المشيخة السورية: خلاف في السياسات واتفاق في الاستراتيجيات/ رشيد الحاج صالح
سؤال المقال هو: لماذا لا ينتقد المشايخ السوريون المؤيدون والمعارضون بعضهم البعض؟ إذ من النادر أن يوجّه الإسلاميون السوريون المعارضون أو المؤيدون نقدًا إلى بعضهم البعض، على الرغم من وقوفهم على طرفَي نقيض من الثورة السورية. يكيل المعارضون اتهامات الإجرام والعمالة للنظام الأسدي، ولكنهم لا يأتون على ذكر المشايخ المؤيدين للنظام الذين يُسوّقونه على أنه حامي الأرض والدين. وبالمقابل، لا تكاد تعثر على أي نقد جذري، يوجهه المشايخ المؤيدون للنظام إلى أي من المشايخ الكبار الذين وقفوا في وجه النظام وطغيانه، على الرغم من اتهامهم لكلّ من يقف مع الثورة بالعمالة والإرهاب وما إلى ذلك. في هذا المقال، محاولة لتفسير هذا الغموض، وتحليل لغياب النقد بين فئتين متعارضتين حتى العظم.
في العشرين من هذا الشهر، أطلق “المجلس الإسلامي السوري” (مجلس يضم نحو أربعين هيئة ورابطة إسلامية معارضة للنظام) ما أسماه “وثيقة العهد والثبات على رفض مهزلة الانتخابات”، وضمّنها نقدًا شديدًا لإجرام النظام السوري وإجرائه انتخابات الرئاسة، معتبرين أن المشاركة في هذه الانتخابات “جريمة”، ومشاركة للنظام في قتل وتشريد السوريين. الغريب في تلك الوثيقة أنها لم تأتِ على ذكر المشايخ ورجال الدين المؤيدين الذين جنّدوا أنفسهم خلال الأسابيع السابقة لتحويل الانتخابات إلى “عرس وطني كبير”!
وكذلك، تعوّد السوريون، من حين لآخر، سماع الخطب العاطفية لمفتي النظام أحمد حسون، التي يكيل فيها كل أنواع الاتهامات لكلّ من يعارض النظام، ولكنّ الغريب في الأمر أنه لا يأتي على ذكر رجال الدين السوريين المعارضين للنظام، لا من قريب ولا من بعيد!
وعلى الرغم من أن هناك مئات مقاطع الفيديو، على صفحة الداعية المعارض محمد راتب النابلسي على “يوتيوب”، تكاد تتناول كل شيء في هذه الدنيا، وكلّ مشكلات المسلمين وهمومهم، بالإضافة إلى كل أشكال الفساد والمعصية والأمور التي لا يرضى الله عنها؛ لا يجد المرءُ فيها كلمة واحدة عن الدور الكبير للمشايخ المؤيدين للنظام والداعين له بطول البقاء. وذلك على الرغم من توسع اعتماد النظام عليهم، بعد صدور القانون رقم 31 الناظم لعمل وزارة الأوقاف، والذي يعطي صلاحيات واسعة لوزارة الأوقاف ومديري الأوقاف ومختلف المؤسسات الدينية في سورية. وهو القانون الذي فُسّر على أنه إدراك من قبل بشار الأسد للمكاسب الكبيرة التي يحققها له مديرو الأوقاف ومشايخ الجوامع في سورية.
غير أن هذا التغاضي عن النقد من قبل الطرفين، وعدم تحميل كل طرف للآخر مسؤولياته، على الرغم من أن الطرفين مختلفان سياسيًا، بل على طرفي نقيض، إنما يعود إلى عدم وجود خلاف بينهما من الناحية الدينية، لا في المذهب ولا في الاجتهاد ولا في دور الدين في الحياة العامة؛ فالقواعد الفقهية والرؤية العامة ودور الإسلام الأخلاقي أمورٌ تكاد تتشابه لدى الطرفَين. وعلى اعتبار أنّ الناحية الدينية أولى ومقدّمة على الناحية السياسية عند الطرفين، فإن الخلاف السياسي هو خلاف من الدرجة الثانية، وليس خلافًا من الدرجة الأولى. وهذا يعني أنه ليس خلافًا جذريًا، وليس من النوع الذي يمكن أن يجرّ الطرفين إلى عداوات ونقد ومواجهات.
قبل أشهر، أصدر المجلس الإسلامي السوري “وثيقة الهوية السورية”، وشدّد من خلالها على أن الدين الإسلامي دين غالبية السوريين، وعلى أن سورية هي جزء من العالمَين العربي والإسلامي، وبيّن أن الثقافة والقيم والحضارية الإسلامية هي الأساس لهوية سورية المستقبل. وشدّد على الوقوف ضد محاولات البعض “التشويش والتدليس والتلبيس على معالم الهوية السورية”، من دون أن يوضح مقصده من وراء هذه المصطلحات، على الرغم من أن الوثيقة كانت عامة وفضفاضة، ويكاد كل السوريين يتوافقون على مضمونها، لأنها لا تمسّ جوهر الخلافات بين السوريين، حول مستقبل الهوية السورية التي سيقبل بها الجميع. طبعًا السبب الخلفي الذي يقبع وراء تلك الوثيقة يعود إلى المقولة السوسيولوجية المعروفة التي تقول: “إن توجيه اللاشعور الجمعي للناس، إلى الإحساس المبهم بالخوف على الهوية، يزيد من السيطرة عليهم”. وهي استراتيجية يدرّب النظام عليها المشايخ المؤيدين له، منذ نعومة أظفارهم، وينشئ لهم المدارس والمعاهد الجامعات الدينية لتحقيق هذه المهمّة الجليلة بالنسبة إليه.
الغريب في الأمر أن هناك تلاقيًا غير مرتّب له بين الطرفين، حول هذه النقاط التي تتعلق بالهوية السورية والبعد الإسلامي لسورية. حتى إن المرء لو حذف اسم المجلس الإسلامي السوري، من أمام البنود الخمسة للوثيقة، ووضع بدلًا منها اسم أي هيئة أو مرجعية إسلامية تابعة للنظام؛ لما تغيّر شيء يذكر! لأن البنود الخمسة هي دائمًا على جدول خطب المشايخ المؤيدين للنظام، حتى في الأسلوب المتبع من حيث الحديث في العموميات والابتعاد عن التفاصيل والأمور الخلافية والحساسة سياسيًا ودينيًا.
بقي أن نقول إن غياب النقد المتبادل يعود أيضًا إلى أن همّ الطرفين ليس الثورة السورية، ومطالبها وتعقيدات مسارها، بقدر ما هو الحفاظ على هوية سورية إسلامية، تكون فيها الكلمة العليا، أو شبه العليا، لطبقة المشايخ والمؤسسات الدينية، حتى إن هموم الطرفين تعطي الأولوية للجهود التي يُوليها كلُّ طرف للسيطرة والتحكّم في أنصاره، وتحديث القدرة على توجيههم والإمساك بعقولهم وعواطفهم.
وعلى ذلك؛ سيبقى رجال الدين السوريون المعارضون يدفعون ثمن تقديمهم للهويّة على الثورة، وللأيديولوجية على الواقع، وللمكانة والوجاهة على المصالح العامة، وللدّين على السياسة. وسيجرهم تجاهلُ العلوم الإنسانية وإنجازاتها إلى تراجع في أدوراهم التي يعتقدون أن العلوم الدينية ستمنحهم إياها. وأوّل تلك التراجعات أنهم يهادنون من يساعد النظام الأسدي، وهم ألدّ أعدائه. وبلغة إدغار موران: من لا يخوض الصراعات إلى النهاية، حتى مع نفسه، لن تغيّر صراعاته شيئًا في حياته.
مركز حرمون