ذكرى أحمد رامي.. عاشق القصيدة والأغنية وكوكب الشرق/ سليمان بختي
شاعر ومترجم وأمين مكتبة وعاشق أبدي لصوت أم كلثوم. إنه الشاعر أحمد رامي (1892 ـ 1981)، وهذه السنة هي الذكرى الأربعون لرحيله. ولد أحمد رامي في حي السيدة زينب في القاهرة. يعود نسبه لأصول تركية، فجده لأبيه الأميرالاي العثماني حسين بك الكريتلي. يقول: “في طفولتي وشبابي طلعت الهرم ولعبت الكورة ورجعت البيت في قطر الصباح”. درس في مدرسة المعلمين، وتخرج فيها عام 1914. سافر إلى باريس في بعثة لأجل تعلم نظم الوثائق وعلم المكتبات، وحصل على شهادة اختصاص من جامعة السوربون. تعلم اللغة الفارسية في معهد اللغات الشرقية، مما ساعده في ترجمة “رباعيات عمر الخيام”. عين أمين مكتبة دار الكتب المصرية، وعمل على تنظيمها مستفيدًا من التقنيات الحديثة التي تعلمها في فرنسا. كما عمل أمينًا لمكتبة عصبة الأمم. عاد إلى مصر عام 1845، وعين مستشارًا للإذاعة المصرية، وعمل فيها لثلاث سنوات، ثم عين نائبًا لرئيس دار الكتب المصرية، ولُقب بشاعر الشباب. وهذا اللقب أطلقته عليه مجلة “الشباب” المصرية، ولبسه اللقب. ولكنه كان أيضًا شاعر الحب، وهو قال غير مرة: “لقد تخصص قلمي وفكري في الحب”. “الشعر هو اللي بيجي وألاقي نفسي صوتي مبحوح”. ويتذكر أحمد رامي نفسه في صدر الصبا ولم يتجاوز السابعة من عمره أنه كان على ظهر مركب سفر مبحر في بحر إيجة بين آسيا الصغرى واليونان متوجه إلى جزيرة طاشيور، تلك الجزيرة التي كان والد أحمد رامي طبيبًا منتدبًا إليها من الخديوي عباس حلمي الثاني. جزيرة بطبيعتها الخلابة ولدت لديه إحساسًا بحب الحياة والجمال والنعيم. أقام فيها لمدة عامين قبل أن يقرر الانتقال إلى القاهرة للعيش وحده، وبدء حياته الدراسية، وكان هذا الشعور بالفارق في حياته للكتابة عن الوجع والألم، حيث أقام بجانب المدافن في بيت عمته.
مسيرته الشعرية تلك جسدها في أعماله: ديوان أحمد رامي بأجزائه الأربعة ـ أغاني رامي ـ غرام الشعراء. وترجمته “رباعيات الخيام” عن الفرنسية. كما ترجم ديوان “ظلال وضوء” لسلوى حجازي. وترجم مسرحيات “سميراميس”، و”في سبيل التاج”، لفرانسوا كوبيه، و”شارلوت كورداي” لبوتسار.
كتب أحمد شوقي مقدمة شعرية له، ووضعها رامي على صدر ديوانه، ومنها: “يا راميا من الكلام يعيبه لك/ منزع في السهل ليس بمرام/ خذ في مراسيك المدى بعد المدى/ إن الشباب وراءه الأيام”. ولعل من أجمل ما أنشدته أم كلثوم من الرباعيات التي ترجمها رامي “لا تشغل البال بماضي الزمان/ ولا بآتي العيش قبل الأوان/ واغنم من الحاضر لذاته/ فليس في طبع الليالي الأمان”.
كان أحمد رامي سيدًا في الأغاني بالفصحى والعامية، ولكنه ارتقى بالعامية المصرية إلى مصاف الفصحى. كان الضلع الأول والأساسي في كتابة الأغاني لأم كلثوم منذ “الصب تفضحه عيونه” 1924، وحتى “يا مسهرني” 1972. ويحصي النقاد أكثر من 173 أغنية له وضعها لأم كلثوم، ولكن رامي يقول في مقابلة للإذاعة المصرية 1955 إنها في حدود 300 أغنية. ومع أنه كتب لمحمد عبدالوهاب “المية تروي العطشان”، و”قالولي هان الود عليه”، و”انسى الدنيا وريح بالك”، وغيرها، وكتب لأسمهان، وفريد الأطرش، وليلى مراد، ونجاة، إلا أن رصيده الأكبر كان في أغاني أم كلثوم. وعلى حد قول الناقد طارق الشناوي “منبعه أم كلثوم، والمصب أم كلثوم”.
هو الشاعر والمرجع والصديق والقارئ والمدقق والعاشق. وفي لقاء الإثنين الأسبوعي قرأت معه الكتب التي كان يحضرها لها من دار الكتب ومكتبته الخاصة. كتب الشعر والأدب التي شكلت ذائقة أم كلثوم. واللافت أن أغلب قصائده لأم كلثوم لحنها السنباطي والقصبجي وزكريا أحمد. ولكن “أنت الحب” (1965) ذهبت إلى محمد عبد الوهاب في قمة ثلاثية نادرة.
ساهم أحمد رامي في كتابة ثلاثين فيلمًا سينمائيًا، إما بالتأليف، أو بالأغاني، أو بالحوار، ومن أهمها “انتصار الشباب”، و”نشيد الأمل”، و”الوردة البيضاء”، و”دموع الحب”، و”يحيا الحب”، و”عايدة”، و”دنانير”، و”وداد”، و”فاطمة”. ولكن قصة أحمد رامي مع أم كلثوم كانت أسطورته التي لا تموت. فقد أحبها، وكتب لها ما أراد أن يقوله لها ويسمعه منها غناء. قصة حب خسر فيها رامي كل رصيده، ولكن الفن ربح القصائد، وفازت المكتبة الأدبية بالقصائد التي لا تنسى. كيف تعرف رامي إلى أم كلثوم؟ هي التي غنت له قصيدة “الصب تفضحه عيونه”، ولم تعرفه. كان أول لقاء بينها وبين رامي يوم الخميس 24 تموز/ يوليو 1924، فقد دعاه صديقه محمد فاضل ليسهر معه في حديقة الأزبكية. وفي تلك الليلة سمع رامي أم كلثوم تشدو بدون آلات موسيقية. دنا منها وقال: “مساء الخير يا ستي”، وردت أم كلثوم: “مساء الخير.. أهلًا بأحمد رامي شاعر الفضيحة”.. ألم تقل “الصب تفضحه عيونه”. قال رامي: “أنا حاضر من غربة ونفسي أسمع قصيدتي” وغنّت. ومن لحظتها، سرى دبيب الحب في قلب رامي، وسرى الشعر، ولبث يكتب الأغاني والقصائد لأم كلثوم. وأجمل ما كتبه بقي راسخًا في ذاكرة الغناء والحب “من كتر شوقي سبقت عمري وشفت بكره والوقت بدري” و”هجرتك، ويمكن أنسى هواك/ وودع قلبك القاسي”. و”أنا لو نسيت اللي كان/ وهان عليا الهوان/ أقدر أجيب العمر منين/ وأرجع العهد الماضي أيام ما كنا نحن/ أنت ظالمني وأنا راضي”. و”يا ليلة العيد آنستينا”، و”مصر التي في خاطري”، ولكن الأحب إلى نفسه كانت “قصة حبي”. وكتب “إفرح يا قلبي”، و”النوم يداعب جفون حبيبي”، و”كيف مرت على هواك القلوب”، و”غلبت أصالح بروحي”، و”رق الحبيب”، و”سهران لوحدي”، و”يا ظالمني”، و”ذكريات”، و”عودت عيني”، و”دليلي احتار”، و”حيرت قلبي”، و”أقبل الليل” 1969. و(كانت آخر قصيدة بالفصحى غنتها له أم كلثوم) و”يا طول عذابي”، و”أغار من نسمة الجنوب”، و”جددت حبك ليه”. ولهذه الأغنية قصة روتها سناء البيسي في كتابها “سيرة الحبايب”، إذ عندما قدم لها أغنية “جددت حبك ليه”، قالت له بعد قراءتها: “إديني إيدك يا رامي”. ولما رفض أن يعطيها لها جذبتها وقبلتها قائلة “الإيد اللي بتكتب الكلام ده بتنباس”. وظل يكتب ولم يستطع مغادرة عباءة أم كلثوم. ولم يأخذ مقابلًا ماديًا عن أغنياته. وقال لها غير مرة “المجنون لا يدفع ثمن جنونه”. كان يكفيه الشعور أنها تغني كلماته. وكان له طقوسه في سماع أم كلثوم. كان يدخل قبل رفع الستارة، ويجلس في الصف الأمامي، وينسى نفسه، ويسمع قصيدته تعاد إليه بالصوت الحبيب الأحب أضعافًا مضاعفة عما كانت وآلت. ويقول “كأنها تدعك عود الريحان حتى يشتد أريجه”. ويضيف “رنة العود صوتها”.
قرأت أم كلثوم الشعر معه. أسر لها أن أفضل قصائده كتبها في الترامواي، وعلى شط النيل. راجع كل الأغاني والقصائد التي كتبها لها مأمون الشناوي، وعبد الوهاب محمد، ومرسي جميل عزيز، وأحمد شفيق كامل، وغيرهم. وكان له رأي وتعديل وتبديل. وينسب إليه أنه لم يكن راضيًا عن كل ما تغنت به أم كلثوم من أشعار غيره، ولكنه لم يفصح. وعندما سئل ذات مرة لماذا غنت أم كلثوم لآخرين؟ أجاب: “حتى تثبت أن نجاحها غير مرتبط فقط بشعري”.
استطاع رامي أن يحفر بأغانيه للمعاني والحالات بطريقة جذابة ومختلفة. كل أغنية فيها حالة من تجليات الحب الصادقة المتلألئة بالشعر، وإلا كيف استطاع أن يطعم أغانيه بتلك الجمل التي عاشت في الأغاني، وعاشت في ذاكرة الناس. كان يقول مثلًا: “ما بين بعدك وشوقي إليك/ وبين قربك وخوفي عليك دليلي احتار وحيرني”. أو “يا قاسي بصّ في عيني/ وشوف إيه إنكتب فيها”. أو “بدي أشكيلك من نار حبي/ بدي أحكيلك علي ف قلبي.. وصورلك ضنى روحي/ وعزة نفسي منعاني”. أو”لما أشوف حد يحبك يحلالي أجيب سيرتك وياه”.
وعندما سئل كيف تسمع أم كلثوم؟ أجاب: “أحتشد لسماعها كما أستقبل عيدًا من أعياد الدهر”. وهو لا يزال يذكر كيف غنت له أم كلثوم له وحده في مركب برأس البر. ولا ينسى هذا أبدًا. كان رامي يكتب حبًا يبري جسده، ويترجم كل ذلك إلى قصائد وأغان؟ كما عبر على طريقته “وأفضل احبك لا من غير ما أقولك إيه اللي حير أفكاري لحد قلبك ما يوم يدلك على هواي المداري”. وظل يردد “وعمري ما أشكي من حبك مهما غرامك لوعني”. ولكن كانت أم كلثوم تحب فيه الشاعر وليس الرجل. وكانت تقول عنه: “إنه شاعري الذي يحترق لينير طريقي”. أما هو فقال ردًا على سؤال: “أحببت أم كلثوم حتى التقديس، ولم أندم لعدم زواجي منها. أحببتها كما يحب المرء الهرم، أو النيل”.
غنت له في يوم زفافه: “اللي حبك يا هناه”، و”افرح يا قلبي”. وخلعت من إصبعها خاتمًا أبيض، وقدمته له، وظل يلبسه حتى يوم وفاته. حديثه العذب هو عن صوتها وطبقاته وطواعيته ونقاوته وجماله بكل الدفء والحرارة، كأن الصوت هو الكل. ويعد نفسه بقصائد لها وأنغام جديدة.
في 3 شباط/ فبراير عام 1975، رحلت أم كلثوم، فاعتزل رامي الناس والشعر والكتابة. ولما دعاه الرئيس السادات إلى حفل تأبينها في سنويتها الأولى في 1976، تحامل على نفسه، وذهب للقائها في قصيدة رثاء، قال فيها: “ما جال في خاطري أني سأرثيها/ بعد الذي صغت من أشجى أغانيها/ قد كنت أسمعها تشكو فتطربني/ واليوم أسمعني أبكي وأبكيها/ وبي من الشجو من تغريد ملهمتي/ ما قد نسيت به الدنيا وما فيها/ وما ظننت وأحلامي تساورني/ أني سأسهر في ذكرى لياليها/ يا درة الفن يا أبهى لآلئه/ سبحان ربي بديع الكون باريها/ مهما أراد بياني أن يصورها/ لا يستطيع لها وصفًا وتشبيها”.
عاش أحمد رامي بعد رحيل أم كلثوم ست سنوات. توفي في عام 1981، وبقي شعره يصوّر العذاب والهجران، ومعنى الحب الجميل، ويعبر عنه معاتبًا الحبيب بالحب والأشواق والحنين، ويستجيب فقط لما تفعل به النفس صادقًا ومؤثرًا ومرهفًا.
ضفة ثالثة