فضول الأدب وجموح المخيّلة/ صبحي حديدي
في كتاب صدر بالإنكليزية مؤخراً تحت عنوان «الفضول: 12 قاعدة للحياة» يرصد المؤرّخ والكاتب السياسي الأمريكي فرنسيس هربرت بكلي سلسلة قواعد يتوجب أن تنظّم العلاقة بين أنماط الفضول الإنساني (وهي كثيرة متنوعة متشعبة، غنيّ عن القول) من جهة أولى؛ وبين ميادين العيش والحياة والوجود، وهي بدورها لا تقلّ تنوّعاً وتشعباً، من جهة ثانية. ثمة، على سبيل الأمثلة فقط، قاعدة تقول: لا تضعْ لنفسك قواعد يمكن أن تقيّد يديك؛ أو أخرى: لا تتردد في المجازفة، فتخسر الفرصة؛ أو ثالثة: كنْ أصيلاً، وبالتالي كنْ متمرداً ولا تكن مقيّداً بالأعراف؛ وهكذا…
والسطور الأولى من كتابه تشير إلى انقلاب مصير البشرية بسبب فضول حوّاء، لكنّ عالمنا الراهن الذي نعيش فيه لا يشبه جنّة عدن البتة، لجهة حثّنا على ارتياد دروب لا حصر لها من محرّضات الفضول، حيث تفاحة الخطيئة الأولى تتخذ من الهيئات والصفات والأنواع ما يتكفل بإبقاء جذوة الفضول البشري متقدة توّاقة.
وبكلي يقترح شخصيات ونماذج على درجة واسعة من تمثيل الأفكار والفنون والعقائد، من أرسطو وبودلير وغويا وأسامة بن لادن وبيتهوفن وهمفري بوغارت وألبير كامو، إلى سيلين وفرجينيا وولف وأينشتين وميشيل فوكو وجيمس جويس وفلاديـمير إيليـتش ليـنين وإديث بيـاف…
لكنّ بكلي، ورغم ما بذله من جهد واضح كي يعبر الأطلسي ويخرج من تنميطات الثقافة الأمريكية، يظلّ عازفاً عن تناول الفضول البشري من زاوية خاصة، بالغة الحيوية مع ذلك؛ هي تحريض الآداب، الروائية والشعرية خصوصاً، على تنشيط الفضول بدرجات تبدو بعض نماذجها فريدة حقاً. وثمة، في مثال لعلّه بين الأبرز، تلك الحكاية التي تقترن بمشهد قصير في رواية «الأحمر والأسود» العمل الأشهر للروائي الفرنسي ستندال (1783-1842): يتأكد جوليان سوريل، بطل الرواية، أنّ عشيقته السابقة مدام دو رينال تتآمر لإفشال زواجه من ابنة المركيز دو لا مول، فيغادر باريس إلى بلدة فيريير حيث تقيم المدام، ويروي ستندال أنّ سوريل يقتحم الكنيسة لاغتيال السيدة، فيطلق طلقة أولى تخطيء الهدف، ثمّ طلقة ثانية فتخرّ المرأة أرضاً، ولكنها لا تموت.
هنا تدور آلة الفضول الإنساني عبر ما تشحذه مخيّلة قارئ ستندال، ولا يمكن إيقافها عند حدّ منطقي أو مآل مقبول، كما يساجل الروائي وعالِم الدلالة الإيطالي أمبرتو إيكو: هل كان سوريل ينوي قتل مدام دو رينال في الأساس، رغم أنه كان يحبّها، وهكذا كانت حاله عندما اقتحم الكنيسة ثائراً وهائجاً؟ ثمّ قد يردّ آخر، أليس من المحتمل أنّ مهابة المكان، الكنيسة، حرّكت مبدأ «العناية الإلهية» فطاشت الطلقتان؟ قارئ، من أنصار الواقعية هذه المرّة، قد يساجل هكذا: ومتى كان مخمور، على شاكلة سوريل في تلك اللحظة، قادراً على إصابة الهدف؟ الأكثر فضولاً، أغلب الظنّ، هو ذاك القارئ الذي سيتجشم عناء السفر إلى مدينة فيريير (الحقيقية، الموجودة اليوم بالفعل، غير بعيد عن مدينة بواتييه الفرنسية، والتي لا صلة تجمعها بالبلدة التي تخيّلها ستندال) منقّباً في أخشاب مقاعد الكنيسة بحثاً عن… الرصاصة الأولى الطائشة!
هذا، أيضاً، من طراز الفضول الأدبي الجامح، أو الجانح ربما، الذي يدفع الآلاف من عشّاق الروائي الإرلندي الشهير جيمس جويس إلى تنظيم رحلات جماعية تستهدف إعادة إنتاج الرحلة ذاتها التي قام بها ليوبولد بلوم، بطل رواية «عوليس» في أرجاء مدينة دبلن. ولأنّ بعض هؤلاء بهم مسّ بأدقّ التفاصيل، وإلى مستوى الهوس غالباً، فإنهم يواصلون مساعي «حجّاج» سبقوهم، وفشلوا، للعثور على دكان بائع العقاقير الذي ابتاع منه بلوم قالب صابون؛ ولأنّ الفضول القاتل من هذا الصنف يستحثّ التجارة بالضرورة، فقد لجأ ورثة البائع الافتراضي إياه إلى إنتاج قالب صابون مطابق لما وصفه جويس في روايته، وحدّثْ ولا حرج حول مبيع كميات هائلة من هذا الصابون، في ذلك الموسم تحديداً حيث ينفلت الفضول من كلّ عقال!
ولستُ أخفي، ختاماً، أنّ الكتابات التي تناقش هذه الأنماط من الفضول تعيدني إلى تجارب شخصية خلال زيارتي الأولى إلى مصر؛ إذْ، في مدينة القاهرة، سألت أحد الأصدقاء (واخترته من نوع صبور قادر على تحمّل شطحات المزاج!) أن يأخذني في «سياحة محفوظية» نسبة إلى الروائي المصري الكبير الراحل نجيب محفوظ، تشمل قصر الشوق والسكرية وخان الخليلي وزقاق المدق والجمالية.
وأمّا في الإسكندرية فقد سألت صديقاً إسكندرانياً أن يصحبني إلى عطفة الأنفوشي، فبدا على وجهه استغراب لم يغب عنه ملمح تخابث، فسارعت إلى الإيضاح: أليست هي العطفة التي يذكرها صابر سيّد سيّد الرحيمي، بطل رواية «الطريق»؟
وبين الفضول الذي يستحثه الأدب، وتحرّض عليه الفنون كافة (وهذا ما يتناوله بكلي ببراعة وذكاء، عبر عشرات الأمثلة)والجموح الذي يمكن للمخيّلة الإنسانية أن تذهب إلى أقاصيه، بحثاً على الأرجح عن إجابات تفضي إلى مستويات مستجدة من الفضول؛ ثمة تلك الخصوصية الفريدة التي تجعل التعبير الفنّي خالداً وعابراً للقرون والثقافات والأجيال، كفيلاً على الدوام بإحالة التخييل إلى مصافّ عالية من الفضول، هي بدورها سمة كبرى في النتاج الإنساني العبقري الذي نختصره في مفـردة الإبداع.
القدس العربي