سورية .. ثورة المستحيل/ علي العبدالله
انفجرت ثورة الحرية والكرامة في سورية باجتماع عاملين مؤثرين: احتقان اجتماعي عميق وبيئة إقليمية متفجّرة، فقد تفاقم الاحتقان الاجتماعي على خلفية الأوضاع التي عرفتها البلاد في بداية الألفية الثالثة، الظروف المعيشية والخدمية البائسة وارتفاع نسبة البطالة والأسعار وإفقار الطبقة الوسطى وسيادة المحسوبية والزبائنية وشيوع التمييز بين المواطنين لاعتبارات جهوية وقومية واستشراء الفساد، لاقاه مناخ إقليمي متفجّر بانطلاق ثورات الربيع العربي، ونجاحها في تونس ومصر في دفع رئيسين مزمنين وفاسدين على الفرار والاستقالة، على التوالي، وانخراط حلف شمال الأطلسي (الناتو) في التصدّي للنظام الليبي بقرار من مجلس الأمن، ودفع من جامعة الدول العربية. لكن الثورة تعثرت وعلقت وسط صراع إقليمي ودولي مركّب على سورية.
قاد انفجار الثورة إلى الكشف عن توازن قوى داخلي قلق، في ضوء المواقف النظرية والعملية من الثورة ومطالبها والتباين السياسي بين القوى الاجتماعية، على خلفية المصالح ومدى تحققها في الواقع القائم، فقد فجرت الثورة قوى شبابية متعلّمة وطامحة لتحقيق أمانيها في حياةٍ كريمةٍ في مجتمع مستقر ومزدهر تسوده الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية ونظام ديمقراطي يحقّق سيادة القانون؛ يفصل بين السلطات؛ يحترم المواطن وحقه في التعبير والمشاركة في القرار الوطني، عبر اختيار نوابه وحكامه في انتخابات حرّة ونزيهة. وجاء تأييدها والالتحاق بصفوفها والانخراط في فعالياتها من القاع الاجتماعي: بقايا الطبقة الوسطى التي سحقتها السياسة الاقتصادية الجديدة، ودفعتها إلى الأسفل في الهرم الاجتماعي والفقراء والعاطلين عن العمل والنازحين من الأرياف المحطّمة نحو المدن الكبيرة، بحثا عن عملٍ يسدّ الرمق، والمهمشين، في حين انقسمت البرجوازية الوطنية بين قطاع صغير مؤيد للنظام القائم على خلفية العلاقة القائمة والحظوة التي ينعم بها عبر علاقاتٍ زبائنيةٍ ومحسوبياتٍ واستثمار في الفساد المتفشي، وقطاع واسع متريّث، مع ميل مضمر إلى التغيير، ينتظر اكتشاف اتجاه الريح، بما في ذلك التوجّهات الإقليمية والدولية من الثورة، والمآل، كي يلتحق بالطرف المنتصر، فيحفظ مصالحه وينميها من موقعه الجديد. فهذا القطاع يبحث عن خلاصٍ من سياسة قائمة على الزبائنية والمحسوبية لم يكن، لاعتبارات كثيرة، جزءا منها أو مقبولا فيها؛ وعن احتلال موقعٍ مناسبٍ في الواقع الجديد المنتظر.
كان النظام السوري قد اعتمد، منذ عام 1973 وما بعده، سياسة قائمة على بناء مؤسسات الدولة وفق تصورات الرئيس وتلبية لخياراته، فأصبحت الدولة دولة الرئيس، ما وضعها في مواجهة أية تصوراتٍ أو تحرّكات مناهضة له أو متحفظة على خياراته، والتحالف مع البرجوازية السنّية حيث فتح لها أبواب العمل والتوسع في الاستثمار والتطفّل على القطاع العام وتجيير موارده وإنتاجه لخدمة مصالحها واستثماراتها، وضبط تصرّفاتها عبر دخول ضباط مخابراته شركاء أو حماةً ومشرفين، فضمن النظام تأييدها ومباركتها سياساته، وإغلاق الحقل السياسي وتأمين النظام بإطلاق يد أدوات القمع في مطاردة المخالفين وقمعهم.
تبنّى النظام، بعد العام 2005، سياسة جديدة، تحت عنوان “اقتصاد السوق الاجتماعي”، أطلق فيها أيدي عدد محدود من الصناعيين والتجّار تحت قيادة رامي مخلوف وتوجيهه، في السيطرة على الدورة الاقتصادية والتحكّم بكل مخرجاتها، والاستثمار في قطاعات خدمية واستهلاكية وعقارية عالية الربحية، وإنتاج صناعي سطحي يعتمد على الاستيراد المصنّع ونصف المصنّع، في انفصال تام عن ضرورات الدورة الاقتصادية الوطنية واحتياجات المجتمع الأساسية في الصناعة والزراعة؛ ما رتّب اختلال الهرم الاجتماعي بجلوس عدد محدود من الأثرياء على قمته، وتوسّع قاعدته، وضمور وسطه بتآكل الطبقة الوسطى، بخسارتها مقدّراتها وإمكاناتها ونزول قطاعات واسعة منها إلى صفوف الطبقة الدنيا؛ فغدت البنية الاجتماعية والاقتصادية السورية مشوّهة والطبقة الوسطى غير قادرة على ممارسة دورها التقليدي في مجال التأثير في التنمية الوطنية، وتحديد مسارها والدفع بتطوير بناها وتحسين خططها؛ وعائداتها الاقتصادية والاجتماعية بالتالي.
كان الحراك السياسي والمدني السوري قد نشط بعد عام 2000، بتشكيل لجان إحياء المجتمع المدني وجمعية حقوق الإنسان في سورية والرابطة السورية لحقوق الإنسان والمركز السوري للدفاع عن الحريات ومنتدى جمال الأتاسي للحوار الوطني الديمقراطي والمنتدى الحضاري ومنتدى جلادت بدرخان وإعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي… إلخ؛ وبدأ بتحرّك ميداني بالاعتصامات ضد استمرار فرض حالة الطوارئ، وتضامنا مع حق الكرد في المواطنة الكاملة، والتظاهر تأييدا لفلسطين والعراق. وبدأت البيانات السياسية الداعية إلى الإصلاح وجمع التوقيعات في كل المحافظات تتواتر وتتصاعد؛ ما شكّل رافعة وطنية واجتماعية كسرت الركود المسيطر وفتحت فسحة للأمل.
ولكن الحراك، بأشكاله السياسية والمدنية، فاته الالتفات إلى بنية النظام السياسي، وتحرير القوى الاجتماعية من قيود النظام الدستورية والسياسية والأمنية، وذلك بنشر ثقافة التغيير بشكل واسع في المجتمع، وتحديد تخومه وساحاته، عبر الدراسات والمقالات والمحاضرات وتشكيل تنظيمات اجتماعية موازية وبديلة لتنظيمات النظام، نقابات لكل قطاعات العمل تمثل مصالح جماهيرها بوضوح وقوة؛ ومنظمات مجتمع مدني تغطي مجمل ساحات العمل المدني، بحيث تشكّل جسورا للتواصل بين القوى الاجتماعية، بعيدا عن الانحياز القومي أو الديني أو المذهبي أو المناطقي والعشائري والأسري، وتقويم القوى الاجتماعية ودورها في عملية التغيير، بالاستناد إلى قدراتها وإمكاناتها والعمل على كسبها إلى جانب العملية، والسعي إلى كسر الحواجز بين البيئات والمناطق والقوميات والأديان والمذاهب، وإعطاء هذه الجهود والنشاطات أولويةً من أجل توفير شروط التغيير بإيجاد توافقاتٍ عريضة لاستقبال أي حدثٍ نضالي بشروط مؤاتية واستعدادات مناسبة.
وحصل هذا التفويت في إطار توجّهٍ يعطي الأولوية للتغيير في السلطة على حساب التغيير في المجتمع. كما فاتها (قوى المعارضة)، في ضوء النزعات اليسارية والاشتراكية التي تحكم تفكير أغلبها، التعاطي مع البرجوازية الوطنية، حيث اعتبرت الاقتراب منها أو التفاعل معها محرّما، هي في التقويم السائد بينها قوة رجعية، علما أن التغيير، في سياق وطني ديمقراطي، يستدعي تشكيل ما اتفق على تسميتها “كتلة تاريخية” باستقطاب ما أمكن من القوى الاجتماعية، وخصوصا البرجوازية الوطنية، لما تمتلكه من خبرات وعلاقات وإمكانات مالية تؤهلها لإدارة النضال الديمقراطي وتمويله، وتحرير قوى التغيير من التوجه نحو التمويل الخارجي وتبعاته، من فقدان الاستقلالية والارتهان لخطط الجهات المموّلة وأهدافها، حتى لو جاءت على حساب المشروع الوطني وأهدافه، كما حصل عمليا، وزجّها في النضال، فتحقيق التغيير يستدعي إشراك المجتمع بكل قواه وتشكيلاته الاجتماعية. كما تجاهلت البيروقراطية ودورها في تيسير عمل المؤسسات وقدرتها على شلّ النظام عبر تعطيل عمل هذه المؤسسات، وتركتها قوةً في يد النظام، أمّنت له استمرار عمل مؤسسات الدولة خلال سنوات الصراع.
لقد عكس انفجار الثورة العفوي، وبعيدا عن المعارضة المنظمة وتوقعاتها، ومن دون مشاركة من قوى اجتماعية وازنة كالبرجوازية الوطنية، قصور هذه المعارضة في رؤاها وتصوّراتها وميادين نضالها، فالعفوية التي وسمت انطلاقة الثورة جسّدت عدم نجاح المعارضة السياسية في الارتباط بالشارع، وتحضير المناخ العام لاستقبال التطورات المحلية والإقليمية والدولية، والانخراط الإيجابي فيها لتحقيق التغيير وأهدافه النبيلة؛ وفشل مثقفي المعارضة في تعميم ثقافة التغيير، وعجزهما معا عن إدراك حقيقة الموقف الإقليمي والدولي من الثورة؛ والتي رأت فيها قوى كثيرة تغييرا للبيئة المحلية، تضرّ بمصالحها. ورأت فيها فرصة لتحقيق أهدافها وتكريس نفوذها وحضورها الدائم في المشهد السوري، فشكل انخراطها في الصراع على سورية مشهدا بديلا لصراع شعبٍ مع نظام مستبد وفاسد؛ وربط نهاية الصراع بتوافق هذه القوى الذي لن يكون في صالح الشعب السوري.
العربي الجديد