مراجعات الكتب

رواية «المكتبة».. حين صنع جيفكوفيتش أعاجيب من خشب وورق

لا يكفي الروائي تخليه عن المنطق لصنع عالمه المتخيَّل؛ بل يحتاج لقارئٍ يتخلَّى هو الآخر عن منطقه، ويخلق لنفسه مساحةً – ولو ضيقة – في ذلك الواقع من التحرر من المنطق كذلك، ومع كل قطعة من الفسيفساء يبدعها الكاتب الصربي، زوران جيفكوفيتش، لخلق لوحته الباهرة في النهاية، يتسرب لقلبك الامتنان مبكرًا مع مكتباته الست الخيالية، التي حولها إلى أبطال في روايته، بحكايات غريبة للغاية.

دعنا نتعرف إلى الكاتب زوران جيفكوفيتش، فهو حاصل على الدكتوراه من جامعة «بلجراد» في صربيا في نظرية الأدب والخيال العلمي. وعلى مدى ما يقرب من 20 عامًا نشر جيفكوفيتش 20 کتابًا، تُرجموا إلى أكثر من 20 لغة، وحققوا انتشارًا فيما تجاوز 73 طبعة في مجموعهم، ما يعد نجاحًا هائلًا لكاتبٍ من خارج سوق النشر في الولايات المتحدة الأمريكية.

حصل جيفكوفيتش على جائزة «الفانتازيا» العالمية عام 2003، عن عَمَله «المكتبة» – الذي نعرضه هنا – وترجمته دار «أثر» لِلُّغة العربية. ستجد نفسك خلال قراءة هذا العمل مدفوعًا بشغفٍ يتجاوز المنطق على مدى ستة فصول؛ فبكل فصل مكتبة، تتجسد شخصيةً حقيقيةً.

1- المكتبة الافتراضية

رسالة تشبه تلك المتراكمة في بريدك الإلكتروني هي التي بدأت الحكاية، وكانت لتلقى في سلة المهملات مع مثيلاتها، لولا اقتضابها الشديد، الذي جعل البطل يقرؤها دون قصدٍ منه؛ ففي رسالة بخلفية سوداء، خالية من الزخرفة، وبأحرفٍ صفراء كبيرة، كُتب «المكتبة الافتراضية»، وتحتها شعار «لدينا كل شيء»، لكن حتى وإن اعتمدت لهجة هذه الرسائل على التحفيز والمبالغة، فهذا شعار لا تجرؤ أكبر المكتبات على ادعائه، مع 5 آلاف عام من النشر حول العالم.

إن كنت محل كاتب يبحث عن كتبه المقرصنة على موقع مكتبة تدعي أن «لديها كل شيء»، فالنتيجة لن تخرج عن إيجادهم أو عدمه، وحين لا تجدهم لأنك كاتب حديث العهد بالنشر ستقول إن تلك المكتبة مدعية وكاذبة، لكن ماذا لو وجدتها؟المشكلة هنا أن كاتبنا لم يمنح لأحد حق نشر كتبه إلكترونيًّا؛ ما يعني أنها نسخ مقرصنة؛ فالإنترنت مليء بتلك النسخ غير القانونية، ولا سبيل للحد التام لذلك في المدى المنظور.

المفاجئ أن يُظهر لك الموقع الافتراضي صورةً لك لا تتذكر متى أو أين التقطت، بجوارها نبذة عن حياتك، كل المعلومات فيها صحيحة، إلا آخر فقرة، أنك ميت، فأنت لا تزال حيًّا. كيف حدث لك شيء دون أن تنتبه؟! وهل رأيت الواحد وعشرين كتابًا المدرجين في قائمة مؤلفاتك؟ كيف وأنت لم تفكر بالكتابة ثانيةً من بعد كتابك الثالث، وحتى الآن؟

قرر كاتبنا مراسلة الموقع، وبدا منفعلًا وساخرًا في كلماته التي قابلوها بسرعة غريبة في الرد والكياسة، وربما برود المجرم، فيخبرونه بيوم وطريقة وفاته، أما البيبليوجرافية التي قرأها فتضم جميع مؤلفاته، من جميع مسارات مستقبله، لكنه لن يراها كلها في مكان واحد إلا في «المكتبة الافتراضية»، وما يأملونه هو أن يكونوا قد صدقوا الوعد الذي قطعوه في شعارهم.

ما إن احتدت الرسائل بين الكاتب والمكتبة، حتى اختفت الرسائل الواردة من موقع المكتبة فجأة، وأُغلقت نافذتها، ونافذة المتصفح، وبات الكاتب ينقب في ذاكرته، محاولًا تذكر المعلومات التي قرأها عن نفسه على الموقع، ولم يستطع، وكأن على النص غشاوة زئبقية، ومنذ ذلك الحين وهو يقرأ الرسائل غير المرغوب فيها، حتى وإن كان واضحًا من الوهلة الأولى أنها لا تستحق أي اهتمام.

2- المكتبة المنزلية

نعرف ذاك الملل عندما لا يحوي صندوق البريد سوى بعض الفواتير في بداية الشهر، ومع ذلك، فالكاتب يتفقده يوميًّا بعد عودته من العمل، حتى أيام عطلة ساعي البريد، من باب الحرص. في ذلك الصباح، لم يتوقع الكاتب ورود رسالة جديدة؛ لأن الشهر ما زال في منتصفه، لكن عندما فتح باب الصندوق الخشبي رأى كتابًا كبيرًا ذا غلاف أصفر قاتم، استحوذ على مساحة الصندوق كلها.

لو أن شخصًا آخر وقع له ذلك الأمر لكثرت تساؤلاته عن هذا الطرد المفاجئ؛ فمن الذي أرسله؟ كما أنه لم يكن مغلَّفًا، ولا يحمل أي بطاقة تشير إلى أنه مرسل إلى الكاتب؛ إذًا لماذا وضعه الساعي في صندوق بريده؟ وكيف أدخل الكتاب السميك في فتحة الصندوق الضيقة التي تدخل منها الفواتير؟ ورغم ذلك لم يجتهد الكاتب في الإجابة؛ لاعتقاده بأن العالم يحفل بالأعاجيب، ولا جدوى من حل ألغازها.

لا شيء على الغلاف سوى العنوان، «أدب العالم»، بلا اسم للمؤلف، وهذا أيضًا لم يدهش الكاتب، فتصفح الكتاب بسرعة، ووجد صفحاته أخف مما تبدو، ما جعل حجمه مناسبًا لعنوانه، وبينما يتأمله، وصل إلى بريده 13 جزءًا آخر من الكتاب، وكلما صعد بمجموعة كتب للمنزل ليدبر لهم مكانًا، ويتأكد من إحكامه غلق قفل صندوق البريد، يقوده حدسه إلى أنه لو عاد سيجد المزيد من الكتب. والآن، وجب عليه التخطيط لمكتبة منزلية؛ فلم يفكر أبدًا في اقتناء مكتبة بمنزله، بسبب اتفاقه مع زوجته.

من الأصلح والأجدى في بعض الأحيان أن تتقبل الأعجوبة، لكن ما يحدث هنا أشبه بأن يطعمك القدر باليمنى ويخنقك باليسرى؛ فتشعر بأزمة الكاتب بعدما تمددت أعمدة الكتب، ووصلت للمطبخ، والحمام، حتى لم يعد سوى السقف، الناجي الوحيد من هذا الغزو.

تتوالى الكتب الجديدة، وتزيح عن طريقها كل شيء ببطء وخفة، كأنها نهر منساب؛ فقد ملأت الكتب حقيبة السفر التي اتسعت لـ 58 مجلدًا، ولا تبدو نهاية لتوافدها، حتى اكتملت أركان الشقة تمامًا عند الكتاب رقم 8305؛ فهل رأى أحدكم من قبل، في أي مكان، وفي أي زمان، أدب العالم بأكمله مجتمعًا في شقة؟

3- المكتبة الليلية

مشاهدة فيلم أم قراءة كتاب؟ يشتت ذلك السؤال الأزلي كاتبنا، فيفكر في كيفية اللحاق بالمكتبة التي تغلق أبوابها عند الثامنة، بينما هو في مقعده بمنتصف الصف، يشاهد فيلمًا في السينما. لم يكن الذهاب إلى المكتبة يعني شيئًا، غير أن اليوم جمعة، والمكتبة مغلقة في يومي السبت والأحد، أي إنه لو لم يذهب اليوم لن يجد ما يقرؤه خلال نهاية الأسبوع.

وصل المكتبة وما زالت المصابيح مضاءةً، فأمسك الكاتب مقبض الباب البارد في خوف، ودفعه، وزفر بارتياح عندما انفتح الباب. دخل بسرعة، واستدار لينفض عن مظلته ندف الثلج، ثم أغلق الباب خلفه، وتجول قليلًا ومسح نظارته، وقال: «مساء الخير». انتظرَ قليلًا، ثم أعادها بصوتٍ أعلى، لكن دون مجيب. ساد الصمت المكتبة، وانطفأت الأنوار فجأةً، ثم سمع من مكانٍ ما بالطابق السفلي صوتًا حديديًّا حادًّا مثل صوت مفتاح يدور في قفل. فهم ما يجري متأخرًا، وأصابته فكرة احتجازه حتى صباح الإثنين بالفزع، وأصبحت النوافذ شبه المعتمة مصدره الوحيد للضوء، بعدما تسربت عبرها أنوار الشارع بوهجها البرتقالي.

ستون ساعة بدون طعام أو شراب؟ رغم عشق المكتبات، فهل يسعد أحد بحبسه في مكتبة؛ حيث لا مكان للنوم، ولا طعام؟ قطع تلك الأسئلة ظهور شخص ما خلف منضدة أمين المكتبة، رجل طويل في منتصف العمر، أشيب الشعر، ارتدى بدلةً داكنة من أفخر الأقمشة. لم ينتبه لوجود الكاتب، حتى سعل وتقدم نحوه ببطء؛ ليعتذر عن تأخره، لكن الرجل أخبره بأنه لم يتأخر، فهذه المكتبة الليلية.

تختلف تشكيلة الكتب التي تعرضها المكتبة الليلية عن المعروضة في فترة النهار؛ فليس لديهم سوى كتب الحياة، وقراءتها شاقة للغاية؛ فالحياة الحقيقية أكثر تشويقًا وإثارة من تلك المختلقة – بخلاف ما هو شائع – فحياة كل البشر الذين عاشوا في الدنيا، 109 مليارات، و483 مليونًا، و256 ألفًا، و710 حيوات؛ ألن تجد فيها بعض الإثارة؟

طلب الكاتب الاطلاع على كتاب حياته، لينهي الليلة بهدوء؛ فيأخذ الكتاب، ويشكر الأمين، ويغادر، لكن ما أحضره الرجل لم يكن كتابًا؛ بل كان أقرب إلى ملف كبير، رزمة سميكة من الأوراق، تبرز من بين غلافين من الورق البني المقوَّى. إنها الطريقة الوحيدة لإضافة صفحات جديدة بعد كل تحديث، ولن يجلد الكتاب إلا إذا لم يعد هناك ما يضاف إليه، وكذلك لا يمكن شراؤه أو استعارته؛ فلكل حياة نسخة واحدة تملكها المكتبة، وإذا ما حدث شيء لها خارج المكتبة فهي خسارة لا يمكن تعويضها، كما لو لم يُولد ذلك الشخص يومًا.

قارن الكاتب بين اللحظات الأخيرة قبل دخوله المكتبة، والتفاصيل المدونة بسجل حياته، ووجدها متطابقة، والغريب أنه لم يُعرِّف أمينَ المكتبة بنفسه بعد، فكيف تعرف إليه وإلى كتاب حياته؟ رد الأمين بأن كل شخص يدخل المكتبة ليلًا، آجلًا أم عاجلًا، وكان دوره الليلة.

«مفتوح؟ الباب مفتوح؟» أسرع الكاتب باتجاه الباب في الدور الأسفل، حين علم أن الباب مفتوحًا، يجري ويعبر الممرات الطويلة، وفي نهاية القاعة وقف، والتفت وراءه في عجالة، فوجد مصباح منضدة أمين المكتبة مطفأً، واختفى الأمين. خرج من المكتبة، نظر عبر الزجاج، ولم يرَ بداخلها سوى العتمة، وعقارب الساعة تشير إلى الثامنة وثلاث دقائق، وقت وصوله إلى المكتبة بعد حفل السينما، الوقت نفسه بساعة يده، وإلى جانب الساعة بداخل المكتبة، مظلته على مقبض المظلات النحاسية.

4- المكتبة الجحيم

من يدري أية خوارق سنشاهدها هنا؟ يجب أن تحضر نفسك للأسوأ؛ فقد غطت درجات الرمادي كل شيء في حجرة ضعيفة الإضاءة قليلة الأثاث، وتدلى من سقفها مصباح واحد بسلك طويل، تغطيه مظلة معدنية دائرية، تجعله يطرح معظم نوره على كرسي خشبي، يقف وحيدًا في منتصف الحجرة، وكان هناك رجل لم يظهر منه إلا ما فوق الكتفين، يجلس إلى مكتب مقابل للباب، موليًّا للجدار ظهره، وانصب تركيزه على ما تعرضه شاشة الحاسوب أمامه.

كاتبنا في هذه القصة في الجحيم، ولكنه ليس الجحيم الذي يقطعون فيه الأطراف ويغلونها في الزيت؛ فلكل زمن جحيمه، وجحيم اليوم هو المكتبة، ونزلاء هذا الجحيم ممن يكرهون القراءة، وكأن الكتب تنقل الطاعون؛ إذ لم یكن الجحيم هنا قط بالصورة التي يتخيلها معظم الناس، إنهم يتخيلونه حجرةَ تعذيب أبدية، يديرها ساديون عديمو الرحمة، لكن في المكتبة لا تشم رائحة الكبريت التي لا ينفك الناس يتحدثون عنها؛ فهنا الهواء جاف ثقيل، علقت به رائحة عفونة.

الغاية من «المكتبة الجحيم» هي أن يتخلص نزلاء المكتبة من العيب الرئيس الذي رمى بهم هنا، فلو أنهم قرؤوا أكثر لما كان لديهم الوقت، ولا الدافع ليرتكبوا ما ارتكبوه. القراءة وسيلة علاجية فعالة لهؤلاء، والهدف من المكتبة هي أنها آخر مكان يمكنهم اتهامه بانتهاك حقوق الإنسان.

لن تختار الكتاب الذي تقرؤه هناك؛ فقد يفرض عليك السجان قراءة الأدب الرعوي، أو قصائد عن الحياة الريفية، كما فرضها على بطل القصة. لو تعد ذلك ظلمًا، واسِ نفسك بأن السجان في القصة مستعد لفعل المستحيل ليكون مكان المسجون؛ فهو لا يقرأ سوى الفظائع التي تتدفق من شاشة حاسوبه مثل مياه تخرج من سد متصدع، والأبدية قاسية على السجان مثل المسجون.

5- أصغر مكتبة

يعرض باعة الكتب المستعملة بضائعهم كل يوم سبت، في المكان ذاته، طوال العام، حتى في أشهر الشتاء القارسة، ويفردون تحت الجسر العظيم طاولات قابلة للطي، أو سلال بلاستيكية مثل تلك الخاصة بنقل المياه المعدنية، أو صناديق كرتونية كبيرة يغطونها بأوراق الجرائد؛ فيصنعون منصات عرض مؤقتة. لولا وجود الكتب على تلك المنصات لبدا المكان أشبه بسوق السلع المستعملة، لكن المظاهر خداعة؛ فهؤلاء ليسوا مجرد باعة متجولين لا يعرفون عن بضاعتهم إلا بعض المعلومات اليسيرة؛ بل خبراء ضليعين بعالم الكتب، فعندما تبدي اهتمامًا بأحد الكتب المعروضة، ينبري البائع بتقديم كنزٍ من المعلومات عن المؤلف، والناشر، والنقد الذي تلقاه الكتاب، وآراء القراء به، والطبعات السابقة أو اللاحقة له؛ بل قد تسمع أحيانًا تاريخًا مفصلًا عن نسخة محددة، أكثر متعة وإثارة من بقية النسخ. كانت تلك المعلومات صحيحة، دقيقة، كما لو اطلعت عليها في موسوعة أدبية.

يتجول كاتبنا كل يوم سبت تحت الجسر العظیم منذ أكثر من عام، من أجل هذه الحوارات مع باعة الكتب، ويشتري في النهاية كتابًا أو كتابين، لا لاقتناء تلك الكتب، لكن لمكافأة هؤلاء الأشخاص. قابل كاتبنا ذلك البائع الشيخ، كان كفيفًا، أقام کشكًا على عربة مثلجات قديمة، في طرف الجسر؛ لأن جميع الأماكن الأخرى تحت الجسر مشغولة بسبب تساقط الأمطار؛ فأصبح منبوذًا وسط بقية الباعة. أخبر العجوز الكاتب بأن لديه ما يبحث عنه؛ فهو يعرف ما يحتاجه. استفزت ثقته الكاتب، وأخذ يجادله، حتى أخذ منه ثلاثة كتب مهترئة، وضعها العجوز في كيس متسخ أخرجه من خزانة صغيرة بعربته، ورفض أخذ مقابل الكتب.

لم يعرف الكاتب أنه حين فتح العجوز خزانته الصغيرة دس له كتابًا رابعًا، اكتشفه عندما وصل إلى البيت، كتابًا نظيفًا مجلدًا بالقماش، عنوانه «أصغر مكتبة». عنوان لا يضاهي هيئة الكتاب المهيبة، غير متبوع باسم المؤلف أو الناشر. فتح الكاتب «أصغر مكتبة»، كانت رواية عنونت فصولها بالأرقام، لا الأسماء، أغلقها الكاتب ووضع الكتاب على منضدة، وأخذ يبحث على موقع «المكتبة الوطنية» الإلكتروني، لكنه لم يعثر على عنوان لكتاب مماثل.

عاد الكاتب للكتاب، فتحه، لكن لم تكن الرواية التي فتحها قبل لحظات؛ فالفصول في هذه الرواية تحمل أسماءً لا أرقامًا، والأحرف أصغر حجما، والمسافات أقرب بين الأسطر. ما کان يحمله بين يديه هو کتاب ثانٍ مختلف تمامًا، ومع كل مرة تظهر رواية جديدة، بتقنية، وعنوان، وخط جديد.

يبدو إذًا أن الروايات تتغير فقط عندما يُغلق الكتاب، فإذا بقي الكتاب مفتوحًا لن يتغير النص. أغلق الكاتب الكتاب، ثم فتحه، أدرك أن بين يديه رواية جديدة كل لحظة؛ فظل يغلق الكتاب ويفتحه فرحًا. صحيح أنه لم يقترب من حل هذا اللغز، لكنه على الأقل عرف ماذا سيحدث، وهذا ما خفف توتره. عجيب، كيف أنه من السهل تقبل المستحيل إذا زال خوفنا منه.

أدرك الكاتب حينئذ أن عنوان الكتاب مناسب جدًّا؛ فهذه هي حقًّا أصغر مكتبة، وصغرها بعدد مجلداتها، لا بعدد مصنفاتها، لكن كم من رواية أضاعها وهو يغلقه ويفتحه مسرورًا؟ كم من رواية قصيرة العمر ضاعت في الدقائق الماضية؟ أدرك الكاتب خطأه أخيرًا، فخرج مسرعًا تحت المطر يبحث عن أقرب آلة تصوير، فاتحًا الكتاب بقوة، حتى إنه رفض مساعدة امرأة طلبت مساعدته في متجر القرطاسية الصغير، لكن النتيجة كانت دفعات من الورق الأبيض على الجانبين، والآن عليه التصرف بشكل مختلف.

دفع الغضب كاتبنا للذهاب والبحث عن الرجل العجوز، ونهره على ما فعله به، لكنه لم يجده. خشي السؤال عنه حتى لا يسأله أحد عن السبب؛ فأسرع ثانيةً نحو منزله، وأخرج مفكرته وقلمه، وبدأ بالنسخ من الكتاب مباشرةً. كتب تحت العنوان «الفصل الأول»، ثم بدأ بكتابة الفقرة الأولى، لكن العمل شاقٌّ؛ فالرواية مطبوعة بأحرف متناهية الصغر، ولكن النهاية عظيمة؛ فعندما ينسخ الصفحة الأخيرة سيغلق الكتاب، وبهذا لن تعيش الرواية إلا في مسودته. مَن سيلومه عندئذ إذا أضاف اسمه فوق العنوان؟

6- المكتبة النفيسة

المكتبة النفيسة كالمعدة، يجب أن يحرص الإنسان أشد الحرص على ما يدخل في جوفها. لا ينبغي أن يدخل المكتبة النفيسة إلا كتبٌ تليق بها، وتسلُل كتاب إلى مكتبة نفيسة دون استحقاق، مثل بلع شيء غير صالح للاستهلاك البشري. ستشعر طبعًا بالاشمئزاز والغثيان، وهذا بالضبط ما شعر به الكاتب عندما دخل مكتبته، فوجد كتابًا لم يضعه فيها.

غلب الاشمئزاز الكاتب، حتى إنه أخرس تمامًا السؤال المنطقي في هذا الموقف: كيف وصل ذاك الكتاب إلى هنا؟ لكن السؤال البديهي الذي يطرأ على ذهن شخص تحتوي معدته على شيء ضار ليس كيف وصل هذا الشيء إلى معدتي، بل كيف أتخلص منه. فالصحة أهم بكثير من إرضاء الفضول البحت.

تخلص الكاتب من الكتاب الدخيل بإلقائه في القمامة، وعندما رجع إلى مكتبته، مطمئن البال، وجد الكتاب الذي رماه منذ ثوانٍ حيث كان قبل لحظات. قبض على الكتاب، وقطعه إلى نصفين، وظل يمزقه بعنف، لم يهمد، حتى أصبح كالقصاصات التي تُرمى في الاحتفالات. نظف الغرفة بالمكنسة الكهربائية، لكن آماله وئِدت صغيرةً، ليجد الكتاب شاخصًا وسط مكتبته ثانيةً.

يرفض الكتاب تمزيقه، ويتمادى في رفضه، يتحداه بوقاحته، أمام كاتب لم يعرف في حياته سوى اقتناء الكتب. بينما يحاول الكاتب الإجابة عن السؤال، لاحت له مقارنة غريبة بعد تفكير قصير، فلو أنه قرر أن ينتحر؛ ما الطريقة التي كان سيختارها؟ هناك مخزون وافر ومتنوع من التجارب الانتحارية السابقة، خاصةً تلك التي نجح منفذوها في إنجازها. ربما يستطيع أن يطبق إحدى وسائلهم على الكتاب ذي الغلاف الورقي.

راقت الفكرة  للكاتب، وبدا تنفيذها ممكنًا، وما تبقى سوى اختيار الطريقة. درس الطرق الكثيرة التي خطرت في ذهنه، ثم قرر أن الغرق هو أفضل وسيلة. لو اعتزم الانتحار لاختار الغرق؛ لأن أولًا: الموت غرقًا لا يخلف دمًا، وهو يرتعب من الدماء بشكل يفوق الوصف، ثانيًا: تُقبض حياة الغريق تحت الماء، وليس على مرأى من الشهود، ولن تصدم أحدًا بمنظر موتك، وثالثًا: في الغرق لمحة من الرومانسية؛ فكم من عاشق مغرم في أعظم قصص الأدب أنهی حكایته بالغوص الأبدي.

لا ينقص الكاتب لتنفيذ عملية الغرق إلا شيئان، لفة حبال كبيرة، وحجر كبير. جهز معدات جريمته، اتجه إلى الجسر، انتظر حتى قلَّ المارة والسيارات، وقذف بالحجر، يشد الكتاب للقاع كذيله، ورغم أنها بدت خطةً ناجحة، فإن الهدف منها لم يتحقق؛ فقد عاد الكتاب إلى المكتبة، واستمرت محاولات اغتياله تحت عجلات القطار، ومن أعلى بناية في المدينة دون أن يلتفت أحد لما يفعله الكاتب.

كانت حيلة الكاتب الأخيرة للتخلص من الكتاب المدسوس، وتفريغ غضبه هي الأغرب؛ فبعد عودة الكاتب متعبًا من محاولاته الفاشلة، قرر تناول الطعام: الجبن، والعيش، والبيض، والخيار، والكتاب – نعم الكتاب – قسمه الكاتب لستة أجزاء، ببهارات مختلفة، حتى استساغ طعمه.

أحبه، وابتلع آخر قطعة بسعادة غامرة، لم يعكرها سوى أنه لم يعرف بعد ما الذي أكله، لكن المهم هنا هو أنه حقق هدفه، لم تبق قطعة من الكتاب في الطبق. نهض، اتجه إلى مكتبته دون خوف حيال ما سيجده فيها؛ فقد يستطيع الكتاب أن يعود من بقية الأماكن، لكنه لن يعود من مكانه الحالي، وبالفعل لم يعد الكتاب المنبوذ إلى المكتبة النفيسة؛ فاستقراره بأمعائه حقيقةٌ لا ريب فيها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى