في الوطنية والمواطنة: الدين لله والمواطنة حق عام/ جمال الشوفي
يستمرّ الحوار السوري متعدد الأطراف السياسية والفكرية في تعريف وتحديد كثير من المصطلحات التي كانت تبدو مسلّمات حتى الأمس القريب، لكنّها اليوم باتت مثار جدل وخلاف بآن معًا، وبخاصة مفهوم الوطنية والمواطنة.
في مقاربة أولى، نجد أنّ من الطبيعي أن تتغيّر المفاهيم بتغيّر الواقع، وذلك بحُكم متغيرات الواقع وصيرورته؛ فمفهوم المادة قبل القرن العشرين كان يشير إلى كل المواد والأجسام المعروفة قبل اكتشاف أشباه النواقل، مثلًا، وهذه لها خصائصُ النقل الكهربائي التي كان قد كشفها العلم سابقًا ذاتُها، لكنّها ذات خاصيات أخرى مختلفة تمكّنها من بناء الدّارات المتكاملة والرقمية التي لا يمكن صنعها من النواقل السابقة، لتدشّن عصر التقنية وثورة الاتصالات والمعلوماتية، وليضاف إلى مفهوم المادة مفهوم جديد نسمّيه “أشباه المعادن”، مع ما قدّمه من خدمات هائلة للبشرية في عالم التقنية والتواصل. فهل يمكن محاكمة مفاهيم، كالوطنية والمواطنة، من المنظار ذاته؟
فلسفيًا وفكريًا، بحسب هيغل، المادة مفهوم عقلي يشير إلى كل المواد المتعيّنة في الواقع، يشملها ويحتويها، ولا يمكن لأي مادة خاصة أن تستنفد المفهوم أو تطابقه. فمفهوم المادة هو لحظة الوجود الأعلى، وقد تمكّن العقل من الوقوف على ناصية الواقع، بكل تجلياته وخصائصه المفردة دونه. والمواطنة هي المفهوم العقلي العام، وقد شمل كل تعيينات الواقع الاجتماعي باختلافه وتعدده وتمايزاته، بهوياته الإثنية والدينية والاجتماعية على اختلافها، التي يفترض كل منها وطنيته العفوية والبكر. والمواطنة بذلك لا تُلغي الوطنية والهويات الوطنية، أو ما درجنا على تسميتها هويات ما قبل دولة، بل تُعيد إنتاجها وفق مفهوم متساوٍ بالحقوق والحريات، وفق قانون عام ينظّم الجميع، ويساوي في الوطنية بين جميع مكوّنات المجتمع على اختلافها وخلافاتها، من دون تخوين أو تكفير. والمواطنة -وفق هذا المعيار- ليست صورة مثالية أو طوباوية، بل مفهوم عقلي عام وتجسيد لواقع معيش في الوقت نفسه. المواطنة Citizenship هي تلك العلاقة المدنية الحقوقية، وقد أضافت إلى مفهوم الوطنية الشعوري والوجداني والانتمائي، القدرة على ممارستها بالإرادة الحرة الواعية والمسؤولة.
المواطنة كممارسة للوطنية بالإرادة الحرّة والمسؤولة هي:
أولًا: الانتقال من عفوية الانتماء الشعوري الذي عرّف الوطنية، تاريخيًا، باختلاف ثقافات البشر، إلى الانتماء إلى الدولة وفق عقد اجتماعي عام رضائي، تكون الوطنية والوطنيات أحد مرتكزاته ولا تستنفده أي منها. وتكون المواطنة هي المساحة الحرّة التي تتيح ممارسة هذه الوطنيات بالتساوي الحقوقي والمدني، سياسيًا ودينيًا، من دون ميزة لإحداها على الأخرى. فالوطنية من الموطن أو مكان الاستقرار في اللغة العربية، وهي المفهوم المشتق من Homeland أو Nation في لغات أخرى، مع أن -Nationالقومية باتت تشير في الفكر السياسي أحيانًا إلى قومية أعمّ، كالعربية أو الفرنسية بتعدّد أعراقها، لكن بمشتركها في الصفات العامة كاللغة والتاريخ المشترك، حسب ما درجت عليه أدبيات الفكر السياسي ذاته. فالوطنية -وفقًا لمجمل معاجم اللغة والفكر السياسي بالعام- هي الانتماء الشعوري إلى الأرض ومكان الولادة والنمو والحياة والاستقرار، الأمور التي تستلزم الدفاع عنها والتمسك بها. وهذا حق البشر في أولى أوليات تعريفات وجودهم السياسي والاجتماعي الفطري والعفوي والشعوري. من هنا، كانت صعوبة الاقتلاع من الأرض والتاريخ، كما حدث مع الفلسطينيين بالأمس والسوريين اليوم، هي الأكثر قسوة على النفس البشرية، كونها تتداخل مع الحيز العميق للانتماء والوجدان.
وثانيًا: هي ممارسة الوطنية ومشاركتها مع المختلف دينيًا أو عرقيًا أو اجتماعيًا، بالإرادة الحرة، ما يعني امتلاك القدرة على الاعتراف بحقّ الاختلاف والتعدد، وعدم طغيان فئة على أخرى، سواء لكثرتها العددية أو لمبرراتها الأيديولوجية بأحقية إلهية نصّية أو سياسية سلطوية خلاف الآخرين. ممارسة الوطنية بالإرادة الحرة هي تحقيق شرط حرية الانتماء الديني، من دون خوف من تهمة التكفير أو الإرهاب مقابلها، كما يحدث بين أقلية وأكثرية دينية سورية. وممارسة الحرية السياسية من دون خوف من تهمة تخوين أو طعن في أخلاق الانتماء، كما مارسته سلطة البعث السياسية، وهو ممارسة الحرية الفكرية والأدبية والإبداعية من دون خوف من تهمة إضعاف الشعور الوطني ووهن نفسية الأمة، كما تمارسه سلطات الشرق الاستبدادية. المواطنة هي ممارسة الحرية في الوطن الذي عشتُ ونميتُ فيه، وقد أضيفت الحرية كخيار عقلي مميز للإنسان، يضاف إلى الشعور العفوي والفطري المعرف للوطنية.
وثالثًا: هي ممارسة المسؤولية تجاه الآخرين، حيث تنتهي حريتي عندما تبدأ حرية الآخرين، بحسب سارتر، والمسؤولية تعني الالتزام بالقانون الوضعي المدني المشترك بين الجميع، والذي يطبق على الجميع بالتساوي. فإن كان يحق لكل طائفة أو اثنية الدفاع عن نفسها أمام المختلف عنها، كما يجري في سورية اليوم من انكماش على الهويات القَبْلية الدينية والمذهبية، فالمسؤولية الوطنية تقتضي تحديد الصيغ القانونية والقضائية، كقانون مدني وضعي يحدد العلاقة بين هذه الاختلافات، والمساواة بينها جميعًا في الحقوق والواجبات. والمسؤولية هنا شرط موضوعي للحفاظ على الوجود والوطن والموطن، وإلا ضاع بكليته على الجميع، وبات عرضة لمن يتاجر به بيعًا أو اغتصابًا. فالمواطنة هي استرداد الدولة من نماذج السلطات المتخذة من مفهوم الوطنية سلاحًا لعقاب المختلفين عنها نهجًا، وذريعة للاستحواذ على كلّ مقدرات الدولة، فكانت استبدادًا مطلقًا. وهذا يحتاج إلى قانون عام وإرادة عمومية، كما عرّفها روسو، لا إلى قانون فردي المزاج، يُكتب على هوى سلطة أو فئة أو جهة أو حزب حاكم.
المواطنة هي المفهوم العصري الحديث الذي اشتقته ثقافة عصر الأنوار، وعلى أساسه تأسست الدول الحديثة، بمفاهيمها العصرية في المدنية والديمقراطية والعلمانية وتداول السلطة سلميًا والاحتكام إلى قانون وضعي مع الحفاظ على الحريات العامة في التفكير والاعتقاد. ليصبح الانتماء إلى الوطن حينها يحقق الذات والهوية العامة، متجاوزًا الهويات الخصوصية ما دونها، من دون أن يلغيها أو يخوّنها أو يكفّرها. وهذا ما يمثل لنا حُلمًا سعت له ثورات الربيع العربي في بواكير حملها.
في حواراتنا السورية حول الوطنية والهوية الوطنية، تبرز كثير من المصطلحات المتداخلة بين الواقع والهدف. فالواقع الحالي يشي بتضخيم مفهوم الوطنية، سلطويًا ودينيًا وأهليًا، وكلّ جهة تحاول الاستئثار في المفهوم بشكله المنفرد على قدر رؤيتها الذاتية له. وهذا واقع سياسي لا يمكن أن ينتج وطنًا مستقرًا يُحقق شروط الوطنية الأولى في الأمن والاستقرار. ما يجعل العمل على ردم الهوّة بين الواقع الحالي، والبحث الجاد والعقلاني عن المواطنة كهدف، مسؤوليةً سياسيةً وثقافيةً عامةً، وقضية وطنية تهم الجميع باختلاف أفكارهم ومعتقداهم، تمثل نقلة نوعية في الفكر والحياة وممارسة السياسة والعلاقات المدنية من دون استئثار سلطوي أو تفوق نصي ديني. وهذا يحتاج إلى أدوات فكرية وسياسية مختلفة عن المتداول، شروطها الأساسية: التفكير من منظار الدولة والمواطنة، لا من منظار السلطة ووصفها بالوطنية وحسب، والاحتكام إلى القانون المدني، لا إلى قوانين العشائر والسلطات الأمنية، والبحث عن المشترك في المصلحة العامة وتغليبها على المصالح الفئوية الضيقة، فكيف إن أضفنا إليها حرية الفكر والاعتقاد!
الدّين لله والوطن للجميع، كانت بذرة المواطنة والعقد الاجتماعي العام للسوريين في موطنهم المعروف، بمختلف طوائفهم ومذاهبهم، قبل قرن من اليوم، إبان ثورتهم الكبرى ضد المستعمر الفرنسي، واليوم يمكننا القول أمام المشهد السوري المعقد دوليًا ومحليًا وسياسيًا: الدين لله والمواطنة حقّ عام، بما يقتضيه المفهوم من تحديدات سياسية وفكرية واجتماعية وتغييرات لازمة في طرق وأدوات التفكير والعمل، وإلا ذهب الوطن نحو التقسيم، ولم يعد للجميع، وبتنا طوائف ومللًا ودويلات متناحرة ومتفانية.
مركز حرمون