نجيب محفوظ وكرة القدم: العودة إلى زمن الطفولة المفقود/ محمد تركي الربيعو
في الوقت الذي ظننا فيه أن فترة الأربعينيات والخمسينيات في مصر قد قُتلت بحثاً، كما يقال أحيانا، خاصة على مستوى تاريخ الأدب والثقافة، تكشف لنا بعض الأعمال المنشورة مؤخراً في القاهرة، أن هذه الظنون في غير محلها، وأن هناك أعمالا لباحثين مصريين، وليسوا غربيين ممن اعتدنا على تقديمهم لمقاربات ورؤى جديدة، تأتي لتؤكد لنا أن حواديت وقصص أم الدنيا لا تجف، كما هو مهدد اليوم نهرها الكبير، وأنها ما تزال مليئة بالحواديت واليوميات والنصوص المنسية، التي لم يتم الكشف عنها إلى الآن.
وكمثال على هذه الأعمال الجديدة، أشير إلى كتابين كان لهما صدى معرفي وبحثي مهم، الأول كتبته الشاعرة المصرية إيمان مرسال، حول حياة عناية الزيات، الأديبة المغمورة التي كتبت رواية وحيدة ثم انتحرت. وفي هذا الكتاب، حاولت مرسال السير بنا في الشوارع التي سارت بها هذه الأديبة، واللقاء بمن عرفها، والبحث في قصة هذا الانتحار وأسبابه، بوصفه يعكس حالة القاهرة وشوارعها وأهلها في فترة الستينيات من القرن الماضي.
أما العمل الثاني، الذي لا يقل أهمية عن الأول، فهو الذي نشره الناقد المصري محمد شعير حول سنوات طفولة الأديب المصري نجيب محفوظ. ويعدُّ هذا العمل، الذي صدر عن دار الشروق بعنوان «أعوام نجيب محفوظ.. البدايات والنهايات» استكمالاً لمشروع شعير في قراءة سيرة راوي القصص الشعبية المصرية في القرن العشرين، لكن ربما ما سيميز هذا العمل الجديد، أنه سيكشف هذه المرة عن أوراق ومسودات ونصوص لمحفوظ، لم تنشر بعد وفي مقدمتها نصه «الأعوام» الذي بقي لعقود طويلة مفقودا، قبل أن يستيقظ شعير في أحد الصباحات ليجده على بريده الإلكتروني مرسلاً من طرف أحد المزادات البريطانية، التي عرضت بيع بعض أوراق محفوظ. ولأن النص هو ابن البيئة الثقافية والاجتماعية التي يولد بها، لذلك حاول شعير في مؤلفه هذا تقديم خلفية تاريخية لنص محفوظ عن أيام الطفولة.
في فترة العشرينيات لم تكن للرواية مكانة تذكر مقارنة بالمسرح أو بالشعر؛ ظهرت أولى بدايات كتابة رواية مصرية بين عامي 1910ـ1911 مع محمد حسنين هيكل، من خلال روايته «زينب» يومها اختار هيكل توقيع الرواية باسم «مصري فلاح» انتقاما كما يذكر من أبناء الذوات، ممن كانوا يزعمون لأنفسهم حكم مصر، وبالتوازي مع هذا النص تكشف الإعلانات المنشورة في جرائد ومجلات تلك الفترة الكثير عن الحياة التي كانت تعيشها مصر في بداية القرن العشرين، فالحداثة بدت عدوا للتقاليد القديمة، وبدا أن الانفتاح على العالم يجذب العاصمة نحو نموذج الغرب المتقدم، ونعثر في جريدة «المقطم» على إعلان تحت عنوان «جواب استغفار» يشكو فيه أصحاب مشروع ويسكي بروفكسيون من وجود ماركة مقلدة تباع في القاهرة للمشروع، ومن أنّ التقليد حرام ولا يجوز من الله. وفي هذا العالم العجيب، ستضع السيدة فاطمة ابنة الشيخ الأزهري مصطفى قشيشة، الذي حقق مخطوطة «قمع الشهوة عن تناول التنباك والكفتة والقات والقهوة» طفلها وسيطلق عليه اسم «نجيب محفوظ» تيمنا كما قيل باسم الطبيب القبطي «نجيب محفوظ» الذي ساعدها في ولادتها العسيرة.
كان الطفل نجيب يكبر، وكانت مصر أيضا تعيش فترة تحولات سياسية، ترافقت مع معارك فكرية شهيرة، مثل معركة الشيخ علي عبد الرازق، حول فكرة الخلافة بوصفها ليست أصلا من أصول الحكم الإسلامي، لتتلوها معركة أخرى دارت هذه المرة حول تشكيك طه حسين بالشعر الجاهلي ومصادره. وقد حاول حسين السكوت مرغماً، ولذلك قرر تسلية نفسه بكتابة شيء بعيد عن الشعر الجاهلي والأزهر والدين، كان هذا الشيء عبارة عن نص بعنوان «الأيام» يتناول سيرته الذاتية، ومعاناته في فترة الطفولة، وقد أراد يومها، وفقا لما يذهب إليه شعير، أن يختبئ في براءة الطفولة من تعقيدات معارك النخبة وحساباتها، أو ربما أراد تذكير قارئه بأن صبيا واجه كل الظروف، لا يمكن أن يخضع لضغوط مهاجميه، لكن ما لم يكن في حسبانه يومها أن هذا النص سيغدو نصاً مؤسسا في الأدب العربي عن حياة سنوات الطفولة، فما هي إلا فترة قصيرة من صدوره، إلا وكان الشاب الصغير محفوظ (18) عاما، قد ألفّ كراسا بعنوان «الأعوام» على غرار ما كتبه حسين، مع ذلك لن يكتب لهذا النص فرصة الوصول للمطابع، وإن بقي صاحبه يتحدث عنه بين الفينة والأخرى، إما من خلال القول، إنه قد أحرقه، أو أنه يحتاج إلى نبش كبير، قبل أن يعود في إحدى المرات ليبوح لرجاء النقاش بمعلومة تقول، إن أفراداً من عائلته قاموا بسرقة بعض أوراقه، لتظهر بعد وفاته في نيويورك عبر فنانة تشكيلية أمريكية أقامت في القاهرة لسنوات، وكانت تجمع مخطوطات وأوراق عدد كبير من الأدباء المصريين، وقد عرضت هذه الأوراق لاحقا في مزاد بريطاني، لكن ورثة محفوظ استطاعوا وقفه. في هذه الأثناء سيحاول شعير، المولع بعوالم محفوظ، تقفي أثرها، وبعد مراسلات مع القائمين على المزاد، وجد ذات صباح كما يقول «كنزا حقيقيا يخص صاحب نوبل: ما يقرب من 500 صفحة تخص نجيب محفوظ.. رواية كاملة، تبدو وكأنها بروفة أولى لثلاثية محفوظ، وأوراق رسمية ومخطوط مذكرات طفولته الأعوام التي أشار إليها كثيرا». وفي سياق قراءته لتاريخ المخطوط الأخير، يعتقد شعير أن تاريخ النص يرجع لعام 1929، وأن ما يميزه أنها ربما المرة الأولى والأخيرة التي يكتب فيها محفوظ نصا صريحا عن حياته، سيرة ذاتية خالصة قبل أن يختبئ لاحقاً عبر شخصيات رواياته.
الكراس المفقود
لن يبقى شعير محتفظاً بهذا المخطوط وأسراره، بل سيشاركنا إياه، لنتقاسم معه رحلة اكتشاف طفولة حفيد الحرافيش. يخبرنا الشاب الصغير نجيب أنه في طفولته كان مغرما بالدجاج، ويبكي لموت الفئران ويهوى نباتات اللبلاب. كما يأتي على ذكر قصص اخته عن الشياطين التي كانت تسكن منزل العائلة، وماهية هذه العفاريت وكيف تعيش، وفي ليالي الصيف كان يمضي كثيرا منها في السطح، فكانت والدته تفرش المرتبة في وسط السطح، ليمضي الليل نائما على ظهره وعيناه متأملتان في السماء، ومما يذكره أيضا عن فترة الطفولة، أنه توسل أمه أن تعفيه من الالتحاق بالكتّاب وأن لا تقضي على حريته الغالية، وعندما ذهب إلى الكتاب رأى عشرات الصبية جالسين على أرض غرفة واسعة مؤثثة بحصر ممزقة، وفي المدرسة، كان غذاؤه عبارة عن قطعة حلاوة طحينة، وكان الطلبة يمتحنون ثلاثة امتحانات في العام، لكن ابن جائزة نوبل سقط سقوطا فاحشا، وكان على رأس المتأخرين. ولا ينسى محفوظ أن يدون لنا الأحداث السياسية التي عرفها خلال الطفولة، فقد أحب المظاهرات ضد الإنكليز، ربما لأنها تترافق مع إغلاق المدارس، مع ذلك فقد «آنس بالإنكليز وعطف عليهم لجمال وجوههم، حتى كان كثيرا ما يلعب كعادته أمام الدار دون أن يخشاهم، بل كان يقترب منهم.. وصاروا يقدمون له أنواعا من الفطائر والحلوى».
ما وراء المخطوطة
وبعد مشاركتنا قصص الطفولة، يذهب شعير إلى قراءة هذه الذكريات وخفاياها. وخلافاً لمن يرى أن تدوين مرحلة الطفولة ناجم بالأساس عن لوثة فرويدية، حاولت التضخيم من هذه الفترة للقول إن «الشخص هو نتاج مرحلة الطفولة» يعتقد شعير أن هذا النص يكشف لنا أن سنوات محفوظ الأولى بقي لها تأثير كبير في حياته، وهذا من نراه من خلال إعلانه عن الكثير من وقائع هذه الفترة عبر شخصيات رواياته، ومما يكشفه شعير هنا أيضا أن والد حكواتي القاهرة لم يكن محبا للقراءة، ولم يقرأ في حياته سوى كتاب واحد «حديث عيسى بن هشام» لمحمد المويلحي، الذي كان صديقا شخصياً له. مع ذلك فقد تمكن الطفل من اكتشاف عوالم ثقافية شفوية، إن صح التعبير، من خلال متعة الخروج مع والده إلى المقاهي، التي تتنوع فيها الحكايا والمناقشات، وربما في هذه الملاحظة ما يذكرنا بما كتبه المؤرخ التركي البر أورتايلي حول عادات القراءة لدى العثمانيين والأتراك في نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، إذ لاحظ أورتايلي أن عدم انتشار الكتب في تلك الفترة لا يعود للتأثر بفتاوى العلماء المناهضين لدخول المطبعة، وإنما لأن الحفظ الشفوي وتفضيل الاستماع للقصص والحكايا كان هو المفضل، والأكثر نجاعة لدى سكان إسطنبول، وربما القاهرة أيضاً.
مما يلاحظه شعير أيضا هو غياب الأب في السيرة، وهنا يبدو قارئ حياة محفوظ متأثرا بالطرح الفرويدي، إذ يرى أن صاحبه، تنبه في وقت مبكر إلى أن مصير المجتمع يتوقف على مقدرته على التغلب على نظامه الأبوي، في المقابل تظهر الأم بقوة، بل تكاد أن تكون بطلاً للنص ومركز الحكايات داخله.
محفوظ وكرة القدم
تنتهي مخطوطة الأعوام بمشهد العربة التي تقف أمام منزل عائلة محفوظ في حي الجمالية القديم، لنقل الأثاث إلى حي العباسية الجديد آنذاك، وهنا يرى شعير أن هذا الانتقال لم يكن مجرد انتقال من مكان لآخر، بل هو انتقال زمني، من زمن له تقاليده وعاداته، إلى زمن أكثر حداثة. بدا الانتقال بمثابة «وثبة من القرون الوسطى إلى أعتاب العصر الحديث» كما قال محفوظ في قصته «صباح الورد» فقد كان أهالي الجمالية يضيئون منازلهم بلمبات الكاز، ويحصلون على المياه من السقا، أما في العباسية، فكان البيت مضاء بالكهرباء، والمياه تصل إليه دون معاناة، كما أنه سيكتشف في الحي حياة أخرى، فعبر شقيقه الأكبر تعرف على كرة القدم، التي أصبح بارعا فيها، بل أحد فرسانها، حتى لقبه الجمهور باسم «أبو الروس» لبراعته في تسجيل الأهداف برأسه، وقد بدت له لعبة الكرة، كما يذكر محفوظ في أحد حواراته، الميدان الوحيد الذي يمكن للمصريين أن يضربوا فيه الإنكليز من دون أن يتعرضوا للنار. وكان قلب الفريق المصري هو المرحوم علي الحسني، من فتوات بولاق، وكان يضرب الإنكليز كل كتف بكتف، وقد انعكست مهارات لاعب الكرة على محفوظ الروائي، فحينما كف عن ممارسة كرة القدم، بقيت تكتيكات اللاعب مرافقة له وهو ينتقل بمهارة بين أولاد حارتنا والحرافيش، مروراً بتاريخ القاهرة الحديث، لكن ربما ما نسي قوله شعير هنا، أن عدوى الولع بكرة القدم وتكتيكاتها، لن يصاب بها محفوظ وأدبه وحسب، بل أيضا كل من حاول تتبع سيرة هذا اللاعب المجهول، ومن بينهم شعير نفسه، الذي تمكن في هذا الكتاب من خلال، مهاراته النقدية وحسه الاجتماعي، من أداء سلسلة من المناورات الممتعة في أوراق نصوص محفوظ المفقودة، مما يثير الكثير من الإعجاب والدهشة والقلق أحياناً. كما لن نبالغ إن قلنا إن القارئ لهذا الكتاب سرعان ما سيندفع إلى أول مكتبة قريبة منه، أو إلى عالم النصوص الإلكترونية، لقراءة نصوص محفوظ مرة أخرى، فهي نصوص تظهر مع شعير برائحة تحمل ذكريات المصريين وقصصهم، خلال القرن العشرين، وربما في إعادة قراءتها وتذكرها مراراً وتكراراً ما يفتح الباب لعودة حرافيش محفوظ في المستقبل.
كاتب سوري القدس العربي