نقد ومقالات

لويز غليك.. في مقاومة الخسارة والألم/ دارين حوماني

لدى لويز غليك عالم آخر يجمع يومياتنا وبصماتنا وأقنعتنا المرئية واللامرئية ويقدّمها لنا كأن الصوت يسمع نفسه من دون أي ضجة ولا صنوج. الشعر عند غليك صوت نَفَس دافئ وترجيعي تستقر فيه كائنات الطبيعة والميثولوجيا الإغريقية، ومدافننا الذاتية، حيث يمدّ الموت فراشه فيعيد ترتيب الأشياء كما يحلو له أن يتمكن منا؛ صوته، وخطوطه على طول الروح، وانتشاره المحسوس فينا. في قصائدها، تستخدم غليك الطبيعة لإثبات أن النهايات هي بمثابة بدايات، والبدايات نهايات، وسنرى الزهور والأعشاب بعدسة مقرّبة، وسيكون لها أفواه تشي بيأس الحماقات البشرية. كيف تنبش الطبيعة عواطفنا؟ وكيف تغني المياه الخسارة ثم تجدّد الحياة؟ وكيف نبدأ بعد كل حزن من جديد؟ من هنا ينطلق عالم غليك الشعري منذ عام 1968 مع “المولود الأول” وعبر اثني عشر كتابًا شعريًا لا نخرج منها إلا ونحن محمّلين بالعاطفة الإنسانية وبالأمل بموازاة “الحزن” الذي هو “ردّ الفعل على الخسارة”، كما تصفه غليك.

الشعر كامتداد للسيرة الذاتية

تختار لويز غليك، المولودة في نيويورك عام 1943، أبسط الكلمات لتصف أكثر الأمكنة عمقًا في التاريخ والأرض والذات الإنسانية، تمتد كتاباتها من التجارب الشخصية منذ طفولتها والزمن اللاحق إلى تجارب الآخرين المؤلمة عبر إعادة إنتاج حكاياتهم لمواجهة الحزن والدمار الداخلي. تقع موضوعات الأسرة والعلاقة الزوجية في قلب خريطة غليك الشعرية، حيث يصبح الشعر امتدادًا للسيرة الذاتية، وهو ما أشارت إليه أكاديمية نوبل عند منحها هذه الجائزة، العام الفائت، في ذكرها أنّ من أسباب منح غليك الجائزة “صوتها الشاعري المميز الذي يضفي بجماله المجرّد طابعًا عالميًا على الوجود الفردي”. أما خيبة الأمل، الهجر، الشعور بالخسارة والفقدان، العزلة والتأمل في تقدّم العمر والشيخوخة والموت فهي ثيمات غليك الأثيرة. إنها، كما يصف بعض النقاد، “شاعرة عالم ينهار”، لذلك ليس مستغربًا أن يصف البعض شعرها بالقتامة والسوداوية، لكنّ قصائدها رغم ذلك لا تبعث على الكآبة على الإطلاق، فهي نصوص ذكية تجيد التقاط المفارقات في علاقاتنا البشرية، وتقاربها بروح من التفهم والتسامح، كما أنها ليست بالكائن الكئيب. وفي بيان نوبل توحّدت ثلاث خصائص في كتاباتها: “موضوع الحياة الأسرية، الذكاء الحاد والإحساس الراقي بالكتابة”، فنجد صدى محبّبًا لقصائدها بين القرّاء والنقاد، على حدّ سواء. وقد قالت إثر نيل الجائزة لصحيفة “نيويورك تايمز”: “أفترض أن كفاحي وأفراحي ليست فريدة من نوعها. أنا لست مهتمة بتسليط الضوء على نفسي وحياتي الخاصة، بل على كفاح البشر وأفراحهم، الذين يولدون ثم يُجبرون على الخروج”. كما صرّحت أنه سيصدر لها هذا العام “وصفات الشتاء”.

وفي نسخة جديدة ومنقّحة لمختارات من كتبها الشعرية والمنقول إلى العربية “عجلة مشتعلة تمرّ فوقنا” (منشورات الجمل، ترجمة سامر أبو هواش، 2009-2021) سنقرأ  تمامًا كيف تنقل غليك انهيار العوالم الفردية بهدوء وبساطة عبر نصوص هامسة تحتاج للكثير من الإنصات إلى فجوات الصمت فيها.

تقول غليك في ديباجة الكتاب: “لا أعتقد أن الإكثار من المعلومات يصنع دائمًا قصيدة ثرية، ما يجذبني هو المضمر الذي لا يُقال، الإيحاء، الصمت المتعمّد البليغ، ما لا يُقال في القصيدة يضمر قوة أكبر، يوازي غير المرئي كالعمل الفني الذي لحق به بعض الخراب أو الذي ليس بكامل، أعمال فنية كهذه تلمح دائمًا إلى سياقات أكبر، إنها تلازمنا لأنها غير كاملة”، من هنا تتحرّك قصيدة لويز غليك “ضمن مجالين يفصل بينهما خيط رفيع: مجال العادي، السردي، الأوتوبيوغرافي، اليومي، والواقعي، والمجال الإيحائي، الملغز، الميتافيزيقي، الخرافي أو الأسطوري” حسب تعبير المترجم.

تختار صاحبة جائزة بوليتزر (1993) في قصيدة “الحديقة” المنهجية السردية المتقشفة في منح الإحساس بأشياء الطبيعة، نستحضر بأسلوبها سرديات يانيس ريتسوس وتوماس ترانسترومر الشعرية الموجزة التي تريك الوجود كله من خلال ثقب إبرة. تتساءل غليك عن الآثار المترتبة على الوعي الذاتي مستخدمة ضمير المخاطب بطريقة اتهامية وحنونة: “سيكون نفسه ثانية/ هذا الخوف/ هذا الجوهري/ حتى أجبر على العودة إلى الحقل/ بغير مناعة/ حتى أمام أصغر الشجيرات/… ما زال ثمة ما تحتاجين إليه/ جسدك لين جدًا بين الحيوانات الحجرية/ اعترفي أنه من الرهيب أن تكوني مثلها/ بمنأى عن الأذى”. إنها تفترض ضرورة التعرّض للأذى – الشعور بالألم والحزن والخسارة والهشاشة – كجزء لا يتجزأ من الوجود البشري. ثم تجسّد الخوف من الولادة المتكرّرة في عالم يحتشد بالآلام: “كنا مجرّد حفرتين في الثلج/ وكالعادة امتدّ الماضي أمامنا/ ساكنًا/ محتشدًا/ غير قابل للاختراق”. الخوف نفسه يمتد إلى الموت، ثمة صراع بين الحياة والموت يذكّرنا بالموت الذي كانت سيلفيا بلاث تسعى إليه “كأنما صوت كان يقول: يجب أن تكون نائمًا الآن/ مع أن القمر كان هناك وكان مليئًا بالرخام/ لكنك أيها الجسد المسكين/ لم تستطع نومًا/ كانت الأرض ما زالت متشبثة بك/.. يفكر في وحدة الجسد/ يسير ليلًا في الحقل العاري/ ظله ثقيل/ وطويلة هي الرحلة”. وفي “انحراف” ثمة ما يهشّم دواخلنا بالمعنى المؤلم للكلمات: “يبدأ بهدوء في طفلة معينة/ الخوف من الموت/ ثم يتخذ شكل جوع تام/ لأن جسد المرأة قبر يمتص كل شيء/ .. إنها الحاجة إلى الكمال/ الذي بالكاد يشكّل الموت نتيجته الثانوية”.

لويز غليك جاهزة للتنقلّ بين ظلها وظل الآخرين محكمةً شدّ الروابط بينهما وبين كلماتها والأشجار، ومدشّنةً كل ظلّ بمفردات الوعي العميق أمام الأجساد القلقة التي يحبطها العالم، “حاولتُ طوال اليوم أن أميّز بين الرغبة والحاجة/ والآن في الظلمة يملؤني حزن مرير/ لأنني كنت أحدّق في هذه الشجرات/ ورأيت السياق الذي يصنع الألم/ شجرة ثابتة في عذاب/ وأدركتُ أنها لن تتخذ سوى أشكال ملتوية”. في خلفية كل قصيدة ثمة لغة محتشدة بالمعاني، تحمل غليك عدّتها من الألم فنعثر في خريطتها الشعرية الشخصية على تجاربنا الشخصية بين الكلمات، وستوقّع غليك على ذاكرتنا كما هي فتحدّثنا عن حرّيتنا على طريقتها “كان من السهل أن أركض/ ما دمتُ عارية من كل شيء”، و”لست مرغمة على إغماض عينيّ، لأعود بالزمن، لأعدّل شيئًا”، و”أوراقها تتبخر/ هذا ما تريده/ هذا الهدف/ في النهاية من لا يبقى معه شيء يفوز”. وفي “صيف” ستستعيد علاقتها بزوجها منذ أول الحب حتى آخره بأبسط الكلمات التي يمكن أن تجسّد المعنى الدقيق والعميق للبداية والنهاية، “أتذكر صيف سعادتنا الأول/ كم دوّخنا الشغف/ .. ببطء صارت الليالي باردة/ وفي كل منا فُتحت عزلة عميقة..”.

شغف لويز غليك بالميثولوجيا اليونانية جعلها تستلهم منها ومن شخصياتها الكثير، خصوصًا النسوية منها، كما هي الحال مع بيرسفوني، ابنة الإلهة ديميتر من زيوس التي يختطفها إله العالم السفلي هاديس، ويوريديس، زوجة أورفيوس، التي حاول أن يعيدها من عالم الموتى بموسيقاه، مركّزة على تجربة الخيانة التي تتعرّض لها هذه الشخصيات. وستُحضر إيروس وتعاتبه: “خدعتني يا إيروس/ حين أرسلت إليّ حبي الحقيقي/… أحب الاستلقاء على العشب الرطب قرب النهر/ هاربة يا إيروس مع رجال آخرين/ ليس باندفاع/ لكن بتحفظ وبرود/ لقد عبدتُ طوال حياتي/ الآلهة الخطأ”. كما ستوظّف حكاية أخيل وباتروكلوس بمفهوم جديد للصداقة والتضحية: “دائمًا في هذه الصداقات/ ثمة من يقوم على خدمة الآخر/ من هو أقل شأنًا من الآخر”. وسيكون عوليس الرجل العظيم الذي يدير ظهره للعالم. إنه النسج بين الأسطوري والواقعي بلغة شعرية تطوّع الزمن وتفضّه بحركات فنية غير زائدة.

سواد العالم

وصفت صحيفة “نيويورك تايمز” مجموعتها الشعرية “أرارات” (1999) (في إشارة إلى الجبل الذي رست عليه سفينة نوح) بأنه “أكثر كتاب ممتلئ بالحزن والقسوة في الشعر الأميركي المنشور خلال ربع قرن”. في “أرارات” سترجّ غليك الصور التي لم تبرح ذاكرتها من ألبوم عائلتها، تُسقطها لنا في لوحات متتالية بضربات فرشاة خشنة كموضوع رؤية؛ والدها، والدتها، جدتها، خالتها، والأبناء، والألم الذي “يمكن صنع الكثير منه”. في “يوم شاق” تبدأ من تتبّع ذكرى مرور عام على وفاة والدها في فعل سردي شعري مبسّط ككتابة أولية على زجاج شفاف نرى الوجود كاملًا من خلاله “.. أمام البيت ابنة أختي تركب دراجتها الهوائية/ مثلما فعلت العام الفائت/ ما تريده حقًا هو تمرير الوقت/ بينما بالنسبة إلى بقيتنا/ حياة كاملة ليست بشيء/ ذات يوم أنت فتى أعمى بسن ساقط/ اليوم التالي أنت عجوز يبحث عن الهواء/ يصل الأمر إلى لا شيء، حقًا، بالكاد/ هنيهة على الأرض/ ليس نفسًا/ انقطاع نفس”، هكذا تصوّر غليك الحياة برمّتها مثل نفس وانقطاع نفس. وتقول أيضًا: “تعلمتُ حماية نفسي من الامتلاء/ كل سعادة تجلب غضب الأقدار”. وتتابع في “أرارات” رؤيتها لسواد العالم “الأرض نفسها، كل حجر فيها/ مكرّس لإله يهودي/ لا يتردّد في فصل طفل عن أمه”. وكانت غليك قد عانت من فترة مراهقة صعبة، “غالبًا في حالة حرب مع أمي” كما قالت في إحدى المقابلات، وسنعثر على هذه العلاقة الملتبسة بين الكلمات، كما سنعثر على والدها بكلمات مجهزّة لنوستالجيا محمولة على الأكتاف، “كان أبي يحب أن يحملني هكذا/ بحيث لا يراني/ أتذكر/ كنت أنظر أمامي إلى العالم الذي يراه أبي/ كنت أتعلم كيف أستوعب فراغه، الثلح الثقيل لا يهطل، يحوم حولنا”.

في مجموعتها “القزحية المتوحشة” (1990) تستخدم غليك مرة أخرى الحزن والغربة لتثبت أن الموت ليس الوجهة النهائية، تبدأ قصيدتها “في نهاية عذابي/ كان باب”، ثم تكمل “اسمعني ذلك الذي تسمّيه موتًا/ أذكره/ من الرهيب العيش/ بينما الوعي/ قابع في ظلمة الأرض/.. أنت الذي لا تذكر/ عبورك من العالم الآخر/ أقول لك يسعني التكلم ثانية/ كل ما يعود من النسيان/ يرجع ليعثر على صوت..”. الحزن هنا ليس غاية، ثمة مقاومة للحزن وللخسارة، وحيّز للأمل والقدرة على مواجهة الألم، رغم أن القصيدة تشير إلى معاناة لدرجة إبادة الذات، لكن ثمة ضوء سيُخرج الروح من العالم السفلي.

في إحدى مقابلاتها ستشارك غليك قصة مؤلمة، كما تصفها، عن عدم قدرتها على الكتابة لفترة طويلة. تسلّط هذه القصة الضوء على صراع، ليس فقط لها، ولكن مشترك عند الكثير من الكتّاب، إنه الصراع أيضًا بين الحياة والموت بالمعنى المجازي. في ذلك الوقت كان هناك سطر واحد في رأسها يتم تشغيله مرارًا وتكرارًا: “في نهاية معاناتي كان هناك باب.”

ثم تخاطب غليك اللـه بتهويداتها المسائية في عدد من القصائد، وتتنقّل العلاقة من الحميمية إلى المساءلة والشك على قماشة واحدة. نقع على تساؤلات غليك الوجودية في عمق علاقتها بإلهها، نبرات خافتة متروكة للرجاء ثم انتصار المرئي والمحسوس على اللامحسوس، ومشاعر غير مأهولة بالحب، “ينبغي أن أعلّمك أن تحبني/ ينبغي تعليم البشر/ أن يعشقوا الصمت والعتمة”، “تسمح لي، في غيابك المديد، باستعمال الحقل، متوقعًا بعض العائد من استثمارك هذا/.. أشك في أنك تملك قلبًا، بحسب فهمنا المشترك للكلمة. أنت الذي لا تميّز بين الأحياء والأموات، الذي نتيجة لذلك صرت منيعًا ضد النذور، قد لا تعرف كم من الهلع نعاني..”.

“كوفيد أضرّ بمشاعر النشاط والراحة لديّ”!

العزلة التي فرضتها جائحة كورونا أثّرت بطريقة حياة لويز غليك التي كانت معتادة على الخروج يوميًا للقاء الأصدقاء، تقول في حوار لها لصحيفة “نيويورك تايمز” في 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2020 إثر نيلها جائزة نوبل للآداب: “لقد أضرّ كوفيد بمشاعر النشاط والراحة لديّ، لأنه كان عليّ أن أخوض معركة مع رعبي اليومي والقيود المفروضة على حياتي. انقطعتُ عن الكتابة لفترة طويلة، ثم فجأة عاودت الكتابة في الصيف. هناك الكثير من الحداد في كتاباتي الأخيرة، كما أن هناك سخرية من هذا العالم وثمة قصائد سريالية”. لم يكن الموت جديدًا على غليك، تتابع: “لقد كتبتُ عن الموت منذ أن تمكنت من الكتابة. عندما كنت في العاشرة من عمري، كنت أكتب عن الموت. أعتقد أنني أكتب عن الفناء لأنها كانت صدمة رهيبة لي عندما اكتشفت في طفولتي أنك لا تحصل على الحياة إلى الأبد”.

وصف الشاعر روبرت هاس لويز غليك بأنها “واحدة من أنقى الشعراء الذين يكتبون الآن وأكثرهم إنجازًا”. ويقول محرّر كتبها جوناثان جالاسي: “عمل لويز غليك يشبه محادثة داخلية، ربما تتحدّث مع نفسها، ربما تتحدّث إلينا. هناك شيء واحد ثابت للغاية في أعمالها، هو ذلك الصوت الداخلي لديها. إنها دائمًا تقيّم تجربتها مقابل الأفكار المثالية التي لا تتطابق أبدًا”. صوت غليك نقيّ ومباشر وقوي لأنه ينبع من ذاتها، مكثّف بالصور، وبالأحجار الكبريتية، ويدعونا للإنصات لهذه الصور والأحجار التي تمزج بين المجرّد والملموس، وتوقظنا باستمرار على لقطات من حيواتنا باقتضاب لغوي مغطّى بالضوء، وإتقان شكلي دون حاجة لرسم الحدود يجعلنا نرى الحياة من منظور التحرّر وليس من منظور التحلّل. كتابة تشفينا من توحّدنا كما تشفيها هي، إذ تقول في إحدى مقابلاتها: “يأتي معظم ما يجب أن أقوله عن إلحاح حقيقي، والباقي مجرّد ترفيه. أشعر أني على قيد الحياة حين أكتب الشعر، بالنسبة لي، الكتابة هي نوع من الانتقام من الخسارة والألم”.

مراجع مختارة:

https://www.poetryfoundation.org/poets/louise-gluck
https://www.theatlantic.com/culture/archive/2020/10/louise-gluck-nobel-prize-literature-beginnings/616688/

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى