نقد ومقالات

بين الواقع والأفكار.. في تجارب أدباء ومفكرين/ سارة عابدين

يقول ماريو فارغاس يوسا “يخاف الطغاة من الأدب”. ويعيش الأدباء من خلال أعمالهم الأدبية، وإذا كان العمل الأدبي جيدًا بما فيه الكفاية يمكن أن يحقّق الخلود للمؤلف. ولكن بمجرد أن يصبح الكاتب شهيرًا أو عظيمًا، يبدأ الناس في التركيز على منتج الأدباء الأدبي والفكري والتغاضي عن كل عيوبهم ونقاط ضعفهم. ويمكن أن يكون هؤلاء المشاهير في الواقع شخصيات عنصرية أو قاتلة أو داعمة للأنظمة المستبدة.

ثمة بعض أفضل الروايات والقصص كتبها رجال ونساء ربما كانت لهم مواقف لا أخلاقية في حياتهم، وبناءً على ذلك ربما نكون بحاجة إلى مراجعة مواقف بعض المشاهير أملًا في التعرّف عليهم بشكل أكثر قربًا.

“كان جورج أورويل اشتراكيًا، ولم يستطع تحمل الشيوعية. لكن على الرغم من كره أورويل للطغاة والمستبدين، فإن ذلك لم يمنع المؤلف الإنكليزي من بيع زملائه الكتاب والفنانين إلى إحدى الوكالات الحكومية”

جورج أورويل و”مزرعة الحيوان”

تشتهر “مزرعة الحيوان” لجورج أورويل بأنها نقد لاذع لتاريخ وخطاب الثورة الروسية. إنها رواية تحكي قصة ظهور وتطوّر الشيوعية السوفييتية في شكل حكاية أبطالها هم الحيوانات. تحكي القصة الرمزية قصة صعود الديكتاتور جوزيف ستالين إلى السلطة. سرعان ما تتم الإطاحة بالجنس البشري من قبل تحالف ديمقراطي للحيوانات لتوطيد السلطة بين الخنازير. تثبت الخنازير نفسها على أنها الطبقة الحاكمة في المجتمع الجديد، مثل الكثير من المثقفين السوفييت، ويظهر الصراع على التفوق بين ليون تروتسكي وستالين في التنافس بين الخنزيرين سنوبول ونابليون.

كان جورج أورويل اشتراكيًا، ولم يستطع تحمل الشيوعية. لكن على الرغم من كره أورويل للطغاة والمستبدين، فإن ذلك لم يمنع الأديب الإنكليزي من بيع زملائه الكتاب والفنانين إلى إحدى الوكالات الحكومية في أربعينيات القرن الماضي. وضع أورويل قائمة بالأشخاص المؤثرين الذي اعتقد أنهم انحازوا إلى السوفييت، ثم قام بتسليم قائمته السوداء إلى وزارة خارجية المملكة المتحدة.

لقد كانت خطوة سيئة للغاية، خاصة بالنسبة لرجل تدور حياته بالكامل حول التخلص من “الأخ الأكبر”. ويبدو أن الكثير من المؤلفين والممثلين انتهى بهم المطاف في قائمة أورويل لأنهم كانوا من السود أو مثليي الجنس.

هل كان إرنست همنغواي جاسوسًا

في كتابه “كاتب، بحار، جندي، جاسوس: مغامرات إرنست همنغواي السرية” يسرد نيكولاس رينولدز، الضابط السابق في وكالة المخابرات المركزية الأميركية، تاريخ عمل همنغواي كجاسوس مشتبه به لكل من وكالتي الاستخبارات السوفييتية والأميركية قبل وأثناء الحرب الباردة.

عندما تحقق رينولدز في الأمر وجد أدلة تشير إلى أن همنغواي متورط في العمل لصالح وكالات أميركية أخرى، بما في ذلك مكتب التحقيقات الفيدرالي ووزارة الخارجية ومكتب المخابرات البحرية. في تحول مذهل وجد رينولدز دليلًا على أن همنغواي قد بدأ في التجسس لصالح وكالة الاستخبارات الروسية في أواخر عام 1940.

صنعت المخابرات السوفييتية اسمها من خلال سجن المعارضين السياسيين وقتل أعداء الدولة ومعارضيها، ومطاردة المنشقين. بمعنى آخر إذا تعاون شخص ما مع المخابرات السوفييتية فهو بالتالي لا يعارض كل الممارسات القمعية التي تقوم بها.

في كتاب صدر عام 2009 لضابط المخابرات السوفييتية السابق ألكسندر فاسيليف، وجد رينولدز مقتطفات من ملف همنغواي الرسمي. أظهرت المقتطفات أنه تم تجنيده على أسس أيديولوجية. وعلى الرغم من أنه من غير الواضح ما الذي يريدونه من همنغواي إلا أن نفوذه وإمكانات وصوله بالإضافة إلى موهبته كرجل دعاية، كان من شأنها أن تجعله عنصرًا استخباراتيًا ذا قيمة كبيرة.

العنصرية في آراء تشارلز ديكنز

تمت مناقشة موضوع العنصرية في أعمال تشارلز ديكنز بشكل متزايد في القرنين العشرين والحادي والعشرين. فقد دافع ديكنز بشدة عن الامتيازات التي تمتع بها الأوروبيون في مستعمرات ما وراء البحار، وكان رافضًا لما أسماه بـ”الثقافات البدائية”، وكان يحمل كراهية شديدة للشعوب غير الأوروبية.

في كتابهما حول تشارلز ديكنز، قام الباحثان سالي ليدجر وهولي فورنو بفحص التناقض بين عنصرية ديكنز واهتمامه بالفقراء والمنكوبين. وقد اعتبرا أن ديكنز كان شوفينيًا من الناحية الثقافية، بمعنى كونه شديد التمركز حول العرق.

ويقول المؤرخ باتريك برانتلينغز والصحافي ويليام أودي إن عنصرية ديكنز زادت في سنواته الأخيرة، بالرغم من أنه أصبح أكثر وعيًا بسوء معاملة الشعوب غير الأوروبية في ظل النظم الاستعمارية، لكنه لم يفقد عنصريته أبدًا ونظرته إلى الثقافات غير الأوروبية كثقافات أدنى.

لاحظ مؤرخون آخرون أيضًا أن عنصرية ديكنز نمت بشكل تدريجي خلال مسيرته المهنية، ويعلقون بأن موقف ديكنز تجاه العرق كان معقدًا للغاية، حيث عارض منح حقوق التصويت للأميركيين من أصل أفريقي. ويعتبر معظم الكتاب من العصر الفيكتوري عنصريين بدرجة ما، وفقًا لإدوارد سعيد، حيث كانوا يعتقدون أن الحرية والسعادة الفردية والحكومات التمثيلية لا يجب أن تنطبق على الشرق، وهو ما نسميه اليوم عنصرية.

التحول الفكري لجان بول سارتر

كانت علاقة جان بول سارتر والمثقفين العرب المعاصرين علاقة عميقة. قادت فلسفة سارتر ووصفاته التحررية من أواخر الأربعينيات إلى أواخر الستينيات مشروع التحرر العربي. اعتبر مفكرو الشرق الأوسط أن أفكار سارتر مناسبة لاحتياجاتهم الفكرية. بحلول أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، كان بإمكان العالم العربي التباهي بوجود ما يمكن اعتباره بمنزلة أكبر مشهد وجودي خارج أوروبا. تمت ترجمة كل ما قاله أو كتبه سارتر خلال هذه السنوات إلى العربية بمجرد وصوله إلى السوق الفرنسية.

كان سارتر أيضا محبطًا من السلبية السياسية الأوروبية في الستينيات، ومفتونًا بالطاقة الكبرى والآفاق الواسعة للمشروع الثوري العربي، رغم ذلك انتهت هذه الصداقة بمرارة كبيرة، وسيذكر هذا المفكر ربما للأبد باعتباره خائنًا للقضية العربية.

كانت أفكار سارتر مناهضة للاستعمار، ولم تكن مجرد أفكار بل سياسة ترجمت إلى صراعات محددة من أجل التحرير في كوبا والكونغو وفيتنام والجزائر. وكان سارتر أول مفكر عالمي ينخرط في السياسة الدولية على هذا المستوى، وقد اعترف بالظلم الواقع على الشعوب المستعمرة، ومهدت أفكاره الطريق لتحرير الذات. استخدم الأفكار كسلاح لحشد الرأي العام مع الشعوب المضطهدة كلها.. كلها ما عدا فلسطين. ولا شكّ في أن صمت سارتر عن الصراع في فلسطين حيّر العرب. فكيف يمكن لشخص مثله ساهم في إنهاء الاستعمار في العالم العربي ألا يرى أن الصهاينة يفعلون في فلسطين تمامًا مثلما فعل المستعمرون الفرنسيون في الجزائر؟ كيف أمكنه أن يدير ظهره لإرثه الفكري ليقبل مثل هذا الاستثناء؟ يبدو أن شلل سارتر الفكري كان بسبب معضلة فلسفية لا يمكن حلها. ولقد كان سارتر من أوائل المفكرين الذين اعترفوا بالآخر، وترجموا مناهضة الاضطهاد إلى أطر أخلاقية قابلة للتطبيق وواضحة وقابلة للتنفيذ. كان هذا هو أساس موقفه من الجزائر والذي عارض بموجبه وطنه الأم، وكان أساس دعمه للعنف ضد الاستعمار. كان يمكنه بالتأكيد أن يرى العرب ويعترف بهم على أنهم “الآخرون” للاستعمار وحتى بالفلسطينيين باعتبارهم “الآخرين” ضحايا الصهيونية. مع ذلك لم يستطع التوفيق بين “آخرين” موجودين في حالة فلسطين. كانت هناك حقيقة ضاغطة على سارتر وهي أن مجتمعه قد ساعد على تدمير يهود أوروبا. واستجابة للضغوط العربية والإسرائيلية لتوضيح موقفه (أي التصريح مرة واحدة وإلى الأبد بمن كان على حق) قرر سارتر زيارة مصر وغزة وإسرائيل. وكان سارتر مرتبكًا أثناء الزيارة. وعاد إلى شقته في باريس لتدوين أفكاره حول الصراع. كان الضغط كبيرًا عليه من قبل أصدقائه اليهود ومعارفه من اليسار لدعم قضيتهم وتجنب ما يسمى بالهولوكوست الثاني. في النهاية رضخ سارتر ووقع عريضة دعم إسرائيل، وكان من بين الموقعين بيكاسو ومرغريت دوراس. وقبل أن يتمكن العرب من الاحتجاج على توقيعه جاءت حرب 1967 ودمرت كل شيء، وأصبح سارتر بمثابة متورط في الهزيمة العربية. وهكذا بدأت وانتهت قضية فكرية وسياسية بدأت بصداقة ودعم وانتهت بحزن وخيانة لا تنسى.

مراجع مختارة:

https://www.grunge.com/115638/respected-writers-actually-terrible-people/
https://www.afr.com/world/europe/george-orwell-was-neither-on-the-left-nor-the-right-20210111-p56tab
https://www.history.com/news/was-ernest-hemingway-a-spy
https://orientxxi.info/lu-vu-entendu/jean-paul-sartre-and-arab-existentialism-ships-that-passed-in-the-night,3243

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى