سِفْر الخوارج/ سرمد العاصي
اللحظة الأولى
يعيش ثلث السوريين اليوم خارج سوريا، فيخلقون بذلك سوريا أخرى تُضاف إلى سورياتهم المتعددة. يكتب سوريو هذا الشتات سِفراً جديداً يضاف إلى أسفارهم، يتحدثون فيه عن لحظتي خروج. كانت اللحظة الأولى يوم أصبحوا خوارجَ أنصاراً للثورة، وقد بدأت بأن حان الدور على دكتور عيون البلاد. حينها سُمِّيت فورَ ولادتها بالثورة. ولكن ما هي الثورة؟
تاريخيّاً، تم إطلاق لفظة «الثورة» على كثير من الظواهر المختلفة، كما يقول عزمي بشارة في كتابه في الثورة والقابلية للثورة. بعضها حمل السلاح في وجه قوة خارجية، كالثورة الأميركية؛ وبعضها كان انتفاضة شعبية في وجه الحاكم، كالثورة الفرنسية. بعضها حمل إيديولوجيا معينة كالثورة البلشفية؛ وبعضها كان يمثل مصالح سياسية لجهة دون الأخرى كالثورة البريطانية. بل إن تحقيق الثورة لأهدافها من عدمه ليس معياراً لتسميتها بالثورة، فثورة الملاكمين في الصين مثلاً انتهت بخسارتهم. بل إن مدة استمرار الثورة أمرٌ نسبي، إذ نجد تسميات كالثورة الصناعية، وحتى الثورة الزراعية. أما عربياً، فدخول لفظة «الثورة» على اللغة حداثي، إن لم يكن حديثاً. كانوا يقولون إن الدنيا دُوَل، وهو ما استند عليه بنو العباس حين حققت دعوتهم أهدافها. كان بنو العباس أول من استخدم لفظة «دولة» للدلالة على حكمهم. وهم رأوا أن الأمور إن دالت لهم فإن ذلك موافقة للطبيعة، ولكن ما لبث دوام الدولة أن أصبح الطبيعة الجديدة، ليصبح التمرد عليها خروجاً وفِتنة. يُكمل بشارة في حديثه فيقول إن الألفاظ التي كانت تستخدم لوصف تلك الحركات كانت من قبيل التمرد، أو الخروج، أو حتى الفتنة. استعمالُ لفظة «ثورة» وما فيها من محاميل إيجابية كان بفعل تغيرٍ إيديولوجي في الفكر العربي أطلق تسمية الثورة على انتفاضة الجزائر، وانقلاب عبد الناصر، وقيام العرب على الدولة العثمانية. بل إن انتصار بريطانيا في إخماد انتفاضة الفلسطينيين عام 1936 لم يمنع من إطلاق لفظة ثورة عليها.
ولكن ما الذي تعنيه هذه اللفظة بالنسبة للسوريين في الشتات؟
ثورة وما ثورة
زينة بالي سورية مقيمة في أوسلو منذ سنوات، تدير منظمة مساحات المعنية بإنتاج ثقافة وفنون من العالم العربي. في حديثي معها سألتُها عن معنى الثورة فأخبرتني: «أنا أبحث عن معنى كل هذه الأسئلة، أقرأ وأبحث. لكن لدي شعور بالشلل كأنني أمام حائط. سأشعر دوماً بالنقص أو الغصة. أن أسمي ما يحدث اليوم ثورة؟! كأنني أحاول تجميل وضعٍ غاية في البشاعة. ولكن ما حدث عام 2011 هو في غاية الوضوح في ذهني. هي متاهة من التفكير، وبذلك من الممكن أن نفصل بين عدة مراحل. لا يمكن لأحد أن ينكر أن ما حدث في 2011 هو ثورة، ولكن إلى أين امتدت ومتى بدأت بدخول مرحلة أخرى؟ أعتقد أن المفاهيم هذه دائمة التجدد. لست مفكرة على كل حال، ولكن من يمتهنون إنتاج الفكر والتنظير له يغيرون مفرداتهم ويتراجعون عمّا قالوه بهذا الخصوص في حالة مستمرة من النقد ونقد النقد. هناك أشخاص هويتهم في الثورة، ولكنني لست منهم. أرى أنني أنتمي إلى طيف واسع من الناس الذين تماهوا مع الثورة كحدث تاريخي، وأَعتبرُ أنني عشت امتدادات الثورة وتفاعلت معها، ولكني لم أكن جزءاً من صنعها، ولم أناضل ولم أدفع تلك الأثمان. هناك طيف واسع؛ هناك من خسر كل شيء بسبب هذا الاصطفاف، ولكنني لست كذلك. أنا شخص عادي، تركت البلد لأكمل دراستي وبحثت على مصلحتي. لم تبدأ مساهمتي الطفيفة إلا بعد أن أًصبحت في وضع مستقر ومكان آمن. في عملي المعني بالثورة السورية قد لا تجدني أستخدم كلمة ثورة دوماً. أحياناً أستخدم لفظة uprising بمعنى انتفاضة، وفي أحيان أخرى أستخدم ألفاظاً غيرها. فمثلاً في أحد ملفات عملنا في “مساحات” المكتوب بالإنجليزية استخدمنا عبارة Syrian crisis أو “الأزمة السورية” لوصف ما يحصل في سوريا، في حين استخدمنا تعبير “الثورة السورية” في المرادف العربي للنص ذاته. ما أقصده أننا لا نملك سياسة واضحة حيال ذلك في المؤسسة التي أعمل بها. وأشعر أن السياق العام ربما أهم من الكلمة. لن يحولنا استخدام تعبير “الأزمة السورية” إلى قناة الدنيا، لأن السياق يشرح نفسه. وفي كثير من تلك السياقات، كذاك الملف الذي حدثتك عنه، كان لاستخدام كلمة revolution أن يكون مُقحَماً».
عبد القادر المحمد (اسم مستعار) سوري-فلسطيني انتقل إلى ألمانيا قبل خمس سنوات، ويدرس الآن التاريخ في إحدى جامعات برلين. اتفقَ عبد القادر مع زينة على أهمية السياق، وقال في ذلك: «عند الحديث عن الثورة باللغة الألمانية فإن السياق هو ما يحدد اللفظة التي أستخدمها. أستخدم تعبيري Revolution أو Aufstand، بمعنى ثورة أو انتفاضة في أكثر تلك السياقات، فتستبدل إحدى اللفظتين الأخرى. ولكنني أستخدم لفظة “حرب” أحياناً أخرى. في الحقيقة، إن ذاك الخلاف المعني بسؤال إن كان ما حدث في سوريا حرباً أم ثورةً لا يعنيني بشكل كبير. ففي محاولة البعض الحفاظ على سردية معينة تجدهم يحاولون دفع النقاش بعيداً عن مُساءَلة أي أحد غير الأسد، كالقوى الإسلامية أو فصائل المعارضة المسلحة مثلاً، وذلك للحفاظ على استمرارية معينة لدورهم كضحايا لذاك الجلاد. في الحقيقة، لست أعاني من كل تلك الحساسيات التي قد يعاني منها من هم من جيل أكبر مني ربما. بالطبع للألفاظ معنى، فمن كان في 2011 يسأل عن رأيك بالثورة كان قد أخبرك عن موقفه مسبقاً باستخدامه ذاك التعبير، وكذلك كان يفعل من يسأل عن رأيك بالأزمة. على كل حال، يمكن لتنظيم مسلح أن يقوم بثورةً أيضاً، ولكن الانتفاضة تحتاج لحراك مجتمعي. كما أنني لم ألجأ إلى ألمانيا بسبب الثورة، بل أتيتها بسبب الحرب. لا أتحدث عند مخاطبتي الآخرين عن خسارة جاءت من الثورة، بل هي خسارة سببتها الحرب. ولكنني من ناحية أخرى أفهم أن استخدام كلمة حرب يسحب الشرعية في أعين الكثيرين، وقد يمس قضايا المعتقلين والمغيبين».
ربى الجميل (اسم مستعار) سوريّة مقيمة في برلين منذ سنوات، وتعمل اليوم في منظمة معنية بالثورة السورية. تتفق ربى مع عبد القادر في اختيار لفظةٍ أقل جموداً من غيرها فتقول: «أنا أفضل استخدام كلمة “حِراك” عن كلمة “ثورة”. الحِراك مرتبط بمكانٍ ووقت، ويعطيني شعوراً بالحركة، وخاصة بالنسبة لمن هم في الشتات بعيداً عن سوريا. يعكس الحِراك حركة لا في الشوارع وحسب وإنما في عقولنا أيضاً. أردنا في 2011 أن نتحرك وأن نرى كيف يتحرك الآخرون. كان الموضوع عفوياً، بدون قيادة. لم نملك أي خبرة سابقة ولم يكن لدينا ثورات أخرى نهتدي بها، بل هو حراكنا نربطه بحراك آخر يحصل في جوارنا. لست شخصاً حساساً للمصطلحات على كل حال. فالكلمات في النهاية شرح لحالة نعيشها. هناك سوريون يسمونها ثورة لأن هذا يعبر عما عاشوه، وهو ما أفهمه بكل تأكيد».
عمرو بطرس (اسم مستعار) سوري مقيم في شمال غربي ألمانيا، ويعمل هناك كطبيب منذ سنوات. رأى عمرو الموضوع بشكل أقل تعقيداً: «بأبسط أشكالها أرى أن الثورة، أي الثورة السورية، هي الانتفاضة التي حصلت ضد النظام في 2011. وأجدني أؤمن بهذا التوصيف بغض النظر عن الأسباب التي دفعت السوريين للقيام بذلك أصلاً، سواء كانت أسباباً أخلاقيةً أم براغماتية، طائفيةً أم تدعو للمساواة، أو غيرها من الثنائيات الأخرى الموافقة للخير والشر. بالنسبة لي، وعلى المستوى الشخصي، أعقب تلك الثورة ثورات على الذات. فلولا الثورة السورية ما كنت لأستطيع أن أثور على نفسي. كان موت الناس هو ما حرك ثورتي على الدين والتقاليد أو مسلمات أخرى كالوطن. الثورة بالعموم هي فعلٌ تغييريٌ يتطلب الإرادة والشجاعة مع سابق العلم أنك ستخسر شيئاً ما، وذلك فداءً للغاية الأسمى التي ترنو لها. لم تغير الثورة السورية النظام الحاكم ربما، ولكنها منحتنا الشجاعة، بمن فينا الموالون للنظام السوري. لقد غيرت الثورة للإيجاب بالمجمل. حسناً، ربما في هذه النظرة بعض الأنانية. فأنا أذكر أنني مع بداية الثورة لم أكن أفهم حتى ما يحصل حولي، حيث كنت قبل الثورة أرى أن الاعتقال والقتل والقمع كلها جزءٍ من الوضع الطبيعي. أعزو هذا لجهلٍ مني طبعاً. ولكنني لاحقاً ومع قيام الثورة استفقتُ على نفسي. كان رد فعل النظام الدموي هو ما دفعني للبحث والسؤال، ودفعني فيما بعد للوصول إلى الإيمان الذي أحمله اليوم بأننا نستحق أفضل من ذلك. كما أشعلت الثورة داخلي شعوراً بالانتماء للآخر السوري، وشعوراً بالفخر بشجاعته فيها، وبالتالي بانتمائي لتلك الشجاعة. مع أننا نبالغ أحياناً في خلق الأبطال في الثورة السورية، إلا أنني أرى أن كثيرين ممن شاركوا أبطالٌ فعلاً».
لا يَخفى شعور طاغٍ بالذنب والمسؤولية يتملّك كثيراً ممن يعيشون في أوروبا من السوريين، ويختلط مع ذاك الشعور إجلالٌ لمن خرجوا ضد النظام في 2011، وشعورٌ بالمسؤولية تجاه تلك اللحظة أيضاً. يتذكر كثيرون من السوريين أحداث السنوات العشر الماضية كلحظات لا كاستمرارية؛ لحظة الشجاعة، لحظة الهزيمة، لحظة التشتت، لحظة التَمالُك.
للأبد؟
هناك اتفاق على محورية تلك اللحظة، لحظة الشجاعة، وخلودها ربما كلحظة منعزلة. ولكن سؤالاً بسيطاً من قبيل: «هل الثورة مستمرة؟» يثير إجابات على طرفي نقيض. السؤال قديم، والإجابات عليه ليست جديدة، ولكنه سؤال يعيد بث الحياة في نفسه كلّما ظننّاه قد نام. يختلف السوريون على تعريف الثورة، فيرى بعضهم أن الثورة فكرة، والفكرة لا تموت، كما يقول غسان كنفاني، بينما يراها البعض الآخر حراكاً، والحراك ينتهي، بل انتهى، ونحن الآن نلملم الآلام. نحن الآن في لحظة تمالُك النفس ربما.
تُعلِّقُ ربى على تلك اللحظة قائلة: «أنا أدين لتلك اللحظة، لحظة البلورة، بالكثير. كل ما قمت به اليوم هو بسبب تلك اللحظة. صحيح أن عائلتي قد تأذت، ولكنني شخصياً لم أخسر ما خسره آخرون. كثيرون ممن أعرف خسروا وعانوا، بل ويعانون حتى اليوم في محاولتهم لتغيير الواقع. بل إن ما يحرك معظم ما أقوم به اليوم هو الشعور بالذنب. هو دافعي للكثير. ليس دافعاً جيداً ربما. ولكنه إحساسي أنني أنا، ربى، لم أقم بما يكفي. بل أفكر أحياناً أنني لو قمت بما يجب لما حصل ما حصل. ثم أعود لأفكر أنني ربما مخطئة، وأنني أقل تـأثيراً مما أظنه؛ “يمكن الواحد حقه رصاصة”. إلا أنني لا أعرف، وعدم المعرفة هذا هو ما يجعلني أقوم بكل ما أقوم به اليوم. أنا لم أكن هناك. يدفع آخرون حياتهم أثماناً، ثم آتي أنا، من تملك كل هذه الامتيازات، لأساعد في حل بعض مشاكلهم. كل ما أفكر به أن الثورة كريمة، وأن من خلقوها كرماء. فهم كما قبلوا النزول إلى الشارع يقبلون اليوم ما أقدمه أنا».
ثم يحدثنا عبد القادر عمّا كان لتلك اللحظة، وعن ارتباطها بكل لحظاتنا اليوم: «لقد قَزَّمت الثورة كل ما كان قبلها، بما فيه تحولي من الحلقات الدينية إلى ترك الدين بشكل كلي. وحتى بعد أن فقدت الثورة بعضاً من معناها، فهي قد حطمت تلك البنى السابقة لها. تسألني: متى سقطت الثورة؟ إنها ربما بمعنىً ما لم تسقط، ولكن ثورة 2011 بمعنىً آخر لم تعد ما كانته بعد ظهور كل تلك التشكيلات الإسلامية وما حصل بعدها. ربما كان السقوط أخلاقياً أو شرعياً. اليوم وبشكل رجعي أقول إن تلك التشكيلات سقطت لحظة تشكيلها، ولكنني يوم تشكلها كنتُ مؤمناً. لقد كنتُ طفلاً يوم قامت الثورة على كل حال. الإسلامي كان جيداً بالنسبة لي يومها، كانت أسماء التشكيلات الإسلامية جذابة، من قبيل الفاروق وسيف الإسلام، والتي سمحت لي بتقبّل ما جاء بعدها من نصرة وسواد بسواد. ولكن إن كانت الثورة انشقاقاً عن الجماعة، أو خروجاً عن السائد، فالخروج الآن هو خروج عمّا كان يجمعني مع كثيرين في لحظة الثورة تلك، بدءاً ممن رفضوا الأسد لأنه علوي، وحتى الثورة عليه لأنه يرتكب المجازر. وبهذا فإن القول إن ثورة 2011 مستمرة حتى اليوم فيه تجاهل لهذا وفيه طبطبة لما حصل باسم الثورة نفسها. ولكن استمرارها ربما فيه استمرارية مفاهيمية كانشقاق عن السائد الذي يطبطب اليوم على ما حصل تحت اسم الثورة بحجة بشار الأسد. الإجابة عن سؤال إن كانت الثورة مستمرة متعلق بمن يتبنى فكر تلك الثورة أصلاً، فإن كان من قبيل مجدي نعمة ومن يدافع عنه فأنا أرفض تلك الثورة، أما إن كان تبنيها قادماً من انشقاق عن السائد وطلباً للحرية والكرامة ورفضاً لمن هم على شاكلة مجدي نعمة فقد أرى حينها استمرارية لثورة الـ 2011. الاستمرارية الثورية لا تحصل اليوم برفض بشار الأسد وحسب، وإنما هي برفض مجدي نعمة. بل أعود لأقول بشكل رجعي اليوم إنني ربما لم يجمعني مع مجدي نعمة حتى مطلب الحرية والكرامة، والذي لو أنني سألته في 2011 عن معناها لرأيت اختلافه عني فيها. هي لم تكن ثورة واحدة بالأصل».
تعمل راما الزيات مع مجموعة لسا موجود بشكل تطوعي لإحياء وحفظ الذاكرة الثورية. عملت راما مع الفريق ضمن مشاريع عديدة منها مشروع روزنامة الثورة، التي وثقت فيها أحداث ثمان سنوات ابتداءً من آذار 2011. تسكن راما اليوم في إسطنبول وتخبرنا عن انطباعها: «أنا أرى أن الثورة بشكل 2011 لم تعد مستمرة. شكلها أصبح محدثاً، ويجب أن يأخذ صيغاً أخرى وأشكال أخرى. ما هي الثورة؟ إيمانك الشخصي أن تكون مع العدالة والكرامة وضد الظلم. أنا في 2011 كنت أطالب بالحرية والعدالة. أما اليوم لا زلت أطالب بهما بالطبع، ولكني أعرف أنني فاقدة لامتلاك الحدث الفعلي كما السابق، لأنني لست على الأرض. لذلك مؤخراً بدأت تخيفني أكثر هتافات من قبيل “الثورة مستمرة” أو “الثورة انتصرت”. أدرك قيمتها بالطبع، لكنها تشعرني أننا في وادٍ بعيد كل البعد عن البلد الآن. وأنا لا أحب ولا أودُّ أن أكون منفصلة عن ذاك المكان بهذا القدر. في البداية عملنا مع العديد من المنظمات السورية في المغترب، وكان هذا التعاون مثمراً، ولكنني أرى السوريين متفرقين أكثر من أن يكون جمعهم ممكناً. نتفق على الإيمان بالثورة، ولكن سقف الثورة غير موجود وهو ما كان السبب وراء عدم قدرتنا على أن نبني الثورة اليوم. نحن فرقاء، لكل منا ثورته التي يعمل لها. لسنا على مشرب واحد، هذا ما أقرّ به. حدثتك عما يفرقنا، ولكن ما يجمعنا كسوريين هو أملنا أن يكون هناك سوريا حرة وبلد أفضل. جواب رومانسي وحالم الآن ربما. ولكن كلنا ننظر ونطمح إلى ذاك المكان. شكلت سوريا حرباً عقلية بيننا وبين ذاكرتنا معها. أنا نسيت سوريا. فعلياً أنا أتذكر ما لا أستطيع تذكره. أسماء شوارع وصور أماكن. الارتباط الروحي مع سوريا مفقود. الارتباط الوحيد اليوم هو واجبي ومسؤوليتي الأخلاقية تجاه سوريا، وإيماني بثورتها. الرابط بينك وبين سوريا يشبه سيخاً من نار تقبض عليه فلا تستطيع تركه رغم كل شيء. حاولت أن أترك سوريا وأن تتركني بالمقابل. ولكن هذا لن يحصل. ستعيش كسوري، وتأكل كسوري، وسترى كوابيسك كسوري. هو رابط لا ينتهي. ما أريد قوله ببساطة أن نجاتي لا تعني أنني انتهيت من سوريا».
اللحظة الثانية
كانت لحظة الخروج الثانية، بالنسبة لكثير من السوريين، يوم أصبحوا خوارج مهاجرين من دار الثورة إلى دار مُعلَّقة، لينفصلوا عن أبد اللحظة الأولى ويعيشوا في أبد اللحظة الثانية. ولكن سواءَ آمن السوريون بأن الثورة مستمرة، قِيماً أو فكرةً، أم لا، فإن لحظة 2011 ما زالت تعيش كنصبٍ تذكاريٍ يمرون من أمامه كل يوم. يرونه ولا يرونه. يتحدث بعضهم عنه بصيغة الغائب كماضٍ سحيق، بينما هو حاضر مثلاً لدى أولئك الذين يعدّون الأيام منذ اختفاء معتقليهم في سجون النظام، في استمرارية مباشرة واضحة تربط كل أيام غياب الأحبة مع بعضها ومع اليوم بخيط واحد، ولو كان خطياً رفيعاً. المستمر من الثورة هو حكماً تلك الآلام، التي يحاول سوريون تحويلها إلى أفعال.
تحدثنا زينة عن عملها: «ما دفعني للعمل في SPACE هو شعور بالذنب وشعور بالمسؤولية. أنا مرتاحة هنا، وبالتالي عليَّ أن أفعل شيئاً. بدأ عملنا امتداداً لما يحصل على الأرض، أي في سوريا. نسمع ما يفعله الناشطون والفنانون والكتاب في حلب، ونحاول أن نعكس ذلك. أصبح اسمنا اليوم مساحات، وصرنا نحكي قصة الثقافة العربية. ارتباطي الوثيق بكوني سوريةً جعلني أفكر أنني سجينة هذه الهوية. بعد 2018 وسقوط الغوطة ودخول الأتراك إلى عفرين، شعرت شخصياً أنني أرتطم بجدار في التفكير والمخيلة. وجودي كسورية فقط لم يفتح لي آفاقاً جديدة في التعبير وتخيل ما يمكن أن يحصل. وجدت نفسي مأسورة بالمأساة. “شو راح يصير بسوريا؟”، سؤال عنيف نفسياً ومخيلاتيّاً. سوريا سجن للأفكار، وأنا بحاجة لأن أخرج وأفكر، ولكنني لا أريد أن أنسى سوريا. خرجت إلى سياق محيط. اليمن، فلسطين، العراق. فجأة شعرت أننا غارقون في مأساتنا ربما. فأكثر ما كان يستفزني هو قول “يللي صار على السوريين ما صار على حدا”. كنت أشعر أنها جملة مهينة للآخرين. هذا التفرد والتظلم يمنعنا أن نفكر بطريقة جدية للمستقبل. تظلّم وفردية ولطم. هي أفكار غير مفيدة وغير منتجة. احتجتُ شخصياً أن أفكر بما هو أوسع من سوريا وفي التقاطع مع باقي الدول العربية لكي أفهم وضعي أكثر».
أما عن عمل ربى فحدثتنا: «دعني أبدأ بأن أقول إن الأقرب إلى قلبي هو العمل الحقوقي. للقانون أن يكون قوياً، وله أن يقوّي الناس. قبل قدومي إلى هنا كنت أعمل في دبي مع شركة وراء البحار. أسمع الأخبار وأغرق في الحزن. استمر هذا حتى بدأت أفقد ارتباطي بالشعور الذي انتابني في 2011. في ذات يوم، حدثتني صديقة لي عن معاناة اللاجئين في ألمانيا، فقررت أن آتي إلى هنا. قدمت إلى ألمانيا. وعملت في مخيم للاجئين الذكور. تطوعت في الترجمة وتعرفت على من لم يكن لي في سوريا أن أتعرف عليهم. لم أكن بالضرورة شخصاً مرغوباً به في المخيم. فبدأتُ أبني علاقاتي معهم، وبدأت أرى الحالة اللاإنسانية التي يحيونها. ألمانيا معنية بالأوراق والبيروقراطية. كانوا ينادون على نزلاء المخيم بالأرقام لا بالأسماء. وقتها عملت مع دكتورة من جنوب أفريقيا، فدربتنا لكي نقوم بجلسات تسمح للنزلاء أن يتحدثوا عن حياتهم بتفاصيلها الحميمة. خلقنا جماعتنا داخل المخيم، وقرَّرَ قاطنوه أن يتظاهروا لإغلاقه. وبالفعل أثمر ذلك. فأُغلق المخيم، وتم نقل النزلاء لمخيم آخر كان فيه غرف بدل الخيم، ينادون لك فيه باسمك بدل رقمك. وقتها شعرت أن الضغط السياسي ينفع. شرعت بإتمام رسالتي للماجستير عن الصحة النفسية للاجئين. وبدأت بعدها بالعمل ضد المعنى الرسمي للاندماج في ألمانيا، والذي صنعته مجموعة من ذكور بيض. قررنا أن نبدأ ببرنامجنا الخاص، فيه محاولة لتقريب اللاجئين من سكان المنطقة وتقريبهم هم من اللاجئين. تضمَّنَ برنامجنا دورات تعليم سياسي لم تكن عن ألمانيا وحسب، وإنما عن سوريا أيضاً، وبهذا نخلط الألمان بالسوريين».
وكذلك حدثتنا راما قليلاً عن عملها: «كان اسم أول حملة عملنا عليها هو “أصوات المعتقلين”. بل كان أساس بدء مجموعة لسا موجود هو خروج قوائم المعتقلين وشهداء التعذيب من سجون النظام في 2018. كان هدفنا التركيز على الجانب الإنساني للمعتقلين لا الجانب السياسي للقضية فحسب. عملنا على توثيق أقوال لهم، وجمعنا رسائل من ذويهم. عملنا على روزنامة الثورة أيضاً بالإضافة للحملات العديدة التي قمنا بها. نفكر اليوم بمشاريع أخرى. نريد اليوم أن نكمل ما بدأناه في حملات عن المدن والمناطق السورية بفترات زمنية متباعدة. كما أننا بدأنا هذا العام بمنصة صوتية تنتج بودكاست متنوع. ونأمل أيضاً بأن نطور مشروع روزنامة الثورة ونحوله إلى منتج مرئي وفيديوهات وصور. كان هناك صور وفيديوهات في الروزنامة الأصلية عام 2019، ولكننا نريد القيام بالمزيد الآن. أي أن نقدم تفاصيلَ وأحداثاً أكثر. هناك عدة مواضيع نريد العمل عليها، ولكن ما أرغب أن نهتم به بشكل أساسي هو الجانب الإنساني للثورة والعمل على توثيقها كحدث بشكل منفصل عن مأساتها أو تحويلها لحائط مبكى فقط، وهذا بطبيعة الحال لا يعني التغاضي عن المأساة الحقيقية التي نتجت عن الثورة السورية، ولكن ذلك في محاولة تهذيب تلك المأساة وتوجيهها إلى عمل مُجدٍ لا إلى حجة تَوَقُّف – الكلام هنا يقترب من المثالية ربما لكنه جهد يستحق أن يُبذل. نأمل أن نغطي أحداثاً ذات أثر في الثورة منذ البداية، تماماً كالتي نشرناها خلال تغطيتنا لذكرى الثورة العاشرة؛ مزج أغاني الثورة 2011 على سبيل المثال».
برا وبعيد
مما يواجه السوريين الفاعلين في السياسة في الشتات أنهم يواجهون زماناً آخر، في مكان آخر. لقد اختلفت اعتبارات السوريين، وأولوياتهم أيضاً. صحيح أن كثيرين ممن خرجوا كان خروجهم (بمعنييه، الخروج على الحاكم والخروج إلى الشارع) قد جاء من مطالب معيشية، إلا الانحياز الأخلاقي لمن يثورون كان طاغياً على دوافع كثيرين منهم أيضاً. حصل ذلك في جغرافيا مألوفة، بأشكال حملت وتيرةً نحن من خلقها. تظاهر السوريون تضامناً مع ثورات عربية أخرى، تلتها مظاهرات رفضت قمع السوريين أنفسِهم، لتتحول إلى حراك شعبي عارم، سمح للعديدين بالانضمام. أما اليوم، فمطالب السوريين مختلفة. فمن بقي في سوريا يريد سلّته بلا عنب، ومن خرج منها انشغل ببعضٍ من العنب الحامض، طاله بعضٌ منا ولم يطله بعضٌ الآخر. يحصل هذا كله في جغرافيا مختلفة، في بلدان بالكاد بدأنا نفقه حيثياتها ودينامياتها، وبالكاد بدأنا نتحول فيها من مفعولٍ بهم إلى حياد بين المفعول والفاعل. ما زالوا يتحدثون عنّا بضمير الغائب، حتى لو كنا في الغرفة نفسها، كما تصف مقالة في جريدة Tages Zeitung الشهيرة تلك الحالة، حيث يفقد اللاجئ صفة أن يكون ذاتاً، ويتحول إلى موضوع، نتناوله أو لا نتناوله. إلا أننا لم نفقد أهليتنا رغم نزعها عنا. وقد كان لبعضنا أن يكون فاعلاً بالفعل، يمارس الفعل السياسي. لتبدأ المعضلة وتكون تجلياتها في إشكاليات ثلاث.
تتجلى الإشكالية الأولى في كلمة السياسة. يعيب كثيرون العمل السياسي نفسه. السياسة وسخة، وعلى من يعمل بالثورة أن يترفع، أن يكون طهرانياً، متعالياً على اللعبة، ممتنعاً عن البراغماتية، مدفوعاً بالسمو. ومن هنا تأتي الإشكالية المتعلقة بعمل المجتمع المدني. في مقابلة أجرتها شام العلي مع وفا مصطفى، نُشر جزء منها وأَطلعت شام كاتب هذا النص عليها، تتحدث وفا عن التطّهر الموجود في وصف الفعل بأنه ثوري بدل سياسي. الثوري خارج التصنيفات، عمل جديد مختلف عن السياسة، عملٌ يتمسك بالدلالات التي تحملها كلمة ثورة. أما اليوم، وفي ألمانيا، فتعترف وفا أن صفة «الثوري» وحدها لا تعني الكثير. ترى وفا ما يفعله كثيرٌ من السوريين اليوم كفعل سياسي. لا تنفى وفا الصفة الثورية عما يفعلونه، ولكنها تحدثنا عن عملها في قضية المعتقلين التي يطالب الكثيرون بحصرها كقضية إنسانية، إذ تستنكر تقديم أهالي المعتقلين كأدوات للاستعطاف، ومحاولة التسليم برفع صفة السياسي عنها. إن نفي السياسي عن القضية بالمطلق قد يؤدي إلى نزع صفة السياسي عن المعتقلين والمعتقلات أنفسهم. الجميع سياسي، والشخصي سياسيٌ حكماً كما تراه وفا.
تتعلق الإشكالية الثانية بسؤال التمويل، الذي يصبح أكثر تعقيداً كلّ ما حاول المرء تبسيطه. ففي المقابلة ذاتها تناولت وفا في حديثها هذه الإشكالية من وجهة نظرها. تحدثنا كيف أن كل ما تقوم به اليوم تطوعي، ولكنها لم تكن تملك ذاك الترف حين كانت تقطن في تركيا، ووجدت العمل في هذا المجال الحل الأمثل الذي يسمح لها بأن تعيش دون أن تساوم على مبادئها. لقد كان العمل لأجل الثورة مخرجاً لها لكي تحافظ على ارتباطها بما كان له أن يكون أبرز الأحداث في حياتها، وفيما يسمح لها بأن تعيش حياة كريمة، تحافظ فيها على مبادئها. تبدأ وفا بعدها بشرح التعقيدات القانونية للاجئين في تركيا، لتسكت لحظة وتتنهد وتقول ببساطة: «موضوع المصاري موضوع كتير كبير». تقول بعدها: «أنت محترمة، ما زلت تعملين دون مقابل، ولكن ما إن بدأتِ بالاعتياش مما تقومين به حتى خفّ احترام الآخرين لك. لست أرى أننا اليوم، بعد عشر سنوات من الثورة، يحق لنا أن نطالب السوريين بالعمل في سبيل الثورة دون مقابل. مع أنني خريجة فنون، إلا أنني لا أطيق أن أفعل غير ما أفعله اليوم في العمل من أجل الثورة. ومع أنني أقوم بكل ما أقوم به تطوعاً دون مقابل، إلا أنني أحمل مسؤوليات مادية تجاه آخرين تُحتم عليّ أن أملك مصدراً للدخل. لست أرى أن من الإنصاف والإنسانية حتى أن يقوم السوريون بكل ما يقومون به، وهو كثير، دون أي مقابل، إذ ليس في ذلك ما هو مستدام، والاستدامة هي الرهان عند العمل في قضاياً معقدة كالقضية السورية، يلزمها نَفَس طويل. إن كان هناك ما يشغل كل وقتي وكل تفكيري ويأخذ كل طاقتي فليس من المعيب أن يكون هو ما يُعينني على أن أدفع أجرة سكني، وأن أستطيع أن أعيش منه. وليس من المنصف حتى أن تقدم جلّ وقتك تطوعاً، ثم أن يكون عليك أن تجد مصدراً آخر للرزق. قد يكون هذا الترف متاحاً في دول كألمانيا تسمح للسوري أن يأخذ مساعدات من الحكومة، ولكن أن تمارسي العمل السياسي دون مقابل ليس ترفاً متاحاً للجميع في بلد كتركيا مثلاً، حيث عشتُ أنا سابقاً».
تُحدثنا راما عن الموضوع ذاته، فتذكر كيف تكرر السؤال عن الحصول على تمويل للمشروع منذ بدايات «لسا موجود»، في البداية كان الجواب من الغالبية هو «لا» قاطعة حفاظاً على استقلالية المجموعة وحماية لها من الأدلجة. أُعيدَ طرح السؤال مع الوقت وبقي مفتوحاً دون جواب، حتى لحظة كتابة المقال. «ربما كنا سنستمر بشكل أقوى لو حصلنا على تمويل» تقول راما. رغم أنها نفسها، كانت في نقاشات كثيرة سابقة ترفض التمويل وتصر أن يكون العمل الثوري تطوعياً دون مقابل، لأن العمل الثوري سيكون أكثر استقلالية إن لم يكن مرتبطاً بالمال، ومع الممولين. «ربما كان يحمل هذا التصور رومانسية مفرطة وعدم إدراك كافٍ لآليات العمل الجماعي المنظم أو كيفية بذل الوقت الخاص بالتوازي مع المسؤوليات الحياتية والمادية في الخارج».
كانت راما مصرة أن يكون عملها ومورد رزقها مختلفاً عن الثورة، حتى اختصاصها الجامعي «التغذية» اختارته في مجال بعيد عن الثورة والسياسة والعلوم الإنسانية التي تهتم بها بشكل خاص. «ربما كنت أبالغ بالرفض أكثر مما يجب كما يقول أصدقائي» تقول راما، ثم تعيد التفكير «أو ربما ينسجم رفضي هذا مع ثورة 2011 عندما انطلقت، وليس اليوم. إذ لم نكن نفكر بالضرورة المالية في ذلك الوقت، بل كنا نمتلك أماناً مادياً كافياً لنبذل في الثورة بكامل طاقتنا وقدرتنا وعطائنا، أما واقع اليوم بعد الغربة والمسؤوليات صار أكثر صعوبة».
بالنسبة لراما، الثورة في مراحلها الأولى هي لحظة ثورية مكثفة عمرها قصير تخلق التطوع وتحتاجه، لكن استمرار الثورة محكوم بتغير شكلها وأدواتها. لكي نحمي ثورة 2011 في 2021 علينا أن نعيد النظر فيها، أن نجدد خطابنا ووسائلنا. فالعمل من أجل قضية نبيلة بشكل تطوعي لا يتنافى مع الوجود ضمن منظمات ومؤسسات تعمل من أجل هذه القضية بشكل ممأسس ومنظم. فالثورة بمفهومها الخاص في 2011 كانت عفوية وقريبة من الشارع أكثر، بحسب راما، ومن العمل على أرض الواقع والنتائج الملموسة. لكن العمل الذي يريد أن يكون مجدياً وأن يكتب له النجاح اليوم، عليه أن يأخذ في الاعتبار سؤال الاستمرار، وبالتالي سؤال التمويل: «في الحقيقة أنا أحاول أن أعبر عن أفكاري لكني أصارع راما أخرى موجودة داخلي، تؤنبني على ما أفكر به وتمنعني ربما من قوله بصوت عالٍ». مع بدايات الحراك الثوري في شهر نيسان 2011 في مدينة حرستا، بدأت راما محاولاتها في أرشفة ما يجري في المدينة. كانت تكتب على دفاترها وعلى جدران غرفتها: تاريخ اليوم، عدد الشهداء، المظاهرات، الإضرابات، وتوثق تعامل النظام مع الأحداث.
تعتبر راما «روزنامة الثورة» التي عملت عليها مع «لسا موجود» واستغرقت فيها عاماً كاملاً من البحث والأرشفة والإخراج، تعتبر أنها بطريقة ما الدفتر نفسه الذي وثقت عليه أحداث حرستا بقلم الرصاص، والذي فقدته عندما فقدت غرفتها جراء القصف نهايات العام 2012: «ربما كان هذا سبباً داخلياً لم أدركه بطبيعة الحال حتى اليوم، إذ أنني لم أكن أتخيل أن أقبل تمويلاً على مشروع الروزنامة». ومن ناحية أخرى، تشعر راما بمسؤوليتها أمام دماء الشهداء الذين بذلوا من أجل الحرية والكرامة حياتهم، لذلك كانت تفكر دوماً أن عليها على الأقل أن تبذل وقتها بشكل كامل وبدون مقابل، وفاءً للشهداء. «مع الوقت ومع التجربة تبين لي أن رفض القبول بمقابل مادي للوقت المبذول، هو في النهاية عائق أمام الاستمرار، وبالتالي هو عائق أمام إكمال مسيرتهم».
يعمل السوريون على أصعدة عدة في الشتات، لكن ذاك العمل لم يكن معلقاً في الفراغ، بل كان ضمن منظومات أقل عفويةً من التظاهر الذي أطلق شرارة الثورة، ولو تجسد ذاك الفعل السياسي بالتظاهر نفسه. ظهر ذلك في النشاط السياسي في دول أوروبا، حيث وجد الكثير من السوريين أنفسهم اليوم. وهنا تتجلى الإشكالية الثالثة. لقد كان على اللاجئين السوريين أن ينتقلوا من حالة مغلقة مثل سوريا، ومؤقتة أو طارئة مثل الثورة، إلى أخرى مفتوحة كالفضاء العام الألماني مثلاً، وبطيئة كالتغيير السياسي وجماعات الضغط. لا يُمنع السوري من أن يفعل، ولكن عليه أن يقوم بذلك كما يقوم به أي قاطن آخر لألمانيا، وفقاً لقواعد بيروقراطية يتنافس على مواردها الكثيرون، ويقرر أحقيتها موظف يقرأ طلباً. لسنا هنا بصدد أن نعيب على المنظومة أنها منظومة؛ هي محاولة لتفكيكها لا أكثر.
ليس من السهل حقيقة أن يستطيع السوري الناشط اليوم الحصول على تمويل لمشروع ذي أبعاد سياسية في ألمانيا، وغيرها من دول أوروبا، دون أن يلحق الطلب بكلمات مفتاحية تلمس شغاف القائم على التمويل. «الاندماج» هي الكلمة الصدر؛ تلك الكلمة التي تثلج صدور الألمان، وتحرق بلاعيم السوريين. ليس من المهم ربما أن تزيد الوعي بخصوص قضية المعتقلين السوريين، ولكن رفع سوية الثقافة السياسية لمن هم «غير معتادين» على الديمقراطية أمرٌ تمنح الحكومة الألمانية عليه أموالاً من دافعي الضرائب فيها. وهنا، على الذين يريدون العمل سياسياً في ألمانيا أن يقولبوا ما تقوم عليه أعمالهم حسب تلك الاعتبارات، أو أن يحسبوا لها حساباً على الأقل.
ومع أن زينة تعيش في النرويج إلا أن تجربتها هناك مشابهة لذلك، فتخبرنا: «كلمة اندماج هي كلمة مفتاحية في الحصول على التمويل هنا إذا كنت تعمل في مؤسسة تدار من قبل مهاجرين، بغض النظر عن نشاطات أو هوية المؤسسة. نحن لا نستخدم هذه الكلمة، ولكن المتلقي النرويجي الذي نحن بحاجة أن نخاطبه هو من يحاول أن يفرض علينا هذه الكلمة أحياناً. هناك النرويجي الذي يتعاون معنا، أما الآخر النرويجي، من هو على مسافة منّا، يرغب بأن يفرض عليّ هذه الكلمة، وأنا من أفرض نفسي عليه أيضاً من خلال تقديم مفردات وخطاب وسجلّ بصري ومعرفي مختلف لا يتم عادةً ربطه بمفردات اللاجئين والشرق الأوسط والعرب. الكلمة ليست سلبية بالضرورة، ولكن لديها محاميل سلبية ربما. مفهوم الاندماج مع الأسف مبسّط وصفري، أنت إما مندمج أو غير مندمج. المندمج يتكلم النرويجية ويدفع ضرائب ولا يمارس إسلاميته. نحن لا نستخدم كلمة اندماج، ولكننا لا نرفض الكلمة إلا حسب السياق. في “مساحات” أنا فخورة أننا حصلنا على تمويل من صندوق ثقافي من بلدية أوسلو مخصص لكافة المؤسسات الثقافية والفنية في المدينة. وفرضنا أنفسنا كأنداد دون الدخول في موضوع اللاجئين والدخول على سوق العمل. دخلنا على الحقل الثقافي. استخدمنا الديمقراطية نفسها. إذ كان البرلمان النرويجي قد أصدر ورقةً بعنوان “قوة الثقافة” تقول إن المجتمع الديمقراطي يجب أن يعكس تنوعه الثقافي بكافة مكوناته بما في ذلك التنوع الجندري، تنوع اللغات والانتماءات في الريف والمدينة والطبقات الاجتماعية. وحال ما تحصل أزمة في التمثيل الثقافي سيكون لديك أزمة في الديمقراطية. فقلنا ببساطة: حتى نتجنب أي أزمة للديمقراطية في النرويج علينا لفت النظر لفئة كبيرة في المجتمع لا تملك تمثيلها الثقافي، وبهذا حصلنا على تمويل المؤسسة».
بينما يُحدّثنا عبد القادر عن شكل آخر من أشكال الضغط: «كانت بدايتي مع الانخراط السياسي في ألمانيا عن طريق خوارزميات فيسبوك التي قادتني إلى مجموعة تبنى ثورة ومجموعة أخرى هي 4SyRebellion كانت تقوم يومها بمحاولات ضغط على دائرة الأجانب في برلين لمنع ترحيل سوريين. كان عملهم مختلفاً نوعاً ما عن النوع التقليدي للنشاط السياسي السوري هنا في الوقفات والمظاهرات. للمظاهرة قيمتها الأخلاقية التي لا أنكرها، ولكن مشاركتي مع 4SyRebellion أشعرني بالجدوى على المستوى العملاني. كنا نقوم بعرض أفلام عن سوريا، أو نقدم جلسات نقاشية مع ناشطين سوريين. قادني ذلك للتعرف على آليات اتخاذ القرار في ألمانيا، من نشأة مشروع القانون في البرلمانات المحلية وحتى تطبيقه على مستوى الدولة، والولاية، والدائرة. ومع تعقيد العملية وأفضلية الناخب فيها على غير الناخب، بدأتُ أبحث عن طرق أخرى أكثر جدوى لمن لا يحمل الجنسية الألمانية. قادني ذلك لما كان يسمى بـ”مجلس الأجانب”، أو “مجلس الاندماج” في دوائر أخرى، والذي يسمح لغير حاملي الجنسية الألمانية أن يكون لهم دور استشاري في عملية اتخاذ القرار المعقدة في ألمانيا. كان مجال عمل هذا المجلس على مستوى دائرة بانكو في برلين لا أكثر. حسناً. دخلت وبدأت العمل معهم. وكان عملنا خطوات صغيرة جداً تؤثر في بقعةٍ صغيرةٍ جداً. لم يكن المجلس مكوناً من سوريين فقط، بل كان فيه أجانب آخرون لديهم مصالح ودوافع أخرى. كان التأثير صغيراً إلى درجة جعلته يفقد جدواه مرة أخرى بالنسبة لي. لم أترك العمل في المجلس رغم صعوباته، ولكنني لا أحمل الاندفاع الذي حملته يوم دخلته. لاحقاً عملت مع حملة “سوريا ليست آمنة” التي حققت مكاسب مرحلية كانت تدفع باتجاه إقرار منع ترحيل السوريين، حتى مرتكبي الجرائم منهم. كنا ننجح في تأجيل ذاك القرار ستة أشهر كل مرة. ولا نكاد نحتفل بالإنجاز حتى يبدأ العمل على الستة أشهر القادمة. معركة لاهثة، ولكنها كانت ضرورية. وكنا مستعدين للقيام بها، وكنا ننجح في ذلك بالفعل. استمر ذلك حتى وقوع حادثة الطعن التي قام بها سوري وجريمة قتل سامويل باتي. جُنّت أوروبا ولم يعد هناك ما يكفي من الرغبة لمناقشة قضية التعذيب في سوريا التي كانت حجتنا في رفض ترحيل السوريين. أصبح السؤال الوحيد الذي أراد الأوروبيون الإجابة عليها هي إن كانوا يريدون إبقاء “إرهابيين” بينهم. كانت الإجابة قاطعة وواضحة بـ”لا”، وتم رفع منع الترحيل».
التمثيل والتجمع كأفعال سياسية
من الواضح أن ما دفع السوريين للعمل في الشتات هو ذاك الشعور ذاته الذي تَملَّكهم بسبب اللحظة الأولى، لحظة الخروج الأول، ووجدوه في خضم اللحظة الثانية، لحظة الخروج الثاني. حلقة من مشاعر القهر والعجز يكسرونها بالعمل. يدفعهم شعور بالذنب وآخر بالمسؤولية، كما تدفعهم المعاناة، ويحثهم هاجس البحث عن معنى في رحمها. وفي هذا يتحدث ياسين الحاج صالح في مقاله: الكلوم والكلمات: في تمثيل الأزمات وأزمة التمثيل، عن أهمية تمثيل التجربة، فيما هو نقلٌ أو محاكاةٌ لها. سألتُ ياسين الحاج صالح يومها عن لغة النقل التي يجب علينا أن نقدم تجربتنا بها، مشيراً إلى ما رأيته يومها ضرورة أن يسمعنا الآخر، الأوروبي، ليجيبني أن التمثيل هو لكي نفهم نحن تجربتنا، قبل أن يفهمها غيرنا. يكمل الحاج صالح في مقاله بأن التمثيل لا يكون باللغة وحدها، بل بوسائط أخرى «تشمل “لغات” أو وسائط متعددة، منها الصوت في الموسيقى والخط واللون في الرسم والصورة في السينما، والكتل الصلبة المشغولة في النحت والعمارة، والأداء الجسدي والكلامي في المسرح».
تقول زينة في ذلك: «أنا سعيدة أننا لم ندخل من أبواب تسهم في تأكيد السردية السائدة والخطاب المهيمن القائل بأن من يأتي من هذه البيئة غير نرويجية الأصل هو بالضرورة أقل كفاءة وبحاجة لمن يرفع كفاءته، بل دخلنا من باب الأنداد فقدمنا الفنون والثقافة، وهنا في “مساحات” لدينا أربع أنواع: موسيقا وفيلم وأدب وفنون بصرية. فنقدم معرضاً أو حفلةً أو عرضاً لفيلم أو توقيع كتاب. نقدم أيضاً جلسات نقاشية مع خبراء عاشوا التجربة. كما أننا نعمل اليوم على مشروع أكاديمية المواطنة، طريقة لكي نتعرف على أصوات جديدة عربية في النرويج، ونقوي علاقتنا معهم، ونقويهم لكي يكونوا فاعلين في محيطهم، في الفضاء العام وفي الحقل الثقافي النرويجي. تركيزنا على القادمين الجدد في النرويج».
وعلى صعيد آخر، يمكن للعمل السياسي أن يتمثل في أشكال ملامحها أقل وضوحاً.
يشكل الأطباء في ألمانيا جماعة كبيرة، غير متسقة ربما، ولكنها تحمل صفة الجماعة. لها تمثيل افتراضي بمجموعة على فيسبوك تحمل من صفات مجموعات «كراجات المشنططين» دوافع خلقها، ولكنها في آليتها الداخلية أكثر انتظاماً. يستطيع الأطباء التواصل مع بعضهم من خلالها لمساعدة بعضهم في فك شيفرة النظام الألماني، أو في التغلب على عقباته، أو لتقديم فرص عمل تفيد أحد الطرفين في إيثار من الآخر، أو كلاهما في مصلحة متبادلة مبنية على الثقة. ومع أن المجموعة فيها عشرات آلاف الأعضاء، إلا أن دخولها لا يتم إلا بدعوة أو موافقة القائمين عليها. ليست المجموعة مشاعاً، بل هي على درجة من التنظيم تسمح بتحقيق أهدافها. في مقابلة له مع مجلة العربي الجديد، يقول فيصل شحادة، أحد مؤسسي المجموعة الفيسبوكية عنها: «تركيزها على ما يجمعنا والابتعاد عمّا يفرقنا ودرء المواضيع الخلافية والتركيز على التقاطعات، كوننا جميعاً سوريين قبل أن نكون أطباء».
يحدثنا عمرو بطرس عن تفاعلات الأطباء قائلاً: «هناك ما يلفت النظر في الأطباء السوريين في ألمانيا، وهو محاولتهم عندما يلتقون أن يحيّدوا الموقف من الثورة في حياتهم المهنية. حتى أكثر الناس راديكالية في مواقفهم المؤيدة للثورة أو المؤيدة للنظام، قرروا أن يتجنبوا المواجهة مع الضد. مواقف ليس لهم أن يكرروها لو كانوا في سوريا ربما. قد يكون ذلك قادماً من فقدانٍ للمعنى. وهناك غاية أخرى هي أن “يمشي الشغل”. أعرف كثيراً من السوريين في المستشفى ممن هم بين الرمادي ومن أظنه مؤيداً للنظام، ولكن العلاقة بينهم وبيننا، بقية السوريين المؤيدين للثورة، هي ما يمكن أن أصفه بالمهني، أو ربما المحايد. يحاول الطرفان بعناية ألا يدخلا في هذا المستنقع. نعمل معاً ونتساعد، ونقدم الخدمات لبعضنا بعضاً على الصعيد المهني، ولكننا نتجنب الحديث عن سوريا بشكل كامل. ربما هي الظروف ما أجبرنا على ذلك. نحن كلنا مضطرون للعمل معاً. لم أسمع في الحقيقة عن طبيبين سوريين اختلفا على هذا. ربما حصل ذلك على صفحة الأطباء السوريين، يقول أحدهم كلمة فيرد الآخر، ليحذف القائمون على المجموعة التعليقين وتنتهي السيرة».
حاول مجموعة من الأطباء يوماً على مجموعة فيسبوك ذاتها أن يحولوا المجموعة إلى جماعة ضغط. ألمانيا بحاجة للأطباء، ويشكل الأطباء السوريون منهم عدداً لا بأس به، يقارب الخمسة آلاف، إن لم يكن أكثر، الأكبر حسب بعض الإحصائيات من بين الأطباء غير الألمان في ألمانيا. بعد عدة محاولات للّقاء بهدف خلق ذاك اللوبي، اصطدم المنظمون بخلافات «سياسية» بين الأطباء السوريين. باءت تلك المحاولة بالفشل. تفرق الفرقاء بحسب انتماءاتهم السياسية، وتعلم المنظمون درساً في السياسة، وهو عدم الاقتراب منها.
ما زالت الجهود قائمة على كل حال لإنشاء جمعية «الأطباء والصيادلة السوريين في ألمانيا» والتي كانت هذه المجموعة نواتها بهدف «وجود كيان يجمع الأكاديميين السوريين من أصحاب المهن الطبية في ألمانيا» على حد قول شحادة. وفي النص ذاته في العربي الجديد يتحدث عدة أطباء سوريين عمّا يمكن لهكذا جمعية أن تفعله من تمكين للأطباء السوريين في ألمانيا. يمكن لهذه الجمعية في المستقبل أن تلعب دوراً سياسياً يمثل حقوق الأطباء السوريين كنقابة مثل بقية النقابات، تفاوض على مكاسب أهم لأعضائها، وتمنع المؤسسات الكبرى من استغلال أوضاعهم.
لأجل من نعمل؟
عندما سألتُ عبد القادر عمّن تُنسب لهم الثورة اليوم، أو يملكون تأثيراً عليها، دار جدال طويل بيننا عن معنى سوريا، ومعنى السوريين، ومعنى الثورة بالنسبة لهم، على مشاربهم، وعلى تشتتهم. قال عبد القادر بأن هناك سوريتين، سوريا داخل وأخرى شتات. ترحَّمَ على الثورة في الداخل، وقال بإمكانية استمرار الثورة في الشتات. وعن أثر ثورة الشتات على النظام في الداخل أصلاً، قال عبد القادر إن ثورة أولئك هي ليست على النظام بالضرورة، وإنما هي على السوريين ربما. ولكن على سورييّ الشتات على كل حال أن يمسكوا بسوريا، وأن يجدوا مدخلاً لهم إليها. يكمل قائلاً: «ربما على سورييّ الشتات أن يجدوا سورياهم. ربما دورهم هو في التحدث لمن لم يكونوا موجودين في لحظة 2011. من كانوا أطفالاً وهم اليوم شباب، وذلك سواء كانوا في سوريا، أو ألمانيا، أو تركيا، أو لبنان. بالنسبة لابن الثمانية عشر عاماً اليوم، مقولة أن الثورة مستمرة لا تعني أي شيءٍ مطلقاً. فهو لم يعرف الثورة بالأصل حتى يرى استمرارية لها».
تقول راما في ذلك: «الوضع السياسي للسوريين في إسطنبول وإجمالاً مشتت. هناك من كانوا أطفالاً يوم بدأت الثورة وهي اليوم ليست أكثر من ذاكرة طفل بعمر الثامنة بالنسبة لهم، يحاولون أن يبنوها كشيء للمستقبل. الجيل الجديد من السوريين منتشر بشكل واسع في العالم، يتحدث اللغات ويملك الكثير من المهارات المهمة. أحد أخطائنا هو أننا لا نمثل تجربتنا مع الآخر. نتكلم مع أنفسنا، متقوقعون على مأساتنا. أحسب أن الأمر شخصي هنا، ولا أعتقد أني أمتلك الخبرة الكافية لأجزم، ولكني أرى كم هو من الضروري المحافظة على الذاكرة من جهة والعمل بشكل سياسي لاستخدامها في قضيتنا من جهة أخرى. بحيث إن كنا نريد للجيل الجديد أن ينتمي للثورة، فإنه يجب أن يتعلم عن سوريا التي تركها بعمر الثامنة، وهو بالكاد يتذكر منها شيئاً. علينا أن نخبرهم عن سوريا التي كانت، وما زالت، تحت ظل الأسد. وعن دوافعنا للخروج في 2011. علينا أيضاً أن نعمل على فكرة الانتماء. حتى يأتي جيلٌ طريقه يصل إلى البلاد، فعلينا أن نقحم الجيل الجديد بالعمل السياسي والمدني بشكل منظم، لا أن نتركه ليكتشف طريقه وحده. حتى يكون له لاحقاً دور وتمثيل وانتماء سياسي واضح. يوم قامت الثورة لم نكن ملك وعياً سياسياً كافياً، وهو ما منعنا أن نكون موجودين في أي أجسام سياسية. لم يحصل تهمشينا وحسب، بل إننا حتى لم نملك القدرة على الانخراط سياسياً كما يجب أصلاً. نحن بحاجة لهذا الجيل لذا يجب أن نجد من يمثله بشكل جيد وعلينا أن نساهم في تدريبه سياسياً، وأن نكون منفتحين. ما كان ينقصنا يومها هو التدريب السياسي كيف يمكن لأحدنا أن يخاطب الآخر سياسياً وأن يفهم السياسة باتساعها واختلافها وتعقيداتها. كنت ممن يقولون: “أنا لا أعمل في السياسة، أنا أعمل في المجال المدني”. كررت هذا الكلام حتى عام 2018. كان جل اهتمامي أن أعمل على السردية والمدني وليس في السياسة. أما اليوم فأرى أن علينا جميعاً أن نفهم في البداية هذه المجالات بالطبع، ثم نعمل بشكل أو بآخر في السياسة من أجل القضية السورية لا فقط ضمن الحالة الثورية. المحرك الأساسي لفهمنا ونضالنا هو السياسة. تكون السياسة لعبةً وسخة إن نحن تركناها فقط. ولكنك لا تستطيع أن تفصل السياسة عن حياتك. قد تفصلها عن الدين ربما، ولكن ليس عن الحياة. أما بخصوص سوريا الداخل فأرى أن الأولوية لأن نكون صوتهم ببساطة. أن نتكلم عن حال من هم في سوريا كما نتكلم عن حالنا، وألا نعتبرهم منفصلين عن قضيتنا. نجاتنا هي جزء من القضية إذ أنها تحتم مسؤوليتنا في أن نعكس معاناة مَن ما زالوا يعيشون الاعتقال، والتجويع، والقتل، خاصة في ظل التدهور الاقتصادي المريع الذي تشهده البلاد».
وبشكل موازٍ، هناك كثيرٌ مما يمكن لنا كسوريين في الشتات أن نقوم به من أجل سوريا الداخل، دون أن نربط ذلك بشرط زوال النظام وكأن على حيوات السوريين في ظل حكمه أن تتوقف حتى يحقّ لهم أن يستحقوا تلك الحياة. ومع أن سهولة التواصل التي يسمح بها عصرنا لم تمنحنا حصانة من أن يشهد العالم مأساتنا دون تحّرك لوقفها، إلا أنها يمكن أن تساعدنا في رفع ولو القليل من تلك المأساة. يفكر كثيرون اليوم في خلق قنوات بين الداخل والخارج تسمح بخلق فرص عمل مقرها العالم الافتراضي، أو بتأمين مقاعد دراسية ودورات تدريبية لمن هم داخل سوريا دون الحاجة لجوازات السفر أو عبور للحدود. ومع أن سوريا الشتات ما زالت تصقل أدواتها في معركتها في ساحات الخارج، إلا أنها تملك من الأدوات ما يمكن أن تستخدمه في سوريا الداخل أيضاً.
ما خلصت
كرَّرَ أبواق النظام السوري مقولتهم أن الثورة «خلصت» فور اندلاعها. ومع أن ذلك جلب كثيراً من السخرية من معارضي النظام، إلا أن إصرار النظام المبكر على أن يقول إنها انتهت منذ لحظة بدايتها ليس غريباً في سياق الأنظمة الشمولية. الثورات عند الأنظمة الشمولية لا تنتهي. تعيش دهوراً هدوء البركان في تأهبٍ لانفجاره، وتعيش لحظة انفجاره في توق منها لإخماده. فإما هي الثورة مستمرة، أو هي ثورة أخرى قادمة. ومهما كانَ ما خَلُصَت له ثورات، ومهما فشلت أخرى وانتهت وتم قمعها، فإن غيرها، بالضرورة، تقوم وتقوم.
موقع الجمهورية