كيف تشكلت طبقة الأغنياء السورية الموالية للنظام؟
أثّرت سنوات الحرب بشكل كبير في خريطة الطبقات الثرية في سوريا، حيث أدّت إلى نشوء طبقات جديدة مستفيدة من اقتصاد الحرب، ورفعت بعض الشرائح من الطبقة المتوسطة إلى مستويات قريبة من الطبقة الثرية، مستفيدة من علاقتها بأصحاب رؤوس الأموال، كما ظهرت طبقة جديدة من الأثرياء بناءً على مدى فاعليتهم بالنسبة للنظام واستمرار صلاحية استخدامهم من انتهائها. بينما أصبح حوالي 80 في المئة من السوريين يعيشون تحت خط الفقر.
وفي تقرير لمركز “جسور” للدراسات، فنّد المركز تاريخ النظام وكيف تبنّى الأسد قانون “المنصب مقابل الولاء”، وفهم من قَبل بهذه القاعدة أن بمقدورهم التحرك في نطاق منصبهم لفعل كل ما يمكن من جمع أموال وتعيين المحسوبين عليهم حتى لو لم يمتلكوا أي مؤهلات للوظيفة، ما داموا يحترمون هذه القاعدة.
وتعدّ نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات من القرن الماضي إحدى أسوأ الفترات في تاريخ سوريا الاقتصادي المعاصر، حيث ارتفع الدّين العام للدولة إلى أعلى مستوياته، وخرجت رؤوس أموال كبيرة من سوريا على خلفية الأحداث الأمنية التي شهدتها تلك الفترة؛ وتصاعد القمع في نفس الفترة. كما شهدت الفترة نفسها ارتفاعاً بسعر صرف العملة السورية إلى 50 ليرة مقابل كل دولار عام 1986 انطلاقاً من 4 ليرات لكل دولار في 1980.
وساهمت المشكلة بين الشقيقين حافظ ورفعت الأسد الذي خرج على إثرها من سوريا حاملاً معه مئات الملايين من الدولارات من موارد الدولة وخاصة من العملات الأجنبية ليسكن ويتملك عقارات فاخرة في كل من لندن وفرنسا وإسبانيا وغيرها من الدول الأوروبية، بتشكيل طبقة جديدة من المسؤولين من الذين انتهت أدوارهم، ما دفعهم لإخراج جزء من أموالهم خارج سوريا، ليبدؤوا حياة جديدة في قطاع المال والأعمال.
كما أن ظاهرة استغلال الطبقة المتوسطة والغنية من السوريين على خلفية اعتقال أبنائهم أو تهديدهم بالاعتقال شكلت مصدر ثروة كبيرة لهؤلاء، خاصة في فترة الثمانينيات ومطلع التسعينيات، مما أدى إلى انخفاض في ثروات الطبقة الغنية التقليدية وارتفاع في ثروات المسؤولين الحكوميين، في ظاهرة انزياح طبقيّ تدريجيّ طويلة الأمد.
بعد آذار/مارس 2011، ظهر أثرياء جدد على خلفية الحرب، منهم من استغل الفراغ الناتج عن خروج عدد كبير من التجار من السوق ليحقق مكاسب، ومنهم من مارس التجارة بمخلفات المنازل المنهوبة التي هجرها أصحابها، كما عمل بعض رجال الأعمال الجدد على تسهيل العلاقات التجارية بين مناطق النزاع، محققين ثروات طائلة. وهكذا، تشكلت طبقة الأثرياء الراهنة في سوريا باجتماع ثلاث فئات؛ هي البرجوازية الثرية التقليدية، و”أبناء آبائهم من المسؤولين والضباط”، ورجال الأعامل الصاعدين على خلفية الأحداث الأخيرة.
برزت في قطاع الإعلام على سبيل المثال أسماء لامعة مثل أكثم دوبا، ابن أسرة علي دوبا، رجل المخابرات الأول في عهد الأسد الأب. إضافة إلى أسماء أخرى منها أمين جابر صهر آل الأسد، وسليمان معروف ابن أخت رئيس فرع الأمن الداخلي محمد ناصيف، وغيرهم الكثير من الأسماء الشابة.
جاءت الاحتجاجات الشعبية في عام 2011 لتقطع ازدهار أعمالهم، فسخّر هؤلاء جميع إمكاناتهم من أجل الدفاع عن النظام الذين هم جزء منه. فأيمن جابر مثلاً، حوّل معمل الصلب والحديد الذي بناه في اللاذقية تحت عنوان “الشركة العربية لدرفلة الحديد”، وهو معمل بإمكانيات ضخمة لصالح الجيش والقوات الرديفة، فأصبح المعمل أهم منتج للبراميل المتفجرة وحشوات الهاون.
كما شكل الرجل ميليشيا “صقور الصحراء” التي تزعمها محمد جابر أخوه، إضافة إلى تمويل ميليشيا “مغاوير البحر”. وقد تم صرف مبالغ ضخمة على هذه الميليشيات من حيث التجهيز والتمويل، حيث بلغ عديدها قرابة 500 شخص من ضباط وعسكريين قدامى يتلقون رواتب عالية نسبة إلى غيرهم من الميليشيات.
ويعد أبناء اللواء بهجت سليمان، الضابط في الجيش السوري ومسؤول الفرع الداخلي في عهد الأسد الأب، من أبرز المنتمين إلى قائمة “أبناء آبائهم”، وكان لهم نشاط وحضور واضح بعد عام 2011.
أما حياة أبناء رامي مخلوف والجيل الثالث من أسرة مخلوف، فهي مليئة بالصخب والرحلات، حيث يمتلك الأبناء طائرتهم الخاصة من نوع “سيسنا 680” التي تتراوح تكلفتها بين 15 إلى 18 مليون دولار أميركي. كما يمتلك الابن الأكبر لرامي مجموعة من ست سيارات فاخرة تصل أسعارها إلى 2 مليون دولار أميركي، إضافة إلى امتلاكه قصراً خاصاً في دبي، وتقدر قيمته ب1.5 مليون دولار، إضافة إلى رحلاته الفارهة.
الأثرياء الجدد من الصفر إلى القصر
المنافسون الجدد لا ينتمون إلى طبقة رجال الأعمال التقليدية، ولا إلى طبقة الأبناء الذين استفادوا من سلطة الآباء لتحقيق مكاسب اقتصادية. لقد ساهمت ديناميكيات الحرب في إرساء دعائم صعودهم المتسارع، وسمحت لهم براغامتيتهم باستغلال الظروف للتقدم نحو تحقيق مكاسب ضخمة. فقد قاموا بأعامل خطرة نسبياً وبنوا شبكة علاقاتهم الخاصة من الصفر. بعضهم استفاد من مواقع مدنهم أو قراهم على خطوط النار، وبعضهم الآخر من عشيرته أو أسرته، فيما بذل آخرون جهداً كبيراً بأنفسهم لتحقيق هذه المكاسب.
رجال الأعمال الجدد ليسوا رجال أعمال تقليديين يعتمدون على رؤوس أموالهم وثقة الناس بهم لتعزيز مكاسبهم، بل هم منظومة من أصحاب رؤوس الأموال المحمية بعلاقات اجتماعية ترتكز على القبيلة أو الأسرة أو الطائفة، وبعلاقات مع جهة قوية تضمن القدرة على حل المشاكل اليومية، سواء كانت جهاز أمن محلي أو ضباطًا روس أو إيرانيين، واستطاع هؤلاء الرجال تنويع استثامراتهم في السنوات السابقة وعدم حصرها بالنواة التي قامت عليها.
الطبقة التقليدية تتمدد في الخارج
عمدت الطبقة الغنية التقليدية إلى نقل جزء من أعمالهم أو كامل أعمالهم إلى خارج سوريا، فالبعض بدأ نشاطه في تركيا، والآخر في مصر، وبعضهم بدأ من جديد في بعض الدول الأوروبية، كما شكل لبنان ودبي أماكن جذب مهمة لتلك الطبقة المتحالفة مع السلطة، كما أن بعض أبناء هذه الطبقة فضل تنمية أعامله في ظل تعاون كامل مع النظام السوري.
“سيدات” الأسد
تُعتبر أسماء الأسد إحدى أبرز الشخصيات التي اشتهرت بالمشتريات الباذخة، حيث اشترت مطلع 2012 مفروشات بقيمة نصف مليون دولار في الوقت الذي كانت فيه مناطق مختلفة من سوريا تُقصف بشدة. كما ظهرت في مناسبات متعددة بأحذية وحقائب فاخرة تقدر قيمة الواحدة منها بقرابة خمسة آلاف دولار أميركي.
وتُعتبر شهرزاد الجعفري صديقة بشار الأسد، وابنة نائب وزير الخارجية بشار الجعفري، إحدى محبات الحفلات والرحلات بشكل ملفت للنظر، وحظيت ببعض رحلاتها باستخدام نفوذ والدها. ويدلّ نمط حياة شهرزاد على أن لها من اسمها نصيباً، فهي تحب مصاحبة الملوك والطبقة الثرية كما في حكايات شهرزاد الشعبية، وأجرت عدة عمليات تجميل باهظة الثمن، إضافة إلى ألبستها المكلفة. وقد ظهرت شهرزاد في حفلات ومناسبات متعددة بشكل ملفت.
كذلك تعتبر فلك الأسد ابنة عم بشار، جميل الأسد، وأسرتها من محبات السفر والترفيه بشكل دائم، حيث تقضي الأسرة عطل نهاية الأسبوع في بيروت أو دبي أو القاهرة، وأحياناً في بعض دول أوروبا وتركيا التي زارتها الأسرة منتصف 2020. ويتيح جواز السفر الدبلوماسي الليبي للأسرة حرية التنقل، حيث حصلت عليه فلك من زواجها من ابن عم معمر القذافي.
وفي إطار الحفلات التقليدية، تُعتبر الحانات التي نشطت بقوة بعد 2011، مكاناً لتنفيس احتقان الطبقة الغنية، خاصة ممن فقد قدرته على التحرك خارج سوريا لأسباب تتعلق بالرقابة وقيود السفر المفروضة عليه بسبب وضعه، كأبناء كبار المسؤولين والقيادين في ميليشيات موالية للأسد.
كما تطرق تقرير “جسور” إلى أثر الحرب على عقارات الأثرياء، حيث سلط الضوء على ارتفاع أسعار متر العمار في مناطق سيطرة النظام خاصة في دمشق وحلب، أما المسؤولون والمحميون من قبل النظام، فقد سكنوا في مناطق خاصة، كمنطقة يعفور المحمية بشكل كبير، والتي يقطنها كبار الضباط وبعض الأثرياء من الطبقات الغنية التقليدية الذين لم يغادروا البلد. وتبدأ أسعار المنازل في “يعفور” للفيلا الصغيرة من 3 ملايين دولار أميركي، وبمتوسط يصل إلى 5 ملايين دولار أميركي.
أثّرت سنوات الحرب بشكل كبير في خريطة الطبقات الثرية في سوريا، حيث أدت إلى نشوء طبقات جديدة مستفيدة من اقتصاد الحرب، ورفعت بعض الشرائح من الطبقة المتوسطة إلى مستويات قريبة من الطبقة الثرية، مستفيدة من علاقتها بأصحاب رؤوس الأموال الذين فضلوا المغادرة وائتمان موظفيهم أو بعض أقاربهم على أموالهم، فيما هبطت الحرب ببعض أفراد الطبقات التي كانت قائمة في السابق، وصعدت بآخرين، وذلك بناء على مدى فاعليتهم بالنسبة للنظام واستمرار صلاحية استخدامهم من انتهائها.
المدن