مراجعات الكتب

ست روايات غير مكتملة، وموت منتظر في السابعة/ عمار المأمون

تراود الكثيرين ممن يمتهنون الكتابة والقراءة رغبة غير بريئة بالإكمال أو الاستطراد، أي أن يضيفوا ما يمتلكونه إلى ما كُتب سابقاً أو ما قرأوه. تقنية نفّذتها واحدة من شخصيات بورخيس، التي أعادت كتابة دون كيخوتة مرة أخرى، ضمن ما سماه البيرتو مانغويل لاحقاً “دون كيخوتة المتعالي”، ذلك النص الذي يحوي تفاصيل شغف بها القارئ الراغب بالإكمال.

هذه الرغبة بأن نضيف ونقلّد، أو ما يسميه البعض سرقة، ليست إلا تهماً مبتذلةً، تبتعد عن واحدة من أهم قواعد الكتابة، تلك التي تفترض أن لا جديد يمكن أن يُكتب، وكل ما نقرأه مكتوب مسبقاً بشكل ما، ويكفي أن نكون حذقين كفاية لنعلم من أين “نقتبس”.

ضمن المقاربة السابقة، وفي محاولة لمواجهة لعنة الصفحة البيضاء، وأوهام “انتظار الرواية” والإلهام كي يأتي ويملأ البياض، نقرأ رواية الكاتبة اللبنانية كاتيا الطويل، التي تحمل عنوان “الجنة أجمل من بعيد”، الصادرة عن دار نوفل-هاشيت أنطوان، والتي تضعنا فيها أمام ثالوث مقدس هو “قارئ، ورقة بيضاء وشخصية بلا رواية”.

ضمن هذا الثالوث تتحرّك الكتب والنصوص والشخصيات والحكايات التي نَألَفُ بعضها ونجهل البعض الآخر، دون أن نعلم بدقة، أي واحدة منها تعود إلى الشخصية التي لا تمتلك رواية.

نقرأ الرواية بلسان شخصية رجل يحاول أن يخرج من لعنة المجهول، كونه شخصيّة بلا تاريخ ولا مستقبل، لا تعرف اسمها ولا عمرها، وتدرك فقط أنها رجل، ويأتي هوس هذه الشخصيّة وتمردها على كاتبتها بسب الرغبة بـ”المعرفة”، التي تفترض الموت نهايةً. لكن كل المحاولات تفشل، خصوصاً حين يقف الراوي/ الشخصية على رفّ المكتبة، متأملاً الكاتبة خالقته، تلك التي يحاورها ويؤلف معها وتؤلفه في ذات الوقت.

انتظار الرواية أن تنكتب

هذه العلاقة بين الشخصية والكاتبة يحكمها “انتظار الرواية”، فالصفحة الفارغة تغتال تدريجياً الشخصية التي تبدأ بتأليف روايات لنفسها، روايات غير مكتملة، تتكرّر فيها موضوعة الوقوع بالحب والغواية ثم الموت حزناً. لكن نكتشف حين ننظر للرواية من بعيد، أن الطويل تعيد إنتاج حكايات أخرى، إذ نقرأ محاولات إنتاج “أدب روسي”، ثم رواية بوليسية وأخرى تاريخية، كذلك يتضح أمامنا أن الحوار بين الشخصية والكاتبة، “بيكيتي” (نسبة إلى صموئيل بيكيت).

فهو قصير، نزق، تتكرّر فيه الأسئلة، ما يحيلنا أيضاً، بسبب موضوعات الخلق والموت والمعرفة، إلى مسرحيات الاعتراف المسيحية، لكن الفرق أن الطويل تسخر من طبيعة النصح فيها، وتحوّلها إلى محاولات للتمرد على “الكتابة/ الخالقة” والتشكيك بنزاهة الخالق وبعقلانيته وجدوى ما يقوم به، أي الخلق.

تحوي الرواية عدة متخيلات للثالوث الذي تتحرّك ضمنه الطويل، فالشخصية الروائية أو السارد، واع بشدة أنه شخصية، إذ يدرك أن هناك كاتباً له، وواع بالكتب بجانبه وبشخصياتها، وبرواية كاتيا الطويل الأولى “السماء تهرب كل يوم”، الأهم (وهنا يظهر المتخيل الثاني المرتبط بالقارئ) أن الشخصية تخاطب القارئ وتتخيل ماذا يفعل أثناء القراءة، وتدعوه أحياناً لترك الكتاب وأحياناً أخرى إلى التعلق به، تهاجمه وتصده، وأحياناً تدعوه وترحّب به. صورة القارئ هذه تفترض أنه يتفاعل مع الشخصيات الروائية ويصدقها ويتأثر بها، هو قارئ يشابه الشخصية نفسها كونه أيضاً يبحث عن حكاية ما.

نهاية، هناك الصفحة الفارغة، وهنا تتضح تمرينات الكتابة في الرواية، والتي تظهر عبر أسلوبين، الأول قائم على الانتظار، الوحي والإلهام، وهذا ما يتمثّل في الكاتبة نفسها التي تلعب دور الخالق دون أن تستطيع أن تملأ هذا الدور، تنجز مسودات وبضعة سطور لا تكفي لرواية، لتعود بعدها إلى “اختفائها”، ما يكشف لنا عن الورطة التي وقعت بالشخصية، فسبب عجزها عن إكمال روايتها الخاصة سببه كسل الكاتبة، التي أيضاً “تنتظر الرواية”.

الأسلوب الثاني، هو الإتقان والتجهيز المسبق، والنظر إلى الرواية كجهد قائم على تصميمات ومتخيلات وعلاقات داخل وخارج الكتاب، وهو ما يقوم به الخالق عادة بـ”كلمة”، وهنا يمكن فهم المقارنة بين الشخصية/مخلوق والكاتبة/خالق، إذ فجأة تقوم الكاتبة، بإعطاء نصائح مختلفة للشخصية حين تحاول الكتابة، تشرح لها بعض النقاط وتمنعها من استخدام بدايات مبتذلة أو الإغراق في التفاهة أو القيم الأيديولوجية، في إشارة إلى مرحلة البحث والقراءة السابقة على الكتابة.

وصايا الكاتب للشخصيات

تنزل الكاتبة وصاياها الخمس لا العشر على الشخصية، وأهمها أنه سيموت حزيناً، وهنا يتضح في الرواية سعيها لمحاكات المتخيلات الدينية والأساطير اليونانية، خصوصاً تلك الخاصة ببرومثيوس، سارق النار، وذي الجرح في خاصرته، ذاك الذي يتكرر لدى الشخصية في كل محاولة لكتابة رواية، وكأن لعنة التكرار البيكيتي مهيمنة ولا يمكن الفكاك منها، حتى الشخصيات الروائية التي يستضيفها الراوي والحوارات تكشف لعنة أن يكون الواحد أسير ما هو “مكتوب” مسبقاً، أسير مخيلة إله/ كاتب/ ذكر، كل نسائه محكومات بالموت أو الإغراق بالعواطف.

وكأن دورة القدر وعجلته لا فكاك منها، وحين تحاول الشخصية كتابة “الرواية السابعة” ينتهي بها الأمر ملعونة، معذبة كبرومثيوس، يأكل النسر كبده حتى اللانهاية، فالمعرفة لعنة مزدوجة، فقدانها أو اكتسابها يؤدي لذات القلق والخوف، والأهم، الموت.

بالعودة إلى فرضية الإكمال في المقدمة، حاولت الشخصية تأليف 6 روايات، لكنها في كل مرة تعجز عن إنهائها، وكأن وعي الشخصية بذاتها لا يكفي لبناء حكاية، فترى نفسها بحاجة للاستعارة والاقتباس مما هو “مكتوب” مسبقاً.

فلا حكاية أصلية أو مميزة، وإن أردنا أن نكون أشد قسوة، لا حكاية لم ترو، حتى الكاتبة نفسها بنزقها وعواطفها وكسلها أحياناً، مكشوفة أمامنا نحن القراء، إذ نعلم ما في مكتبتها، ونعلم ما تختبره في حياتها، فلا “سرّ” دفين لدى الكاتب بانتظار أن يتحرر أمام الورقة البيضاء، تلك الأسطورة التي يروّج لها دوماً، والتي عادة ما يكون حلّها بـ”القراءة”.

بالضبط كما حدث في الاجتماع السري مع الشخصيات الروائية الأخرى، إذ تتحادث آنا كارنينا وشهرزاد وغيرهما، ويتبادلن الرأي والحكايات، لكن دون جدوى، فكل ما يقلنه “مكتوب”، ما يترك الشخصية الفاقدة للرواية أمام رهان أخير، وهو التمرد الكلي على الكاتبة، و”سرقة” القدرة على السرد منها والاحتفاظ بها، في محاولة لـ”اختيار” النهاية التي ستضعها الشخصية لنفسها دون أي تدخل من خالق أو مخلوق.

فضيحة القارئ والكاتب

تتدخل شخصية روائية شهيرة لن نذكر اسمها في نهاية الرواية، وتهب الشخصية المتمردة أهم نعمة تملكها، وهي الوقت، الذي يمكن وصفه بالسلاح الموجّه أمام الورقة البيضاء. والمقصود بالوقت هنا “زمن القراءة”، ذاك الذي “يعمل” ضمنه الكاتب على التعرف على ما هو مكتوب سابقاً من أجل الاقتباس منه.

وكأن كل روائي سارق لم يكشف بعد، وهذا ما نقرأه في الرواية نوعاً ما، فإن كانت كل الحكايات مروية مسبقاً فعلى الشخصية الروائية أن تفضح نفسها، وتفضح القارئ والكاتب، كي تقول لنا بكل وضوح، إن حياة أو موت الكاتب غير مهمة، فالشخصية الروائية تنتمي لتاريخ روائي، تظهر ضمنه وتختلف عنه أو تشابهه، وطالما هناك كتب هناك روايات، أما المؤلفون، فحتى اسمهم يمكن الاستغناء عنه كلياً.

رصيف 22

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى