صفحات الثقافة

لإجهاض الثورات والقضاء على المعارضة… كيف ظهر مفهوما الفتنة والطاعة في الإسلام؟/ محمد يسري

عبر القرون، شهد التاريخ الإسلامي وقوع عشرات الثورات والحركات المعارضة، وقد اختلفت نتائجها بحسب ظروف وطبيعة كل منها. وفي الوقت الذي رفع فيه الثوار شعارات العدالة الاجتماعية أحياناً، وتحلقوا حول رموز آل البيت أحياناً أخرى، اعتمدت السلطة الحاكمة نظرية خاصة في المواجهة.

قامت نظرية السلطة الدعائية بالأساس على ركيزتي التخويف من الفتنة والتشجيع على الطاعة، الأمر الذي تطور على يد عشرات العلماء والأصوليين الموالين لها، وأتى أكله مع ترسيخ النزعة الاستبدادية في الحكم على مر القرون.

وحدة الاسم وتباين الدلالات… الفتنة في القرآن والحديث

ظهر مصطلح الفتنة في النصوص المؤسسة للدين الإسلامي، إذ ورد جذره اللغوي “فتن”، في 60 موضعاً في سور القرآن، منها ما يزيد عن الـ30 مرة بالاسم، “فتنة”.

رغم وحدة الاسم، إلا أن كلمة فتنة أخذت العديد من المعاني والدلالات المتباينة، بحسب السياقات، إذ وردت بمعاني الابتلاء والاختبار والشرك والكفر والعذاب والقتل والضلال والجنون.

من أهم المواضع التي ظهرت فيها الكلمة في القرآن، ما ورد في الآية رقم 191 من سورة البقرة {والفتنة أشد من القتل}، والتي أوّلها محمد بن جرير الطبري (ت. 311هـ) في تفسيره “جامع البيان عن تأويل آي القرآن” بأن “ابتلاء المؤمن في دينه حتى يرجع عنه فيصير مشركاً بالله من بعد إسلامه، أشدُّ عليه وأضرُّ من أن يُقتل مقيماً على دينه متمسكاً عليه، مُحقّاً فيه”.

وفي مدونات الحديث النبوي، وردت كلمة الفتنة بشكل أكثر وضوحاً ودلالةً، إذ جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة، قول الرسول في واحدة من النبوءات المستقبلية المشهورة المنسوبة إليه: “ستكون فتنٌ، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، مَن تشرف لها تستشرفه، ومًن وجد فيها ملجأ فليعذ به”.

أيضاً، ورد في صحيح مسلم قول الرسول لحذيفة بن اليمان، عندما سأله الأخير عما يفعل زمن الفتنة “تلزَم جماعة المسلمين وإمامهم، فقلت: فإنْ لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلّها، ولو أن تعضَّ على أصل شجرةٍ حتى يدركك الموت وأنت على ذلك”.

وشرح ابن حجر العسقلاني (ت. 852هـ) في كتابه “فتح الباري بشرح صحيح البخاري”، المقصود بالفتنة الواردة في الحديثين السابقين، فقال: “المراد بالفتنة في هذا الباب: هو ما ينشأ عن الاختلاف في طلب الملك حيث لا يعلم المحق من المبطل”.

التطور التاريخي للمفهوم… الفتنة في خطاب السلطة

ظهر مصطلح الفتنة في الكثير من المدونات التاريخية الإسلامية، والتي عملت على تقديم وتفسير وجهة نظر السلطة الحاكمة في العديد من الثورات التي قامت ضدها عبر القرون.

في كتابه “تاريخ الرسل والملوك”، يحكي الطبري أن المعارضة العراقية لمّا تعاظم خطرها ضد عثمان بن عفان، قام الخليفة الثالث بترحيل مجموعة من رؤسائها إلى بلاد الشام، ليرسل له الوالي معاوية بن أبي سفيان “أما بعد يا أمير المؤمنين، فإنك بعثت إليَّ أقواماً يتكلمون بألسنة الشياطين… وإنما يريدون فرقة ويقربون فتنة، قد أثقلهم الإسلام وأضجرهم”.

وصف معاوية للمعارضين بأنهم “يقربون الفتنة”، سيشيع بعد ذلك في المصادر الإسلامية، ولا سيما السنّية منها، إلى درجة ستجعل تسمية “الفتنة الكبرى” التسمية الأشهر لأحداث الحرب الأهلية الطاحنة بين المسلمين، تلك التي ستبدأ بعد اغتيال الخليفة الثالث في أواخر سنة 35هـ وستنتهي مع إعلان معاوية بن أبي سفيان خليفةً سنة 41هـ.

وصف المعارضة السياسية بالفتنة سيعود إلى الواجهة مرة أخرى مع الأحداث التي تزامنت مع اعتلاء يزيد بن معاوية كرسي الخلافة، وما تبع ذلك من مقتل الحسين بن علي في كربلاء، سنة 61هـ، ومن ذلك ما ذكره ابن كثير الدمشقي (ت. 774هـ)، في كتابه “البداية والنهاية”، من أن عبد الله بن العباس لما حذّر الحسين من الخروج لأهل العراق، كان مما قاله له وقتها “إنما دعوك (يقصد أهل العراق) للفتنة والقتال”.

سيلتصق مصطلح الفتنة في عصر الدولة الأموية بأهل العراق على وجه الخصوص، وذلك لكونهم مصدر أغلب الحركات الثورية المعارضة في تلك الفترة، ومن ذلك ما ورد في الخطبة الشهيرة المنسوبة إلى والي العراق الحجاج بن يوسف الثقفي، عندما تقلد ولاية الكوفة فدخل إلى مسجدها الجامع وخاطب أهلها قائلاً: “يا أهل العراق، يا أهل النفاق والشقاق ومساوئ الأخلاق، إنكم طالما أوضعتم في الفتنة، واضطجعتم في مناخ الضلال، وسننتم سنن الغي…”.

مفهوم الفتنة سيتسع في ما بعد ليشمل العديد من الحركات الثورية أو المعارضة، سواء أكانت ذات أهداف سياسية كحركة محمد النفس الزكية في منتصف القرن الثاني الهجري، أو تلك التي ارتبطت بالخلاف العقائدي كـ”فتنة خلق القرآن”، أو حتى الحركات الاجتماعية كحركتي الزنج والزط في القرن الثالث الهجري.

والملاحظ أن الكثير من الحركات الثورية التي قُدّر لها النجاح في التاريخ الإسلامي، لم توصف بمسمى الفتنة كمثيلاتها الفاشلة، ومن ذلك الثورة العباسية على سبيل المثال، وكأنما اقتصر توصيف الفتنة على الحركات الثورية الفاشلة التي لم يُكتب لها النجاح.

رغم مرور القرون، ظلّت الدلالة السلبية لمصطلح الفتنة حاضرة في العصر الحديث. فعلى سبيل المثال، وعقب نجاح الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت في احتلال مصر سنة 1798م، اتُّهم المشاركون في أحداث ثورتي القاهرة الأولى والثانية بأنهم من دعاة الفتنة، وذلك بعدما تمكن الغزاة الفرنسيون من تدجين المؤسسة الدينية الممثلة في الأزهر، إلى درجة حدت بأحد كبار مشايخ تلك المؤسسة، وهو الشيخ عبد الله الشرقاوي، ليعتبر أن “هذه الثورة ونتائجها ‏فتنة، وإن القائمين بها ممَّن لا يمكنهم النظر في عواقب الأمور”، حسبما يذكر محمد عبد المنعم خفاجي في كتابه “الأزهر في ألف عام”.

وسيُطلق هذا الوصف بعد ثمانية عقود على القوات المساندة للزعيم الوطني المصري أحمد عرابي باشا، والذي عُرف بمعارضته للخديوي توفيق ورفضه لفرض النفوذ الإنكليزي على مصر.

وقتها، ساند السلطان العثماني عبد الحميد الثاني موقف الخديوي، ورفض مقاومة المصريين للغزو الإنكليزي، وأصدر فرماناً سلطانياً جاء فيه “يُحسب عرابي باشا وأعوانه عصاة ليسوا على طاعة الدولة العلية السلطانية… يتعيّن على سكان الأقطار المصرية حالة كونهم رعية مولانا وسيدنا الخليفة الأعظم أن يطيعوا أوامر الخديوي المعظم الذي هو في مصر وكيل الخليفة وكل مَن خالف هذه الأوامر يعرّض نفسه لمسؤولية عظيمة… إن معاملة عرابي باشا وحركاته وأطواره مع حضرات السادات الأشراف هي مخالفة للشريعة الإسلامية الغراء مضادة لها بالكلية”، حسبما ورد في مذكرات أحمد عرابي.

الإجماع وأخلاق الطاعة… أثر مفهوم الفتنة في المنظومة العقائدية

أثّرت الدلالة السلبية لمصطلح الفتنة كثيراً في تطور الفكر السياسي الإسلامي، إذ لعبت دوراً كبيراً في ترجيح كفة السلطة، كما وقفت كحجر عثرة أمام نجاح عشرات الثورات.

السلطة التي نظرت للثورة على كونها بدعة خارجة عن حدود الشريعة والدين، عملت بالمقابل على ترسيخ مفهوم الطاعة المطلقة لولي الأمر، وروّجت لمجموعة من الأحاديث النبوية التي تؤصل لهذا المفهوم، ومنها على سبيل المثال، الحديثين الواردين في صحيح مسلم، “مَن خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومَن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية”، و”مَن أتاكم وأمرُكم جميعٌ على رَجل واحد، يريد أن يشقّ عصاكم، أو يفرّق جماعتكم، فاقتلوه”.

وعلّق العالم السعودي المعاصر عبد العزيز بن باز في إحدى محاضراته على الحديث الأول، رابطاً بين الثورة والجاهلية، فقال: “الواجب على المسلمين التمسك بالجماعة، والتباعد عن الفُرقة، والحذر من أسبابها، ومَن زجَّ في ذلك فقد أخذ برأي الجاهلية، وسار في مركب الجاهلية”.

أما العالم اليمني محمد بن إسماعيل الأمير الكحلاني الصنعاني (ت. 1182هـ) فقد شرح الحديث الثاني في كتابه “سُبل السلام”، فقال: “إن مَن خرج على إمام قد اجتمعت عليه كلمة المسلمين -والمراد أهل قطر- فإنه قد استحق القتل لإدخاله الضرر على العباد وظاهره سواء كان جائراً أو عادلاً”.

المقارنة بين كفة الفتنة/ المعصية/ الظلمة/ الباطل من جهة، وكفة الطاعة/ النور/ الحق من جهة أخرى، ستقع كثيراً في أقوال أصحاب السلطة والحكم. فعلى سبيل المثال، نقلت الكثير من المصادر التاريخية القول المنسوب إلى علي بن أبي طالب “حاكم غشوم خير من فتنة تدوم”.

وفي السياق نفسه، ذكر ابن الأثير الجزري (ت. 630هـ)، في كتابه “الكامل في التاريخ”، أن الخليفة العباسي الثاني أبا جعفر المنصور خاطب الناس متوعداً بعد قتله أبا مسلم الخرساني -والذي كان يضمر نية الثورة عليه- قائلاً: “أيها الناس لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية ولا تمشوا في ظلمة الباطل بعد سعيكم في ضياء الحق”.

نتائج تغلغل تلك النظريات في العقل الإسلامي الجمعي، ظهرت في تسمية الفصيل المؤيد للسلطة باسم أهل السنّة والجماعة، وفي تسمية العام الـ41 من الهجرة، والذي شهد نهاية الحرب الأهلية، بعام الجماعة، كما ظهرت في تشديد الخطاب السلطوي على ضرورة الاصطفاف في خندق واحد دون الالتفات إلى الاختلافات والخلافات الداخلية، كما ظهر أثر تلك النظريات في المجال الفقهي العام في صورة الإعلاء من قيمة معيار الإجماع في التشريع والأحكام الفقهية.

سيجد الباحث في التاريخ السياسي للإسلام أن العديد من العلماء اتخذوا من نظريات الفتنة-الطاعة تكئة لتبرير الكثير من المذابح والأحداث الدامية، ومن هؤلاء القاضي الأندلسي أبو بكر بن العربي المالكي (ت. 543هـ)، والذي عمل في كتابه “العواصم من القواصم” على الدفاع عن الأمويين وتبرئتهم مما وقع في مذبحة كربلاء، مستنداً في ذلك إلى أحاديث الفتنة المنسوبة إلى الرسول، فقال: “وما خرج إليه -يقصد الحسين بن علي- أحد إلا بتأويل ولا قاتلوه إلا بما سمعوا من جده المهيمن على الرسل المخبر بفساد الحال المحذر عن الدخول في الفتن”.

الأمر ذاته ظهر في ما نُسب إلى الإمام أحمد بن حنبل من قوله “ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحد من الناس فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنّة والطريق”، حسبما ورد في “شرح أصول اعتقاد أهل السنّة والجماعة” لهبة الله بن الحسن بن منصور الطبري اللالكائي الشافعي (ت. 418هـ)؛ وما أورده تقي الدين بن تيمية (ت. 728هـ) في كتابه “منهاج السنّة النبوية في الرد على الشيعة القدرية”: “استقر رأي أهل السنّة على ترك القتال في الفتنة، للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي، وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم، ويأمرون بالصبر على جور الأئمة وترك قتالهم”.

هذا التناول السياسي السنّي الرافض للتعاطي مع أي خروج أو ثورة ضد الحاكم، واصفاً إياها بالفتنة، تسبب أيضاً في استحداث مجموعة نتائج مهمة على الصعيد القيمي الأخلاقي، إذ ظهرت حزمة من الأخلاقيات التي عُرفت باسم أخلاقيات الطاعة، والتي تواتر ذكرها في كتب الآداب السلطانية وكتب الفقه، وتم التشجيع على الالتزام بها بشتى السبل الممكنة.

يؤكد المفكر المغربي محمد عابد الجابري في كتابه “العقل الأخلاقي العربي” أن تلك الأخلاقيات هي أخلاقيات فارسية الأصل، وأعيد إحياؤها في الثقافة العربية الإسلامية من خلال الفقهاء المسلمين الفرس من أمثال كل من ابن قتيبة الدينوري (ت. 276هـ)، وأبي الحسن الماوردي (ت. 450هـ)، وأبي حامد الغزالي (ت. 505هـ)، وأنه تم الترحيب بهذه القيم لكونها “ملائمة لطبيعة الأزمة وحاجة الدولة، لأنها تربط بين وحدة الدين والملك، وتجعل طاعة صاحب الدولة من طاعة الله”.

رصيف 22

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى