حوار مع عمر الشغري
حوار بمنتهى الأهمية والالم مع “عمر الشغري” ، حوار لا تمتلك معه سوى البكاء في معظم الأحيان، حكي فيه عن تجربته في الاعتقال في السجون والمعتقلات السورية وخصوصا في سجن “صيدنايا”
عمر الشغري وأنا… كأننا سجين واحد!/ عبدالرحمن الجندي
صدم عمر كما صدمنا جميعاً في بلادنا بالقتل والتنكيل هاطلاً ممن وظيفتهم حمايتنا، صار يشاهد الجثث تتساقط جواره، تلي الجثة الأخرى قبل أن يستوعب سقوط الأولى من الأساس.
عام 2013، ألقي القبض على الطالب عبد الرحمن محمد مصطفى الجندي برفقة والده. وعلى رغم أنه كان يبلغ حينها 17 سنة، فقد قررت المحكمة سجنه 15 عاماً بعد محاكمة جماعية لـ68 متهماً.
أمضى الجندي أكثر من ست سنوات في السجن وأُطلق سراحه في 12 كانون الثاني/ يناير 2020.
في هذه المادة يتحدث عبدالرحمن عن تجربة سجين سوري معروف هو عمر الشغري، عانى من السجن والتعذيب حين كان قاصراً وبات اليوم خارج السجن يتحدث عن تجربته وعن سجون النظام السوري.
بإنكليزية ذات لكنة واضحة، تراه يعتلي منصة Tedx في كلية الاقتصاد، جامعة ستوكهولم، وسيماً مصفف الشعر أنيق الثياب، تحسبه رائد أعمال شاباً، أو رئيس مجلس إدارة شركة عالمية يستعرض صولات نجاحه وجولاته، حتى يفتح فمه ليحكي، فيسود الصمت ويستمع الحاضرون مشدوهين.
يحكي عمر الشغري عن السجون السورية، والتعذيب الذي يشيب السامعين، عن زملائه المهوّنين عليه يوماً، فمقتولين في اليوم الذي يليه، ومربعه الصغير الذي يحشر جسده فيه مقرفصاً على مدار السنين.
في تجربتي الشخصية مع السجون المصرية، أمضيت ست سنوات أتنقل بين سبعة سجون وأماكن احتجاز، وسمعت مئات الحكايات، كنت دوماً ما أسمع عن أهوال السجون السورية ومقبرتها، وربما لم أعد بالقدر ذاته من الحساسية لقصص السجون من هول ما سمعت عدداً ومحتوى، لكن قصة عمر لمستني بشكل غير مسبوق لم يحدث منذ خروجي من السجن في 2020، ولا أجرؤ أن أقارن بين تجربتينا لأن تجربته حتماً أبشع بمراحل.
أيرجع هذا لأن عمر في سني، مولود مثلي عام 1995؟ خاض تجربة الاعتقال في العمر ذاته، كانت قصة نزوله إلى التظاهرات شبيهة بقصتي، حماسته في المراهقة ذكرتني بنفسي، وحين سمعت خلاصاته وأفكاره ومشاعره خلال السجن شعرت وكأنني المتكلم لا هو؟
كان عمر ككثر من أقراننا من جيل ثورات الربيع العربي غير مسيّس بالأساس، فتحت الثورة عينه على عالم مثير ملهم، تملؤه مصطلحات كالحرية والمقاومة والهتافات والنضال، وتسيطر عليه مشاعر الحماسة والغضب والحب والأمل. وقف يتأمل ما يحدث في تونس ومصر وليبيا أولاً ولا يصدق، يسمع أباه يتمتم عما إن كانت المعجزة لتحدث في سوريا أيضاً، ثم يصرف الأمل كأضغاث أحلام.
أستمع لقصة عمر عن التظاهرة الأولى التي شارك فيها ويبهرني التشابه بين قصّتينا: مثلي نزل لدوافع شخصية وبتحفيز من ابن خالته وصديقه الأقرب بشير، رفض والده بشدة كما رفض والدي، ثار وسأل عن جدوى تربيته في أن يكون شجاعاً قوياً، فرضخ أبوه وقرر اصطحابه شخصياً لكي يأمن عليه ولو قليلاً كما فعل والدي.
يحكي عمر عن الأجواء المهيبة للتظاهرات، عن الشعور المسكر للانتفاض والثورة ومشاعر القوة النابعة عن المواجهة والمقاومة، ثم ينقلب ليحكي عن الكابوس الذي بدأ عندما أدار الجيش ضرب الرصاص في المتظاهرين.
صدم عمر كما صدمنا جميعاً في بلادنا بالقتل والتنكيل هاطلاً ممن وظيفتهم حمايتنا، صار يشاهد الجثث تتساقط جواره، تلي الجثة الأخرى قبل أن يستوعب سقوط الأولى من الأساس.
ظل عمر يشارك في التظاهرات ويخرجه أبوه بشبكة علاقاته من كل مشكلة، حتى عاد إلى المدرسة وقاد التظاهرات هناك أيضاً مع ابنَي خالته بشير ورشاد اللذين كانا يعيشان معه في بيت واحد في المدينة.
كان في هذا البيت يوم اعتقاله الكبير الذي مضى من بعده في رحلة الأهوال في السجون السورية، عندما جاءت القوات لإلقاء القبض عليه وعلى بشير بالاسم، وبعد محاولات هروب ومراوغات فشلت في النهاية، تم اعتقال عمر وبشير بالفعل.
تم نقلهما بعد ذلك إلى فرع الأمن العسكري 215 في دمشق وأمضى عمر داخل جدرانه ما يقرب من سنة وتسعة أشهر.
وفي السجن، استحال عالم عمر إلى كابوس من قيعان جهنم.
في جحيم السجون السورية، يموت الناس بشتى الأشكال والألوان: قد تموت من التعذيب الجسدي والجنسي، أو قد تموت من التجويع المتعمد، أو من الأمراض القاتلة بلا علاج، وفي الغالب ستموت مقتولاً عمداً بشكل مباشر بطلقة في الرأس بلا أي أسباب أخرى، وقد لا تُطِيلُ من الأساس لوقت كافٍ لتُقتَلَ لأي من تلك الأسباب، فقد يتوقف قلبك عن الخفقان منذ البداية رعباً وهلعاً.
يجوعونهم حتى الموت: يأكل الجميع صباحاً فيعودون للتضور جوعاً قبل نومهم ويحلمون بالطعام، أما عمر فكان يحتفظ بقطعة الطعام الصغيرة التي يستلمها في اليوم فيلتهمها قبيل النوم؛ يريد أن يحلم بأشياء أخرى أزهى ألواناً وألطف نسيماً ووسعاً.
تتنوع أساليب التنكيل بين الجلد اليومي بالسياط، إلى إحداث الجروح العميقة بالجسد وتركها تنتن بلا علاج، وأحياناً بضرب الرصاص على أجزاء من الجسد وترك المسجون ينزف حتى الموت، يزيدون بإجبار المساجين على تعذيب بعضهم إمعاناً في القهر النفسي.
تخرج يومياً للتعذيب ماشياً فوق الجثث المنتنة في الممر، ثم تخطو عائداً فوق الجثث ذاتها تفكر متى تكون واحداً منها ويخطو فوقك غيرك، ولربما من فرط العذاب تتمنى تلك اللحظة.
يحكي عمر بكل ألم عن اليوم الأغبر الذي قرر فيه السجان إجباره وابن خالته بشير على تعذيب بعضهما.
فتح باب الزنزانة وأخرجهما، وناول السجان عمر مفكاً وبشير مسدساً صغيراً، وأخبرهما أنه إن لم يقتل أحدهما الآخر فسيقتل هو المتردد بنفسه. كان عمر وبشير يعلمان جيداً أن هذه ليس أرض التهديدات الفارغة وأن قيمتهما هنا منعدمة، وأن السجان سيفي بوعده كما حدث مع غيرهما بكل سهولة.
كانت صداقة عمر وبشير تسمو فوق القرابة وتفيض حباً ووداً، يصفها عمر فتدمع عيني لأنني أعلمها جيداً، فبشير يذكرني بأعز أصدقائي أيمن موسى بصفاته وحضوره، أيمن الذي زاملني سنين السجن فكنا أكثر من الإخوة. أعلم يقيناً ما تنطويه هذه العلاقة ومدى ارتباطها بالنجاة في السجن وكم ينمو التعلق بين الصديقين فيتكئان على بعضهما لتمر الأيام.
كان بشير رفيق عمر منذ الصغر، يشاركه أوائل ذكريات الطفولة، رفيقان لا يفترقان حتى في سجنهما. يصفه بأنه كان مصدر الأمل والبهجة العجيبة في هذا الكابوس، يوزع دوماً ابتساماته على الحاضرين ويبث الود والقوة فيهم، يثير الدفء بعبارته الباسمة “ميت وردة” على كل من تلاقيه عيناه.
لم يكن عمر لينجُ بغير بشير، لذا رفض الصديقان أن يؤذي أي منهما الآخر، مفضلَّين الموت على ذلك.
عندما نفد صبر السجان، سحب منهما الأسلحة ثم أطلق النار على فخذ عمر، وشق ظهر بشير بالمفك في جرح عميق كالخندق من كتفه لأسفل ظهره، ثم ألقى بهما في زنزانتيهما مرة أخرى.
ساءت حالتهما واشتدت عليهما الحمى، حتى كانا يشعران بالدود يزحف على صديد جرحيهما الغائرين.
لم تتغير ضحكة بشير الجميلة حتى وهو حرفياً على فراش الموت، فيحكي عمر أنه كان لا يفتأ يوزع ابتساماته النقية على كل المرعوبين في غرفة يحفها الهلع من كل النواحي، يقول إنه سيموت حتماً، فليحاول إذاً أن يكون مصدر أي راحة نفسية وطمأنينة للمحيطين به في لحظاته الأخيرة.
ثم أخيراً، أنهك بشير. أبلغ عمر أنه قد قرر أن يموت؛ لن يأكل ويشرب بعد اليوم. حن للقاء أمه وإخوته الذين قتلوا أيضاً، ولم يعد يرغب في تنفس هواء لا يتنفسونه.
ظل عمر يحاول إطعامه قسراً، وأبى أن يستسلم: إن مات بشير، كيف يعيش عمر؟
حتى جاء ذلك اليوم المفجع، كان عمر يجري في الممر نحو الحمامات حاملاً بشير، يعذبهم الجنود من الجانبين، حتى رفع بشير نظره متبسماً لعمر قائلاً جملته الأثيرة: “ميت وردة يا عمر، أنا هموت”
لم يحاول عمر حتى أن يستمع، ركض عائداً يحمل بشير، في حالة من الإنكار القاسي، متجاهلاً همسات المساجين من زملائهما، يخبرونه أن الأوان قد فات، متغاضياً عن ارتخاء جسم بشير بين يديه، حتى غرس أحد زملائه أظافره في ظهره ليوقفه: “بشير مات يا عمر. بشير مات”.
ظل عمر غاضباً، لا يمكن أن يموت بشير، لم يسمح هو له بذلك. ظل يصرخ فيه ليفيق ويلطمه.
لم يُفِق.
لم يستوعب عمر تلك اللحظة، حتى بدأ هول ما حدث يحل في إدراكه. يقول إنه لم يستطع أن يتركه أبداً بالكلية: صار يكرر كلماته، يتكلم بطريقته ويقلد نبرته وتعبيراته، يوزع على المحيطين “مية وردة”، وكأنه بذلك يستبقي قبساً من روح بشير طافياً حوله ومعه.
رفرف بشير إلى السماء بجناحين أكاد أتخيلهما وأنا أسمع المشهد؛ وهل يعقل أن يكون منبع الأمل في قلب الجحيم سوى ملاك؟
لا مكان أسوأ من هذا
من التجارب التي خضتها في سنين سجني وتشتهر بين المساجين، هو تخيلك عند دخول كل سجن أنه قمة الكابوس ومنتهى الرعب؛ لا مكان أسوأ من هذا. يتم نقلك إلى السجن التالي فتدرك أن سجنك السابق ما كان سوى نزهة لطيفة مقابل ما كان ينتظرك من أهوال.
تجربة لم تختلف كثيراً مع عمر، عندما تم نقله بعد كل هذا إلى سجن صيدنايا العسكري، والذي تبث سيرته وحدها هلعاً لا آخر له، وكأنه تجسد من قلب قصص الرعب المفزعة فاستحال حقيقة.
استمرت شبه حياته الضبابية في سجن صيدنايا، هلعاً وتعذيباً وقتلاً، حتى وصل عمر إلى تلك الحالة المعروفة عند المساجين بعد عدد من السنين وأطنان من الأهوال. أتذكر جيداً عندما وصلت إليها في سجن العقرب بعد خمس سنوات من الحبس: لن أرى الحياة مرة أخرى.
حاضرك سجن، وترمي بصرك على امتداده فلا ترى إلا السجن، وتخفت ذكرياتك وتبهت ألوانها حتى تشك أنك كنت يوماً ما في الخارج، فيضحي السجن ممتداً وراءك وأمامك وكأنك خلقت هنا، تنغمس فيه بلا أمل في إمكانية وجود حياة غير هذه.
ثم في حزيران/ يونيو 2015، سمع عمر الباب الحديدي يجلجل بالخارج، وصوتاً هادراً ينادي: “عمر!”
لا تسمع اسمك في سجن صيدنايا سوى لسبب واحد: الإعدام.
أخذوه إلى غرفة انفرادية لتعذيبه نفسياً لأيام، يفتح السجان نافذة باب الزنزانة فيسأله عن الكيفية التي يريد أن يقتل بها، يزعق به ليفكر في طريقة مبتكرة تكسر ملله.
سحبوه مرتعباً ونقلوه إلى ساحة خارج السجن فركعوه ليتم إعدامه ولقموا السلاح، ثم جاء صوت الضابط وهو يعطي الأمر بإطلاق النار.
لم يؤلم الموت. ملأ الارتياح عمر، أكان الأمر بهذه السهولة لبشير أيضاً؟
إعدام مزوّر
عرف بعدها أن صفقة تمت لتزييف عملية إعدامه. دفعت أمه فيها عشرات الآلاف من الدولارات حتى يتم تمثيل هذا المشهد الرهيب، فيخرج عمر للحياة مرة أخرى بعد ثلاث سنوات بمعجزة من سجن صيدنايا حاملاً في صدره مرض السل ووزناً لا يتجاوز 35 كيلو، وميراثاً من الأهوال والندوب لن ينسى.
خرج عمر من سجن صيدنايا عام 2015 ليقابل مزيداً من الفواجع، فقد ذبح والده وأخويه محمد وعثمان في مجزرة قرية البيضا في 2013.
رفضت المستشفيات السورية استقباله، فهرب من سوريا براً نحو تركيا حيث تلقى علاجاً قبل أن يقرر السفر مرة أخرى بشكل غير شرعي بقارب مطاطي من ازمير إلى اليونان، ومنها عبر إلى مقدونيا وصربيا وكرواتيا والنمسا وأخيراً انتهى به المطاف في السويد التي تلقى فيها علاجاً كاملاً حتى شفائه من مرضه واحتضنته إحدى العائلات هناك.
منذ خروجي من السجن العام الماضي في كانون الثاني 2020، والمقاومة والإنسانية معنيان لا يتجزءان بالنسبة إلي حد الترادف. أقف مشدوهاً أمام مشهد يسلك فيه إنسان مسلكاً عكس كل قواعد المنطق والمادة، مضحياً وآذياً نفسه من أجل شيء عجيب لا تفهمه قواعد المادة: مبدأ. فكرة. حب.
ولذا كرست حياتي من بعد الخروج للمقاومة بالفن والتوثيق.
تتجلى لي الآن تلك الإنسانية وضاءة في عمر. في طفل يمتلك كل أسباب اليأس والعدمية، فيختار بكل إبهار تحويل كل ذاك إلى طاقة رهيبة لا تنفد من أجل المقاومة ورفع شيء من الظلم عمن ما زالوا يركضون الآن فوق الجثث ويجلدون في الممرات ويركعون لاستقبال الطلقة الأخيرة بالرأس، حتى استضافه الكونغرس الأميركي في عدة مناسبات، وبات ضيفاً متكرراً على القنوات العربية والعالمية، لتساهم شهاداته ونشاطه في خروج قانون “قيصر” إلى النور بعد 4 سنوات من المداولات مع صنّاع القرار في واشنطن.
دمت مقاوماً ملهماً يا عمر، ودام الأمل حاضراً على استحياء ما بقي أمثالك بيننا.
“مية وردة”.
*عبد الرحمن الجندي صحافي وكاتب حالياً وكان سجيناً لمدة ست سنوات حيث تم اعتقاله ولم يكن عمره 17 سنة وافرج عنه عام 2020
درج
————————————-