أحمد راشد ثاني شاعر المكان في تكوين البحر والجبل/ بشير البكر
رحل الشاعر الإماراتي أحمد راشد ثاني مبكرًا. لم يتجاوز الخمسين حين خطفه الموت في العشرين من شباط/ فبراير 2012، بعد معاناة من مرض في القلب لازمه طيلة السنوات الأخيرة من حياته، ولم يثنه عن الإقبال على الحياة والكتابة بنهم شديد. كائن مدمن على القراءة والكتابة عاش على الوتر الحساس المشدود بين الحياة والموت، ولكن الكتابة لديه خيط الوجود الذي تمسك به حتى النهاية. وفي تعدده وانفرادته بقي متميزًا لا يشبه غيره من أبناء جيله أو وطنه. ظل يتنقل بين التراث والشعر والمسرح، من دون أن يفرط بواحد منها، وترك خلفه عدة مؤلفات مرموقة بين دواوين ومسرحيات وكتب عن التراث المحلي.
كتابة أحمد راشد طاعنة في لعبة الحياة الموت، في الوجود والعدم، تفصح بألمعية عن ذات تعاني في حدة متفردة وهي تنتقل بشجن وقلق بين حدود الكتابة. هو شاهد صريح على ألق وهشاشة وتجليات الكاتب وأحواله وانكسار أحلامه وتشظي حياته. تعددت كتاباته بين الشعر والرواية والمسرح والبحث، وفي كل ذلك كان يسيطر على عالمه بثقة كبيرة في نفسه، يوزع ذاته على نحو متفرد وصادق لمكانه الخاص وبيئته المحلية التي كانت حاضرة على الدوام في نتاجه. وما يميز أحمد راشد هو أن مشروعه بقي عند لحظة التوتر الخلاق في الكتابة، فاخترق المسافات بسرعة، مدفوعًا بلهب الفعل الشعري، حيث تحول حقل الشعر لديه إلى مختبر للأسئلة والأجوبة، ومن مرحلة لمرحلة ومن اختيار لاختيار كان الشاعر يمثل ذاته ويتجاوزها، ولسان حاله يردد:
” في موجةٍ ما زالت تركضُ/
على البحرِ/ يصفونَ خطواتي الكثيرة”.
التقينا مصادفة في خريف 1985 في تونس خلال أيام مهرجان قرطاج المسرحي. كلانا غريب هناك، هو جاء من الإمارات وأنا من باريس. بسرعة سار كل شيء على أحسن ما يرام، وشعرت بألفة تجاهه. مزاجه رائق ومرح ويصغي بانتباه شديد. أمضينا أسبوعًا جميلًا ونحن نتنقل بين المسرح والشعر، وكان أحمد متألقًا أينما حضر يلفت الانتباه. وقبالة البحر في “القهوة العالية” حدثني مطولًا عن مسقط رأسه خورفكان في إمارة الشارقة. عن جوار البحر والصحراء. عن طفولته، أمه التي سرقت والده من البحر، ونقلته إلى اليابسة. عين سينمائية وسردية متوترة وشاعرية عالية، كان الكاتب محمد الماغوط هو الذي اكتشفه في بداية ثمانينيات القرن الماضي، حين عمل مسؤولًا عن القسم الثقافي في صحيفة الخليج في الشارقة. وعندما قرأ الماغوط المحاولات الأولى للشاب الذي كان عمره في حدود عشرين عامًا رأى فيه فرادة وموهبة. ووجهه باتجاه القصيدة، وبالفعل أحدث ذلك اللقاء نقلة أساسية سوف يبني عليها أحمد راشد مشروعه الشعري الخاص.
هو من الكتاب الذين يذكروني حين أتحدث معهم أنهم يكونون دائمًا أنفسهم أو نسخة فريدة لا تشبه غيرها، ولا هم لهم في الحياة سوى الكتابة، وبأنهم من خلال الكتابة لا يكونون غير ذلك. رجل ذو مخيلة واسعة، لديه أكثر من طريقة لسرد الحكاية، رصيده مخزون هائل من تراث البحر والصحراء ونهم الحياة، وكل ذلك اكتشفه وتعلمه لوحده من دون أن يدله أو يساعده أحد، وكانت البداية من عدة كتب جلبها له والده في واحدة من رحلاته البحرية.
مرح ومشرق على الدوام، قلبه مفتوح كما هو بيته وسريرته. حياة بسيطة، وكتابة متوهجة من أجل إضفاء مسحة أكثر شاعرية على حياة مشاكسة لم تروض، وقلم حاد ونزق لم يعرف المداهنة والمجاملة والمساومة على قناعات وأفكار بعيدة عن أسراب الطيور التي تملأ الفضاء بالضجيج، ولكنها تنام في الأقفاص.
حين أعود الآن إلى فترة الثمانينيات أجد أن أحمد حافظ حتى النهاية على سرعة صوته وطبيعته الفطرية الصافية، والانطباع الذي تركه لديّ أنه كان شديد الخجل، لكنه منفتح ومقبل على الآخر برحابة صدر استثنائية. رأيت فيه مع الزمن رجل أدب لا يمكن له أن يسير في غير هذا الطريق ويعيش إلا هذه الحياة. يستغل كل أداة اكتشفها، وانتحل ألف وقفة مختلفة، وخلط التضلع مع التقنية والإبداع، والتجربة والتقنية كانا هما المهمازان اللذان حثاه على المضي في طريقه، وفي كل مرة كنت أتأمل دائرة اهتماماته، كنت أعتقد أنه لكي يحرز انتصارًا كبيرًا في عالم التجارب التي استنبطها في الشعر والسرد والمسرح كان عليه أن يحيا أكثر من حياة .
حكاياته عن نفسه، طفولته في خورفكان، أمه، والده. حكايات ظلت تترك أثرًا لديّ أقوى مما يفعله أي حديث آخر. بعد قراءة ديوان “يأتي الليل ويأخذني” لأسابيع عديدة، وبفضل تلك الإشراقات، ظللت أشعر بحق وكأني كنت أعيش في هذه الأمكنة. أصبحت شديد التشبع بصوره عن عوالم حسية. حين كنت أقرأ قصيدة وأغلق الديوان وأنصت إلى صوت البحر على شواطئ الخان في الشارقة كانت تتردد وتتوالى أمامي الصور وأنا في حالة من النشوة، ثمل باللغة ولا يحيط بي إلا الجمال والسكينة. كنت أقوم بمشوار مسائي في تلك المنطقة الغافية بعد مرور كل السنين، وكأن القصيدة هي التي صنعت أسماء الأشياء، وهي التي تدلنا على أسماء الحجر والشجر والبشر. ما تزال الأمكنة تحتفظ بجوها الأليف، المنازل، الأمواج، حداء البحر، الطائر الذي أكل… حتى يمتلئ الرأس بطنين مسكر.
القصائد تسمع بدل أن تقرأ، وحين يسمعها السامع يتملكه إحساس بالمشاركة، وتصبح ذاكرة الأذن موثوقة مثل ذاكرة العين، ويتحول كل شيء إلى ذاكرة وذكرى للمكان.
حين ذكرني قبل عامين من رحيله بلقائنا الأول في تونس، أبديت له ملاحظة عابرة. قلت له لديك أسلوب في نسيان نفسك، ولكنه يكشف للآخرين الكثير مما حولك. تضرج وجهه خجلًا، وحاول أن يتغاضى عن الملاحظة، ولكني واصلت الحديث عن تجربته ببعض التقريظ البصير، وفي ما يشبه الاعتراف اختصر تجربته في جمل قصيرة: “بقدر ما كان عقلي يسمح لي كنت نقيًا، حتى وأنا طفل صنعت كونًا مثاليًا خاصًا بي كان شديد البساطة، ألغيت كل عنصر مشوش ومقيد. إن ما أردته أن أتصرف كما أنا أو ما ظننت أني عليه، أردت عالمًا مخلوقًا على صورتي، عالمًا يتنفس بأنفاسي. أطلقت العنان لسجيتي وعشت في عالم الفطرة السليمة. إذا استطعت أن تفعل ذلك من دون أن تفقد توازنك أو أن يجرفك السيل فقد تستطيع أن تتحكم بنفسك. ولكن الأمر لم يكن بهذه السلاسة، ولقد فات الأوان لندعي أننا نرتب الفوضى”.
استمعت إلى هذه الشهادة ونظرت إليها عدة مرات من خلال نصوصه الشعرية والسردية، وبقيت أقرأه بحس فجائعي “وظلت تتردد في رأسي ومنذ أن سَقَطَتِ السماءُ في رأسِي وأنا أمشي كظلٍّ في طريقِ المقبرةِ المليء بِصراخِ الأشجارِ، وحشرجةِ الموجِ، ونحيبِ الأحجار”.
ومثلما ذهب في الحياة حتى الثمالة كان غير بعيد عن الموت، ويتداعى في حديث عن الموت “لم يسبق لي أن نمت في أي مستشفى من قبل. نمت في الشوارع، في المساجد، وفي القطارات، في القوارب وعلى السلالم وتحت الأشجار وعلى الرمل، ولكني لم أنم في مستشفى من قبل. طلبت منهم إخراج الإبر من يدي كي أذهب إلى البيت وأودع أهلي، ومن ثم أعود إليهم لأسلم نفسي. قبلوا. العادة لا يقبلون ولكنهم قبلوا هذه المرة فخرجت إلى البيت. أخذت ملابسي الضرورية وكتابين أو ثلاثة وأوراقًا. جمعت كل هذا في كيس. ذكرني ذلك بتلك اللحظة التي جمعت فيها من دون علم أهلي أغراضي القليلة في كيس وأخذتها وهربت من خورفكان لأول مرة في حياتي. لكن في هذه المرة لا أستطيع مواصلة الهروب، ولست وحدي فقد تبعني إلى المستشفى حيث سلمت نفسي زوجة وطفلان”.
رحل أحمد راشد حين بلغ الذروة، ومثل مسافر سار طويلًا وعندما وصل إلى المحطة الأخيرة داهمه إعياء ثقيل هد قواه، وحال بينه وبين أن يكمل ما بدأ به من مشاريع وراهن عليه من أحلام. هناك وقف الشاعر في الأعالي لينظر بعيدًا، يحدق في لقاء الصحراء والبحر، ولم يكمل القصيدة التي بقيت ناقصة في الدفتر المفتوح قبالة البحر في خورفكان حيث رقد إلى الأبد، من دون أن يصدق أحد من أصدقائه أنه لن يظهر فجأة وهو يجر نفسه بمرح طفولي كما حصل سابقا في وعكات كتبت له الحياة أن يتجاوزها، ويخرج منها ليرجع إلى القلم والورقة والسيجارة ومرح الليالي مع الأصدقاء.
بغيابه نقصت أشياء كثيرة، وأدرك أصدقاؤه المقربون مقدار الألم الذي يسببه موت أحد الذين لا يشبهون إلا أنفسهم في المودة والسخرية والحزن والمرح وحتى في الغياب.
ضفة ثالثة