مجتمعات معتادة على البَصْق في المرآة!/ إدواردو غاليانو
إدواردو غاليانو (1940 ـ 2015) كاتب من الأوروغواي، عاش سنوات طويلة من حياته في المنفى. تُرجمت معظم أعماله إلى اللغة العربية، وهذه المقالة المنشورة هنا مأخوذة من كتابه الذي صدر بعنوان: “مدرسة العالم المقلوب رأسًا على عقب”. يختلف هذا الكتاب عن كتب إدواردو غاليانو الأخرى، لكنه يشكّل أيضًا امتدادًا لها بطريقة إبداعية. إنه قراءة للعالم حيث الأشياء تفقد هويتها، ويتحوّل المال إلى سلطة تجريدية، وتعين الشركات والمصالح التجارية الحكام في أنحاء العالم، حتى أن دورك كرئيس دولة غير مُنتخب هو أن تكون خادمًا لشبكة المصالح، مما يدفعك أيضًا للمتاجرة بالسيادة. غير أن المسألة لا تتوقف هنا، فالكتاب يتحرك على مستويات أخرى أيضًا، ذلك أننا دائمًا نتوقع ما لا يمكن توقعه من إدواردو غاليانو، كما يقول الروائي الأميركي المنحدر من السكان الأصليين، سكوت مومادي، مضيفًا أن غاليانو لا يخيّب أملنا أبدًا، فكتابه يتناول رحلتنا البشرية بكل معالمها، من المتعة والألم والجنون التي تعرّفها.
يضيف مومادي صاحب رواية “المنزل المصنوع من الفجر”، الحاصلة على جائزة بوليتزر: “لا أحد يكتب بهذه الطريقة الرائعة والواضحة عن الوضع البشري، وعن الاتجار بالبشر والنظر إليهم من منظار عنصري. ولا أحد يصوّر، بروعة، المأساة التي لا تخلو من كوميديا، والتي تجري على كوكبنا، كما يفعل إدواردو غاليانو، الذي يتجاوز نفسه في هذا الكتاب. إنه قوة طبيعة مهيبة وخطيرة ولا تُقاوم”.
يتحدث إدواردو غاليانو عن الظلم، واللامساواة، والجرائم السياسية، وانتهاك البيئة والطبيعة، وحقوق الإنسان، وكيف عامل المستعمرون، والذين ورثوهم، الأسود والمنحدر من السكان الأصليين، مستخدمًا صنعته الأدبية، كما تقول الروائية إيزابيل ألليندي، كي يغزو ذهن القارئ ويُقنعهُ بالاستسلام لسحر كتابته، وقوة مثاليته.
يمزج صاحب ثلاثية “ذاكرة النار”، والحاصل على جائزة لانان لحرية الثقافة، بين غنى الروائي، وغنائية الشاعر، وجرأة الصحافي، وسعة اطلاع المؤرخ، ويقرأ عالمًا قَبلْنا فيه واقعًا يجب أن نرفضه، لكنه لا يخلو من جيوب مقاومة، هنا وهناك، مما يبعث الأمل ويبقيه متوهجًا.
مجتمعات معتادة على البَصْق في المرآة
يجب أن يُظهر الخاضعون طاعة أبدية للأسياد، كما يجب أن تظهر النساء الطاعة للرجال. يولد البعض كي يحكم، ويولد البعض الآخر كي يُحْكم. تُبرَّر العنصرية، مثل الفصل بين الجنسين، بالمورثات. الفقراء ليسوا مصابين بلعنة التاريخ فحسب، بل أيضًا بلعنة البيولوجيا، مصيرهم مكتوب في الدم، والأسوأ من ذلك أن السلالات الأدنى تحمل البذور الشريرة للجريمة. حين يقترب رجل فقير أسود البشرة تشتعل الأضواء الحمراء، وترن أجهزة الإنذار.
يعتقل رجال الشرطة في الأميركيتين وأوروبا أشخاصًا خطيئتهم هي وجوههم التي لا يمكن إخفاؤها. ويعكس جميع المشتبه فيهم غير البيض الشبهة المكتوبة بحبر لامرئي في أعماق ضميرنا الجماعي: إن الجريمة سوداء، أو سمراء، أو على الأقل صفراء. تتجاهل هذه الشيطنة التاريخ. في القرون الخمسة الماضية لم يكن من الصعب العثور على جرائم بيضاء. لم يشكل البيض أكثر من خمس سكان العالم في عصر النهضة، ورغم ذلك زعموا بأنهم يجسدون إرادة الله، وباسمه أبادوا ملايين الهنود الذين لم يُسْمع بهم في الأميركيتين، واختطفوا ملايين السود الذين لم يُسْمع بهم من أفريقيا. كان الملوك ومصاصو دماء وتجار الأجساد الذين أسسوا العبودية الوراثية في الأميركيتين وأفريقيا بيض البشرة، وفعلوا ذلك كي يولد أطفال العبيد عبيدًا في المناجم وفي المستعمرات الزراعية.
كانوا بيضًا مَنْ ألَّفوا الفصول التي لا تُحْصى من البربرية التي ارتكبتها الحضارة على مدى القرون، فارضة قوة إمبريالية بيضاء على الجهات الأربع للكوكب بالدم والنار. وكانوا بيضًا قادة الدول والزعماء المحاربون الذين، بعونٍ من اليابانيين، نظموا ونفذوا حربين عالميتين في القرن العشرين، وقتلوا 64 مليون شخص، معظمهم من المدنيين. وكانوا بيضًا الذين خططوا ونفذوا الهولوكوست ضد اليهود، والشيوعيين، والغجر، والمثليين، في معسكرات الموت الألمانية.
قاد يقينُ أن هنالك من يولدون أحرارًا، وهنالك من يولدون عبيدًا، جميع الإمبراطوريات، منذ أن بدأ العالم. لكن مع النهضة، وفتح الأميركيتين، صار التمييز العنصري نظامًا في خدمة الجشع الأوروبي. منذ ذلك الوقت، حكم التمييز العنصري، فارضًا سلطة الأقلية على الأغلبية بقوة الاستعمار.
في المرحلة الاستعمارية، كان التمييز العنصري سلاحًا رئيسيًا، كالبارود. وفي روما، قام بابا بعد آخر بإهانة الله، عازين إليه أمر النهب والسلب. ابتُكر في أميركا قاموس جديد لوضع الناس على السلم الاجتماعي، وفق درجة انحطاطهم، بحسب تمازج أجناسهم. كان “الخلاسي”، وما يزال، مزيجًا من الأبيض والأسود، وهذا تلميح جلي إلى البغل، السلالة العاقر لحمار ذكر ومهر. صنفت مصطلحات أخرى الألوان الألف المتولدة من العناقات المتعاقبة للأوروبيين والأميركيين والأفارقة في العالم الجديد: أسماء إنكليزية، مثل هجين، ربع زنجي، ثُمن زنجي، مولّد من ثمن زنجي وأبيض، أسود وهندي أحمر، ثلاثة أرباعه أسود وربع أبيض، وغيرها من الكلمات الإسبانية الكثيرة.
كانت هنالك أسماء إسبانية تعني “استدر للخلف”، “ابق هناك”، “تدلَّ في الهواء”، و”لا أفهمك”، لتعميد هذه الصلصات الاستوائية، ولتعريف درجات أكبر، أو أقل، من اللعنة الوراثية. من بين كل الأسماء “لا أفهمك” كان الأكثر كشفًا. في القرون الخمسة منذ أن حدث ما يُدعى باكتشاف أميركا، لم يكن لدينا أي شيء إلا “لا أفهمك”.
السكان الأصليون للأميركيتين
اعتقد كريستوفر كولومبس أن الهنود من الهند، وأن الكوبيين يعيشون في الصين، والهاييتيين في اليابان. أحرق شقيقه بارثولوميو ستة هنود أحياء، كان كل ما اقترفوه هو أنهم دفنوا الأوسمة الأوروبية كي تجعل الآلهة الجديدة محاصيلهم وافرة.
حين وصل الفاتحون إلى الساحل الشرقي للمكسيك، سألوا: “ما هذا المكان؟”. أجابهم السكان الأصليون: “لا نفهم أي شيء”. وكان اللفظ في لغة المايا مثل “يوكاتان”، وهذا سبب تسمية المنطقة منذ ذلك الوقت. وحين وصل الفاتحون إلى قلب أميركا الجنوبية، سألوا: “ما هذه البحيرة؟”. فأجاب السكان الأصليون: “ماء، يا سيدي؟”. وكان اللفظ في لغة الجواراني مثل “يباكاراي”، الاسم الذي أُطلق مباشرة على البحيرة التي قرب أسنسيون، في الباراغواي.
كان الهنود دومًا من دون لحى، لكن في قاموسه الذي دُعي القاموس الكوني الصادر عام 1694، وصفهم أنطوان فوريتييه بأنهم “فرائيون ومشعرون”، لأن التراث الأيقوني الأوروبي اعتقد أن المتوحشين مشعرون كالقردة. في 1774، اكتشف الكاهن الذي تولى مسؤولية التعليم المسيحي في بلدة سان أندريه إتثابا في غواتيمالا، أن الهنود لا يعبدون العذراء مريم، بل الثعبان المسحوق تحت قدمها، بما أنه إله من آلهة المايا. اكتشف أيضًا أنهم يوقرون الصليب لأنه مشكل كاللقاء المقدس للمطر والتراب. في الوقت نفسه، في المدينة الألمانية كونغسبيرغ، صرّح الفيلسوف إيمانويل كانط، الذي لم يزر أميركا أبدًا، أن الهنود “غير قابلين للتحضر”، ومصيرهم الإبادة. وفي الحقيقة، كانت الإبادة تحصل، بالرغم من علاقتها المحدودة بطبيعتهم: لم ينج كثير من الهنود من الأسلحة النارية، والقصف المدفعي، وهجمات فيروسات، وبكتيريا غير معروفة في الأميركيتين، والأيام اللانهائية للعمل القسري في الحقول، وفي مناجم الذهب والفضة. حُكم على كثيرين بالجلد، والمخلعة، أو المشنقة، بتهمة عبادة الأوثان. عاش “غير القابلين للتحضر” على تواصل مع الطبيعة، واعتقدوا مثل كثيرٍ من الذين يتحدرون منهم اليوم، أن الأرض مقدسة، مثل كل ما يدب عليها، أو ينمو في ترابها.
قرنًا تلو آخر، واصل البيض فهم الأمور خطأ. في نهاية القرن التاسع عشر، دُعيت الحملات العسكرية لإبادة السكان الأصليين في جنوب الأرجنتين “فتح الصحراء”، بالرغم من أن باتاغونيا لم تكن مهجورة كما تبدو اليوم. منذ بضع سنوات، رفض السجل المدني الأرجنتيني قبول أسماء سكان أصليين “لأنهم أجانب”. اكتشفت الأنثروبولوجية، كاتالينا بوليوباسيتش، أن السجل يمنح الهنود غير الشرعيين من الأراضي المرتفعة قرب سالتا وثائق ولادة تُستخدم فيها أسماء أخرى غير أسمائهم الأصلية، مثل شيفروليتا، وفورد، وتوينتي سيفن، وإيت، وثيرتين.
أعيد تعميد البعض باسم دومنغو فاوستينو سارميينتو، و”كل شيء”، تبجيلًا للأب المؤسس الذي لم يشعر بأي شيء سوى القرف من السكان الأصليين. واليوم، يُعد الهنود عمالًا غير مرغوب فيهم في الاقتصادات التي تعيش من عملهم القاسي، وحجر رحى للثقافة البلاستيكية التي تتوق هذه البلدان إليها.
في غواتيمالا، إحدى الدول القليلة التي بقي فيها سكان هنود لم يتعرضوا للإبادة، يعاني هؤلاء من المعاملة السيئة، كأقلية مهمشة، رغم أنهم الأغلبية. يلبس المولّدون والبيض (أو الذين يدعون أنفسهم بيضًا)، ويعيشون (أو يتمنون لو أن بوسعهم أن يلبسوا ويعيشوا) على طريقة مدينة ميامي، كي لا يبدون مثل الهنود، بينما يحج آلاف الأجانب إلى السوق في تشيتشيكاستينانغو، التي هي ركن من أركان الجمال في العالم، كي يشتروا الأعاجيب التي يبدعها الفنانون المنحدرون من السكان الأصليين. حلم العقيد كارلوس كاستيلو آرماس، الذي استولى على السلطة في 1954، بتحويل غواتيمالا إلى ديزني لاند. وكي ينقذ الهنود من الجهل والتخلف، اقترح العقيد “إيقاظ إحساسهم الجمالي”، كما شرحت نشرة رسمية، “من خلال تعلميهم النسج والتطريز ومهن أخرى”. فاجأه الموت في منتصف مهمته.
“تبدو كهندي”، أو “لك رائحة أسود”. تُعيّر بعض الأمهات في بلدان فيها هنود، أو سود، كثيرون، أولادهن، حين يرفضون الاستحمام، لكن مؤرخي الفتح انتبهوا إلى اندهاش الإسبان من تكرر استحمام الهنود. كان الهنود، وفي ما بعد العبيد الأفارقة، هم الذين نقلوا عاداتهم في النظافة الشخصية إلى أميركيين آخرين، من كندا إلى تشيلي. كان الإيمان المسيحي لا يثق بالاستحمام، ويشتبه بأنه خطيئة، لأنه يُشْعر المرء بالتحسن الشديد. في إسبانيا، أثناء مرحلة محاكم التفتيش، كانوا يتهمون من يستحمون بصورة متكررة بالهرطقة الإسلامية، ويمكن أن ينتهي بهم الأمر إلى المحرقة. في إسبانيا اليوم، يكون الشخص عربيًا حقيقيًا إذا قضى عطلة في ماربيّا على ساحل كوستا ديل سول، لكن العربي الفقير هو مجرد مغربي، ربما “مغربي نتن”. ويعرف أي شخص زار قصر الحمراء، ومهرجان الماء في غرناطة، أن الإسلام كان ثقافة ماء منذ ذلك الوقت الذي لم يكن فيه المسيحيون يمسون الماء إلا كي يشربوا. وفي الحقيقة، لم ينتشر الدوش في أوروبا حتى وقت متأخر جدًا، تقريبًا في الوقت نفسه، كالتلفزيون.
نعتوا الهنود بالجبن، والسود بأنهم يخافون بسهولة، لكنهم كانوا دومًا ذخيرة مدافع جيدة في حروب الفتح، وحروب الاستقلال، والحروب الأهلية، وحروب الحدود في أميركا اللاتينية.
استخدم الإسبان الجنود الهنود من أجل الإبادة الجماعية للهنود أثناء الفتح. كانت حروب الاستقلال في القرن التاسع عشر مذبحة للسود الأرجنتينيين الذين كانوا يُرسلون دومًا إلى الخطوط الأولى. وفي الحرب ضد الباراغواي غطت جثث البرازيليين السود ساحات الوغى. كان الهنودُ الجنودَ الذين استخدمتهم البيرو وبوليفيا في الحرب ضد تشيلي. وأُرسلتْ تلك “السلالة الحقيرة والمنحطة”، كما دعاهم الكاتب البيروفي، ريكاردو بالما، إلى المسلخ، بينما هرب الضباط وهم يصيحون “يعيش الوطن!”. ومؤخرًا، كان الهنود هم الذين ماتوا في الحرب بين الإكوادور والبيرو، وكان جنودٌ هنود هم الذين دمروا القرى الهندية في الهضاب الغواتيمالية. وكانت كل جريمة شعيرة مروعة تهدف إلى تطهير نصف دمهم بالنسبة لضباطهم الخلاسيين.
إن الأشخاص أنفسهم الذين يزعمون أن السود كسالى يقولون أيضًا بشكل يثير الإعجاب: “يعمل كأسود”. يقولون: “البيض يركضون، السود يهربون”، الأبيض الذي يركض مسروق، الأسود الذي يهرب لص. حتى مارتين فييرو، الشخصية التي تجسد في الأعمال الأدبية الكلاسيكية الأرجنتينية على نحو أفضل جميع الفقراء ورعاة البقر الغاوتشو المضطهدين، يعتقد أن السود لصوص خلقهم الشيطان خصيصًا من أجل الجحيم. اعتقد أن الهنود لصوص أيضًا: “الهندي هندي، ولن يحاول أن يغير عاداته القديمة جدًا، لقد وُلد لصًا، وسيموت كهندي لص”.
يصرُّ تراثُ “لا أفهمك” على أن اللصوص هم الأشخاص الذين يتعرضون للسرقة أكثر من غيرهم. منذ أيام الفتح والعبودية، سُرق من الهنود والسود أيديهم وعملهم وثروتهم وكلماتهم وذاكرتهم. في الريو دي لا بلاتا، تعني كلمة كويلومبو الآن الماخور والعماء والفوضى والتشوش، لكن كلمة البانتو هذه عنت بالفعل معسكر تدريب. في البرازيل، تعني الكويلومبوس الملاذات التي أسسها في الأدغال العبيد الهاربون، وبعضها استمر وقتًا طويلًا. استمرت مملكة بالماريس الحرة في الأراضي الداخلية لألواغواس قرنًا، قاومت أكثر من 30 حملة عسكرية لجيوش هولندا والبرتغال. إن التاريخ الحقيقي لفتح واستعمار أميركا هو قصة كرامة لا تنتهي.
لم يمر يوم من دون تمرد. لكن التاريخ الرسمي محا جميع تلك الانتفاضات باحتقار خُص به الخدم سيئو السلوك. في النهاية، حين رفض الهنود والسود قبول العبودية، أو العمل القسري، مصيرًا لهم، كانوا يحاولون تدمير المبادئ المنظمة للكون. بين الأميبا والله، تأسس النظام الكوني على سلسلة طويلة من حالات الخضوع المتعاقبة: كالكواكب التي تدور حول الشمس، يدور الأقنان حول أسيادهم. ما تزال اللامساواة الاجتماعية والتمييز العنصري جزءًا جوهريًا من تناسق الكوكب، ليس فقط في الأميركيتين. كما نوه السياسي الإيطالي، بييترو إنجراو، في 1995: “لدي خادمة فلبينية في المنزل. هذا غريب. يصعب عليّ تخيل عائلة فلبينية لديها خادمة بيضاء في المنزل”.
العرق الأبيض
لم يكن هنالك افتقار أبدًا إلى مفكرين قادرين على رفع الآراء المسبقة للطبقة الحاكمة إلى مصاف العلم، توفروا بغزارة في أوروبا في القرن التاسع عشر على نحو خاص. فقد آمن الفيلسوف أوغست كونت، مؤسس علم الاجتماع الحديث، بتفوق العرق الأبيض، وبالطفولة الأبدية للنساء. ومثل جميع زملائه تقريبًا، لم يكن لدى كونت أية شكوك حول مبدأ جوهري واحد: إن الرجال البيض هم الأنسب للحكم على المحكوم عليهم بالوجود على الدرجات الدنيا من السلم الاجتماعي. وحوّل سيزار لومبروسو التمييز العنصري إلى علم جنائي. وكي يشرح الخطر الفطري “للمتوحشين البدائيين” طور هذا الأستاذ الإيطالي، الذي صادف أنه يهودي، طريقة مشابهة تمامًا للتي استخدمها هتلر بعد نصف قرن، كي يبرر العداء للسامية. بحسب لومبروسو، يولد المجرمون مجرمين، والسمات الحيوانية التي تكشف هويتهم هي نفسها التي ورثها السود الأفارقة والسكان الأصليون لأميركا من السلالة المنغولية. للمجرمين عظام خد عالية، شعر خشن، لحية متناثرة، قواطع ضخمة. اللصوص لهم أنوف مسطحة، للمغتصبين شفاه وأجفان منتفخة. إن المجرمين، مثل المتوحشين، لا يحمرون، مما يسمح لهم بالكذب من دون شعور بالعار. تحمر النساء، بالرغم من أن لومبروسو اكتشف أنه “حتى النساء اللاتي يُعْتبرن سويات يمتلكن بعض النزعات الإجرامية”. قيل عن الثوريين أيضًا:” لم أر فوضويًا أبدًا بوجه متناسق”.
عزا هربرت سبنسر اللامساواة التي تنشأ اليوم من قانون السوق إلى إمبراطورية العقل. وبالرغم من أن قرنًا قد مر، تبدو بعض حقائقه حديثة، وملائمة جدًا لأزمنتنا النيوليبرالية. وفقًا لسبنسر يجب أن تبقى الدولة على الهامش، وألا تتدخل في عمليات “الانتخاب الطبيعي” التي تمنح القوة للأقوى ولأفضل الموهوبين. أما الرفاه الاجتماعي فيزيد فقط من قطيع المشردين الكسالى، والتعليم العام يبذر السخط. يجب أن نتقيد بتعليم “السلالات الأدنى” المهن اليدوية، ونبقيهم بعيدًا عن المدارس.
حين تقوم الشرطة بالبحث، يعثر التمييز العنصري على كل ما زرعه. كان وزن الأدمغة طريقة شائعة لقياس الذكاء حتى الأعوام الأولى للقرن العشرين. فقد بيّن هذا المنهج العلمي، الذي أدى إلى نشوء عروض قذرة للمادة الدماغية، أن الهنود والسود والنساء لهم أدمغة خفيفة. وبرهن المفكر غابرييل رينيه في بوليفيا في القرن التاسع عشر، والميزان في يده، أن أدمغة الهنود والخلاسيين تزن أقل من خمس إلى عشر أونصات من أدمغة البيض. قيل أيضًا إن لوزن الدماغ علاقة بالذكاء، كما لحجم القضيب علاقة بالقدرة الجنسية، بتعبير آخر، هو لا شيء. لكن العلماء رصدوا أدمغة مشهورة من دون أن تثبطهم النتائج المقلقة. مثلًا، كان وزن دماغ أناتول فرانس أعلى بخمسين في المئة من وزن دماغ إيفان تورغينيف، رغم أن أهميتهما الأدبية اعتبرت متساوية تقريبًا. ومنذ قرن في باريس، ابتكر ألفريد بينيت أول اختبار للذكاء (آي كيو)، من أجل هدف جدير بالثناء هو تحديد الطلاب الذين يحتاجون إلى مزيد من المساعدة. كان المبتكر هو أول من قال إن هذه الأداة لا فائدة منها في قياس الذكاء، الذي لا يمكن قياسه، ويجب ألا تُستخدم لإثبات ضعف أي شخص في أي شيء. لكن بحلول 1913، بدأ المسؤولون الأميركيون باستخدام اختبار بينيت على بوابات نيويورك، تمامًا قرب تمثال الحرية، لاختبار المهاجرين الروس والطليان والهنغاريين واليهود الواصلين حديثًا. اكتشفوا أن ثمانية من كل عشرة مهاجرين لهم أذهان أطفال. بعد ثلاث سنوات، طبقت السلطات البوليفية الاختبار في المدارس العامة لبوتوسي: كان ثمانية من كل عشرة أطفال هناك غير أسوياء. منذ ذلك الوقت، اعتمد التصنيف العرقي والاجتماعي على الهالة العلمية للمعاملات الفكرية، وعومل البشر كأنهم أرقام.
في 1994، كان “منحنى الجرس” كتابًا مشهورًا حقق أفضل المبيعات في الولايات المتحدة. ألفه أستاذان جامعيان، أعلنا من دون حياء ما فكر فيه كثيرون، لكن لم يتجرؤوا على قوله إلا همسًا: أن السود والفقراء يمتلكون معدل ذكاء أقل من البيض، وأن الأغنياء أغنياء بفضل مورثاتهم. إن تبذير المال على دراستهم، والمساعدة الاجتماعية لهم، مثل رمي الماء في البحر. إن الفقراء، وتحديدًا الذين لهم جلد أسود، حمير، ليس لأنهم فقراء فحسب. بالأحرى هم فقراء لأنهم حمير. لا يقر التمييز العنصري إلا بالدليل الذي يدعم تحيزاته.
كان الفن الأفريقي مصدرًا بدائيًا للإلهام، وفي الغالب موضوعًا للانتحال الواضح من قبل الرسامين والنحاتين الأشهر في القرن العشرين. أين سنكون من دون الموسيقى التي جاءت من أفريقيا كي تولّد سحرًا جديدًا في البرازيل والولايات المتحدة والكاريبي؟ أنقذت الألحان الأفريقية العالم من الموت ضجرًا، أو حزنًا. رغم ذلك، رأى خورخي لويس بورخيس، وأرنولد توينبي، وكثير من المفكرين الآخرين المهمين، أن العقم الثقافي للسود جلي.
إن ثقافتنا ابنة أمهات كثيرات في الأميركيتين. وتكتسب هويتنا المتعددة حيويتها الإبداعية من التناقض الخصب لأجزائها. لكننا دُرّبْنا على ألا نرى أنفسنا، على ألا نشاهد الروعة الكاملة للوضع البشري في كل عظمته. إن الأميركيتين مريضتان بالتمييز العنصري، ومصابتان بالعمى من الشمال إلى الجنوب. علّمتْ هوليوود الأميركيين اللاتينيين الذين من جيلي أن الهنود أشخاص بوجوه متطاولة، يرتدون الريش، وأصباغ الحرب، ومصابون بدوار البحر من ركوب الزوارق بشكل دائري. وكل ما نعرفه عن أفريقيا هو ما تعلمناه من الأستاذ طرزان، الذي ابتكرته مخيلة روائي لم تطأ قدمه تلك القارة.
لا يُنظر إلى الثقافات غير الأوروبية كثقافات، بل كأحواض صيد للجهل، مفيدة في شكلها الأفضل، للبرهنة على عجز السلالات الدنيا، أو جذب السياح، أو إضفاء لمسة تزيين على حفلات العطل. لكن في الحديقة الحقيقية للثقافة الخلاسية تزدهر جذور السكان الأصليين والجذور الأفريقية بالقوة نفسها التي تزدهر بها نظيراتها الأوروبية. يمكن أن تشاهد فاكهتها الوفيرة بوضوح لا في الفن الرفيع فحسب، بل في فنون تُزْدرى كحرف يدوية، وفي أديان تُرْفض كخرافة. تغذي هذه الجذور، المُتجاهلة لا الجاهلة، الحيوات اليومية للناس حتى لو لم يدرك البعض ذلك، أو بالأحرى لم يره. إنها حية في اللغات التي تكشف من نحن من خلال ما نقوله وما لا نقوله، في طرق أكلنا وتحضير ما نأكله، في الألحان التي تجعلنا نرقص، وفي الألعاب التي تجعلنا نلعب، وفي الأسرار الألف وواحد، أو الطقوس المشتركة التي تساعدنا على أن نعيش.
لقرونٍ، عُدَّت الآلهة التي أتت من الماضي الأميركي، ومن سواحل أفريقيا، خارجة عن القانون، وعاشت مختبئة. ورغم أنها ما تزال تُزدرى اليوم، فإن كثيرًا من البيض والخلاسيين المؤمنين يبجلونها، أو يقرون بها، ويطلبون منها معروفًا. في بلدان جزائر الهند الغربية، ليس الهنود وحدهم من يميّلون كؤوسهم ويدلقون الجرعة الأولى كي يسقوا باتشاماما إلهة الأرض. في جزر الكاريبي، وعلى سواحل الأطلسي في أميركا الجنوبية، لم يعد السود هم فقط من يقدمون الأزهار والضيافة لإيمانيا، إلهة البحر. انتهت الأيام التي كان فيها على الآلهة الهندية والأفريقية أن تلبس كقديسين مسيحيين من أجل أن توجد. لكنها ما تزال محتقرة في الثقافة الرسمية. في مجتمعاتنا المستلبة، المدربة لقرون على البصاق في المرآة، ليس من السهل قبول أن الأديان التي أصلها من الأميركيتين، أو جاءت في سفن الرقيق من أفريقيا، هي جديرة بالاحترام كالمسيحية. هذه هي حقيقة الأمر. الأديان؟ تلك الخرافات؟ تلك العظمة الوثنية للطبيعة، ذلك الاحتفاء الخطير بالهيام البشري؟ فاتنة، ربما حتى ظريفة، لكن ماذا تكون في العمق؟ تعبيرات عن الجهل والتخلف فقط.
أحلام النقاء العرقي
كان النظر إلى السود ورموز هويتهم بهذه الطريقة تقليدًا استمر طويلًا. في 1937، ومن أجل فتح الطريق إلى التقدم في جمهورية الدومينيكان، أمر الجنرال رافايل لوينيداس تروخيو بتقطيع 25 ألف هاييتي أسود بالمناجل. الجنرال، الذي هو خلاسي، وجدته هاييتية، اعتاد أن يبيض وجهه بمسحوق الأرز، وأراد أن يبيض البلاد أيضًا. كتعويض، دفعت الحكومة الدومينيكانية 29 دولارًا مقابل جثة كل هاييتي. بعد مفاوضات طويلة، أقر تروخيو بقتل ثمانية عشر ألفًا، ووافق على دفع 522 ألف دولار. في غضون ذلك، وفي مكان بعيد، كان أدولف هتلر يعقّم أبناء الغجر والخلاسيين وأبناء الجنود السينغاليين الذين جاؤوا إلى ألمانيا في زي فرنسي. بدأت الخطة النازية لتحقيق نقاء العرق الآري بتعقيم المجرمين والمصابين بأمراض وراثية، ثم انتقل هذا إلى اليهود. أُقر القانون الأول في العالم للقتل الرحيم في 1901 في ولاية إنديانا. وفي 1930، شرعت ثلاثون ولاية بتعقيم المعاقين عقليًا، والمجرمين الخطيرين، والمغتصبين، وأولئك الذين ينتمون إلى فئات ضبابية، مثل “منحرفين اجتماعيين”، “كحوليين” و”مدمني مخدرات آخرين”، و”أشخاص مرضى ومنحطين”. وكان معظم المعقمين سودًا. في أوروبا، لم تكن ألمانيا الوحيدة في سن قوانين ملهمة من أحلام النظافة الاجتماعية، والنقاء العرقي. فقد أقرت السويد مؤخرًا أنها عقمت أكثر من ستين ألف شخص بموجب قوانين في الثلاثينيات لم تلغ حتى 1976. وفي العشرينيات والثلاثينيات، تحدث أكثر المعلمين أهمية في الأميركيتين عن الحاجة “لإعادة توليد السلالة”، و”تحسين الأنواع”، أو “تغيير الصفة البيولوجية للأطفال”. وحين افتتح الدكتاتور البيروفي، أوغستو ليغونا، مؤتمر الأطفال الشامل لأميركا في 1930، شدد على “التحسين الإثني”، مرددًا صدى المؤتمر الوطني الأخير حول الأطفال الذي أثار الذعر من “الأطفال المعاقين والمنحطين والمجرمين”. بعد ست سنوات، حين عُقد المؤتمر في تشيلي، أصرَّ كثيرٌ من المتحدثين على ضرورة اختيار “البذور التي تُبْذر لتجنب الأطفال غير الأنقياء”، بينما نشرت الصحيفة اليومية “الأمة” افتتاحية حول الحاجة “للبحث عن مستقبل السلالة”. في تشيلي، حذرت صحيفة إل ميركوريو من أن “العادات الهندية، والجهل الهندي، يعوقان تبني عادات ومفاهيم حديثة معينة”.
كتب مشارك بارز في المؤتمر في تشيلي، وهو طبيب اشتراكي يدعي خوسيه إنجينيروز، في 1905 أن السود، “الخبث المخزي”، يستحقون العبودية لأسباب “تتعلق بحقيقتهم البيولوجية”. لا يمكن توسيع حقوق الإنسان كي تشمل “هذه الكائنات المنحدرة من قرود، والتي تبدو أكثر شبهًا بالقرود من البيض المتحضرين”. بحسب إنجينيروز (النور المرشد للشباب الأرجنتيني) يجب ألا يطمح “هذا الجفاء من اللحم البشري” كي يكونوا مواطنين “لأنهم يجب ألا يُعدوا بشرًا بالمعنى القانوني”. قبل ذلك ببضع سنوات، تحدث طبيب آخر يدعى نينا رودريغز، بلغة ليست أقل سوءًا. صرح هذا الأنثروبولوجي الرائد في البرازيل أن “دراسة السلالات الأدنى قدمت للعلم أمثلة مرصودة جيدًا عن عجزها العضوي الدماغي”.
كان معظم المفكرين في الأميركيتين مقتنعين أن “السلالات الأدنى” وصلت إلى طريق مسدود في التقدم. تبنت جميع الحكومات تقريبًا الرأي نفسه. في جنوب الولايات المتحدة عُد الزواج من سلالة مختلفة مخالفًا للقانون، ولم يكن في وسع السود الدخول إلى المدارس، ودورات المياه، أو المقابر المخصصة للبيض. لم يستطع السود في كوستاريكا دخول مدينة سان خوسيه من دون تصريح. لم يُسمح لأي أسود بعبور الحدود إلى السلفادور. لم يؤذن للسكان الأصليين بالسير على الأرصفة في مدينة كريستوبال دي لاس كاساس المكسيكية. ولم يكن في أميركا اللاتينية أبدًا قانون للقتل الرحيم، ربما لأن الجوع والشرطة يقومان بعملهما على أكمل وجه. واليوم، ما يزال أطفال السكان الأصليين، في غواتيمالا وبوليفيا والبيرو، يموتون كالذباب من الجوع، ومن أمراض قابلة للعلاج. وفي البرازيل، ثمانية من كل عشرة أطفال شوارع تصفيهم فرق الموت هم سود.
المترجم: أسامة إسبر
ضفة ثالثة