قناعة أخرى بأن ثورة يناير، تلك الهزة الكبرى، تفرض علينا طرح الأسئلة الكبرى بشجاعة، وتحتم مراجعة الإيديولوجيات المهيمنة والتابوهات الوطنية، والتأمل في جذورها.
يسعى نعيم لفحص تطورات مفهوم الشعب، وتشكل وإعادة تشكل خرائطه الاجتماعية، في القرنين الأخيرين، طارحاً جانباً الأساطير التأسيسية عن العراقة وأوهام التقاليد، فالمصريون “شعب معاصر وليس بالقِدَم الذي نتصوره”، منتجات خالصة للحداثة. من نقطة البداية، حيث كان الفلاح في نظام أقرب إلى القنانة، هو “المصري المعياري”، نرى “تاريخ المصريين بالمعنى الواسع هو تاريخ التخلص من الفقر ووصمته”، عبر الترقي الطبقي الذي أتاحه مشروع الحداثة، وفي قلبه الجيش والوظيفة الميري ونظام التعليم الحكومي. هكذا تمكن الفلاحون من أن يصبحوا أفندية. ومع أن تلك الأفكار تبدو شائعة ومطروقة بما يكفي، إلا أن فرادة ما يقدمه نعيم هو التحليل الأخلاقي، أي النظر إلى مؤسسات الحداثة وتشوهاتها اللاحقة بوصفها المُنتِج الرئيسي لشبكة من القيم والمعاني الاجتماعية والممارسات والسلوكيات والأعراف، الوظيفة الميري كأساس مفهوم أوسع للاجتماع العام، الجيش “بلاط الفلاحين” ومعهما التعليم العام، كأسس لنوع جديد من التراتبية، ومفهوم بعينه للكرامة، من حيث تمكين فضيلة المساواة وإعلاء مبدأ تكافؤ الفرص.
هكذا، فالعصامية، ونقيضها الجربعة، وغيرهما من أخلاقيات عامة، ليست فضائل روحية أو تربوية، بقدر ما هي نتاج عمليات سياسية واجتماعية طويلة ومتشابكة وعنيفة ومفعمة بالتناقضات، يمكن تتبعها وتحليلها وتفكيكها. ومن المنظور ذاته، لا يقدم نعيم الصحوة الإسلامية، بعقودها الأربعة، كمجرد تيار دخيل بفعل الهجرة إلى دول النفط أو سياسات محاربة اليسار، بل كمحاولة للتعاطي والاشتباك مع الواقع الجديد، الذي فرضته هزيمة يونيو وعصر الانفتاح، أو كـ”ضرورة سياسية” لتقديم حاضنة أخلاقية او إيديولوجية وخطابية للفئات الاجتماعية الصاعدة، وبالتالي كانت “نزعة التطهر الأخلاقي ومظاهر التدين شكلاً من أشكال حماية الإنسان لنفسه في صيغة تبحث عن الاحترام في مواجهة محبطات اجتماعية ازدادت شراسة وأنانية”. تلك المحاولات انتهت بصيغة تعايش بين تجربة الصحوة ومظاهر التدهور الأخلاقي والقيمية المتفاقمة، ليتوازى الإغراق في الطقسي مع حياة منزوعة الفضائل.
في الفصل الأخير، يقدم نعيم تحليلاً لأسباب اندلاع ثورة يناير ومقدماتها وما وصلت إليه، مؤكداً على أن أهم ما خلفته يناير، “لم يكن في ما طرحته، فهي لم تطرح بنفسها الكثير، لكن في الفراغ الذي كشفت عنه وسبّبته”. يظل هذا الفراغ هاجس الكتاب الأكبر، وتظل المساهمة الأكثر فرادة لكاتبه، هو تأطيره للمفاهيم الأخلاقية كالمروءة والكرامة والنطاعة والشرف كموضوعات سياسية بامتياز، بل كجوهر السياسة نفسها وربما غايتها الوحيدة.
(*) “تاريخ العصامية والجربعة”: يصدر عن دار صفصافة بالقاهرة نهاية الشهر الجاري.
(**) محمد نعيم كاتب سياسي وباحث سابق في الشؤون السياسية بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية.
المدن