أبحاث

بين الاستبداد والديمقراطية/ عبد الباسط سيدا

عادة قديمة – جديدة التزمتها منذ عقود، وهي تقسيم الوقت، وتحديد ما ينبغي عليّ إنجازه في كلّ يوم. ودائماً يأتي العمل بواجباته المختلفة في المقدمة. ولكن إلى جانب العمل، أحرص على القراءة والكتابة، ومتابعة الأخبار والتطوّرات في منطقتنا والعالم، وهي كثيرةٌ متداخلة متدفقة متسارعة. وما يساعدني في ذلك كلّه أنّني لست من جماعة السهر وارتياد المقاهي؛ مع أنّني أحب السهر مع الأصدقاء وقت اللزوم؛ كما أجلس في المقاهي مع الأصدقاء من حين إلى آخر. ولكنّني أظلّ ملتزماً ببرنامجي اليومي ضمن حدود الإمكان، حتى في السفر.

في بداية الشهر المنصرم (أيار/ مايو 2021) أُصبت بفيروس كوفيد – 19. ولكن – الحمد لله – مضت الأمور على خير، إلا أنّ الحرارة المرتفعة التي عانيت منها كانت تمنعني من قراءة النصوص التي تستوجب التركيز، والأمر ذاته بالنسبة إلى الكتابة. وفي مثل هذه الحالات، ألوذ بالروايات والسير الذاتية والمذكرات. ووقع اختياري على كتابين: “نهاية جماهيرية الرعب” لحسن صبرا، و”قرارات مصيرية” مذكرات جورج دبليو بوش.

سبب اختيار الكتاب الأول الرغبة في معرفة المزيد حول ممارسات نظام معمر القذافي وسياساته وأسراره. وما عزّز هذه الرغبة أنّني عملت في ليبيا أستاذاً جامعياً في أوائل تسعينيات القرن الماضي، واطلعت، من خلال الأصدقاء والمشاهدات والقراءات والمتابعات، على كثير مما كان يؤكد أنّ ليبيا لا تسير في الطريق الصحيح، فعلى الرغم من الموارد النفطية والطبيعة الهائلة، والمساحة الواسعة، والمزايا السياحية الواعدة؛ كان النظام السياسي لا يعطي الأمل بإمكانية التقدم. وكانت كلّ تلك الإمكانات تُبدَّد من القذافي والمجموعة المقرّبة منه، ومن ثم أبنائه؛ بينما كان القسم الأكبر من الليبيين يعيشون حياة عادية، بل أقل من عادية.

وفي أكثر من مناسبة، سمعت من الأصدقاء الليبيين عن مأساتهم؛ وغالباً ما كانوا يعقدون مقارناتٍ بين أوضاعهم وأوضاع المواطنين في الدول الخليجية، ويتساءلون: نفطنا ليس أقل من نفطهم، وأرضنا مساحتها واسعة جداً قياساً إلى مساحات أراضيهم، ولدينا موارد كثيرة ما عدا النفط، وعدد سكاننا محدود، ومع ذلك لا نرى شيئاً، ونعاني من فوضى لا يمكن وصفها على صعيد الإدارة والمشاريع الاقتصادية. ولم يكن معظم ما قرأته في كتاب حسن صبرا جديداً بالنسبة إليّ، لكنّ تفاصيل كثيرة لم أكن مطلعاً عليها؛ خصوصاً التي توصّل المؤلف إليها عبر إجراء التقاطعات بين شهادات المجموعة الأساسية التي تعاونت مع القذافي في البداية، وكان أفرادها شركاء في عملية الانقلاب على النظام الملكي تحت اسم “ثورة الفاتح” في 1969.

يتناول الكتاب جرائم الاغتيال والقتل التي نفذت في الداخل الليبي، وتلك التي نفذت في الخارج ضد المعارضين لسياسات القذافي واستبداده. كما يتناول علاقاته مع مختلف الحركات المتطرّفة في العالم، ويسلط الضوء على سلوكياته الغريبة الشاذّة، سيما في ميدان التعامل مع النساء. ويبحث في مجزرة سجن أبو سليم 1996، ودور عبد الله السنوسي، المسؤول الأمني، فيها، وفي مختلف العمليات القمعية والجرائم التي كان يرتكبها حكم القذافي. ويتحدث صبرا عن أساليب القذافي في استمالة العشائر، وربط الأفراد بنظام حكمه وفق الشروط التي يحدّدها. ويأتي أيضاً على تسليم القذافي برنامجه النووي إلى الأميركيين بعد سقوط نظام حكم صدام حسين في العراق 2003، في محاولة مكشوفة لتلافي المصير نفسه. كما يقدم صبرا تحليلاً يستند إلى شهادات ووقائع حول ما حصل للإمام موسى الصدر ومرافقيه في أثناء زيارتهم ليبيا، ولقائهم مع القذافي، في أغسطس/ آب 1978. ويتوقف عند الثورة الليبية، ونتائجها، ويقدّم صورة لطريقة مقتل القذافي، والتعقيدات التي واجهت الثورة.

كما أسلفت، لم يأتِ “نهاية جماهيرية الرعب” بجديد نوعي بالنسبة لي، وإنّما هو في معظمه تأكيد للمؤكد الذي نعرفه؛ أنّ الحاكم في الأنظمة العسكرية الجمهورية العربية، خصوصاً في ليبيا والعراق وسورية والسودان، كان الآمر الناهي المتحكم بكلّ شيء، فكلمته قانون ودستور، وأموال الشعب بيده، يفعل بها ما يشاء. لا توجد أيّ مساءلة أو محاسبة، بل هناك سياسة مستمرة تقوم على تصفية الخصوم المعارضين الواقعيين والمحتملين، وترويع الناس، وفرض جو من الغموض وعدم الاستقرار، وسدّ المنافذ أمام أي احتمالية للتمرّد أو الثورة.

أما الدافع وراء اختيار مذكرات جورج دبليو بوش، فقد تشخص في محاولة فهم وجهة نظر صاحبها بشأن أهم القرارات الكبرى التي اتخذها مع أركان إدارته ثمانية أعوام مدة حكمه (2001 – 2009). ويندرج هذا الدافع ضمن إطار مساعيّ للوصول إلى صورة متكاملة لما حدث. وهذه أيضاً عادة قديمة – جديدة؛ تقوم على تناول الموضوع من زواياه المختلفة بغية فهمه بصورة جيدة.

يستهل بوش مذكراته بالحديث عن بداياته. يتناول موضوع إدمانه على الكحول في شبابه. ثم يتحدّث عن دراسته وأعماله وطموحه السياسي. ومن الملاحظ اعتزازه المستمر بوالده جورج الأب، وإظهاره حبه اللامحدود له ولوالدته بربارا. ثم ينتقل إلى تناول أهم الأحداث التي شهدها حكمه، بدءاً بهجمات “11 سبتمبر” في 2001، مروراً بإسقاط حكم حركة طالبان في أفغانستان 2001، ومن ثم إسقاط نظام صدام حسين في العراق 2003. وقد كانت لهذين الحدثين تبعات كبرى على واقع منطقتنا، ما زالت مستمرة متفاعلة.

لا تقتصر مذكرات بوش على ذلك، بل تشمل التباينات حول القرارات الخاصة بموضوع الخلايا الجذعية الجنينية، وإعصار كاترينا، والضمان الصحي، والأزمة المالية الكبرى التي كانت في أواخر عهده؛ ومواضيع أخرى مهمة للمجتمع الأميركي، وأخرى مهمة على الصعيد الدولي. الكتاب مترجم إلى العربية، ويستطيع كلّ مهتم أن يعود إليه. وما يراد إبرازه هو الفرق النوعي بين عملية اتخاذ القرارات في أنظمة الاستبداد؛ نظام القذافي نموذجاً، وفي الدول الديمقراطية من خلال المثال الأميركي، فالقذافي كان يبني سياساته، ويتحكّم بالدولة والمجتمع الليبيين بقرارات مزاجية متغيرة بصورة متواصلة، ومن دون أيّ تسويغ أو دراسة للأسباب والنتائج. ولم يكن يتوانى عن تصفية المعارضين، حتى من أقرب المقرّبين وتغييبهم. يتحكّم بثروة البلاد كما يتحكّم بالإعلام. يفرض على الليبيين النمط المعيشي الذي يتناسب مع ترّهات “الكتاب الأخضر” البائس الذي اعتبره “دستور” الدولة والمجتمع و”استراتيجيتهما وفلسفتهما” وألزم مثقفين وكتّاباً ليبيين وعرباً، وحتى أجانب، بمختلف الأساليب، وفي مقدمتها المال، ليشيدوا به، ويتغنّوا بسبقه الاستثناثي.

أما قرارات الرئيس الأميركي فقد كانت تُتّخذ بالتشاور والجدال عبر المؤسسات الديمقراطية المعتمدة، على الرغم من كلّ الملاحظات بشأن مضمونها وتبعاتها، وبشأن الديمقراطية الأميركية، والثغرات التي تعاني منها، لا سيما من جهة هيمنة تأثير أصحاب الشركات، ودور المال في تسويق الشعبويات التي تعد من أسوا الأخطار التي تهدّد الأنظمة الديمقراطية. على الرغم من ذلك كلّه، هناك فصل واضح صارم للسلطات، والتزام أكيد بما تقرّره السلطة القضائية المستقلة في نهاية المطاف. كما أنّ هناك تداولاً سلمياً للسلطة، بصرف النظر عن توجهات (ورغبات) الرئيس المنتهية ولايته، ويُشار هنا إلى حالة ترامب الذي شكك في نتيجة الانتخابات، وشجّع أنصاره للهجوم على مبنى الكونغرس.

ومن بين ما يذكره بوش في كتابه تواصله مع الأعضاء المفتاحيين في مجلسي الشيوخ والنواب من الحزبين، الجمهوري والديمقراطي، في سبيل كسب تأييدهم مشاريع قراراته. ويتحدّث في هذا المجال عن نجاحاته وإخفاقاته، حتى مع أعضاء حزبه من الجمهوريين. كما يذكر الحملات الإعلامية القاسية التي تعرّض لها. ويقدم الأمثلة عن فشله في إقناع الصحافيين بالتريث في نشر الوثائق والمستندات الخاصة بمشاريع القرارات والقوانين. ومع ذلك، لم يلجأ إلى تغييب المعارضين، سواء عبر الاعتقال أم الاغتيال أو الإبعاد والنفي. كما حدث، ويحدث في دول منطقتنا، وفي أنظمةٍ استبداديةٍ عديدة في العالم.

اللافت في مذكرات بوش أنّ صاحبها لا ينسب كلّ النجاحات لنفسه، وإنّما يشيد بفضل المستشارين وأعضاء الإدارة، سواء من المتوافقين مع آرائه أم المختلفين. يحدد قناعاته، ويشرح دوافع قراراته، بما فيها التي كانت تخالف آراءه. وذلك كلّه يشكل في النظام الديمقراطي تراكماً يُبنى عليه. أما تجارب الحكام المستبدين في منطقتنا، سورية وليبيا والعراق مثالاً، فهي كانت، وما زالت، تقوم على التباهي بالانطلاق من الصفر، الأمر الذي أوصل المجتمعات التي حكمتها هذه الأنظمة باستمرار إلى الصفر؛ صفر يتجلى راهناً في واقعنا حطاماً وخراباً، وسراباً خادعاً.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى