ثقافتا العربية: وهم المراجعة وغلو الهامش/ علي حسن الفواز
من يحق له مراجعة التجربة الثقافية العربية، شعرا أو سردا أو فكرا؟ وما هي اتجاهات هذه المراجعة، وكيف ستكون طبيعة الوسائط المستخدمة؟
المراجعون الثقافيون ليسوا قضاة حتما، وليسوا ثوارا ليجعلوا المراجعة تغييرا أو محوا، كما لا أظنهم «أبرياء» بلا مرجعيات أيديولوج، أو سياسية أو عقدية، ليجعلوا تلك المراجعة وكأنها تطهير للجسد واللغة والنص.
القطيعة مع التراث تبدو وهما كما يقول قاسم حداد، وأن التلويح بها بوصفها «مقولة» أو «يافطة» سيجعل من الحديث عنها وكأنها نوع من إشهار الحرب على «الثوابت» وعلى «المنابر» التي تشبه مشاجب الأسلحة، رغم أن توصيف هذا الأمر سهل جدا، وأحيانا ساذج جدا، لأننا جميعا محكومون بالزمن والشيخوخة و»عوامل التعرّي» لذا لا حلول حقيقية في تبني أيّ خيار مضاد، والنظر إلى التراث بوصفه عنصرا كينونيا في وجودنا وفي لغتنا وفي أسرارنا وطقوسنا، وأن إطلاق الأحكام الطاردة سيبدو حماقة، وتسفيها للذاكرة، فشاعر مثل المتنبي يطفر كل لحظة أمامنا ونحن نصنع القصائد، مثلما أن ساردا وحكيما مثل التوحيدي يوهبنا إحساسا بشهوة المغامرة والاختلاف، وحتى فيلسوفا فقيها مثل ابن رشد يجعنا أكثر تحفّزا ونحن نراجع دالة العقل في الحكم والرأي والموقف.
اتعرّى لتلمسي جسدي
هذا ليس مقطعا شعريا، إنه توصيف للعلاقة الملتبسة مع «الحداثة» إذ هي محاولة في تعرية الزمن واللغة، وفي النظر إلى مفهوم المدينة بوصفه بيئة تلك الحداثة، وهذا ما يعني إعادة مراجعة العلاقة مع «التراث» عبر علاقته بالزمن والمكان، وأن النظر إليه بوصفه عبئا، سيجعلنا نخوض حروب سجالات لا تنتهي، وهذا ما يجعل لعبة الذهاب «الأفقي» إلى أقصى «الحداثة» لا يعني تأهيلا سحريا للعقل الثقافي العربي، ولا تبريرا تداوليا لمفهوم القطيعة وجدواها، فأغلبنا يعرف أننا مشتبكون مع التراث الأصولي والثقافي والمثيولوجي، بوصفه «لاوعيا» قامعا، مثلما نحن مُتشّهون لـ»الحداثة» بوصفها توهما بالخلاص من ذاكرة الصحراء وبداوة العصاب.
هذه النقائض هي جوهر المحنة، لاسيما ونحن بلا مؤسسات حقيقية قادرة على الصناعة الثقافية الثقيلة، وبلا «مجتمع مدني» فاعل يملك طاقة مواجهة «المجتمع السياسي» لذا بات الثقافي لا يملك سوى المناورة، وحتى «الاحتيال» لإيجاد ما يشبه الاطمئنانات، ولو كانت مغشوشة..
تعرية النص قد تكون خيارا للمواجهة، لكنها ليست رهانا، والخيار هنا مشبوك بـ»قلة الحيلة» وسط سلسلة من الهيمنات السياسية العربية ذات المرجعيات الأيديولوجية والعصابية والطائفية، التي دأبت على وضع «المثقف العربي» أمام ما يشبه المتاهة، فلا هو يملك «خريطة الطريق السهل» لعبور عقدة السلطة/ الأفعى كما تقول الميثولوجيا، ولا هو يملك الشجاعة الجمعية التي تحمي مشروع عريه!، لذا بات المثقف يعيش عقدة «الأضحية» في الداخل، وعقدة «الاغتراب» في الخارج، وكلا الأمرين يتحولان بالتراكم إلى عوامل قامعة وطاردة وعازلة عن أي محتوى يمكن أن يقترحه المثقف.
صيانة العصاب الثقافي
ما يحدث في واقعنا العربي من تغوّل أصولي، ومن استيهام للتماهي مع فكرة «الطاغية المستبد» يكشف مدى الرثاثة الثقافية التي نعيشها، وضعف البنى المؤسسية التي لا تملك حق الصيانة، ولا حق الحل، ولا حق تسليح المثقف، إذ يجد هذا المثقف «المستوحد» نفسه عاجزا عن المواجهة والتصريح والكشف، فالسلطة تريد ابتلاعه والسيطرة على جسده ورأيه، وربما توظيفه لخدمة منبرها. والتراث يخرج من جلباب الفقيه الجالس جوار البيت والسرير ليقطع الطريق على أي محاولة للتلصص على الآخر وتحريمها بالحدِّ والحكم. والحداثة تتعرّى مثل أنثى غاوية، لها عيون «ميدوزا» وباتجاه التلويح بـ»فيتشيات» متحجرة، أولها الجسد، وثانيها اللغة، وثالثها الهوية، ورابعهما التاريخ.
الصيانة الثقافية هنا، قد تبدو وهما أيضا، وقد تبدو تعبيرا عن العجز، أو كآبة سببها فقدان القدرة على التغيير، فصارت العودة إلى العصاب وكأنها الاحتماء بحجاب أو ستر، رغم أنها في الجوهر تمثيل للتناقض الذي يعيشه المثقف العربي، أقصد مثقف «اللاسلطة» المستريح، والمحمي بالراتب والوظيفة وبالشعارات الكبرى التي تشبه الأفيون. البحث عن خلاص مضاد، قد يبدو هو الآخر وهم، لأنّ الظرف الموضوعي غير مناسب، كما يقول الماركسيون، رغم أن الظرف الذاتي جاهز، فهذا المثقف منفعل، وغاضب ومهيّج ومتظاهر، ويكتب عن ترياق الثورة مثلما يكتب عن ترياق الجنس، لكن أي تمرد على «ظرفه الموضوعي» سيجعله يفقد حياته بطلقة تائهة، أو عبر اختطاف جماعة مجهولة أو أو.. والنتيجة هي دعوة للخرس.
أمنح جسدي لحظة للطيران
حين كتب تيري أيغلتون كتابه عن «أوهام ما بعد الحداثة» استقطبه المثقفون العرب للحديث عن لعنة الحداثة، وشتم مركزيتها المرعبة، والبحث عن «اللامركز» بوصفه رهانا على الحرية، وعودة إلى ما هو مهمش ومنسي، بما فيها طروحات «ما بعد الكولونيالية» بوصفنا «رعايا» بلدان عاشت محنة الكولونيالية. لكن السؤال الأكثر مرارة في هذا السياق، هل أعطتنا هذه المابعد شغفا بأننا صالحون لأن نكون نظيرا للآخر الذي تحررنا منه، وأننا جميعا «أولاد تسعة» كما يقول المثل الشعبي؟
أحسب أن في هذا السؤال شيئا من الكوميديا، فالكولونيالية تركتنا نعيش على طريقة فرانس فانون، نعيش استيهامات التابع، نقلده، نتوهم حمايته وصيانته، وحتى استعماره الشفيف، مثلما أن عودتنا للتمتع بقوة «استعادة الهوية» صارت وبالا علينا، لأنها تعني مزيدا من التطرف والإرهاب والكراهية والاستبداد، والصراع الأهلي وغياب العدالة الاجتماعية.
التلذذ بنزعة الاستهلاك، والعودة إلى الشعبويات، بما فيها الفلكلور، صارت علامات للتعبير عن التمرد على المركز العقلاني، يقابل ذلك الذهاب المتعالي إلى السرد، حيث سوانح الخيال، وحيث تتعدد مناورات التعاطي مع التاريخ، الذي يمثل واحدا من المركزيات الكبرى، وحيث يجد المثقف في سردنة العالم من حوله، بما فيها سردنة العلاقة مع الآخر، مجالا للكتابة المفتوحة، ولتقويض بؤر التأليف التي ظل يهيمن عليها الفقيه والمؤرخ والحكواتي.
حديث الما بعد لا يخصّ المركزيات الثقافية، ولا علاقة الأنا بالآخر فقط، بل تعني ايضا العلاقة بالأيديولوجيا، التي هي قناع آخر للمركزية، إذ بات الخطاب السياسي أكثر تفككا، وتشوها، لاسيما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ومنظومته الأيديولوجية، وأحسب أن هذا التقوّض الأفقي امتد ليمسّ الجميع، وليصنع له أنماطا من التفكير التي لا تخرج عن العودة إلى الهوية، وإلى تداول مفاهيم ملتبسة مثل «الأمة والملة والجماعة» التي سرعان ما تحولت إلى أشكال عصابية عسيرة التداول، وغير آمنة في مواجهة مشاريع أكثر غموضا مثل «نهاية التاريخ» و»صراع الحضارات».
هذه التحولات كانت أكثر خطورة وأكثر بشاعة، إذ بدت وكأنها إشهار بالسيطرة، وبتقزيم الآخر، والعودة إلى استعباده وحبسه، لاسيما بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر وبعد احتلال افغانستنان، واحتلال العراق، وهو ما أسهم في تحويل البيئة السياسية العربية إلى «مجال عمومي» لتفريخ الرعب والتشظي، بوصفه رعبا صيانيا، وبما فيه رعب الاستبداد، ودعوة لاستعادة سلطة المركز القديم، ناهيك من رعب الأصوليات التي وضعت عقدة الهوية والنص والتاريخ في سياق صياني احتمى بخطاب كراهية الآخر، الاستعماري والطائفي والديني، وهي كراهيات لا تجد سوى العنف تعبيرا عنها، ولا تجد في العقل الثقافي العربي، سوى البحث عن متاهات جديدة، أو توريطات ستدخل حتما من المجالين السياسي والاقتصادي إلى المجال الثقافي بوصفه المجال الرخو، الذي يبحث دائما عن إشباعات مؤجلة.
كاتب عراقي
القدس العربي